“يومياً” الإنسان والتطور
26-3-2008
العدد: 208
لغة الجنس، والجنس كلغة
(مقتطف مع تحديث محدود من محاضرة بتاريخ 15/12/1998
ألقيتها فى المجلس الأعلى للثقافة عن “الوظيفة الجنسية من التكاثر إلى التواصل”)
مقدمة قبل المقتطف
انطلاقا مما جاءنى من تعقيبات وتساؤلات عقب نشرات العدوان والإبداع، والتى أشرت فيها كيف لا ينبغى أن نتعامل مع أى من الغرائز بمنطق الخجل أو التسامى أو الإزاحة، بمعنى أن الغرائز كانت وسوف تظل جزءا من تركيبنا الطبيعى، وأن وظيفتها تتطور وتتحور مع تطور الحياة وأطوار الإنسان، وبالتالى فإننا نسمو بها وليس على حسابها، وعلى هذا تصبح مقولة التسامى عنها فى حاجة إلى وقفة ومراجعة، حتى لا يكون الارتقاء والتمدن – مثلا – هو الذى يستوعب طاقة الجنس بدون جنس ..، وحتى لا ننكر أو نكتفى بمشاهدة العدوان فى السينما والرياضة من الوضع جلوسا (هذا ناهيك عن اندلاعه فى الحروب والإبادة).
نحن ننمو، نتحضر، نبدع، بما هو نحن كلاًّ كاملا، بغرائزنا وليس على حسابها.
أقول: شعرت مما وصلنى أن هذه المسألة تحتاج إلى توضيح بالنسبة لكل الغرائز
قلت: أبدأ بالغريزة الجنسية فهى الأسهل استيعابا وربما تقبلا حتى فى وظيفتها البدائية قبل أن انتقل للدفاع عن غريزة العدوان سيئة السمعة على معظم المستويات.
تذكرت هذه المحاضرة التى سوف أعود للاقتطاف منها غالبا حسب التعقيبات التى قد ترد إلى، وفضلت أن أبدأ بقراءة لغة الغريزة الجنسية فى التواصل أساسا
إلى المحاضرة:
بدأت – فى المحاضرة – بالتنبيه على دلالة تناول موضوع كهذا بغير لغته كالتالى:
انفصال الجنس عن اللغة الجنسية
لماذ نطفئ الأنوار ونحن نتحدث عن الجنس حتى يكاد نقلب حديثنا رطانا فى موضوع لا يصح فيه الرطان، أنا أتكلم عن الاختيار بين اللغة الصريحة المباشرة التى تسمى الأشياء بأسمائها، فى مقابل اللغة المنافقة المغتربة (المسماة المحتشمة)، ناهيك عن وضع نقط فى الكتابة محل ما يسمى الألفاظ الخارجة (خارجة عن ماذا بالله عليكم؟) أو إصدار أصوات مُهَمْهِمة فى الخطاب الشفاهى.
إن مجرد العزوف – حتى فى مجتمع علمى- عن تناول موضوع مثل الجنس بلغة جنسية مباشرة هو أمر له دلالته، حتى أنه يمكن أن يكون أحيانا ضد مصداقية المتحدث، أو لعله يعلن عن احتمال اغترابه. إن هذا التراجع عن استعمال اللغة الصريحة، لا يُسأل عنه الدين ولا الأخلاق الحميدة، فلا يوجد أصرح فى الدين من فقه النكاح، ولا يوجد أصرح فى التراث من المراجع التى تناولت هذا الأمر بكل جسارة، ليس فقط فى كتب مجهولة المؤلف مثل “رجوع الشيخ إلى صباه”، وإنما فى كتب معروفة ومتداولة مثل “نزهة الخاطر” (1)وقد اعتبر فوكوه أن هذا الاحتشام الزائف الذى ساد حتى طغى فى القرن التاسع عشر بالمقارنة بالصراحة والمباشرة التى كانت فى القرن السابع عشر، هو من أهم السمات التى تميز قهر العصر الفكتورى، وأحسب أننا نمر هنا فى مصر والعالم العربى، بمثل ذلك ونحن فى القرن الواحد والعشرين، هذا ما يبدو على السطح على الأقل على المستوى الاجتماعى المعلن، وليس هو كذلك على أية حال بالنسبة لما يجرى فى المستوى الواقعى التحتى المتمادى فيما لا يمكن رصده بسهولة حول وعن هذه المسألة.
