الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ

عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ

“يوميا” الإنسان والتطور

6-11-2007

عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ

بمجرد أن نشرت أول أمس محاولة تعريف بما أعنيه (أكرر ما أعنيه) بكلمة الفطرة، حتى جاءتنى احتجاجات قوية ودالة، وتأييد أقل، وقد شعرت بأمانة أن الاحتجاجات أهم، حتى بدت المسألة أخطر من أن تُتْرك أو تؤجل .

لن أكرر هنا ما قصدته بالفطرة فقد تصورت أننى حين استبعدت أنها ليست كذا وكذا (ستة استبعادات) 13-10 وأثبت أنها كيْت وكيّت: اثنتى عشرة (من عشرين صفة) تصورت أننى قمت باللازم نحو تحديد ما أعنى تماما، لكن الاحتجاجات التى جاءتنى بدت لى أن أصحابها لم يصلهم أىُّ من ذلك، هل هى مقاومة أم أننى أخطأت؟ فكان لزاما أن أراجع نفسى، وأنا أحترم ما وصلنى كله.

عن المنهج

فى أى أطروحة أو بحث، ينبغى على الباحث أن يحدد التعريف الإجرائى لما يبحث فيه، خاصة إذا كان يتناولموضوعاً جديداً يضطر فيه إلى استعمال ألفاظ أو مفاهيم قديمة شائعة. المأزق فى مثل هذا الموقف بالنسبة لى يكمن فى الإجابة على تساؤل يقول:

أيهما أفضل ؟! استعمال كلمات جديدة للمفهوم الجديد أم الاحتفاظ بالكلمات القديمة مع إعادة تعريفها؟

لم أتردد –شخصيا- فى نحت كلمات جديدة لحل بعض مثل هذه المواقف فى كثير من المواقع التى اضطررت فيها إلى ذلك، فابتدعت مثلا كلمة “الِجَدْلغْة” لتفيد “اختراع لغة جديدة” غريبة وذلك ترجمة لكلمة Neologism ونحت كلمة “حَلْوَسَطْ” (وهى إضغام لكلمتى “حل” و “وسط“) حتى أؤكد بهذا الإضغام سكون المعنى الذى أريده، وحتى أستطيع أن استعمل الكلمة كفعل خماسى “حَلْوَسَطْ” “يُحَلْوسُطُ” فى مواقف بذاتها، وغير ذلك مما لا داعى للاستطراد إليه، لكن الذى حدث أننى رُفِضْتُ رَفْضاً شديدا، لأن تقديس معاجم اللغة العربية أصبح عائقا ضد إدخال كلمات جديدة، وفى بحث ألقيته فى ندوة الثقافة العلمية فى المجلس الأعلى للثقافة عن “حركية اللغة بين الشعر والشارع نبهت أن اللغة الانجليزية يدخلها كل سنة حوالى 1500 كلمة جديدة كل عام global language monitor، فى حين أن إدخال (نحت) كلمة جديدة فى اللغة العربية لايحدث إلا بعد معارك مهولة، يعقبها رفض عام منظم.

من هنا اضطررت أن أعود إلى استعمال الكلمات الشائعة مع الالتزام بتعريف إجرائى واضح فى كل حال.

إن أى بحث عن الفصام –مثلاً- لا يعنى شيئا إطلاقاً مالم يحدد الباحث ماذا يريد بكلمة الفصام فى بحثه هذا بوجه خاص، حتى لو كان قد أشار إلى “دليل” عالمى، أو قومى، أو وطنى، يحدد معالم مفهوم هذا التشخيص بمحكات واضحة، إلا أن تحديد اسم المرض لايكفى فى كثير من الأحيان، إذْ لابد
من الالتزام بعدد من المواصفات الخاصة للعينة قيد البحث، مع تحديد موقف الباحث وهدفه، الأمر الذى يعطى للبحث تميزه، وقد يسمح بالمقارنة بأبحاث أخرى، بعد مراجعة التعريف الخاص فى كلٍّ

فإذا جئنا لكلمة مثل “الحب” كان الأمر أصعب وأكثر التباساً

 وحتى لفظ الجلالة ، الله سبحانه وتعالى، لو اقتصرنا على تعريف المعاجم أو تفسير السلطات المنغلقة له، لحرمنا أنفسنا وسعينا الإيمانى وجوديا من كل عطاء المبدعين، والمتصوفة والفلاسفة ، ولتوقف الاجتهاد الممكن، ولأُجهِضَت الاشراقات النورانية الهادية.

