“نشرة” الإنسان والتطور
18-11-2008
السنة الثانية
العدد: 445
…. أن تملأ الوقت بما هو أحق به!!! (1)
اعتذار سخيف..
..أنا على سفر، مثل كل سفر، مثل كل أسبوع، فهو ليس مبررا أن أتوقف عن ما وعدت به من أن أواصل اليوم، الثلاثاء، مناقشة حالة إدمان الإبن عادل، ماذا تعنى، وماذا نفيد منها… إلخ
أعددت فعلا –من واقع كلامه الذى نشر– (بالإضافة إلى وصف وشكوى أسرته : الأب والأم والأخت) ما بيـّنَ لى مغزى بعض التداخل بين فرط حركته الباكرة، والطاقة التى تطلقها بعض المواد، بين ذلك وصورة جسده، وبحثه عن التميز والاختلاف، وعشقه للخطأ، وممارسته “للضد” فى مواجهة رفاهية أسرته ونجاحها واغترابها معا، ثم إصابته بالسكرى فى مستهل شبابه،..إلخ
حاولت أن أقرأ كل ذلك من خلال فرض : توظيف الإدمان فى تغيير الوعى، وليس فى مجرد إخماده أو تهييجه، وبالتالى لاح لى أن بإمكانى عرض ذلك التحريك المصطنع بالمواد الإدمانية ، مصطنع لأنه زائف، لأنه تحريك” فى المحل”، بدلا من حركية الجدل أماما.
أعددت كل ذلك فى مسودة عاجلة، لكننى وجدت أنه لكى أقدمه كما ينبغى، خاصة لمن لا يتابع فكرى بالطول، تلزمنى بضعة أيام.
ماذا أعمل؟
تصادف أنى كنت أتناقش قبل يومين مع بعض الأصدقاء من جديد، حول وراثة العادات المكتسبة (الدالة تطوريا) ، وعن ماهية لفظ البيولوجيا كما أستعمله، وكما هو شائع عنه، وعن تشويه كلمة “الغرائز”، واستحسان استبدالها بتعبير أحدث يفيد “البرامج البقائية”، الأمر الذى قد يعفينا من الخلط حين نستعمل كلمة غريزة فتفوح منها رائحة بدائية، أو حين نستعمل كلمة فطرة، فتختلط باحتكارات بعض مفسرى الدين لها.
ظل هذا النقاش فى خلفية وعيى، وأنا على سفر أعد هذه المسودة الخاصة بهذه الحالة كما وعدت، فازدحمت الأفكار حولى حتى كدت أغرق فيها، قلت أبحث فى حاسوبى عن كلمة “غريزة”، وعينك لا ترى إلا النور.
وجدت لدى مسودة كتاب بأكمله بعنوان:
الطب النفسى والغرائز
قراءة خبراتية فى الفطرة البشرية
رحت أتصفح الصفحات الأولى، مجرد الإهداء وبعض المقدمة فوجدتها كالتالى :
الإهـداء
إلى مولانا محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّرى
وكل من تحمل حدسه، فتوجه معه
مقدمة:
هذا كتاب، مثل كل كتاب، له تاريخ.
ماوصلنى فاضطررت لكتابته جاءنى من مصادر متعددة، بعضها بدا بعيدا عن البعض الآخر، حتى كاد يبدو متفرقا أو متناقضا، لكن أهمها كانت – وما زالت – معايشتى لمرضاى، ومحاولة تقمصهم، وقراءتهم، باعتبارهم النص البشرى الأكثر تعريا، والأعمق غورا.
يلى ذلك ممارستى للنقد الأدبى تلقيا أساسا، ثم كتاباتى فى هذا وذاك، حيث تتضح لى أحيانا أكثر أبعاد المسألة التى أتناولها أثناء ممارسة الكتابة، فتتحدد أكثر جلاء منها حينما كنت ألملم أطرافها قراءة أو تفكيرا، أو حتى معايشة.
ثم تأتى متابعاتى المتواضعة لعطاء البشر العلماء والمبدعين .
كل ذلك منصهر فى تحديات إشكالة وجودى شخصيا، كائنا لم يُستشر أن يبدأ كذلك،
أو أن يكمل كذلك،
ثم إن الفرص المتاحة له لا تسمح له أن يغيّر ما هو كذلك،
ولا أن يستمر كذلك، مهما ادعى غير ذلك.