على الرغم من كل هذه المقدمة الحذرة، إلاأننى لا أملك إلا أن أجارى النفاق الاحتشامى فى حديثى اليوم، وغاية ما آمل فيه هو أن أستطيع أن أتجاوزه، متى ألحت الضرورة، بأى قدر مهما ضؤل فى بعض الهوامش أو الملاحق.
مناقشة هذا التحول الذى طرأ على خطابنا بشأن الجنس هو فى ذاته مفتاح ما آلت إليه وظيفة الجنس من إحاطة بالصمت (الرهيبِ) وخاصة بالنسبة للأطفال، أو من إنكار كامل حتى داخل حجرات النوم الشرعية، ولو أن بحثا أجرى على تواتر إطفاء الأنوار، وإغماض العيون ونحن نمارس الجنس، ودلالة هذا وذاك وعلاقته بالاحتشام المصنوع، وتأثيره على معنى وجدوى ونتيجة الممارسة الجنسية، خاصة فى المؤسسة الزواجية، لو أننا أجرينا مثل هذا البحث بفروض شجاعة، فلربما نتبين إلى أى مدى ننكر على وعينا ما نفعل، ونحن ندعى تقاربنا مع الآخر فى الجنس للتواصل أو حتى لمجرد اللذة، وقد تُظهر لنا نتائج هذه الأبحاث أننا نمارس الجنس وكأننا لا نمارسه، أو: كأننا نمارسه مع مجهول، أو: وكأننا نسرقه من ورائنا (وليس فقط من ورائهم).
ثمَّ اقتراح ببحث آخر يستقصى ماهية اللغة التى يستعملها أطفالنا – من مختلف الطقبات والثقافات الفرعية- لتسمية الأعضاء الجنسية (البوبو، الكلمة العيب…الخ) وسوف نكتشف كيف ننكر، أو نتنكر لكل ما هو جنسى منذ البداية .
إن تعبير أن هذا اللفظ أوذاك “يخدش الحياء” يحتاج إلى وقفة يمكن أن تأخذ وقت المحاضرة كلها، لأنه تعبير يدل على أن النفاق عندنا قد أزاح الحياء الحقيقى، ليحل محله حياء زائف سابق التجهيز، ولابد أن يكون هذا الحياء الزائف هش أو زجاجى القوام، وأن يكون اللفظ الجنسى الصريح، ماسىّ الجوهر قادر على الخدش بمجرد أن نتلفظه، وإلا فما معنى هذا التعبير “يخدش الحياء العام”، ثم: أليس ما يخدش الحياء العام، هو هو ما ينبغى أن يخدش الحياء الخاص، أم ماذا ؟؟ !!!!
لقد حدث انشقاق بين الكلام ومضمونه الحقيقى فى كثير من المجالات، وربما فى هذا المجال بوجه خاص، انشقاق بين اللغة الحقيقية، والمتولدة والمباشرة وهى لغة الناس (الذين يسمون –الآن- ”بيئة”، وهى أقرب كلمة لمعنى الثقافة الخاصة) ولغة الطبقة المحتشمة (أو المغلفة بالاحتشام) وهى اللغة التى تكاد أن تصبح “لا لغة” لتفريغها من وظيفتها، وكان من بعض نتائج ذلك ما لحق بموقفنا من الجنس، بل إن هذا الانشقاق نفسه يمكن أن يصبح ذا دلالة تفيد تدعيما لهذا الموقف وإبقاء على استمراريته.
أورد هنا بعض مظاهر دلالات استعمال اللغة الجنسية بصورها المختلفة فى حالتنا الآن:
1) أصبح الحديث عن الجنس بلغة جنسية يصـنِّف المتحدث فى موقع طبقى بذاته فهو إما فى أدنى الشرائح، أو أعلاها، وإن كانت الشرائح الأعلى قد تلعب لعبة أكثر خفاء فتتحدث عن الجنس بلغة جنسية صريحة لكنها أجنبية، وهو نوع من “الصراحة المستورة” (إن صح التعبير) وهى أكثر كذبا لا تجملا.
2) حلت الأفلام الجنسية محل الحديث الجنسى المباشر، (ربما كما حل التليفزيون محل الحوارالأسرى المباشر)
3) أيضا حلت النكت الجنسية محل الأحاديث الجنسية (وأحيانا محل الممارسات الجنسية)
4) أصبح العلم، ومنه هذه المحاضرة، وربما التدريس، يدرس بلغة باردة باهتة،وكأنك تصف رائحة زهرة بعدد من معادلات، على كمبيوتر ملون.