ما العمل؟

هل يتجنب المتصوفة والمبدعون الكادحون إلى وجهه تعالى استعمال لفظ الجلاله مادام المحتكرون قد استولوا عليه لصالح سلطاتهم، أو يواصل المبدعون، والكادحون إليه كدحا امتلاك ناصية اللغة رافضين أى احتكار حتى ينبض لفظ الجلالة من جديد بموضوعية معناه وحركية تواجده مَعْبَرًا بين الوعى الخاص والوعى الكونى سعياً إلى وجهه سبحانه وتعالى؟

فإذا انتقلنا إلى موضوع الفطرة، كما ورد فى مقال 3-11-2007 ، أعترف أننى لم أجد للفظ الفطرة بديلاً، بل إننى لم أجد له ترجمة بالانجليزية تحتوى ما أريد، حتى أننى حين أكتب بالانجليزية أدخله إلى الانجليزية (ضمن الخمسة عشر ألف كلمة، مطمئنا إلى ترحيب أهلها، أدخله هكذا Fitra كما سبق أن أدخلت لفظWijdan حيث لايوجد أى مقابلا للكلمة العربية الرائعة “وجدان” فرحت أكتبها هكذا بالانجليزية Wijdan: لا Emotion  ولا Affect ولا غيرهما)

ماذا كنت أفعل وأنا أتحدث عن الفطرة أكثر من استبعاد ستة احتمالات قديمة، وابتداع اثنى عشر محكا جديداً؟ لابد أن أعترف هنا أن كل ماوصلنى مُقْتَطفا عما شاع عن الفطرة – خاصة فيما يتعلق  بالتفسير الفقهى الرسمى – هو بالضبط ضد المفهوم الذى أستعمله هنا، والذى مازلت أصر على استعماله، لأن الله سبحانه سوف يحاسبنى على تراجعى إنْ أنا فعلت، وعليهم هم أن يتراجعوا إذ شاؤوا،

هذا وأستطيع أن أقسِّم ما وصلنى من تنبيهات واعتراضات إلى قسمين:

القسم الأول : قدّم مفهومه عن الفطرة بمعنى البدائية الفجة، وهو ما نفيتُهُ تماما، وحَقَّ لمن خدعه الترادف بين الفطرة والبدائية أن ينبه أن شعوب الفطرة لا دين لها.

القسم الثانى :  هو الذى عرّف الفطرة بإجراءات نظافة وتشذيب وتحفيف، لاتمت للفطرة التى أعنيها بصلة، من أول الختان حتى تهذيب الشارب.. ضد ما أريد تماما، ومع احترامى لكل مافى  ذلك من أصول فقهيه يتحمل قائلها مسئوليتها، وله أجرها، إلا أن هذا استعمال آخر، فى مقام آخر، مهما كانت له مبرراته،

أما ما يصلنى من معنى الحديث الشريف أن الإنسان يولد على الفطرة.. (الإسلام) أو أن الاسلام دين الفطرة.. الخ، فأنا لا أقرأ هذه الأحاديث –بعد التوقف مليا- إلا من خلال الآية الكريمة “قالت الأعراب أمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا…” (الآية) فإسلام هؤلاء الأعراب – بنص القرآن- ليس هو الفطرة التى يعنيها الحديث الشريف لأنهم أسلموا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم… !! فأين الفطرة؟

مراجعة وتوضيح

 أعود لالتزامى وتمسكى بموقفى برغم  الصعوبة التى عاينتها من البداية وأنا أحاول أن أربط الفطرة بالحركة ضد السكون، وبالتخلف ضد الجمود، وبالإبداع ضد النكوص، وبالجدل ضد التسوية، فأعيد الفقرات التى توضح ذلك:

أولاً : قلت فى محكات الاستبعاد

“الفطرة ليست شيئاً محدد أو مفهوما ساكناً”

ثانياً: ثم قلت فى محكات التحديد

“الفطرة هى حركة فى اتجاهها!”

(وقد أضفتُ فزعاً: يا خبر ما معنى ذلك؟)

فى اتجاه ماذا، فى اتجاه الفطرة ذاتها، التى هى حركة أصلاً،

ثم يبدو أن فزعى هذا من الغموض لم يثننى عن إضافة:

 “إنك بمجرد أن تفكر فى الفطرة من الوضع ساكناً. فسوف تجد نفسك بعيداً عنها”

ثالثاً: قلت أيضا: “إن الحلم هو الواقع الأكثر تمثيلاً للفطرة باعتبار فرط نشاط حركيته التشكيلية ورحابة مساحة حركته”

هذه الفقرات الثلاثة جعلتنى أقيس كل ماوصلنى من تعريفات -أغلبها فقهية – بمقياس ما قلت، فانتهيت إلى أنها تعريفات ساكنة لا تمت إلى مفهوم الحركية بصلة.

وبالتالى هى أبعد ما تكون عن الفطرة كما عّرفتها تحديداً.

