“نشرة” الإنسان والتطور
31-3-2009
السنة الثانية
العدد: 578
حالات وأحوال (الحالة: 10)
(سوف نكرر فى كل مرة: أن اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى أو التدريبى).
الفهد المتحفز، والخوف من الحب (1 من ؟؟)(1)
مقدمة:
توقفنا عن مواصلة النشر فى هذا الباب، حيث أن النشرة، حتى بعد سنة ونصف، ما زالت تتحسس طريقها، وهى تسمح للمواد بانتقائها، واستعمالها، وليس العكس، وأعتقد أن هذه الطريقة تكاد تماثل الانتقاء الطبيعى الذى نمارس به تكوين مجموعات العلاج الجمعى، فى قصر العينى، حيث لا نبذل جهدا كبيرا خاصا فى انتقاء أى المرضى أصلح لهذا العلاج، ومن يستمر فى حضور الجلسات بانتظام حتى تتكون المجموعة وتستقر وتنظم، هو الأولى بها، والأصلح لها، وله (أليس هذا أيضا هو قانون التطور؟)
هنا كذلك: يبدو أن نفس القانون يفرض نفسه تلقائيا، ذلك أن الموضوع (أو الباب) الذى يفرض نفسه علينا، يثبت أنه هو الأولى بهذه النشرة، وهكذا عاد باب “حالات وأحوال” يجرب حظه، بعد أن اختفى بضعة شهور.
***
الجانب الطب- نفسى، والإكلينيكى بصفة عامة راح يأخذ من النشرة مساحة أكبر فأكبر، فقد استقر باب “التدريب عن بعد” وتربع على يوم الأحد من كل أسبوع، فأصبح من الصعب تعتعته أو إزاحته أو حتى تأجيله، خاصة بعد أن أفرز كتابين “تحت الطبع” حاليا يحويان أربعين حالة بالتمام، مع التعليقات عليها، والحوار الذى دار حولها (هل تذكر خمس حالات من التحليل النفسى لسيجموند فرويد؟)، ويقع كل كتاب فيما يربو عن ثلاثمائة صفحة.
الباب المكمل لهذا التدريب، هو تقديم حالات واقعية من عمق ثقافتنا، وهو ما أسميناه باب “حالات وأحوال”، ويبدو أن اهتمام النشرة بالتأكيد على ذاتنا الثقافية الخاصة (ليست أحسن أو أسوأ من ثقافة العالم بالسلامة)، قد استُدرجنا – بالصدفة- إلى طرح فكرة الاستبيان، ثم بوعى ومسئولية ما أمكن ذلك، تبينتُ لنا الصعوبات المنتظرة قبل أن نبدأ، وتوقفنا، وادعيت أن التوقف مؤقت، مع أنه يبدو أنه ليس كذلك.
طـُرحت بعد ذلك فكرة إعداد مشروع “دليل التقسيم العربى الثانى للأمراض النفسية” DMP-II، وتحمس لها كثيرون من الزملاء المخلصين الباحثين عن تميزنا الثقافى، لكننى بخبرتى طوال نيّفٍ وثلاثين سنة، سواء فى طرق باب معظم الزملاء الكبار الأفاضل، أم فى الاشتراك فى لجان فرعية فى إعداد التقسيم العالمى العاشر، أو فى متابعتى وتفسيرى لمغزى الخلاف والاختلاف فيما بيننا، نحن أهل ثقافة العرب، من جماع كل ذلك، قررت أن أؤجل هذه المحاولة مع سبق الإصرار، حتى لا نضيع الوقت (كما حدث نسبيا عند طرح استبيان الشخصية العربية) ثم لا ننتهى إلا إلى أن نتفق على صورة مقلدة (ربما مشوهة، أو ناقصة)، لأصل عْولمى أعتقد أنه لا ينفعنا كثيرا فى مسألة تحديد هويتنا فى مجالنا، بلغة الصحة والمرض.