5) لم يعد التراث الصريح الخاص بالحديث عن الجنس، وفى الجنس، فى المتناول أصلا، حتى ألف ليلة وليلة، أو الأغانى، بل إن الأيدى امتدت إلى التراث المعاصر، ليس فقط بواسطة الرقابة والسلطات الرسمية، وإنما بواسطة الناشرين أنفسهم (حكاية السحار وعبد القدوس وقيل بعض محفوظ).
أخلص من هذه القدمة بالقول: إن انفصال لغة الجنس عن الجنس، سواء فى الحديث عنه، أو تعليمه، أو حتى ممارسته، هى من علامات انفصال الجنس نفسه عن تكاملية الوجود مع الجسد من ناحية، ومع اللغة ككيان فينومينولوجى غائر من ناحية أخرى، وأيضا عن اللغة كوسيلة للتواصل والتعبير بالكلام وغيره من ناحية ثالثة.
الجنس لغة قائمة بذاتها
لن أدخل فى تعريف اللغة كثيرا، لكننى سوف أكتفى بالإشارة إلى أن اللغة هى من ناحية كيان غائر جاهز منظَّم منظِّم، لها تجليات تفيد فى التعبير والتواصل.
الجنس فى ذاته وبذاته يوفى بكل ما تعنيه اللغة من تركيب ووظيفة، سواء فى ذلك وظيفتها للتواصل، أو للتمثيل (=التشكيل لاحتواء معنى ما، ليس بالضرورة بهدف توصيله).
يقوم الجنس بذاته فى تحقيق وظيفة اللغة وطبيعتها معا، فهو يَحْضُرُ “ليقول” عادة دون أن يعلن ما يقوله برموز منفصلة عنه، وهو يحقق الحوار الواجب تفهمه لمعرفة نوع العلاقة ودلالات اللقاء، على أى مستوى فى السواء والمرض.
سوف نركز هنا على مستوى التواصل
الجنس يستعمِل كل الأدوات المتاحة المفروض أن تتحقق بها وظيفة التواصل على عمق المستوى الوجودى كله تحت قيادة الوعى المتعين الذى يسمى الجسد
فكرة الحوار الجنسى لا تستثنى أيا من مستويات الوعى، قد تبدأ من مستوى بذاته، ولكنها تمتد إلى سائر المستويات حتى تحقق وظيفة التواصل فى أرقى تجلياتها.
الجنس يستعمل اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية، يستعمل اللغة الحسية الجزئية واللغة الحدْسية الكلية، يمتد من أول نظرة العين حتى رائحة العرق، مارا بكل خـلجات ونبضات واستجابات الجسد. ومثل أى حوار ولغة توجد إشارات نداء، وعلامات استجابة، ودلالات، وتطور اقتراب، وسياقات جدل، وتوجُّه نحو غاية، واستيعاب متنوع، وردود متماوجة متنوعة، ونداء وردَّ جاهز أو متراخ، وهمسٌ جسدى، وصمت تناغمى، أو نشاز مزعج، وهكذا، وهكذا، مما لا مجال لتفصيله هنا الآن اللهم إلا من حيث توظيفه للتأكيد على هذا المدخل إلى موضوعنا عن توظيف الجنس للتواصل على كل المستويات ،
إن من يحسن الإنصات إلى اللقاء الجنسى يمكن أن يستمع إلى ما نريد أن نشير إليه من احتمالات نجاح أو فشل أو تجاوز أو صعوبة عمل علاقة مع آخر، أو فهم مغزى عرض، أو إعلان نقلة نوعية، أو إضاءة ضوء أحمر، ينذر باختلال الوظيفة فى مرحلة بذاتها …إلخ
أعراض وأمراض
أستطيع أن أزعم أنه من الممكن أن نترجم أغلب الصعوبات الجنسية إلى ما يقابلها فى اضطرابات اللغة (فى وظيفتها التواصلية أساسا)
- خذ مثلا العُـقلة (فى الكلام = هى وقفة لا يمكن -أو يصعب- تحريكها ٍStammering)، وما يقابلها فى الجنس من العجز عن المبادأة أصلا، وبما أن الشائع أن المبادأة (لا النداء) تبدأ عادة من الرجل، فإن هذه العقلة الجنسية تظهر فى الرجل أكثر وضوحا مما تظهر عند المرأة حيث هى تقابل، تعلن (العجز عن الانتصاب) وهو ما يقابل العُقلة فى الكلام، فى حين أن المرأة قد لا تكـتشف صعوبة توقفها إلا فى مراحل متأخرة من الحوار (الجنسى).