ما الحل؟

هل الحل –كما قلت فى بداية المقال- أن أتجنب استعمال اللفظ وأتركه لهم يصنّمونة، ويجمدونه، ويشوّهونه لمجرد أنهم أسبق فى استعماله، ألا يجرنا هذا، لو قبلتُه ورضيت به، إلى التنازل عن استعمال لفظ الجلالة (استغفر الله العظيم) إلا بمثل ما يستعملونه له، الأمر الذى حَرمَ – أو كاد أن يحِرمَ- عامة الناس من معايشة نص الإيمان سعيا إليه سبحانه فى دورات الإيقاع الحيوى، ومع تسبيح الطبيعة، وفى حركية الوعى البشرى “معا”، ولإعادة خلق ذواتنا فى رحابه ذهابا وجيئة، وعبادات، طول الوقت، طول الوقت؟

من هنا وجدت لزاما علىّ أن أعود هادئا لأوضح بعض موقفى بالتفصيل، وسوف أتناول –كلما أتيحت لى الفرصة جانبا من جوانب المسألة ، بدءًا اليوم بموضوع:

1- الفطرة والجسد[1]

الفطرة وإعادة إحياء الجسد

نشر أصل هذه الأطروحة بعنوان : “هل تعرف أن لك جسداً ولا مؤاخذة” فى صحيفة  يومية قومية مجهولة كنت أكتب فيها أسبوعيا وتصورت أن أحدا  يقرأ ما أكتب، لكن يبدو أن هذه أول مرة  -بعد تحديث الأطروحة وايجازها- أطمئن أن زائر الموقع سوف يقرأها بأمانة تتناسب مع ما كُتِبَتْ به.

برغم أنك تقرأ هذا الكلام بعينيك، وتقلب الصفحة بيديك، كما  تغلق التليفزيون بأصابعك على الريموت أو مباشرة، ثم تذهب إلى الحمام سائرا على قدميك، لتعود عليهما، ثم تستلقى و تتمطى قبل أن تنام، أو تلقى بجسدك  على السرير فيتقلب منك أو لا يتقلب، حتى تستغرق فى النوم، برغم كل ذلك فأنت – مثلى غالبا-ليس عندك خبر أن لك جسدا، بما هو كما هو،  مع  أنك أنت شخصيا – مثلى أيضا- لستّ إلا  جسدك. تصور؟!

لا يمكن أن تتعرف على جسدك بحق من خلال رأى عقلك فيه، أو تصوير عقلك له. مع أن الجسد له أولوية فى الوجود، وكذلك عبر تاريخ التطور.

كانت الكائنات الأولية تفكر بجسدها، وتحفظ بقاءها بجسدها، وتحافظ على نوعها بجسدها، وتمارس مشاعرها بجسدها، كل ذلك قبل أن يتخلق لها دماغ (مخ) .

جسدك  ليس فى حاجة إلى توصية من عقلك المحترم حتى تعترف به.

كيف السبيل لنتعرف معا على ما نسيناه حتى ألغيناه؟

 بالنسبة لما نحاوله معا  هنا والآن، للأسف ليس هناك سبيل إليك، إلىّ، ونحن نتكلم عن جسدى وجسدك، إلا من خلال عقلك الذى تقرأ به هذا الكلام. أليست  القراءة هى وظيفة عقلية حتى لو كانت تمر من خلال عضو إحساس رائع، هو “العين” التى لم نعد نستعملها إلا مَعْـبرَاً لما يتجاوز ما يصلها؟ ومع ذلك دعنا نحاول:

ماذا فعلنا بأجسادنا حتى تاريخه؟

ماذا طرأ على مفهوم الجسد عند الإنسان المعاصر؟  وبالتالى ماذا طرأ على ما هو جسد؟ عند أغلبنا ؟.

لقد انتهى الأمر بنا

 وبأجسادنا إلى اغتراب منذر. (برجاء عدم التعميم)، وإليك بعض ذلك:

 (1)  تم إهمال الجسد، أو تهميشة، لحساب ما يسمى العقل، فنحن نعرف أجسادنا من خلال ما شاع عنها فى كلامنا وأحكامنا، أكثر مما نعرفها من خلال ما يصلنا منها مباشرة،  اللهم إلا فى حالات المرض (أو توهم المرض الجسدى: المُـراق Hypochondriasis )، وبعض حالات الجنون، وأحيانا الإبداع حتى لا نظلم الجميع.

(2) تم احتقار الجسد، أو ازدرائه، لحساب ما يسمى الروح. ومع أن الروح من أمر ربى، فالأفضل ألا نفتى فيها، فإنه ما أسهل على أى واحد لا يعرف جوهر دينه أن يضعها استقطابا على أقصى الناحية الأخرى من الجسد (الجسد هو ضد الروح!)، يحدث هذا فى التدين المنغلق المنشق، كما يحدث حتى فى بعض أنواع العلاجات تحت مسمى “الروحانية”، فيصل هذا الاستقطاب بين الروح والجسد، وكأنهما نقيضان، إلى الشخص العادى ليسود الحديث عن طهارة الروح، وعشق الروح الذى ليس له آخر، “لكن عشق الجسد فانى، عشق الجسد فانى!!” (كذا؟)

(3)  يصل الأمر إلى أن نعامل الجسد كمجرد أداة، أو وسيلة  لغيره، ومن ذلك:

  • أن نقصر دوره على أن يكون وعاء ثم مطبخا لطحن الطعام وهضمه وأيـْضِـهْ، (تمثيله الغذائى) ليمدنا بالطاقة، وأحيانا
  • نبنى من خلال ذلك بعض وحدات من الخلايا البديلة نعوّض بها ما تلف منها.
  • كما قد نستعمل الجسد أداة للمتعة بما يحقق لنا ما تيسر من لذة أو يطفئ ما أثير من شبق.
  • كذلك قد يستخدم الجسد معرضا للممتلكات حين نضع عليه ما نملك من “إكسسوارات” لزوم “رموز الطبقة”، للإعلان على
  • أننا نمتلك من المال ما يمكن الاستغناء عنه ووضعه على رف الجسد  للإعلان والتنويه.
  • ثم إنه كثيرا ما يستعمل الجسد كلوحة تتلقى عبث الوشم المؤقت، أو الدائم، كلافتة تعلن عن هوية صاحبه أو رغباته أو احتياجاته أو حتى موقفه السياسى أو المذهبى أو الدينى.
  • وأيضا: راح أهل السوق والشطارة يستغلون أجسادنا كمجال ومرتع لتسويق بضائعهم، سواء كان جسدنا
  • يحتاج هذه البضائع أم لا.
  • وقد يبدأ استعمال الجسد لما ليس له منذ الطفولة، كأداة للتنافس المسعور، وذلك مثلما يحدث حين يعدّ الأهل بناتهن ليصبحن
  • أبطالا فى ألعاب القوى، فتظل الطفلة فالفتاة فالبطلة تقوم بتدريباتها سنين عددا لتكسر الرقم القياسى، أو تفوز على منافستها بواحد على
  • ستة عشر من الثانية (أى والله!!)، والأكثر قسوة أننا نفرح بذلك ونصفق لها وهى طائرة فى الهواء، أو سابحة فوق الحاجز!!!

(4) نلحق بالجسد إهانات بالبتر (مثل الختان) أوالتزييف أوالحقن أوالتعديل (تحت زعم التجميل!) بقدر أكبر من أى تصور وللأسف

 بعض الفقهاء يعتبرون بعض ذلك هو “الفطرة!!”

(5)  مع زيادة الاهتمام بالصحة الجسمية والوقاية من الأمراض والتلوث والمخاطر ينقلب  تعاملنا مع الجسد إلى اعتباره سلعة لها ظروف تأمين خاصة، حتى نكاد نوصى أن  نمسكها من الناحية التى بها أسهم إلى أعلى، لأنها تحتوى محتويات قابلة للكسر، ونظل نتبارى فى إطالة عمرها الافتراضى، بغض النظر عما تعنيه أو تحتوية هذه السلعة، وبغض النظر عما ستقوم به فى السنوات التى طالت (متوسط العمر) بفضل حرصنا على سلامتها.

 خامسا: فى العلم، والطب، والتطبيب ، يتم اختزال الجسد – عادة – إلى وحداته الأولية، باعتباره خلايا ومشتبكات، ترسل رسائلها إلى أعضاء وعضلات، ليصدر عنها سلوك وحركات ….إلخ.

ما هو الجسد إذن؟image002

إذا كان هذا حال ما آل إليه الجسد، فأين الجسد من مفهوم الفطرة كما قدمناه؟ تبدو الإجابة التى حضرتنى للتو غريبة، لأنها جاءتنىهكذا “الجسد الذى يمثل الفطرة هو الوعى المتعين فى اللحم الحى الذى أمكنه أن يكون ضد كل (نعم كل) الاغتراب السابق الذى أوردناه تحت: “ماذا فعلنا بأجسادنا حتى تاريخه؟”

 الجسد هو كيان متكامل بكل وحداته، بما فى ذلك الدماغ/المخ، ، وفى نفس الوقت فإن له تجلياته التى لها استقلالهimage004ا من حيث المبدأ، لكنها تصب فى حركية التكامل مع تجليات مكونات الوجود الأخرى.

 ليس من حق العقل أن يصيغ الجسد رمزا مجردا.

 للجسد حضوره كوعى قائم بذاته.

نحن نحتاج إلى منهج حياة آخر يسمح لجسدنا بالحضور من جديدا وعيا فاعلا متكاملا يعرف وينبض ويتحرك، ويتلقى، ويعطى ويضيف.

نحن لا ندعوك بسذاجة عقلية أن تعترف أن لك جسدا،

 أو أن تعى ذلك بقدر من الاحترام والاهتمام،

ثم إننا لا نقصد التركيز على الجسد، أو الانقلاب إليه،

ثم إن التركيز على الزعم بأن الجسد هو أحد مجالات “تجليات الوعى” لا يعدو أن يكون شكلا آخر من وضع الجسد فى موضع ثانوى.

  نعم. إن استعادة دور الجسد لا تتم ونحن جلوس على المكاتب نمارس تجريده بالألفاظ، ولا هى تتحقق بتدريبات الوعى به، 

ولا بدراسة وحداته كل على حدة.

 فلا مفر من إعطائه حق الحضور ممارسا مشاركا بأعلى تجليات الحوار، والحركة، والإبداع.

