نشرة “الإنسان والتطور”
7 – 7 – 2011
السنة الرابعة
العدد: 1406
مقدمة:
كأنه معنا هذه الأيام جدا فعلا،
فجأة نقلنا اليوم معه من رقة وحب وهيام ونوم وأحلام، وليالى أم كلثوم أمس، إلى سيد درويش، فتدرج اليوم من أغنيتى “أنا هويت”، “وأنا عشقت”، “وضيعت مستقبل حياتى”، ليضعنا فى بؤرة انتفاضة يناير، فيحضرنا سيد درويش بكلمات الشيخ يونس القاضى ووعيه وحماسه، يحضرنا كل هذا بما نحتاجه الآن جدا، وخاصة ما يحتاجه هؤلاء الشباب الذى لم يعرفوا مصر كما عرفها كل جيله وكما تعلمنا منهم بعضه،
نحن فى أشد الحاجة أن نتعلم أكثر فأكثر الآن خاصة
نعم: الآن بالذات وللشباب بالذات.
ص 28 من الكراسة الأولى
حبيتك شكل ومضمون
حبيتك يا ابو قلب حنون
وما شفتش زيك فى الكون
ولا حدش زيك حيكون
………
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أنا هويت وانتهيت
انا عشقت
ضيعت مستقبل حياتى
سلمى يا سلامه
نجيب محفوظ
24/2/1995
القراءة:
حين طالعت الجزء الأعلى من صفحة التدريب الثامنة والعشرين هذه لم يمض سوى شهر واحد تقريبا على البداية (24 فبراير سنة 1995) لم أصدق:
ما هذا الخط المنمنم الجميل فى الأربع سطور الأولى؟ هل معقول أنه هو الذى كتبه؟
لا أصدق فعلا، حتى المحتوى ليس من مقتطفاته كما تعوّدت عليها، رحت أبحث عن الأربع أبيات شطر شطرا فى “جوجل” ولم أجد أى منها فى أى مقطع من أية أغنية يحبها أو حتى لا يحبها، رجعت إلى أصل كراسة التدريبات، ووجدت الصورة طبق الأصل، هى هى صفحة “28”
ظللت مصمما أن هذه ليست كتابته
هل لىَ هذا الحق؟
أعتقد أنه: “نعم”
على الأقل حق الامتناع عن التعليق عن ما لم يصلنى منه أنه هو هو، حتى النخاع الذى أعرفه
هل كتب أحدهم هذا الجزء لاحقا فى أعلى الصفحة؟
هل كان مكتوبا من قبل ولم يلحظ الأستاذ أنه كان هناك حين بدأ تدريبه، فبدأ بالبسملة مباشرة كما اعتاد؟
وما هذا الخط الفاصل بين هذه الأسطر الأربعة، وبين ما اعتدته منه
عذرا شيخى، إسمح لى، حتى ألقاك وأستفسر منك عن حقيقة الأمر، ألا أعلق على هذا الجزء، وسوف أبدا من تحت الخط الفاصل الذى أعتقد أنه بدايتك
عذرا مرة أخرى، حتى لو أخطأت
القراءة (بعد اغفال السطور الأربع الأولى):
بعد البسملة، كما اعتاد غالبا ثم اسمه مباشرة، دون اسمىْ كريمتيه، يكتب الأستاذ ما اعتدناه منه بحسه الرائق، هذا رجل ابن حظ، ابن و حب، وابن إيمان، يتنقل ما بين فرحة الأغنيه وذكر الله وحب الوطن فلا تستطيع أن ترصد إلا حبه للحياة فى كل آن، ربما بنفس القدر،
ها هو يحضّرنا سيد درويش بكل جماله وكل ما هو سيد درويش، بعد أن دعانا إلى مائدة أم كلثوم أمس وأمس الأول.