- ثم خذ عندك التهتهة (فى الكلام، وهى حركة لا يمكن – أو يصعب- إيقافها ٍStuttering)، وهذا ما يصيب الرجل فى الجنس أظهر أيضا، كما يصيب المرأة أخفى. فى الجنس تحدث التهتهة حين تتذبذب الاستجابة حدة وفتورا، وكأن الخطاب الجنسى بعد بدايته يجد من المعوقات الداخلية والخارجية، الحقيقية والمتخيلة، ما يعرقله بانتظام وتكرار، وهكذا
ودون الإطالة فى تعداد أنواع أخرى من الاضطرابات الجنسية وترجمتها إلى ما يقابلها من اضطرابات اللغة، (الأمر الذى قد نعود إليه لاحقا) دعونا نتساءل عن ما هو المضمون الصحيح المناسب لانتقال الوظيفة الجنسية من مجرد التكاثر، إلى زخم (وصعوبات)التواصل؟ وبالتالى يمكن أن نتصور قصورنا دون تحقيق هذا المضمون أو نجاحنا فى ذلك إذا ما أحسنا الإنصات لهذا المضمون المأمول.
الجنس فى جملة مفيدة
أستطيع أن أتصور أن الجملة المفيدة التى يريد الإنسان، فى نهاية النهاية، أن يقولها بالممارسة الجنسية الإنسانية (بعد تجاوز اقتصارها على التكاثر) وانطلاقها إلى وظيفتها الجديدة وهى التواصل يمكن أن تقول،:
”إن وجودى يتحقق أكثر بوجودك معى لتتحقق انت لك بى/معى، وأنا كذلك: أقرب، أدخل، أكثر التحاما. لا ألغيك وأنا خارج، ولا أتلاشى فيك وأنا داخل، لا أبلعك وأنا أحتويك، ولا ألفظك وأنا أنسلخ منك، أبتعد لأكون نفسى فأتداخل لأكونك، أسمح لك ولا أخشى الانسحاق، وأتركك فلا أخشى اختفاؤك، حتى نتلاشى معا، فينا، لنتخلق من جديد، جديدين معا ”
نلاحظ هنا أن هذه الجملة لم تظهر فيها اللذة لذاتها،
الجملة من بدايتها لنهايتها ممتزجة بلذة قادرة على الدفع فالحفاظ على تحمل كل هذه المخاطرة بالتلاشي (أنظر بعد).
إذا استطاعت الغريزة الجنسية ملتحمة بكل الوجود أن تقول مثل هذه الجمـلة المفيدة، فإنها تعلن أن الجنس يؤدى وظيفته التواصلية كأروع ما يكون الإبداع الذاتى “معا”.
إذا صح أن الجنس قد تجاوز دوره التناسلى (التكاثرى) إلى هذا الدور التواصلى الإبداعى، فإن معنى التكاثر البشرى يمكن أن تعاد صياغته من خلال تطور نوعية الوجود البشرى، وليس مجرد الحفاظ على النوع، بمعنى أنه إذا كان التكاثر الخلوى ينشأ من اندماج خليتين حتى لا يعودا كذلك إذ يتخلق منهما كائن جديد، وأن هذا يتم عن طريق رشاوى الدافع الجنسى من شبق ونداء واستجابة ولذة متبادلة، فإن التواصل بالجنس نفسه يمكن أن يحقق نفس الوظيفة ولكن على مستوى الفرد نفسه بالمعنى الوجودى كله، أى أن الممارسة الجنسية فى صورتها الإبداعية المطلقة إنما تحقق هذا الامحاء فالتجدد (الجنس كإعادة الولادة) باستمرار.
تنبيه لا تراجع:
حتى لا يبدو القول مرسلا وكأنه تفكير آمِل، أود التنبيه على شروط قراءة هذه الجملة الصعبة التى هى فى الأغلب: غاية لا بداية، قائلا:
- إن هذه الجملة لا تقع فى بؤرة الوعى بالضرورة، بل إنها غالبا ما تكون بعيدة عن دائرة الوعى الظاهر أصلا.
