“يومياً” الإنسان والتطور
7-6-2008
العدد: 281
تعتعة
نعم يوجد “شىء ما”:
هل عندكم مانع؟
مدرس شاب”كنظام”: الزمن القديم
.. فى المرحلة الابتدائية، فى أوائل الأربعينات، كنا نشترى الكراس بثلاثة تعريفة (قرش صاغ ونصف) مكتوب على غلافه “كنظام وزارة المعارف العمومية”، وكان ذلك يعنى أن عدد السطور وترتيب الصفحات، والتجليد هو ممْاثل لكراريس الوزارة التى كنا نستلمها مع الكتب المقررة أول العام، أما الكراريس التى ليس عليها هذا الشعار فكانت أرخص.
كل هذه المقدمة هى لتفسير كلمة “كنظام” التى جاءت فى العنوان .
ما قام به هذا المدرس الشاب، الذى لم أره حتى الآن، مع حفيدتى حضر فى وعيى “كنظام” ما عشت بعضه فى الزمن القديم، حضرنى ذلك وأنا أتابع التعقيبات التى جاءتنى بعد نشرة “برغم كل ما يجرى يوجد فينا شىءٌ ما“، حضرنى برغم أنه لم يبق فى وعينا عن “صورة المدرس الآن” إلا تلك النماذج المشوهة المرتبطة بالجهل والتجهيل والاستغلال والغش والدروس الخصوصية والتسطيح،
برغم كل ذلك حدث هذا الذى تذكرته كما يلى:
منذ كتبت تعتعة “ذلك الشىء الـ ما” الذى وصلنى رغما عنى فى جوهر وجود ناسنا البسطاء، الصابرين، العنيدين، الأقوياء، المؤجِّلين، المصمِّمين، الأطفال، المبدعين، الحكماء الطيبين، منذ نشرت هذه النشرة وأنا أتلقى رسائل وتعقيبات رددت على أغلبها فى حوار/بريد الجمعة 30 مايو.
من بعض ما وصلنى:
فرحة الجميع – تقريبا – بهذا “الشىء الـ ما”،
وإقرار الأكثر بوجوده بشكلٍ ما،
ومحاولة الأكبر فالأكبر سنًّا الاستيلاء على هذا “الشىء الـ ما” باعتباره من مخلفاتهم التى أضاعها الأصغر فلم يعد لهم الحق حتى فى الأمل فيه، بل ولا فى الحديث عنه.
أكتشفْتُ من خلال التعقيبات والردود أننى لم أكن أحلم، وأن هذا الشىء موجود موجود موجود، الأمر الذى ظهر فى آخر تلك التعتعة حين أنهيتها متحديا: هل عندك مانع؟ (فى الاعتراف بوجوده أو على الأقل فى تصديق أننى رأيته رأى العين؟).
لاحظت أيضا فى التعقيبات أن المرأة (من كل الأعمار) كانت أكثر تصديقا وفرحة بهذا “الشئ الـ ..ما”،
وأن الشباب من الجنسين كانوا أكثر حماسا له و أملا فيه،
وأن المتربصين به والمنكرين له كانوا أقلية،
أما الساخرون فكانوا ندرة.
حدث هذا الأسبوع ما جعلنى أعايش هذا “الشئ الـ ما” بيننا هنا والآن فى سلوك واقعىّ، قلت أسجله لعله يقنع الفئتين الأخيرتين: المتربصين والساخرين.
دخلت علىّ “ليلى” حفيدتى (10 سنوات) وأمها مى ابنتى، وراحت تعابثنى وأنا أكرر عليها سؤالا أنكشها به كلما التقيتها: “مش حاتحبينى بقى يا ليلى” (وقد كنا نحب بعضنا قبل ذلك، ثم لا أدرى ماذا حدث حتى أكرر هذا السؤال هكذا) فتبتسم ليلى وتضحك وتقول “لا”، فأواصل عدّ مزاياى التى تستأهل الحب، فتقول كالعاده سوف أفكر”، فأقبَلها، فتمضى لأنتظر الاستجابة والقبول فى جولة أخرى،
هذه المرة لم تنصرف ليلى بسرعة، كان عندها ما تقوله لى (ربما تصبيره حتى تقرر أن تحبنى من جديد)، وهو: أن أستاذ العربى “يحبنى”، و”يحب أن يقرأ لى”، سألتها هل هو هذا الذى كتب فيك شعرا العام الماضى حين مرضتِ وغبتِ أسابيع عن المدرسة؟ قالت نعم، ثم ذكّرتنى كيف أنى فرحت بشعره آنذاك، وقد كان، ليس فقط لأنه شِعْرٌ فى حفيدتى، ولكن لما وصلنى من رقة مشاعره، ونبل موقفه، مما أعاد إلىّ بعض ذكرياتى عن مدرسين درّسوا لى وانا فى سنها وأكبر قليلا، قلت لها: تذكرت الآن، أنا آسف، نسيت. قرأت فى وجهها أنها انتظرت أن أفىِ بوعدى طوال العام وربما خجلت أن تذكرنى به، أو لعلها عذرتنى لفرط ما تراه من انشغالى.؟
ياه! هل جاءت ليلى اليوم بكل هذا لتثبت لى – ولكم – أننى لا أتوهم وأننى أرى هذا “الشىء الـ ما” فينا رأى العين هنا والآن هكذا؟
هل يتصور أحدكم أنه يوجد بيننا مدرس شاب، لعله لم يبلغ الثلاثين، يفتقد تلميذته التى غابت عن الفصل بسبب المرض، فيكتب فيها رجزا من أربعة أبيات، يبلغها من خلاله افتقاده لها، ودعواته بأن يحفظها الله ويرعاها، وهو يهديها ورْدا ليفوح منها هى العطر لا من الزهور؟
يحدث هذا سنة 2007؟
فى جيلى أنا كان هذا النموذج موجود موجود، تذكرت حدثين: الأول فى أوائل الأربعينات ربما 1944 والثانى قرب آخر نفس العقد ربما 1948:
حضرتنى صورة المرحوم عبد الحميد أفندى فهيم وهو يجلس بجوارى فى مطعم المدرسة الإبتدائية بزفتا، وكانت الوجبة مجانية، ويعلمنى كيف آكل بالملعقة وربما بالشوكة، دون أن أسقط على قميصى الأبيض، والأرجح أنه كان يتغافل عنى وأنا أدس بقية الرغيف تحت قميص، فهو حقى!