الكتابة عن الفطرة ليست مطابقة تماما للكتابة عن: “نظرية فى الإنسان“، أو “فلسفة للوجود“، أو “مدرسة” فى علم النفس أو الطب النفسى. هى أكثر غموضا، وأخفى مهربا، ذلك لأنه لا يوجد تعريف علمى لما هو “فطرة“. لا يوجد اتفاق بين مختلف المعارف على تعريف الكلمة،
(إضافة: أنظر نشرات أيام 30/9/2007 ، 4/11/2007 ، 6/11/2007 )
كذلك ثمَّ خلط محتمل بين الفطرة والبدائية،
وأخيرا فإن لفظ الفطرة هو لفظ غير مألوف فى الأوساط العلمية، كما أنه من الألفاظ المسامية التى تسمح أن تدخل إليها طفيليات كثيرة يمكن أن تقلب ما يراد منها فى خبث أو بجهل، والنتيجة خطيرة فى الحالين.
لكل ذلك احترت فى العنوان، لكننى انتهيت إلى ما هو عليه حالا، برغم الحذر الشديد من استعمال لفظ “الغرائز” خشية اختزاله إلى ما شاع عنه غير ما قصدته.
أما أنه كتاب فى الطب النفسى، فهذا غير صحيح، مع أن ما جاء فيه هو نابع أساسا من ممارستى للطب النفسى، كما أنه يصب يوميا فى هذه الممارسة.
إن الطب النفسى إنما يلتحم بثقافة كل من الطبيب والمريض بشكل غائر، حتى وإن لم يبد كذلك على السطح. إن ثقافة أهلى، فى فترة زمنية محددة هى الفترة التى بدأت أحمل فيها أمانة ممارستى وجودى ومهنتى حتى تاريخه.
أما أنه كتاب عن الغرائز فإن ذلك لا يصح إلا من خلال تناولها من بعد تطورى يتجاوز تحديد عدد معين من الغرائز فلا تعود تنغلق فى تعريف موجز لأى منها.
إن الفطرة هى حركية جماع برمجة بيولوجية ناتجة عن تاريخ طويل منذ خلق الحق سبحانه وتعالى الحياة، وهى ممتدة بحكم التطور بفضل العدل تعالى وتنزه ، إلى غايتها المفتوحة النهاية، فهى قانون حيوى جاهز للتحوير والنمو بما يعد بما لا نعرف.
لكننا لا يمكن أن نتناول المسألة بهذا الإجمال الغامض، فكان لزاما أن نراجع الأمر واحدة واحدة، فكانت النتيجة أن وجدنا أنفسنا أمام بعض ما يسمى الغرائز واحدة واحدة، فتناولنا منها ما تيسر.
محتويات الكتاب ليست مترابطة بشكل تلقائى، ولا هى كتبت بنفس المنهج ولا فى ظروف متشابهة، ذلك لأن الخبرة ممتدة ومتواصلة طوال نصف قرن (على الأقل) بما يحتم المراجعة وإعادة النظر طول الوقت، من هنا فإن لكل فصل ملابساته وظروفه، مع محاولة ربط ختامى متواضع.
بحسب التسلسل التاريخى، فإن جذور هذا المدخل يمكن أن ترجع إلى انتماء الكاتب إلى ما سمى لاحقا “الطب النفسى التطورى” ، ذلك أن الكتاب الأم: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى“ (1979) ثم النظرية الأساس “النظرية الإيقاعية التطورية“ يمثلان البنية الأساسية لفكر المؤلف بهذا الصدد. بالرغم من ذلك، فإن الكتاب لن يشمل أيا من هذين الأساسين حيث يتم تحديثهما ليعاد نشرهما لاحقا.
على أن ثمة إرهاصات ظهرت فى تناول أسبق لمستويات الصحة النفسية على طريق التطور الفردى فى كتاب “حيرة طبيب نفسى (1972) وخاصة فيما يتعلق بتعريف الصحة النفسية من منطلق التوازن الممكن على مراحل مختلفة يفصل بينها درجة من اللاتوازن المناسب تمهيدا لتوازن أعلى (أو أدنى فى حالة المرض والتدهور). هذه الأطروحة عن مستويات الصحة النفسية لم تكن تتعامل تحديدا مع غريزة بذاتها، وسوف يشار إليها كلما لزم الأمر دون تفصيل.