- إن مصاحبات الخبرات الجنسية، ومقدماتها، وبدائلها، وتجلياتها قد تعبر أكثر عن هذه الجملة المفيدة، فى حين أن الممارسة الجنسية نفسها تبدو أحيانا وكأنها تفتقر إليها، وهذا لا يدل على غيابها الحقيقى، وإنما هو قد يشير إلى صعوبة التحام الجسد مع الوعى فى وجدان كيانى لحظى بشكل مباشر متصاعد.
- إن التيقن من اختفائها تماما قد يضبط الغريزة الجنسية وقد ارتدت إلى بدائيتها، ربما دون إذن صاحبها.
- إن فرط الدراية بهذه الجملة حاضرة كمراقب دقيق فى الوعى الظاهر، قد يصبح معوقا للممارسة الجنسية السلسة، وليس دعما لتحقيقها.
لكل ذلك، فإن جملا أخرى، وإن كانت تبدو أقل إحاطة، تقوم بوظيفة التدرج، والتيسير، حتى يحقق الجنس هدفه التواصلى الإبداعى، دون مواجهة بصعوبات مُعيقة من البداية.
جمل جنسية مساعدة، داعمة أو بادئة:
إنه لكى يتحقق مضمون هذه الجملة الصعبة، فإن الأمر يحتاج إلى جهد نمائى من الجانبين لا من جانب واحد، وبديهى أن مستوى الوعى بها، ومستوى التطور البشرى لكل شريك، ومستوى القدرة على تحقيقها يختلف مثل كل الاختلافات الفردية ومن ثمَّ تقوم الدفاعات النفسية، والاحتياجات الجزئية، والأوهام الغرامية باللازم للتخفيف من وطأة هذا التحدى الصريح الصعب، الذى يزداد صعوبة إذا استعمل الحوار الجنسى – بالميكانزمات المختلفة – للتعبير عن أشياء قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالممارسة الجنسية نفسها.
لما كان فرط الوعى بهذه الجملة الجامعة قد يصبح عائقا عمليا على أرض الواقع، وخاصة أن تحقيقها هو غاية أكثر منه بدءا كما أشرنا، فإن ثم جمل أخرى أخف ثقلا يمكن أن نستمع للجنس وهو يقولها فى أطوار مختلفة من أدائه أو تطوره، هذه الجمل وإن تبدو لأول وهلة بعيدة عن الهدف الإبداعى التواصلى للجنس، فإنها جزء من الحوار الجنسى وهى تبدو ضرورة مرحلية نافعة، على الطريق إلى الجملة الأكمل، والولاف البعث. ومن ذلك (على سبيل المثال):
- أنا خائف أريد أن أرجع لرحم أمى
- أنا خائفة أريد أن أحتمى فى ظل أبى
- هل تريدنى (أنت تريدنى): إذن أنا موجود
- هل أرضيك ؟(أنا أرضيك) إذن ثمَّ من يحتاج وجودى.
- أنا أبحث عنك، فدعنى أجدُك
- أنا أجدُك رويدا رويدا فلا تنسى أو تنكر
- أنا أصدّقك، دعنى أصدقك أكثر
- أنا أكتمل بك، لكن ثَمَّ صعوبة، لا تراجع
……..إلخ
هذه أمثلة لحضور الطرفين فى حوار يعلن امتزاج وعى مشترك،
وبديهى أنها لا تجرى بهذه الرموز المحددة، مع أنها أخف من الجملة المفيدة الجامعة الأولى.
الجانب الآخر
بقدر ما تكون مثل هذه الجمل السالفة الذكر التى يقولها الجنس (دون ألفاظ) مفيدة أو بادئة واعدة لما يمكن أن يصبح تواصلا، يمكننا إذا أحسنا الإنصات إلى الجانب الآخر من لغة الجنس أن نستمع إلى جمل أخرى مغتربة، ومجهضة، وهى لغة تكشف بشكل مباشر، أو من خلال نتائجها، طبيعة ما يمارس من جنس اغترابى (عمره قصير عادة)، ذلك لأنه مبنى على ما لا يحفظه أو يحافظ عليه، لأنه إذا كانت لم تعد بنا حاجة إلى الجنس بكل هذا التكرار للحفاظ على النوع (التكاثر)، و فى نفس الوقت هو (الجنس) لم يرق ليقول الجملة المفيدة السالفة الذكر، أو حتى الجمل المساعدة، فإنه يصبح ممارسة مغتربة، قهرية أحيانا، منفصلة عن الوجود الكلى، عاجزة عن تحقيق وظيفتها الجديدة أصلا، كل ذلك يمكن رؤيته من خلال الموقف الأساسى لهذا الجنس المغترب (الذى قد تبرره اللذة لبعض الوقت، كما قد تطيل عمره الذاتوية المعلنة أو الخفية، المتبادلة أو أحادية الجانب) هذا النوع من الجنس يعلن نفى الآخر من البداية، فلا يعود إلا مسقطا لاحتياجات الذات، أو وسيلة لتحقيق اللذة الذاتوية الاغترابية التى تلغى الآخر،
على هذا الجانب الآخر يمكن الإنصات لما يمكن أن يقوله الجنس من جمل سلبية يقولها الجنس، لا تخدم التواصل، بل لعلها تقطع التواصل، أو تُجهضه، أو تَنفيه، قبل أن يبدأ اصلا، ومن ذلك:
- أنا أمتلكك وهذا يجعلنى أكثر أمانا وثقة بنفسى
- أنا أُحسن استعمالك، وعليك أن تسعد بذلك
- أنا أختفى فيك فلا يبقى منى شىء، ولا وجود لى إلا بك أداة نافعة
- أنا أستمد وجودى من قبولك لى هكذا، وإلا الضياع (ضياعى)
- أنا ألتهمك (فأضمن استمرارى) فلا يبقى منك شيء بعد تمتعى بلذة التهامك …
- أنا أحتاجك حتى أشبع، على شرط ألا يتبقى من ذلك شئ… (فلا يهددنى التلاشى فالبعث)
إلى غير ذلك من كل تباديل الحب والغرام والرشوة والاستعمال، دون ولادة أو بعث.
صعوبات وصعوبات
نجاح العملية الجنسية فى ذاتها ليس دليلا على نجاح التواصل، بل إن الصعوبات الجنسية قد تظهر وتشتد أكثر حين تكون اللغة الجنسية السليمة قد وصلت إلى الوعى أو اقتربت منه حتى أصبح التواصل الحقيقى شرطا للقاء بشكل أو بآخر.
أما إذا ألغى احتمال التواصل أصلا، وأصبح الجنس مغتربا ذاتويا تماما، فإن الممارسة الجنسية قد تنجح ، وإن كان عمرها الافتراضى يتناقص باستمرار.
استعمال الجنس” لغير ما هو (لا للتكاثر ولا للتواصل)، يؤدى به إلى أن تعتبر المرأة شريكها (شعوريا أو لا شعوريا) مجرد مذَبْذِبْ، فى حين يعتبر الرجل المرأة (شعوريا أو لا شعوريا) بمثابة وسادة إستمنائية.
فإذا تجاوز الطرفان أو أحدهما هذا الحوار السلبى للجنس، إلى ما هو أرقى، فقد يعلن ذلك فى شكل عرض (أو مرض) ، يمكن علاجه باحترام شديد، بدلا من اعتباره انحرافا أو قصورا.
ومن أمثلة ذلك:
(1) تظهر العنة مثلا حين يكون “الموضوع” (الشريك) “موضوعا”، أو ملوحا أن يكون موضوعا حقيقيا (كيانا بشريا منفصلا مشاركا)، أو واعدا بذلك، أو حين يشترط الشريك ذلك، وكأن العنة تقول:
ا- إختلّت إسقاطاتى، فلم أعد أستطيع أن أقترب منك إلا ”موضوعا حقيقيا، ” ليس فى مقدورى أن أكذب
أو لعلها تقول:
ب – إن لذتى لا تتحقق إلا بأن أستعملك دون أن أتعرف عليك، فما دمت قد تعرفت عليك فأنا عاجز الآن.
(2) وقد تقول المرأة بالبرود الجنسى:
ا- أعرف كذبك ولا أريد أن أشارك فيه، رغم البداية الخادعة معك
أو لعلها تقول:
ب- اكتشفت كذبى، ولم أستطع أن اتمادى فيه
(3) وسرعة القذف قد تقول:
أ- رجعت فى كلامى، لا أحتملك كآخر، لا أطيق الاستمرار، نُنْهها أحسن.