هذه الأغنية الأولى “أنا هويت وانتهيت” لم أسمعها إلا من محمد عبد الوهاب، مع أنها أغينة سيد درويش أساسا ومن ألحانه، أنا لا أعرف مؤلفها وإنما أنقل اسمه نقلا، ولو كنت قمت بهذا العمل الذى أقوم به الآن فى حضور شيخى، لكنت سألته، ولأجابنى، أحمد الله أننى لم أقم بهذا العمل وهو معى حاضرا حضوره الأول (فهو مازال حاضرا باستمرار) حتى لا أجعل إجابته وصية على تداعياتى، حين كنت أستمع إلى هذه الأغنية من محمد عبد الوهاب، كنت أتوقف فرحا أمام تكراره ” أحبه حتى فى الخصام”
ثم إننى لم أكن أربط بين هذا المقطع وبين بداية الأغنية لأننى كنت أتصور أن البداية تشير إلى نهاية بلا رجعة، أما استمرارية الأغنية: قصيرة، وسريعة، وجميلة هكذا، وفى هذا المقطع بالذات فكان يصلنى منها معانٍ جديدة تماما، فالحبيب هنا يعتب فيها على العذول دعوته أن ينسى هذا الهوى برمته، (يحب إنى أقول، يا ريت الحب ده عنى يزول) وكانه يستكثر عليه ذكرياته بعد أن جرى الهجران، لكن المحب هنا يتمسك بذكرى الحب، وكأنها من حقه حتى لو انتهت العلاقة على أرض الواقع، فهو يصر أن يستمر الحبيب فى الخيال الذى بدا من الكلمات أنه اقوى من الأحلام (ما فيش كده ولا فى المنام)، وربما أوقع من الواقع،
ثم يفيق الحبيب ليصور حجم الفقد، حيث يعلن أن رضاه بالهجر هو بمثابة هجر الدنيا بأسرها (ما دمت أنا بهجره ارتضيت، منى على الدنيا السلام)
وحين أرجع إلى كلمات الأغنية التى تصورت أن شطرا واحدا منها قد جلبها كلها إلى وعى شيخنا كما تعرفت عليها وتذكرتها عن طريق صديقنا “جوجل” وجدت أن الاستاذ يريد منى أفضل أن أثبتها كلها لتكون مدخلا للتعرف على مؤلفها الجميل الواطنى الثائر الرائع “يونس القاضى” كما سنرى حالا، ففعلت.
أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العذول
باحب إنى اقول ياريت الحب ده عنى يزول
ما دمت انا بهجره ارتضيت خلى بقى اللى يقول يقول
…..
أنا وحبيبى فى الغرام مافيش كده ولا فى المنام
أحبه حتى فى الخصام وبعده عنى ياناس حرام
مادمت انا بهجره ارتضيت منى على الدنيا السلام
حين انتقل بنا شيخنا، وفورا بعد ذلك إلى أغنية “أنا عشقت”، احترت أول الأمر، وأنا لم أتعرف بعد على كاتب الكلمات، والأستاذ لم يرصد إلا كلمتين لا أكثر “أنا عشقت”، ولابد أنهما وردتا فى آلاف الوثائق والأغانى التى يجمعها الصديق “جوجل” معا، ومع ذلك رجحت أننا مادمنا فى حضرة سيد درويش ويونس القاضى فالمقصود هو غناء الأول وكلمات الثانى وهكذا تأكدت أن ثمة أغنية لسيد درويش بالذات هى المقصودة وهى التى تقول:
أنا عشقت وشفت غيرى كتير عشق
عمرى ماشفت المر إلا فى هواك
وكم صبرت ماكانش فى يوم نتفق
مع إن قلبى كان أسير يطلب رضاك
خنت الوداد
من غير ميعاد
إن كان عناد بلاش تغير
لما تشوفنى
مع سواك
فاعتقدت أن هذه الكلمات إنما حضرت وعى الأستاذ لترد على أغنية “أنا هويت وانتهيت”، فتتكاملان، فنهاية الحب هنا هى بمثابة الرد: “واحدة بواحدة”، فالحياة فى هذه الأغنية لاتزال تنبض، فليس على الدنيا السلام”، وعلى المحبوب أن “يتلمّ”، بشكل أو بآخر ما دام قد جعل محبوبه يعيش المر هكذا، وليس من حقه أن يحجر على مشاعر حبيبه تجاه غيره بعد هذا العناد فالبعاد!