الرياضة البدنية – برغم أهميتها- ليست هى المقصودة بذلك، خذ مثلا: رياضة “واحد اتنين”،” واحد اتنين”،هذه رياضة ليس لها علاقة بالجسد الفطرة بالمعنى الذى نقدمه،

 أو خذ الرياضة المسماة كمال الأجسام أو رفع الأثقال كلاهما أبعد ما تكونان عن “الجسد الوعى”، بل إن أيا منهما لاتمثل لى فى النهاية إلا استمناء ضد “الجسد الوعى” المتعين (أشرنا فيما سبق إلى اغتراب الصغيرات المتنافسات فى ألعاب القوى..)

الجسد يعزف لحن الوجود مع جسد آخر

 إن الجسد يحضر متناغما أكثر من خلال الحب فالجنس وبالعكس، ومن خلال العمل الجسدى/اليدوى الفاعل، يتم هذا وذاك فى مساحة سماح يتحرر فيها الجسد من الاحتقان والاختناق.

  ثم إنه  بالتواصل الحسى  والجنسى على مستوياته المختلفة، تقوم الأجساد بإجراء حوار أعمق بعيدا عن وصاية عقلها القابع أعلى الهامة، حوار يتجاوز اللذة وهو يشتملها، لا هو يتوقف عندها، ولا هو يلغيها.

 وأخيرا فإنه بالإيمان الجسدى الكلى، مرورا بالطبيعة إلى الكون المفتوح النهاية، يمكن أن ينطلق الجسد الوعى الممتد إلى ما بعده ليتأكد به.

وحتى اختفاء الجسد الفرد بالموت، لاينهى دور هذا الجسد، فثم فرض خَطَر لى وعايشته يقول:

 إن الجسد وهو يرحل، وقبل أن يرحل،  يترك بصمته الحيوية فى أجساد آخرين، كما قد يتركها فى أنغام الكون، الأمر الذى قد يكون مدخلا لتفسير كثير من الظواهر الفيزيقية، وأيضا ما يسمونه بالظواهر الميتافيزيقية، مع أننى أرفض هذه التسمية التى لم يعد لنا بها حاجة بعد تقدم الفيزياء العملاق أصلاً،

العلم المعرفى والجسد

إسهامات العلم – فى حدوده الحالية – لاستعادة دور الجسد، فطرةً ناميةً فاعلةً، والتعرف على حقيقة ما آل إليه ليست قليلة، خصوصا الاجتهادات الأحدث لإسهامات العلم المعرفى، والعلم المعرفى العصبى، وبعض الهندسة الوراثية، وعلم النفس الثقافى، والطب النفسى التطورى، وكلها إسهامات رائعة لكنها متواضعة لاتكفى، حالياً، هى فقط تفتح الآفاق لفهم جديد يربط بين مفهوم الفطرة كحركية نابضة، وبين الجسد كوعى متعين، وإذا كان العلم مازال قاصراً عن الإلمام بهذه المسألة، فإن اللجوء إلى أشكال أخرى من الإبداع قد يسعفنا ولو مؤقتا.

وهذا بعض ذلك:

أولاً : من أصداء محفوظ

النص: الفقرة 112:  ذكاء الجسد

” فوق‏ ‏السطح‏ ‏وقفا‏ ‏يتناجيان‏، ‏هو‏ ‏أطول‏ ‏قامة‏ ‏وهى ‏أجمل‏ ‏وجها‏، ‏أما‏ ‏أنا‏ ‏فألعب‏ ‏بالطوق‏ ‏مرة‏، ‏ثم‏ ‏أراقبهما‏ ‏ولا‏ ‏أفهم‏. ‏ويغيبان‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏السطح‏ ‏قليلا‏ ‏ثم‏ ‏يرجعان‏ ‏فأعود‏ ‏إلى ‏استراق‏ ‏النظر‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏الحيرة‏. ‏وجاء‏ ‏الإدراك‏ ‏متعثرا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الأعوام‏ ‏الحامية”‏.

القراءة:

هل لاحظت وظيفة النظر وهو يتبادل ويتكامل مع الحركة، وطفلنا محفوظ يتحسس الطريق إلى التعرف على الطبيعة البشرية بشكل مباشر؟

هل لاحظت التنقل ما بين اللعب بالطوق واستراق النظر إلى الحبيبن حتى التقط  طفلنا بتلقائية عفوية تلك الفروق المميزة لهما وفيما بينهما، دون أن يسجنه الفهم (ثم أراقبهما ولا أفهم

ألا‏ يلهمك ذلك أن تُراجِع كيف ‏يتعلم‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏الجنس؟ ‏‏

هل نتعلمه بالدروس‏!!؟ أم‏ ‏بالشرح النظرى؟، ‏أم‏ ‏بالنمو‏ ‏التلقائى؟ ‏أم‏ ‏بالتقليد‏؟ ‏أم‏ بالممارسة؟ أم بالكشف؟ أم ‏بكل‏ ‏هذا وغيره مما لا نعرف؟‏.