ثم حضرنى المرحوم (غالبا) مصطفى أفندى رياض فى مدرسة مصر الجديدة الثانوية وانا بعد فى سنة ثالثة ثانوى (كان الثانوى خمس سنوات) بطربوشه المائل الجميل، ورأسه الكبير الجميل أيضا، ونحن فى النادى الانجليزى (كان هذا اسمه English Club) فى الفسحة الكبيرة، وهو يعزف على كمانه برقة متناهية، وحين انتهى من عزفه تقدمت إليه وسألته: لو سمحت يا مصطفى أفندى أريد أن أستشيرك فى أمر خاص، فدعانى لأجلس فى محاذاته -لا أمامه- ووضع يده على كتفى وابتسامته تقول: قل ما عندك، سألته: هل أدخل “أدبى أم علمى”؟ أذكر أنه قال أدخل أى شىء تراه، وسوف تحقق فيه أمراً مختلفا، ولم أفهم آنذاك ما يعنى طبعا، وإن كنت أتبينه معكم الآن!
كان هذا فى الزمن القديم، حيث كان من الممكن أن ترصد هذا “الشىء الـ.. ما” بسهولة بالغة.
اليوم سنة 2007/2008 أفاجأ بهذا المدرس الشاب يرسل هذا الرجز الرقيق حين غابت عنه تلميذته لمرضها، وهو يتعمد أن يكون من أربعة ابيات خفيفة جميلة، وأن يبدا كل بيت بحرف من حروف اسم تلميذته الغائبة (ليلى) لام/ياء/لام/ألف (حسب النطق) قال:
لَ لله مجيب الدعواتِ أرسلتُ إليه بكلمـاتِ
ىْ يحفظك الله ويرعاكِ لتظلّى نورا فى رباكِ
لَ لا فَرْح ارتسمَ بأعيننا مُذْ غبت ياليـلى عنّا
ى (ا) الـورد إليك أهديه والعطـر بيدكِ لا فيهِ
قد يقال لى عن هذا المدرس أنه يقوم بالتدريس لأطفال الطبقة القادرة التى تستطيع أن تدفع الشىء الفلانى فى مثل مدرسة حفيدتكَ، وبالتالى هو لا يمثل هذا “الشىء الـ ما” الذى حكيت لنا عنه بشكل يمكن تعميمه، وسأجيب مغيظا أنه: حتى لو كان يدرس لهذه الطبقة القادرة فهذا ليس دليلا على أنه منها، ثم من قال إن الطبقة القادرة هى التى تحتكر، أو حتى يغلب فيها، هذا “الشىء الـ ما”، إن من يتابع ما رصدتُ فى تلك النشرة السابقة سوف يجد أننى رأيت هذا “الشىء الـ ما” فى الجميع من كل الطبقات وكل الأعمار وكل الإنجاز: رصدته فى الناس والإبداع، فى الموتى والأحياء، فيما يمكن تسميته ومالا يمكن، والأغلب أنه لايمكن تسميته وإلا ما وصفته بأنه ” شىء ما”
المهم أمسكت بالقلم وأنا أقرأ فى عينى ليلى رغبتها الخجول أن أرد على مدرسها الكريم، ثم إنها قد تقرر بسبب ذلك أن تحبنى أخيرا، مثل زمان!
حاولت أن أكتب له رجزا بنفس طريقته، فأبدأ كل بيت فيه بحرف من اسمه، وهو “سليمان” فكتبت:
س سرّنى شعرُكَ فى ليلى هــذا تـذكـارُ لا يَبْلى
ل لـم أحْلمُ يـومـا أتملّى وأرى ذا المعـنى يتَجلَّى
ى يـاليت القـلمُ يطاوعُنى ليـعبّر عمـا خَـالَجَنِى
م من لى ببحور الأشعَـار جَمَعـاً تروى ذى الأخبار
ا القـدوة قبـل الكلمـاتِ فى شعـر الـوالد لبناتىِ
ن نَـدُر النبلاُءُ وأنتَ لها حَمَلَ الـروَّادُ أمـاَنَتـها
فرحتْ ليلى،
وفرحتُ لفرحتها، ولى ..
وأملنا أن يفرح سليمان لفرحتنا به وله، ولنا، ولكم ..
هل عندكم مانع؟