(إضافة : وقد تم تحديثها بإضافة بعد الإيقاع الحيوى ونشر بعض ذلك فى نشرة 6/1/2008 ) .
يقدم المؤلف حسب التطور التاريخى لفكره “غريزة العدوان” أولا ، وبالذات فى علاقتها بالإبداع، كتبت هذه المداخلة ابتداء سنة 1980 ونشرت فى مجلة الإنسان والتطور “عدد يوليو سنة 1980“ ، ثم أعيد نشرها بعد تحديثها فى مجلة فصول (المجلد العاشر العددان 3-4 سنة 1992).
يلى ذلك أطروحته عن “الغريزة الجنسية : من التكاثر إلى التواصل“، وقد ألقيت فى منتدى أبو شادى الروبى، وهو بعض نشاط لجنة الثقافة العلمية، إحدى لجان المجلس الأعلى للثقافة، وسترد هنا مع الملحق بهدف الإيضاح والتكامل، وقد نشر بعضه وتم تحديثه فى نشرة 26-3-2008 ، بعنوان لغة الجنس والجنس كلغة.
ثم كان الفرض الأصعب وهو المتعلق بتقديم تصور لبرمجة حيوية جديدة (غريزة) أسميتها “الغريزة الإيقاعية التوازنية” تأصيلا للأسس البيولوجية للإيمان والتدين. هذا المبحث الأخير فى هذه الغريزة هو أكثر المباحث تحديا وحرجا فى نفس الوقت، لكن أداء الأمانة، وارتباطه المباشر بالممارسة الطب نفسية فى ثقافتنا خاصة جعله محورا جوهريا فى عموم المسألة، وهو بالتأكيد ليس بحثا فى اللاهوت أو علم الكلام أو أصول الأديان.
فى آخر لحظة: ألحقت بالكتاب ملحقا يشمل بعض ما كتبته عن الفطرة كأغان للأطفال، أعدت نشرها مع توجيه للكبار (بمناسبة شهر رمضان 1426) فى صحيفة يومية (روزاليوسف اليومية) وقد وجدت أن هذا الملحق، بمادته المتنوعة التى نشرت لقارئ عادى قد يكون الأقرب بشكل ما، حتى أننى أكاد أنصح من شاء من القراء أن يبدأ به، ربما ساعده ذلك على مصالحة كلمة الفطرة كما سأقدمها هنا.
( وربما ألغيت هذا الملحق فى لحظة، وهذا هو الأرجح)
(اكتشفت أثناء اقتطاف هذه المقدمة أن ثم برامج – غرائز أخرى، تحتاج عناية خاصة لم ترد فى هذه المقدمة: أنظر يومية غدا: الأربعاء).
يحيى الرخاوى المقطم: 19 رمضان 1426 ، 22 أكتوبر 2005
وبعد
حين يسألنى ربى، ماذا كان أحق بوقتك يوم 18 نوفمبر سنة 2008 وأنت جالس أمام البحر ، وبجواره وداخله: فى عمق أعماقه، تـُحَرك الشيش الساتر بالتحكم عن بعد، بعد أن أتاح لك عطاء التكنولوجيا الأحدث أن تتخلص من الستائرالمترجرجة، والحواجز الخشبية التى كانت تحول بينك وبينى، بينك وبين البحر، بينك وبينك؟
بماذا سوف أرد عليه سبحانه؟
رعبت،
وتوقفت،
وامتلأت غيظا وشكرا للصديق حافظ عزيز الذى نبهنى إلى هذا القول الصوفى:
“أن أملأ الوقت بما هو أحق به”،
الله يسامحك يا حافظ
كما تذكرت توصية الإبن جمال التركى المرة تلو المرة،
واستغفرت،
وكتبت هذا الكلام اليوم بدلا عن ما كنت بصدده
لن أتراجع
ولن أتوقف
لكن…
الحمد لله.
ستظل كلماتك في قلوبنا أيها العالم الجليل
هتوحشنا جدا الله يرحمك
رسالة قيمة ستظل كلماتك في قلوبنا مدي الحياة
رحمك الله أيها العالم الجليل