العنوان الذى عنون به محفوظ هذه الفقرة لا بد أن يدهشك ويعلّمك كما أدهشنى ونبّهنى، العنوان يقول: ” ذكاء الجسد“. تصور؟ وهل يحتاج الأمر إلى مزيد من تعليق؟ وهل هناك معنى للفطرة أوضح من ذلك؟

يكفى هذا لننتقل إلى فقرة أصداء أخرى عنوانها يبدو لأول وهلة أبعد ما يكون عن العنوان السابق “ذكاء الجسد”. حين تقرأ عنوان فقرة رقم 116 فى الأصداء بعنوان “سيدتى الحقيقة“، ماذا تتوقع قبل أن تقرأ متن الفقرة؟ ولأزيد الأمر عليك صعوبة وإلغازا، لتكتمل الفزورة، سوف  أقول لك كيف انتهت هذه الفقرة قبل روايتها، لقد انتهت وهى تقول: “نِعْـمَ الرفيق الشغف والمنازل “.  ثم خذ عندك البداية أيضا لعلها تسعفك (بينى وبينك أنا أصعّبها عليك أكثر)، تقول البداية: “عرفت منازل الحقيقة فى عصر الفطرة“.

 إذن فنحن عندنا حقيقة، لها منازل، يمكن التعرف عليها فى عصر الفطرة، لننتهى أنه “نعم الرفيق الشغف والمنازل”.  تصور ما شئت، ويا حبذا لو توقفت عن إكمال ما تقرأ،  ثم نكمل معا القراءة ما بين تلك البداية وهذه النهاية تحت ذلك العنوان “سيدتى الحقيقة“: هكذا:

 

الفقرة 116 “سيدتى الحقيقة” “عرفت‏ ‏منازل‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الفطرة‏. ‏عندما‏ ‏تقرفص‏ ‏المرأة‏ ‏أمام‏ ‏طشت‏ ‏الغسيل‏ ‏أقرفص‏ ‏قبالتها‏ ‏فتلعب‏ ‏يدى فى ‏الماء‏ ‏وتسترق‏ ‏عيناى ‏النظر‏. ‏عندما‏ ‏ألهو‏ ‏فوق‏ ‏السطح‏ ‏فى ‏الليالى ‏البدرية‏ ‏أمد‏ ‏يدى ‏فى ‏الفضاء‏ ‏لأقبض‏ ‏على ‏ وجه‏ ‏القمر‏. ‏عندما‏ ‏نزور‏ ‏القبر‏ ‏فى ‏المواسم‏ ‏أركز‏ ‏عينى ‏على ‏جداره‏ ‏لأرى. نعم‏ ‏الرفيق‏ ‏الشغف‏ ‏والمنازل‏.”

هيا نقارن استعمال محفوظ للفظ الفطرة، مع استعمال بعض الفقهاء المتوقفين عند حروف المعاجم، محفوظ يستلهم ويبدع حتى نعرف معه “منازل الحقيقة فى عصر الفطرة“، والفقهاء الأفاضل يفسرون ويفتون ولهم أجرهم، وكل منا يختار وهو مسئول عن اختياره.

هل كنت تتصور –قبل أن يصلك هذا الصدى- أن يبدأ التعرف على الحقيقة فى عصر الفطرة، من قرفصة طفل يسترق النظر‏ ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏الجسد‏ ‏والفخذان‏ ‏منفرجان‏ ‏حول‏ ‏طشت‏ ‏الغسيل‏،

ثم ينتقل ‏إلى ‏استراق‏ ‏الخيال‏ ‏وهو‏ ‏يمد‏ ‏يده‏ ‏يقبض‏ ‏على ‏وجه‏ ‏القمر‏،

‏ثم ها هو يهم باقتحام‏ ‏جدار‏ ‏القبر‏ أثناء زيارات المواسم وهو يكاد يخترقه ‏بنظراته ليتعرف على  ‏حقيقة‏ ‏ماوراءه‏،

هل واَكْبَتَنِى ومحفوظ يمضى بنا واحدة واحدة يأَرجِحُنَا لنعرف الحقيقة، ونحن ‏ ‏نترجّح‏ ‏ ‏بين‏:

 ‏بؤرة‏ ‏جسد‏ ‏امرأة‏،

‏وحضور‏ ‏وجه‏ ‏القمر‏،

 ‏ومحاولة استكشاف‏ ‏معنى آخر للموت،‏

 ‏لتنتهى ‏القصيدة‏ ‏بهذه‏ ‏الحركة‏ ‏النابضة‏:

 “نِعْمَ الرفيق الشغف والمنازل”

تقدم لنا هذه الفقرة ذكاًء آخر لا يقتصر على ذكاء الجسد، وإنما تتكامل به وسائل المعرفة بالانتقال النشط بين العارى الفج، والخيال الحى، على أرض واقع الوعى اليقظ، المرتبط برفيق لم يظهر، ومنازل لم تتحدد. هل هذه المنازل هى متدرج الوعى النامى، أم متعدد الخبرات اللاحقة، أم أنها الفطرة النامية جدلا وإيماناً؟!