أو لعلها تقول:
ب- أخاف من التلاشى. قد أموت بلا عودة، يكفى هذا
أو ربما تقول:
ج- خفت أن أدخل لا أخرج، أو أن أخرج لا تسمح لى ثانية. سلام.
…… وهكذا
هامش عن معنى انتشار الفياجرا هكذا
إن انتشار استعمال الفياجرا حتى عند الشباب، وفى الصعيد أكثر (كما بلغنى من الممارسة الإكلينيكية مؤخرا)، وفى المؤسسة الزواجية أكثر فأكثر، إنما يؤكد انفصال الأعضاء الجنسية عن كلية وجود صاحبها فسيولوجيا ونفسيا ووجوديا وهو لا يتيح الفرصة لاختبار لغة الجنس التواصلية الصادقة، ولا حتى اللذية المؤقتة.
أنا لا أريد أن أعمم فأنصح بتجنب هذه المساعدة فى حالات خاصة، ولوقت محدود، فقط أريد الإشارة إلى أن هذه لعقاقير المالئة للجهاز الجنسى الطرفى إنما تسمح للمخ الأعلى فالوجود الأشمل أن يتخطى صعوبة موضعية مؤقتا لها أسبابها المحدودة ، بما يتيح له أن يكمل أن يمارس وظيفته الجنسية، سواء كانت اغترابية، أم تواصلية مبدعة، ومن ثم فإن فضل الفياجرا هو أنها تعمل بمثابة تأكيد ضمان كفاءة الجهاز الطرفى بما يتيح للجهاز المركزى الأعلى أن يستعمله كيف شاء متى شاء،
أما إذا كان استعمال مثل هذه الكيمياء هو البداية والنهاية، فإن تمادى الانفصال لا التواصل هو الأكثر احتمالا.
الخطر الحقيقى، حتى تطوريا، هو أن تساعد مثل هذه العقاقير على تراجع دور الجنس من لغة للتواصل إلى أداة للتفريغ واللذة وإزالة التوتر لا أكثر، ذلك أن الانتصاب الطبيعى فى حد ذاته يعلن أن المخ وافق على الاقتراب، فأرسل رسائله التى أعلنها هذا النجاح الفسيولوجى ممثلا فى الانتصاب.
ومن جهة دور المرأة، فإن هذه العملية الطبيعية فى ذاتها هى إعلان أنها مرغوب فيها بدليل (بأمارة) هذا الانتصاب، مرغوب فيها بقدر ما هى راغبة وبالعكس.
فإذا نحن فرحنا بتجاوز هذه الخطوة، واستسهلنا استعمال الضخ الكيميائى (بالفياجرا مثلا)، فإن معنى ذلك أننا نفرح بترديد صوت ببغائى كأنه الكلام، مع أنه رطان خال من مضمون التواصل على الرغم من الإبقاء على مضمون اللذة وخفض التوتر.
إذن فَلاِسْتعمال الفياجرا دورين نقيضين:
الاستعمال الإيجابى: وهو الاستعمال المؤقت، لكسر حلقة التردد واستعادة الثقة، ومن ثم تعود اللغة السليمة تعبر عن القدرة والرغبة، فالتواصل.
أما الاستعمال السلبى فهو أن يحل هذا التنشيط الكيميائى الميكانيكى محل الاختبار التواصلى بصفة دائمة، فتختفى فرصة الإنصات الواعى والدال للغة الجنس أصلا
الجنس والجسد
غُـِّيبَ الجنس حين غُـِّيبَ الجسد، والإنسان المعاصر انفصل عن جسده أو كاد:
(1) حين طغى العقل مستقلا نتيجة فرط الذهننة (Hyper intellectualization)
(2) حين أهملت تدريبات الحواس حتىأصبحت الحواس مجرد مداخل ونوافذ ومحطات إنذار، وليست قرون استشعار، ولبنات تكامل.
(3) حين سخر الجسد كمجرد أداة للاستهواء ومجال للاستهلاك منفصلا عن تكامل الوجود
(4) حين أهمل الجسد كوسيلة معرفية، وحضور وجودى دال
وترتب على كل ذلك أن الجنس المفعلن فى جسد مغترب، أصبح مغتربا بدوره، واقـتصر دورهما(الجنس والجسد) إما على تحقيق لذة منفصلة، وإما على إعلان عجز انشقاقى دال.