ما كل هذا التتابع المتلاحق حتى تحضر أربع أغنيات بكل هذا الثراء فى وعى شيخنا هكذا معا؟؟
الأغنية الثالثة، أو المقطع الثالث:
ضيعت مستقبل حياتى فى هواك
وازداد عــلى اللوم وكثر البغددة
حتى الــعوازل قصدهم دايماً جفاك
وانا ضعيف ما اقدرش أحمل كل ده
إن كان جفاك يرضى عداك وانا فى حماك
عفو الحبيب ما يكونـــش أحسن من كده
علمتنى يا نور عيونى الامتثال
واحتار دليلى بين تيهك والجوا
كنت افتكر حبك يزودنى كمال
خيبت ظنّى والهوا ما جاش سوا
تبقى ســـــــبب كل التعب وتزيد غضب؟
دا اللى انكتب فوق الجبين ما الهوش دوا
قبل أن ننتقل إلى الأغنية التالية نقبل دعوة شيخنا للتعرف على يونس القاضى من خلال عمنا “جوجل”:
محمد يونس القاضى شيخ المؤلفين المصريين ولد عام 1888 وتوفى عام 1969 وكان أبوه قاضيا صعيديا قويا، فلقب “القاضى” هذا ليس اسم الأسرة، وإنما وظيفة الوالد، وقد ارتبط مؤلف الكلمات الشيخ محمد يونس القاضى وطنيا وروحيا بالزعيم مصطفى كامل، وقد استمد شاعرنا كلمات نشيد “بلادى بلادى لك حبى وفؤادى” من خطبة للزعيم الذى كان يرعى الشاعر ثقافيا ومعنويا، وقد دفع الشيخ القاضى ضريبة أغانيه ومسرحياته الوطنية إذْ تعرض للاعتقال 19 مرة وقد اعتقله الإنجليز ذات مرة حين رأوا الجماهير تردد أغانى مسرحياته فى المظاهرات، وكما يروى فى احاديثه الصحفية ان وكيل الداخلية آنذاك ويدعى نجيب باشا قال له بعد أن امسك الجبة والقفطان الذى يرتديه القاضى بوطنية خالصة قال: “بدل ماتقول الكلام الفارغ ده دور ازاى تصنّع جبة فى بلدك الأول” ويعلق القاضى على هذا الحادث قائلا: “هذا الكلام ظل فى راسى إلى ان جعلنى أنادى فى الروايات والمسرحيات التى اكتبها بإنشاء المصانع ومنها اغنية “أهو ده اللى صار.. مالكش حق تلوم علىّ” (أنظر بعد)، لذلك لم يكن غريبا على الشيخ محمد يونس ابداع مثل هذا النشيد العبقرى “بلادى بلادى” الذى لا يزال يعيش فى وجدان الاجيال.
وتجلت عبقرية القاضى فى الأغنيات الوطنية عند التقائه بالشيخ سيد درويش عام 1917 حين كان الشيخ سيد هاربا بعد أن حطم ضلوع زوجته جليلة، ومن طرائف اللقاء ان القاضى بادر درويش بعد أن دله أحدهم عليه بعد رحلة عناء: انا كنت فاكر الشيخ سيد ضرير وعجوز مهكع واجابه سيد درويش على الفور: وحياة النبى انا كنت فاكرك أعمى وأقرع ونزهى، أشعر الآن أننى لو كنت قد حكيت ما قرأت من مثل هذا على شيخى لفرح وأضاف ما تيسر وأثرى.
بعد هذا اللقاء أثمرت العلاقة بين الشيخ سيد والشيخ القاضى باقة من الاغانى المهمة منها العاطفى والوطنى مثل: “زورونى كل سنة مرة” و”أهو ده اللى صار”، “ويابلح زغلول”، “وخفيف الروح بيتعاجب”.
مرة أخرى: بصراحة، شعرت الآن، وكانى أقرأ على الأستاذ ما عثرت عليه، وكيف رحب به لأنى أتصور أنه جزء لا يتجزأ من تاريخ الاستاذ وعلاقته بكل من “مصر” التى تجسدت فى شخوص وفن كل هؤلاء: بالإضافة إلى حضور أم كلثوم وسعد زغلول وسيد درويش حتى محمد عبد الوهاب، وأعتقد أنه تكلم فى كل هذا وحوله مع مريديه فى معظم جلساته قبل أن أتعرف عليه وبعده
فجأة تصورت أن شيخنا يوصينى أن أبلغ شباب الثورة – لتكون ثورة- أن يعيشوا معنا هذه الكلمات، وهم يترحمون على هؤلاء الرواد الأوائل، آملا أن يتم تواصل الوعى المصرى بعد تعثره وشلله حتى تخثر كل هذه السنين الطول، لعلهم يعيشون معنا هذه النقلة إلى لحن العمل الجميل ونحن نردد:
تلوم عليا ازاى يا سيدنا
وخير بلادنا ماهوش فى إيدنا
قولى عن أشيا تفيدنا
وبعدها بَقَى لوم عليا
……………..
……………..
بدال ما يشمت فينا حاسد
إيدك فى إيدى نقوم نجاهد
احنا نبقى الكل واحد
والأيادى تكون قويه
ثم إنى لم أكن أعلم تلك الصلة بين الشيخ يونس القاضى وأم كلثوم، ولا مدى رعايته محمد عبد الوهاب ففضلت اثباتها هنا الآن تحية للأستاذ الذى لابد أنه يعرفها عن ظهر قلب
نبدأ بمحمد عبد الوهاب
يقول الشيخ القاضى فى أحد حواراته الصحفية عن علاقته بالموسيقار محمد عبد الوهاب “عرفت عبد الوهاب قبل أن أقدمه إلى الشيخ سيد درويش ببضع سنوات وكان يعمل فى محل الترزى احمد يوسف وكان شقيقه محمد يوسف فنانا قديرا فلفت أنظارنا إلى الصبى الصغير الذى يرتدى الجاكيته فوق الجلباب وكنت وقتئذ أعد رواية لفوزى الجزايرلى وهو على صلة بالشيخ حسن عبد الوهاب شقيق محمد وطلبنا منه ان يأتى لنا بشقيقه ليغنى بين فصول الرواية يقصد المسرحية وجاء عبد الوهاب وغنى بثلاثة قروش صاغ فى الليلة ويضيف القاضى ولكن كان هناك أجرا أدفعه انا لعبد الوهاب سواء غنى أو لم يغن وكان يرفض الغناء إلا إذا تناول طبق العاشورة.. إلى ان يقول وحين توفى الشيخ سلامة حجازى عام 1916 انفسح المجال لعبد الوهاب واتيحت له فرصة الغناء والتمثيل فى المسرحيات مثل شهوزاد المعروفة باسم شهرزاد وبعدها غنى بدلا من سيد درويش فى رواية الباروكة ورحب به سيد وحياه قائلا : “ولد عال ولازم يكون حاجة كبيرة فى المستقبل”.
(ثم ننتقل إلى أم كلثوم وعلاقتها بالشيخ يونس، فيرحب الأستاذ بنا أكثر ونحن نستجيب لدعوته).
فالشيخ يونس القاضى هو مكتشف أم كلثوم، فقد سافر إليها فى قريتها طماى الزهايرة بالمنصورة واقنع والدها الشيخ إبراهيم بالرحيل إلى القاهرة والتحول إلى غناء القصائد والأغانى العاطفية والوطنية بجانب الإنشاد الدينى، ولكن والدها الشيخ إبراهيم لم يرض، و مرت الأيام وقد التقاهم القاضى فى مولد الحسين وكان معه الشيخ سيد درويش الذى عرض أن يقدم لها الألحان مجانا إلا أن والدها رفض رفضا باتا.. وظل القاضى يلح على والدها إلى أن وافق أن تغنى قصائد عبده الحامولى ومنها أغنية “وحقك انت المنى والطلب” وبعدها لحن لها عبد الوهاب أغنية خفيفة من تأليف الشيخ يونس القاضى أيضا مطلعها “قال ايه حلف ما يكلمنيش” وسرعان ما اشتهرت بها حتى أصبحت تنافس الست منيرة المهدية سلطانة الطرب.
ويُذكر أن نشيد “بلادى بلادى” كتبه القاضى لترجمة مشاعر الشعب المصرى بعد نفى سعد زغلول ورفاقه، ولا تتوقف إبداعته عند ذلك بل كتب أيضا “يا بلح زغلول” “واهو ده اللى صار” وشال الحمام حط الحمام من مصر لما للسودان” “ويا عزيز عينى” التى كتبها بسبب إجبار الشعب على الخدمة العسكرية فى صفوف الإنجليز المحتلين ولا ينسى التاريخ له أغنيته عام 1911 وكأنه يكتبها عن أحوال مصر هذه الأيام (2011) (وهى أصلح ما تكون لنا، وبالذات لشباب 25 يناير.
يا ست مصر صباح الخير.. يسعد صباحك يا عنية..
فين العدالة يا مونشير.. وبس فين الحرية
ثم يختم الاستاذ تدريبه بالإشارة إلى أغنية سالمة يا سلامة التى نعرفها جمعيا من سيد درويش إلى داليدا
سالمة يا سلامة آه يا سالمة يا سلامة
سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
……..
صفر ياوابور واربط عندك نزلنى فى البلد دي
بلا أمريكا بلا أوروبا مافيش احسن من بلدي
دى المركب اللى بتجيب احسن من اللى بتودى يا سطى بشندي
يا سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
فنعيش – بفضل الأستاذ وتدريباته– الوجه الآخر لمعاناة شبابنا فى الغربة هذه الأيام وتتحرك فينا آلام الشباب المهاجر مغامرا حتى بالحياة نفسها انتحارا على قوارب الموت، ونقارن ونتعلم،
ونشكر الأستاذ على هذه الجرعة الزاخرة بالصدق والفن والحب والوطن فى هذه الأيام بالذات.
ربنا يخليه.