ولكن كيف يكون الرفيق هو الشغف برقته وجماله، ولماذا عَطَفَهُ محفوظ على المنازل؟

 المسألة لا تحتاج إلى الرجوع إلى المعاجم، وإنما تحتاج إلى إعادة قراءة الفقرة وتركيزك على الحركة، والرؤية، والإدراك، و”الجسد الوعى”، لتتأكد بوعى جسدك بدورك أنه: “نعم الرفيق الشغف والمنازل”.

ثانياً: نص من خالدة سعيد

فى نقد أنسى الحاج : “حركية الإبداع” دار العودة، بيروت 1979

ص 65 ” … تراجع أنسى الحاج ، انسحب من العالم الخارجى المضىء اللامع الثابت المستقر، إلى عتمات الجسد حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام، حيث النظام المؤسس للانهيار. ضمن حدود الجلد أدرك وحدته، وأنه، حتى حلفه مع جسده باطل ومتداع، وأن جسده مفكك وخائن لبعضه البعض الآخر. فى عالمه الداخلى ذاك، بدا شعوره المتضخم بجسده، ففى قصيدة “فقاعة الأصل” تبدو “شارلوت” ذات شخصية مستقلة لها سلوكها، واتجاه حياتها، تبدو عدوا للشاعر، حتى قد يلتبس الأمر على القارئ المتسرع ويحسبها امرأة. شارلوت، هذه الشخصية الغريبة، هى ما تنسله الإصبع فى منتهاها قبل بداية الظفر”. شارلوت هذه “تخطت القافلة كشافة تتجسس”. إذن فأجزاء جسده تستعد للسفر، للتخلى عنه، وها هى تنذره “إن العقد سينفرط، إننا متخلون عنك، إنك مبدد شر تبدد”، إذن جسده الذى حسبه حليفه الوحيد سينفرط و”ينسل نسلة نسلة حتى يبدو لحمه العارى، ثم ينهار لحمه العارى ويسفر عن عظامه، ثم تلقى عظامه فى الليل”، وما تلك  النسلة إلا “علامة”….

القراءة

قبل أن أدعوك لقراءة هذا النقد معنا، أرجو أن تنظر إلى أحد أصابع يديك، وأن تركز على تلك المساحة التى ركز عليها شعر أنسى الحاج، أو هو شخصيا، وهو يتعرف عليها،المساحة التى بين نهاية الإصبع وبداية الظفر، هل ترى شيئا ؟ هل ترى نسلة صغيرة من لحم عار؟ الإجابة هى بالنفى على الأرجح (لقد رأيتها أنا شخصيا الآن). أنس الحاج شاعر قصيدة النثر، حكايته مع الشعر والجنون والسرطان تحتاج إلى تفصيل آخر، لكن الذى يهمنا هنا فى نقد خالدة سعيد هو ما التقطته من رؤية الجسد يتحلل، ثم وهو يحضر بتحلله فى وعى  الشاعر، ثم تتبدى استقلاليته فى ما أسمته الناقدة “عتمات الجسد” حيث التشوش الفظيع فجأة لكل نظام. هذا التناهى فى التركيز على تفسخ الجسد وتناثره، يكاد يقابل التناثر الفصامى الذى يفكك كل شىء عن كل شىء، والذى يصيب الفكر بقدر ما يصيب الوعى، هو التفسخ الذى يقابل هنا تحلل الجسد هكذا فى رؤية أنسى الحاج شعرا، وليس جنونا وانسحابا بعد. إن أنسى الحاج يعرف جنونه بوجه خاص هو يقرنه بالحرية. هو الذى يقول: إما الاختناق أوالجنون، بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كى يسمع”، الجنون هو الوصمة التى يحملها من اختار أن يكون حرا، أن يتحرر من عبودية المفاهيم المعممة والسلوك المألوف والضياع بين الأرقام…”  وأيضا كما تقول الناقدة عنه: “فى الجنون لا قوالب، لا نسب للجمهور، اللعنة حرية العذاب الداخلى .. فى السقوط حرية الفوضى، حرية التوغل فى الجسد” فتلاحظ أن التوغل فى الجسد زاده تمزقا ولم يجمعه وعياً.

ما العلاقة بين هذا التفسخ الذى حضر فى الوعى/الجسد بهذه الصورة الشعربة فالنقد، وبين اغترابنا نحن العاديون عن أجسادنا؟  إن ما يصفه أنسى الحاج وتلتقطه خالد سعيد بهذه الصورة المرعبة، إنما يذكرنا كيف أننا نعيش فى سجن صنعناه من أجسادنا المخمَّدة المغتربة، فلا نحن تحررنا من سجنها، ولا هى تحررت فأعفتنا من أوهامنا المعقلنة، فيزيد الضغط والاحتقان.