الجنس والموت والبعث
ذكرنا فى الجملة المفيدة السالفة الذكر التى يمكن أن يقولها الجنس التواصلى الإبداعى كيف تكون الممارسة الجنسية هى الوسيلة إلى التكاثر الوجودى بمعنى اختفاء الاثنين المتلاحمين فى سبيل تخليق اثنين آخرين جديدين، وأجد من المناسب أن أعيد الجملة المفيدة هنا من جديد، إنْْ تقول:
إن وجودى يتحقق أكثر بوجودك معى لتتحقق انت لك بى/معى، وأنا كذلك: أقرب، أدخل، أكثر التحاما. لا ألغيك وأنا خارج، ولا أتلاشى فيك وأنا داخل، لا أبلعك وأنا أحتويك، ولا ألفظك وأنا أنسلخ منك، أبتعد لأكون نفسى فأتداخل لأكونك، أسمح لك ولا أخشى الانسحاق، وأتركك فلا أخشى اختفاؤك، حتى نتلاشى معا، فينا، لنتخلق من جديد، جديدين معا ”
ومعنى الاختفاء هنا هو تلاشى الفرد فى اللقاء كخطوة لازمة لكى يعود جديدا، وهذه الخطوة ليست مجازية فى التناسل البيولوجى، وهى كذلك بالنسبة للجنس التواصلى الإبداعى فإن نفس الخطوات تتم ولكن يحل محل التناسل البيولوجى تخليق الذات (الذاتين) أى التغير النوعى للشريكين، بمعنى إعادة الولادة أو إبداع الذات من خلال لقاء الآخر والاندماج فيه حتى التلاشى
ولو أننا صورنا هذه الجملة المفيدة بالتصوير البطئ، ثم تصورنا توقيف التصوير إذن لضبطنا هول لحظة التلاشى، (العدم / الموت) وكأننا بذلك نكتشف أن الجنس التواصلى الإبداعى لا يتم إلا إذا تحقق الموت (كخطوة) ومن ثم البعث.ولكن من يضمن؟
وقد كنت أرفض قديما بشكل ساخر تعبير”أموت فيك، وتموت فىَّ ثم انتبهت مؤخرا إلى احتمال أن هذا الموت بالجنس هو فى نفس اللحظة إعادة ولادة، وبالتالى فإن فيومينولوجيا الجنس تؤكد على هذه العلاقة الوثيقة بين الجنس الكامل، والموت/البعث
ومن ثم فإن الخوف من الجنس حتى العجز، يمكن أن نتتبع معناه من عمق معين، حتى يثبت فى بعض الحالات أنه ليس إلا خوف من الموت دون بعث، وهو ما أشرنا إليه فى الفقرات السابقة فى جملة الذهاب بلا عودة، أو جملة الدخول بلا خروج.. إلخ
كما أنه قد يكون خوفا من تلاشى الآخر التهاما (ومن ثَمَّ القضاء عليه)، بلا عودة أيضا، أى أن يكون الجنس سببا فى فقد الآخر، وبالتالى الحرمان من مصدر وشريك الجدل الخلاق
ولكن لهذا حديث آخر، غالبا.
[1] – كثير من المناقشات التى دارت حول مسألة اللغة المستعملة فى تناول المسألة الجنسية حتى فى سياق أدبى كان وراءها بحث فى دلالات ذلك عبر التاريخ من أول الموقف من عوليس جيمس جويس حتى كتابات د،،هـ لورنس، هذا بالإضافة إلى دلالة ما لحق بديوان الحسن بن هانئ، وألف ليلة وليلة، وغيرها من مصادر التراث.
وقد تراجعت فى آخر لحظة عن أن أقتطف ما يدعم موقفى من كتاب الروض العاطر فى نزهة الخاطرتأليف قاضى الأنكحة أبى عبد الله محمد بن محمد النفزاوى إذ يقول ” الحمد لله الذى جعل اللذة الكبرى فى ..إلخ”، وسوف أكتفى بالإشارة إلى خطاب الوزير الأعظم “عبد العزيز صاحب تونس وهو يدعوه إلى تأليف الكتاب بعد اطلاعه على كتاب سابق (تنوير الوقاع فى أسرار الجماع)، يقول الوزير “..لا تخجل ..فإن جميع ما قلته حق،..(و) هذا العلم …يحتاج إلى معرفته ثم يضيف: ولا يجهله ويهزأ به إلا كل جاهل أحمق قليل الدراية”….الخ.