تعلمت من الخبرة الطويلة فى مثل هذه المحاولات أن ما أصاب الطب النفسى هو هو ما أصاب مجتمعاتنا عامة نتيجة للشعور بالنقص، واستسهال النسخ، أو الترجمة، ومنْ ثَمَّ الاكتفاء بوضع هوامش متواضعة على متن مقول بالتشكيك أصلا، سواء كان هذا المتن هو “الديمقراطية المستوردة”، أم “حقوق الإنسان سابقة التجهيز”، أم الدليل الأمريكى الرابع للأمراض النفسية (الخامس فى الطريق)، أم الدليل العالمى العاشر (الحادى عشر فى الطريق). كل ذلك على العين والرأس، ولكنه يبعدنا عما هو نحن قليلا أو كثيرا.
توقفت وعدت أتساءل:
أليس التقسيم هو وضع توصيف لحالات إكلينيكية نتفق على تسميتها بهذا الاسم أو ذاك؟
ولما كانت الإجابة لا تحتمل إلا أن تكون “نعم هو كذلك”، فرض السؤال التالى نفسه هكذا:
أليس الأولى أن نبدأ بالتعرف على حالاتنا بالتفصيل رويدا رويدا لعلنا نصل إلى درجة مناسبة من لغة الحوار القادر على تحقيق الهدف الذى يستحق هذا الجهد المشترك، سواء لوضع استبيان للشخصية، أو تقسيم للأمراض؟
وهكذا عقدت العزم أن أواصل تقديم الحالات بالتفصيل الممكن، ثم مناقشتها فى بريد الجمعة ما أمكن ذلك،
وبديهى أن هذا لا يعنى التنازل بشكل نهائى عن الأمل فى إعداد استبيان يميزنا، وتقسيم يخدم خصوصيتنا بشكل لا يتعارض مع أى جهد فى هذا الاتجاه.
لكن هذا وذاك، قد يكون نتاجا طبيعيا لقدرتنا على تخليق لغة مشتركة مهما تواضعت، وشبكة متحركة، مهما طال الزمن
لكن عرض الحالة الواحدة – كما لاحظنا فى التسع حالات السابق عرضها (2)عادة ما يحتاج إلى عدة نشرات متتالية،
هل هذا يا ترى عيب أم ميزة؟ وهل يمكن أن ينتظرنا الصديق المهتم أسبوعا حتى نعرض بقية الحالة، أعتقد أنه ليس لنا خيار، وإلا فلنقتصر على التشخيص والأعراض والذى منه.
حالة اليوم
حالة اليوم هى نموذج صعب لما يمكن أن يقدمه هذا الباب، نقدمها بنفس الشكل الذى سبق تقديمه، مع تطوير آمل، فهى أكثر تفصيلا، وأطول متابعة، وأعمق دينامية، وأشكل تشخيصا، وسوف نلاحظ من البداية كيف أنها لمست إشكالة التشخيص، كما سوف نلاحظ مع تطورها كيف تناولت أبعادا دينامية وتركيبية، لعلها تسهم كلها أو بعضها فى مزيد من فهم “كيف نحن”، وليس فقط “من نحن”، أو “لماذا نحن”.
عندى اقتراح سوف أجربه اليوم وغدا ضمانا للمتابعة: بعد عرض الجزء الخاص باليوم المحدد، سوف نعرض كل ما سبق لهذا اليوم بخط أصغر أو هامش أكبر، حتى لو بلغت النشرة الاخيرة عشرات الصفحات، ما رأيكم، هل أحد يدفع شيئا زيادة (هوا احنا دافعين حاجة؟)
دعونا نجرب، واقبلوا (أو اعذرونى فى) كثرة تنقلاتى، واقتراحاتى، وآمالى، وخيباتى، معا
***
الحلقة الأولى:
تعريف، وفروض، وبداية المناقشة
المريض: ياسين سيد ابراهيم (الاسم مستعار طبعا)
الدكتور: عدلى
26-2-2009
ياسين سيد ابراهيم، 33 سنة، أعزب، يعمل كهربائيا، يمتلك الآن محلا صغيرا لممارسة مهنته مستقلا ولا يستعين بعمال أو مساعدين، هو الوحيد الذى يقرأ ويكتب فى أسرته، دخل الأسرة مجتمعة(3) معقول، من إيجار بيتين موروثين للأب ثم من عمل أفرادها، يسكن ياسين فى حى شعبى جنوب القاهرة، وأسرته بها أمراض نفسية (عقلية، متواترة) من أول أخته الأكبر منه (46) سنة والتى تعانى من ضلالات وهلاوس من مدة طويلة ولم تعالج أصلا، حتى أخوه الأصغر منه “شاهين” الذى أصيب بذهان جسيم وعولج بالأدوية والجلسات وتحسن جدا، وكان ياسين هو الذى يصحبه إلى العلاج بقصر العينى مسئولا عنه وراعيا له، على مستوى العيادة الخارجية ثم دخل القسم الداخلى وتحسن جدا، وعاد إلى عمله.
والد ياسين،(65 سنة) مصاب أيضا باضطراب وجدانى جسيم معاود (متكرر)، يتراوح بين الاضطراب المختلط، والاكتئاب الذهانى، وهو بالمعاش وكان سائقا، وهو شخص منعزل جاف عصبى شكاك، يقول عنه ياسين
“أبويا عِنَدى.. لو فيه مشكلة يزوّدها.. مش يحلها، يتهيأ لى التعب اللى فينا ده كله منه هو،.. لأنه ما فيش عنده تفاهم، مش كريم،.. يقلق جامد من أى حاجه، .. عصبى أوى، وما يثقشى فى حد بسهولة”.
وكانت علاقته بأم ياسين سيئة، يصفها ياسين
“معامله وحشه جداً وهى كانت طيبه ومستحملاه”
توفت أم ياسين منذ ثلاثة أشهر عن سن 50 سنه، ست بيت، لا تقرأ أو تكتب، . يقول عنها ياسين:
أطيب من والدى بكتير.. أنا ماعرفتش الوِحْده إلا لما ماتت، الناس كلها بتحبها أوى. هى اللى كانت مصبرانا على والدنا.
ياسين فتح محله الخاص به ويكسب من حرفته بشكل متوسط مستور.
أصيب ياسين فى السنة الأولى من طفولته بشلل أطفال، ترك ضمورا واضحا فى ساقه اليمنى، واستعمل جهازا يساعده على السير أحيانا، فنشأ وهو يعرج بشكل جسيم، “بالجهاز” وبدونه، لكن لم يَعُقْهُ ذلك عن دراسته التى توقفت بعد السنة الثالثة الابتدائية، ولم يعجزه الشلل عن عمله أيضا، وظل يعرج بوضوح شديد حتى الآن
خطب ياسين فتاة جميلة طيبة عمرها 17 سنة وكان يزورها أسبوعيا، يقول عنها
” كانت حلوه .. كانت بتحبنى أوى، حسيت انها صغيره ودماغها على قدها .. خُفت لما أنا يبقى عندى 50 سنه وتبقى هى 35 سنه تبقى لسه فى عزها وتبص لبرّه .. زعلت أوى لما سبتها”
ويقول عن سبب فسخه الخطوبة بعد ثلاثة أشهر:
كنت بوصّلها البيت مره/ وبعدها سمعتها بتضحك بصوت عالى مع شاب، رحت قلت خلاص مش نافعة، وسيبتها، .. اتجوزتْ بعد ما سبتها بشهر
خطب ياسين مرة ثانية فتاة أكبر سنا 28 سنة، تحمل بكالوريوسا (وهو خرج من الابتدائى، ويقرأ ويكتب بالكاد)، يقول عنها
“… كانت منقبة ومش حلوه .. ماكنتش حاببها كنت عاوز اتجوز بس .. مش عارف اذا كانت بتحبنى ولا لأ، ما فيش كام جمعة وسبتها، مازعلتش لما سبتها
ياسين عدوانى، قوى، جاهز، متحفز، وقد تصادم مع القانون فى إحدى مشاجراته، يقول:
” …. السنه اللى فاتت ضربت راجل كان بيعاكس مرات “شاهين”(4)، .. ضربته بالمفك فى رقبته .. إصابه بسيطة .. بس كان لازم أوقفه عند حده لأن شاهين كان كلمه بالذوق ومانفعش، اتعمل محضر، وبعدين بعدها عملنا صلح فى المحكمة”
يقول شاهين عن ياسين واصفا شخصيته قبل المرض
” ياسين اجتماعى، بَس مش بيتطمن للناس بسرعة مش نزهى مش مدردح واخد كل حاجة على أعصابه، تقريبا كان هو أكتر واحد عاقل فى البيت كله “
أما شكوى ياسين عند حضوره العيادة الخارجية للاستشارة فكانت كالتالى:
“…. حاسس بصداع ودوخه.. لما بيجولى باقعد أخرف فى الكلام ساعات أشوف راجل لابس أبيض فى أبيض، يجى لى وأنا داخل فى النوم.. الوحده مضايقانى.. كل زمايلى إتجوزوا وأنا لوحدى..ساعات أشوف واحد راجل تانى يقعد يضحك.. أشوفه لثوانى وأبقى عايز أزقه بعيد.. وساعات أسمع صوت يقول “أنا مظلوم” برضه وأنا نايم.. باحلم أحلام وحشه.. أنا بتمنى من ربنا إنه ياخدنى.”
أما وصف الأخ شاهين (5) لحالة ياسين وقت الكشف الأول فكانت كالآتى:
ياسين بقى له شهرين بيشتكى من دوخه وصداع..، مش مركز فى حاجه.،. على طول مخنوق ومش عايز يتكلم مع حد.. قاعد فى نفسه يجى له شغل وهو يأجله.. نومه قليل، وأكلته قليله، مرة جيبناه من الشارع الساعة 4 صباحاً وهو بالبيجاما كان طلع بيوت الناس وقعد يرن أجراس الأبواب، ومرة ثانية راح بيت الناس اللى كانوا طلعوا عليه كلام وقعد يزعق، وده كان برضه فى نص الليل ولما نقول له بعد كده على اللى عمله، يقول لأ ما حصلشى، ناسى.
بعض معالم الفروض والتشكيل
بعد مناقشة الزميل المتدرب مقدم الحالة، وبعد مقابلة ياسين مرة ثم مرات كل أسبوع خلال ثلاثة أسابيع متتالية، رسمنا بعض معالم ما يمكن عرضه هنا من فروض وتشكيل، على الوجه التالى:
- ياسين ولد فى أسرة مستهدفة (وراثيا، بيلوجيا،) لحركية مفرطة، تمثل الأرضية القادرة على التفكيك فالتفسخ (أو إعادة التشكيل إن سمحت الظروف)
- بدأت صعوبة ياسين مع تكوينه لمخطط Body schema (6)جسده، ومن ثم صورة جسده،Body image المندمجة فى صورة ذاته Self image مع مخطط ذاته Self schema، ويبدو أن ذلك جرى (ويجرى) بصعوبة مفرطة، نتيجة وجود الشلل الجسيم فى ساقه اليمنى، إثر إصابته بشلل الأطفال
- لم يحظ ياسين بالقبول أو الاعتراف من أبيه، وربما حصل على شىء “مثل الموافقة ” العابرة على “وجودٍ هامشى” من خلال “شفقة فوقية” (مهينة) من أغلب مّنْ حوله،
- أما أمه فقد احتوته ورعته وخافت عليه، بما يشمل ذلك من اعتراف ضمنى محدود، فأصبحت المصدر الوحيد لوجوده، دون السماح له بالانفصال، حتى ماتت،.
- نجح ياسين فى قبول التحدى، فلم يسمح لبرنامج فرط الحركية التركيبية الموروث أن ينقض عليه فى صورة مرض نفسى (عقلى) معوق منذ حداثته، كما لم يسمح للإعاقة الجسدية (شلل ساقه) أن يحول دون نجاحه فى عمله، فاستطاع أن يستقل ويحقق نجاحا متوسطا، وكان يعوض عجزه وضمور ساقه بقوة نصفه الأعلى (عضلات ذراعيه) فأصبح جاهزا للقتال بالانقضاض قفزا كالفهد يدافع عن نفسه، بل يهجم لينتقم ممن يهينه، أو ممن يتصور أنه يهينه، بل كان ينبرى يهجم دفاعا عن احتمال إهانة زوجة أخيه الاصغر.
- لم يحتمل ياسين أن تحبه خطيبته الأولى الصغيرة الجميلة، فتركها بعد بضعة شهور.
- صفقة خطوبته الثانية مع حاملة البكالوريوس المنتقبة، كانت أعجز من أن تستمر أسابيع، ففسخها دون تردد.
- ماتت أمه (قبل أن تلده من رحمها النفسى)، فتوقف، ومرض، وتفسخ إلا قليلا،
رؤوس مواضيع
نأمل أن يتيح لنا عرض حالة ياسين وكيف نوقشت، أن نفتح ملفات علمية وعلاجية عديدة من أهمها:
- موقع “التشخيص” (اسم المرض) فى صياغة أولويات الحالة.
- علاقة مخطط وصورة الجسد بمخطط وصورة الذات.
- الخوف من الحب والثبيت على “الموقف البارنوى”.
- الهرب من الحب (حتى فى المقابلة العلاجية المقتحمة).
- اختلاط وتداخل مستويات الوعى، ما بين النوم والوسن والتخيل والإبدال.
- التعويض بالتثبيت على آلية الكرّ دون الفر (إلا بالانسحاب).
- الانتقال من هذه الآلية إلى “الهجوم على مصدر الحب، وليس فقط التهديد”.
- (وغير ذلك مما قد يتداعى أثناء الشرح والتأويل)….
النقاش المبدئى مع مقدم الحالة
د.يحيى: (بعد انتهاء د. عدلى من تقديم ورقة المشاهدة التى أعدها كاملة قبل لقاء المناقشة):
طيب متشكر جدا، قدمت لنا الحالة دى ليه بقى؟ إيه الهدف يعنى ايه المشكله اللى خلتك توريها لنا النهارده.
د.عدلى: عندى مشاكل اولا فى التشخيص.
د.يحيى: لزومه ايه التشخيص تديله أولوية فى الحالة دى بالشكل ده يا شيخ؟! إنشالله ما اتشخص.
د.عدلى: حاجه بتساعدنى فى اختيار علاجي، مش حاجه أساسية يعنى.
د.يحيى: إمال بتقوله فى الأول ليه ما دام مش حاجة أساسية، يعنى بالذمة إنت ما تعرفشى تعالجه بعد كل اللى قلته ده من غير تشخيص؟
د.عدلى: آهى معلومة برضه أنا محتاجها.
د.يحيى: يعنى فى حالة زى دى حا تفرق بالذمة؟! ماهو كله حاياخد نيورلبتات Neueroleptics، ويمكن تضيف مضاد اكتئاب Antidepressant، وشوية ضبط مزاج Mood Stabilizer، مش كله بياخد كله برضه؟ واذا ما اتحسنشى نديله كهربا، مش هى دى القاعدة ؟ الله يسامحك، ويسامحهم، وحتى موت امه ما هو ممكن يعمل جميع الأمراض، اللى فى ذهنك، أنا باسألك يا ابنى إيه فى الحالة دى مش مألوف لك، سواء بالنسبة للحالات اللى شفتها، أو بالنسبة للى قريته أو سمعته.
د.عدلى: لما باقول لحضرتك “التشخيص” مش بس قصدى التشخيص اللى هو الـيافطة والتقسيم، قصدى على التشخيص اللى من خلاله بافهم العيان اكتر.
د.يحيى: بذمتك هوا التشخيص اللى بيخليك تفهم البيان، ولا “الصياغة” اللى بانبحْ حسى عليها ليل مع نهار؟
د.عدلى: لأ ما هو انا يعنى ……(يصمت).
د.يحيى: التشخيص ده حاجة كده زى(7)، الصياغة يعنى “البيت نفسه“:، كام أوضه، ومين اللى ساكن فيه، وبيعملوا إيه، ورايحين جايين ازاى، وعلاقتهم إيه ببعض، ….
د.عدلى: انا كان قصدى كده.
د.يحيى: هوا احنا حا نقعد ساعتين تلاته عشان نقول ده مرض اسمه كذا، ويمكن يكون كيت، ونتخانق على الاسم ونروّح، قال إيه علما، بقى ده اسمه كلام؟ إحنا دكاترة وظيفتنا نعالج مش نعلق يفط،
د.عدلى: الظاهر ان استخدامى للفظ “تشخيص” ماكانش مظبوط، انا قصدى كده اللى حضرتك بتقوله ده.
د.يحيى: لأ !!، ما هو ما ينفعشى تقول حاجة وبعدين تقول قصدى حاجة تانية.
د.عدلى: انا قصدى الحاجة اللى تهدينى للعلاج.
د.يحيى: إيه الحاجة اللى شاغلاك فى المنطقة دى، فى منطقة البحث عن سكة العلاج؟
د.عدلى: اللى شاغلنى، فيه حاجات مش فاهمها.
د.يحيى: زى إيه؟
د.عدلى: حاقول لحضرتك بس شوية معلومات يعنى كتبتها بس بطريقه مختصره، ياسين قبل وفاة والدته، وقبل المرض على طول حصل حاجه فى الشارع بتاعهم:
“باختصار واحد راح طلّع فِتْنَه عليه ان هو عايز يتجوز واحده، وراح قال لأهل البنت دى فأهل البنت زى ضمنيا رفضوه، وراحت طالعه السمعه عليه فى الشارع ان هو اترفض من غير ما يكون هو اتقدم أساسا”
د.يحيى: الكلام ده مكتوب هنا فى ورقة المشاهدة اللى انت قدمتها لنا؟
د.عدلى: أنا كتبتها فى ورقة لوحدها، قلت أحكيها لحضرتك عشان ما عرفتش أحكيها ازاى، ولا أحطها فين فى ورقة المشاهدة.
د.يحيى: بالذمة ده اسمه كلام، حادثة فى غاية الدلالة فى حالة زى دى، تدكّنها فى ورقة برّانية بالشكل ده، وتقول لى مش عارف إيه؟
د.عدلى: أحطها فين طيب؟
د.يحيى: باقول لك يا إبنى دى حادثة فى غاية الأهمية فى الحالة دى بالذات، حتى لو ما كانتشى حصلت خالص، وهوه بيألفها ضمن المرض بتاعه، تبقى برضه فى غاية الدلالة، وإذا كانت حصلت بعد حكاية فسخ الخطوبتين الواحدة ورا التانية، تبقى دلالتها أكتر، لأنها حاتبقى جارحه وجارحه قوى، يا أخى حرام عليك تظلم نفسك كده، إنتَ عارف معلومة، والمعلومة دى ماشيه فى السياق، تقوم تدكّنها وتحطها فى جيبك؟ يعنى أنهو الأهم إنه بيسمع الصوت بيقول له ما اعرفشى إيه، ولا إنه بيعيش تجربة إنه اترفض، وإنه مش متعاز، وهو لا اتقدم للناس دول ولا حاجة، مع إنه هو اللى فركش خطوبتينه الواحدة ورا التانية ياشيخ، فلما ييجى يترفض هنا، أو يطلعوا عليه إشاعة إنه اترفض، يبقى الحكاية عايزة وقفة، الجدع ده مع إنه هو اللى رفض خطيبته دى ودى، أنا رأيى إنه مرعوب من الرفض، هو رفضهم قبل ما يترفض غالبا، حسب رعبه من الرفض على خلفية عدم الاعتراف أو الشفقة، اللى هَرَته هو رفض، البنت الأولانية لما حبته بحق وحقيق، أول ما وصل له حبها حط ديله فى اسنانه وبرطع، ما هو الحب بيخلى الرعب من الرفض أصعب، خاف إنه يتجرح أكتر بعد ما يصدق إنها بتحبه، أما البنت التانية بتاعة البكالوريوس المنقبة، فباين انها ما بتعرفش تحب من أصله، لا هو حبها وعازها، ولا هى حبته، راح خالع هو بدرى….
د.عدلى: كنت عايز اكمّل لحضرتك.
د.يحيى: تكمل ايه؟ معلومة تانية برضه مخبيها فى جيبك.
د.عدلى: لأ.
د.يحيى: طيب، فيه إيه؟
د.عدلى: الأصوات اللى بتيجي، والضلالات ساعات بتبقى موجهه ناحية المشاكل اللى عنده بطريقه معينة، مثلا يطلع من بيته، يروح لأهل البنت اللى كانوا طلّعوا عليه كلام إنه اتقدم لها واترفض، ويقعد يزعق عندهم وحاجات كده، ولما أهله يروحوا يجيبوه من البيت يلاقوه زى ما يكون مش مصحصح قوى، يسألوه، يقول إنه ناسى، وإنه ما عملشى كده.
د.يحيى: على فكره العيانين الطيبين الغلابه دول لازم نقراهم باحترام، يعنى هو مش ضرورى يكون مش عارف هوا عمل إيه زى ما بيقول لهم، لأه، يكفى انه يقولك أنا ناسي، وده صحيح، أو نص نص، بس كله هادف، يعنى النسيان هنا يبقوم بالواجب سواء شعوريا أو لا شعوريا، ما هو التصرف اللى عمله باندفاع كده بيثبـّت الإشاعة إنه اتقدّم واترفض، وهوا كل همه إنه يثبت لنفسه قبل الناس إنه لا اتقدم، ولا اترفض، يبقى هو بيثبت بالتصرف ده عكس اللى هو نفسه يعلنه، فلازم ينسى، نوبة التصرف اللى زى ده اسمها “هُجاج” Fugue، النوبة لما بتيجى إذا كان مش عارف يبقى انشقاق Dissociation، إذا كان عارف قوى يبقى بيستعبط، قصدى بيندفع وهو عارف بيعمل إيه، بس اندفاع جاهز للمحو Undoing، يعنى دور اللعب اللاشعورى ييجى “بعد الفعل”، عكس الانشقاق اللى اللاشعور هوا اللاعب الأساسى من الأول للآخر. واخد بالك؟
د.عدلى: .. .. أنا ساعات برضه المريض ده بيدينى منظر اللى بيلعب بىّ، وساعات بياخد شكل كده مش قادر اقول عليه بيدعى، لأه، حاجة زى استسهال كده أوتطنيشه.
د.يحيى: قوم إيه بقى !!!! لما يكون ساعات كده وساعات كده قوم إيه بقي؟ نشك فيه ونتهمه زى ما نكون بنتصيد له وقعات، ولا نبحث ده ونبحث ده ونربط بينهم ونقول ليه بيعمل كده ساعات وكده ساعات؟ اللى وصل لى منك لحد دلوقتى إنه بيزودها حبيتن أحيانا، هوا انت حسيت إنه بيستعبط؟
د.عدلى: لأ.
د.يحيى: طيب، أنا قلت لك لازم يكون هدف أى فحص واضح، وهنا الهدف هو العلاج مش التشخيص، ولا التحقيق إذا كان التشخيص حا يخدم العلاج، يبقى على العين والراس، بس يتحط فى مكانه.
ما علينا طيب اما اقولك بقى الاحتمالات اللى وصلتنى من هذا “الشيت” (7) الجيد، قصدى المشاكل والأبعاد عشان نشوف حانفكر ازاى:
- نمره واحد مشكلة “الرفض”، وبالتحديد “الخوف من الرفض”.
- فيه قبلها طبعا مشكلة تكوين الذات وتكوين صورة الذات Self Image مش بس الصوره، لأ و”مخطط” الذاتSelf Schema ، الحكاية دى مش واضحة عندكم قوى، الكلام كتير عن صورة الذات، إنما ما فيش ربط للأسف بينها وبين مخطط الذات، وبرضه ما فيش ربط بين الاتنين وبين صورة الجسم Body Image ومخطط الجسم Body Schema، الكلام ده أنا شرحته بالتفصيل فى كتابى عن “الأعراض”، أنا آسف هو ما اتنشرشى لسه، ومش حاقدر أتكلم فيه بالتفصيل دلوقتى، خلينا فى الموضوع ده على قد حالة ياسين، كلمتين باختصار، إذا أمكن…..
(نتوقف هنا اليوم، ونكمل غدا، وأعتقد أن الحالة سوف تمتد إلى الأسبوع القادم أيضا، يومى الثلاثاء والأربعاء وربما إلى عدة أسابيع).
غدا تكملة المناقشة مع مقدم الحالة وبداية اللقاء مع المريض
مع إعادة نشر هذا الجزء فى نهاية حلقة الغد كما أشرنا فى المقدمة).
[1] – العنوان البديل: الموقف البارنوى وعلاقته بالذات والجسد، متبادلا مع الموقف الاكتئابى
[2] – الحالة الأولى بتاريخ 16/12/2008& 17/12/2008& 30/12/2008& 31 /12/2008& 13/1/2009& 14/1/2009 والحالة الثانية 2/12/2008& 3/12/2008 والحالة الثالثة 11/11/2008 & 12/11/2008 & 25/11/2008 & 26/11/2008 والحالة الرابعة 30/9/2008 والحالة الخامسة23/9/2008 والحالة السادسة 2/9/2008 & 3/9/2008 والحالة السابعة 26/8/2008 & 27/8/2008 والحالة الثامنة 30/10/2007 & 4/11/2007 & 5/11/2007 والحالة التاسعة 23/10/2007 & 24/10/2007.
[3] – الأسرة الكبيرة التى ما زال يعيش معها
[4] – أخوه الأصغر الذى مرض ورعاه ياسين وعولج وتحسن أو شفى
[5] – مرة أخرى: شاهين هو الأخ الذى كان مريضا مرضا نفسيا شديدا، وعولج، برعاية ياسين، وتعافى مرحليا، أو تماما.
[6] – أفضل عادة أن أكتب المقابل بالإنجليزية فى الهامش، حتى لا أشوه وجه العربية القادرة الجميلة، إلى أننى وجدت أن النقاش كان يدور كثير منه بالأنجلو عامية،وأن ترحمة ذلك إلى العربية الفصحى ينقل الصورة ناقصة، فقدرت أنه ما دمنا قد رضينا بتقديم النص بالعامية، فلنستسمح القارئ أن نضع الكلمة المتخصصة التى ذكرت أثناء النقاش بالإنجليزية، أن ننضعها فى المتن مباشرة، آملين مستقبل أن يتم النقاش كله بالعربية فقط، عامية كانت أو فصحى.
[7] – “عنوان البيت”
[8] – آسف، وكن تستعمل كلمة الـ “شيت” sheet بتواتر شديد فى هذا المجال وغيره، وفى رأيى أنه آن الاوان لإدخالها اللغة العربية لأنها تسحق مبنى ومعنى ذلك، وترجمتها إلى “ورقة المشاهدة” ليست دقيقة.