 الجسد لايمثل الفطرة إلا حين يدب فيه، وبه، حضور الإيقاع الحيوى من جديد، لتعود حركية الفطرة إلى جدليتها، ولا يصبح الجسد إلا أحد أدوات إيقاع لحن الفطرة المتكامل

ثالثاً: استلهام من نص دينى

إن النصوص الصوفية والنبوية والإلهية ليست نصوصا للنقد العادى، ولا حتى للتفسير مهما بلغ الاجتهاد، لكنها مصدر إلهام متجدد، لذلك وجب التنويه فى كل مرة دون كلل.

جاء فى معنى الحديث الشريف وصفا لصهيب، بعد أن أنكره الحاضرون، ووصفوه بأنه : “إذا حضر لم يُستَـشرْ، وإن غاب لم يُسأل عنه”، إلخ ، جاء معنى النص النبوى الشريف يرد لصهيب حقه بما معناه :

النص: “… صهيبُ مؤمن نسى، إذا ذكّر ذكر، خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب”

من يقرأ هذا الوصف الشريف قد ينتبه إلى آخره أكثر من أوله، وهو قد ينتبه أكثر وهو فرح كيف أن صهيب  ليس للنار فيه نصيب ، لكننى أنا انتبهت أكثر إلى أنه “نسى“، صهيب مؤمن نسى، وأنه “إذا ذُكِّر ذكر”، ثم إنه “خلط الإيمان بلحمه ودمه“.

الذاكرة التى ندرسها تقليديا نتصورها بمثابة كتاب به معلومات مرصوصة، أو مخزن له غلاف محكم، أو مكتبة وضعت على رفوفها الذكريات، هذه الذاكرة ليست هى الذاكرة الحقيقية الأشمل التى تُمَثِّلها ذاكرة الجسد،

 ذاكرة الجسد كله -شاملا المخ-  تكون  فيها كل خلية بلا استثناء ممثلة لسائر الوجود،

هذه الذاكرة تصبح أكثر فاعلية حين لا تعود ذاكرة، إذْ تصبح جزءاً لا يتجزأ من وعىٍ مشتمل.

وهى بذلك ، تمثل الفطرة الأصيلة.

صُهيبُ هذا نَسِىَ بمعنى أنه تّمثَّل ما أدركه حتى صار جزءاً منه، فهو لم ينْسَ بمعنى الاخفاء بالتخزين المغلق، أو التآكل أو الكبت، ومن هنا نفهم –استلهاما- كيف أن صهيبا حين نسى ازداد معرفة، بمعنى أن هذا النسيان ليس محوا أصلا، إنه استيعاب تام للمعرفة المُدْخَلة بحيث تصبح غير قابلة للاستعادة كما هى، لكنها قادرة أن تتخلق منها الخبرة الموازية عند الطلب، هذا هو المعنى الذى استلهمته من أن صهيب “إذا ذُكِّر ذَكَر”.

هذا النوع من التذكر ليس مجرد إحضار معلومة من مخزن، لكنه إحياء فطرة كامنة تم تدعيم تشكيلها حتى تخلَّقَتْ بالإيمان المتجدد،

من هنا لا يمكن أن يكون للنار فيها نصيب، فالنار لا تلتهم إلا النيازك الساقطة بعيدا عن هارمونية الكون والجسد.

(هذا ليس تفسيرا لنص دينى بِعِلْم مُحدث، لكنه استلهام مسئول)

الإيمان المَعْنِى هنا الذى خلطه صهيب بلحمه ودمه وصلنى باعتباره ليس مسألة اعتقاد فكرى محدد، الأمر الذى قد يلزم لضمان جدية المسار، لكن الإيمان هنا يشير إلى الحركية الإيمانية الأعمق التى يؤكدها هذا النص ليتم من خلالها “خلط الإيمان باللحم والدم” حتى يلتقى جمال الفطرة بجمال الكون فى رحاب الحقسبحانه وتعالى،

هذا هو ما يمثل لقاء الوعى الجسدى الفردى بالوعى الكونى الممتد، وهو الذى لا يسمح بالنيازك أن تتساقط، حتى لو حاول عقل صاحبها أن يفرض وصايته على كل ذلك.

فكيف بالله عليكم نستعمل نفس الكلمة “الفطرة” ونحن نتساءل “هل تملك شعوب الفطرة دينا؟ ثم نجيب على هذا التساؤل بالنفى، وننفى بالتالى أن أى دين هو دين الفطرة؟

هذا خلط أوراق لانلوم فيه أحداً، لأن لكل واحد الحق أن يستعمل ماشاء لما شاء، ولكن أى لفظ لايعطى معناه إلا فى سياقه الخاص جداً.

تماما مثل وضع الألفاظ القديمة فى قصيدة شعر جديدة جميلة .

 

[1] – لعلى أتمكن فيما بعد من تناول كل من الفطرة والوجدان، والفطرة والوعى،  والفطرة والجدل،  والفطرة والحلم،  والفطرة والإبدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *