نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 31-7-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5082
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (22)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
… كدحا إليه، لنلاقيه (2)
“لا أعلم من العقل..، ولا أجهل من العقل” (1 من 2)
للأسف: اضطررت أن أقسم المقال على يومين حين شعرت بثقل ما يحمل وآملت أن يأخذ حقه في القراءة ببطء.
شكراً
“يا عبد، عذرتُ من أجهلتُه بالجهل،
مكرتُ بمن أجهلتُه بالعلم”
(النفـّـرى: مخاطبة 9)
أمرٌ بالكتابة
رعبٌ حقيقىٌّ، بفرحة! !
حين طلبت منى صاحبة الفضل رئيسة التحرير أن اشارك فى هذا الملف، (سعيا إلى الله) كدت أعتذر، لكن الإبن الشاعر الكريم نائبها تناول الهاتف، ذاكرا كيف أننى ما انشغلت خلال نصف قرن بأكثر من انشغالى بهذه المسألة بشكل أو بآخر. كيف عرف؟ أحسست أن أحدهم قد خلع عنى ردائى دون إذن، وصلنى الطلب من جديد أمرا كريما، فـفـرٍحْتُ فزِعا. تذكرت أمرا قديما بالكتابة أنار لى بعض ما هو واجب لحمل الأمانة.
و“قال له”:
” أكتب من أنت، لتعرف من أنت،
فإن لم تعرفْ من أنتَ، فما أنت من أهل معرفتى”
(النفّرى: موقف الأمر)
وصلنى أنه أمرٌ لى شخصيا، ثم ها هو يتجدد الآن، من عرف نفسه أدخله سبحانه بين أهل معرفته، فعـَـرَفَه.
استجبت آنذاك (3) بما عدّلت بعضه الآن هكذا:
“.. أمرك مطاع، مع أننى لا أفهمه ولا أريده،
..حذّرتَنَا من قبلُ من الكتابة والحساب، ففهمتُ حتى خـِفتُ من الـرموز والتراكمْ. رُعبتُ من الحرْف والقوليةْ، فلماذا الكتابة ؟ وكيف؟ لكنه أمرك.
كتبتها (نـّفسِـى) على قدر علمى، ثم قرأتها، فعرفتُ لماذا َ أمرتَنى بكتابتها.
قلتُ لها، (لى) … إن كانت منفصلة عنك، فلا حاجة بى إليها،
وإن كانت بديلة، أو تجرأتْ فتجاوزت الوسيلة، فهى ليست الطريق إليك،
أنتّ الذى كتبتنى، كتبتَها، فلمَ عدت تأمرنى أن أكتبها؟
لعلك تأمرنى أن أقرأ كيف كتّبْتّنى،
لعلّك تُفهمُنى أنَّ علىّ أن أشكِّلُنِى بعد ما كتبتنى أنتَ فطرة واعدة،
ها أنذا أكتبنى من جديد، فى حين أننى لا أكتب، بل أقرأ كيف كتبتنى،
كل ما علىّ هو أن أحافظ عليها، لِـما تعد به.
فهل تسمح لى أن أكون من أهل معرفتك؟
“ماذا آل إليه حال الدين”
كتبت مرارا مبينا كيف فشل تهميش الدين أو إلغاؤه أو اختزاله (الفرض؟! فى هذا العمل)، ثم صار أغلب ما تبقى منه ليس هو، السلطات بأنواعها عبر التاريخ (بما فى ذلك السلطة الدينية، بل: وخاصة السلطة الدينية) لم تكف عن محاولات الاستيلاء على الدين لما ليس هو، لما ليس له، وذلك: بالفصم، والاحتكار، والإحلال، والتشويه، والتقزيم، والاستعمال من الظاهر لعكس ما أراد، كاد الأمر ينتهى إلى أن تكون مهمة هذه السلطات هى أن يعيدوا صياغة الدين بما يحول بيننا وبين الطريق إليه، سبحانه، فانعكست وظيفة الدين.
الطريق إلى الله لنلاقيه هو طريق كدح معرفىّ بالغ الجدية يليق بتتويج رحلة الأحياء التى يقف على رأسها هذا الكائن الذى اسمه “الإنسان” بكل نبله، وغروره، وإبداعه، وغبائه، بعد التورط فى اكتساب الوعى، ثم الوعى بالوعى، أصبح الطريق إلى الله فى حاجة إلى إقدام يبرر المخاطرة التى يتوارى معها كل ما شاع من دعوات التخدير والطمأنينة السهلة المسطحة، تلك الدعوات التى يروّجون بها الدين الخفيف مثلما يسوقون حبوب التهدئة، فلا يحققون إلا البُعد عن الله بالاسترخاء العقلى، وطمس الوعى، مع التراوح بين التأثيم والتأجيل والتواكل، كل ذلك أصبح حائلا – ناعما أو شائكا – بين العبد وربه، الطريق إلى الله هو الطريق إلى المعرفة، الطريق إلى الله يحتاج كل وسائل الحركة فى النفس إلى الكون، إليه تعالى، وبالعكس، وباستمرار، العقل – كما شاع عنه – هو مجرد أحد المطايا إلى ذلك، وهو أكثرها عرضة للخلل والانحراف، الطريق إلى الله له بداية منذ أن نولد، لكنه ليس له نهاية، حتى بكذبة بالموت.
كلما “عرف” الإنسان أكثر، اقترب منه أكثر، ليكدح إليه كدحا لا ينتهى، كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، الرعب الذى يغشى الساعى فى هذا الطريق هو فـزع من دهشة البهْـر، هو إعلان يبين حجم مسؤولية حمل الأمانة التى تصدّيْـنا لحملها عندما عرضها سبحانه على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، تلك الأمانة التى إن لم نحملها بحقها، فلسنا إلا كما نبَّه ربنا المتقاعسَ منا: فكان “ظلوما جهولا”. حين يدرك الذى غامر ليحملها بحقها مدى ثقلها، يتمنى – من هول المسؤولية – أن يتراجع، ألاّ يكون ما حدث هو ما حدث. لكنه، و بنفس القدر، يتمنى ألا تتحقق أمنيته. سجّلتُ مثل هذا الموقف الصعب يوما:
“يا ليتنى طفوتُ دون وزنِ،
يا ليتنى عبرتُ نهر الحزنِ،
من غير أن يبتل طرْفى فَـرَقَا.
يا ليت ليلى ما انجلى،
ولا عرفتُ شفرة الرموز والأجنّةْ.
….
إِى، هجرة الطيورْ
فى الشاطئ المهجورْ:
عفوا فعلتُها.
…
فكَ القيودَ صـلّت السلاسلْ
طارت يمامةٌ من الخمائل
العمرُ بعد ما انقضى !!!
العمرُ بعدُ ما بدا.
….
أشلاؤُها تفجَّرتْ مضيئةْ،
نرى ندورُ ننكفئ.ْ
…تناثرتْ، تخلّقتْ، تحدّتْ
وماتتْ التمائمْ
…
يا هوْلـَـهُ الصراخ دون صوتْ
يا رُعبها ولادةٌ كموتْ
يا حظَّ من لم يحمل الأمانةْ،
يا ويل من صاحَبَهَا فى خدرها
أو عاش ملتفـًّا بها، وحولها
….
…
يا مِقودَ الزمان لا تُطلقـْـنى
ثقيلةٌ ومرعبهْ،:
قولةٌ: “كـُـنْ”.
لو “كان”: بِتُّ بائسا،
لو “كان”: طِرتُ نوْرسا،
لو كان دُرتُ حول نفسى جذَلا .
السعى إليه لا يكون إلا بالسعى إليه، والعقل أحد السبل إلى ذلك شريطة ألا يقتصر مفهومه على تلك القلنسوة اللامعة المصنوعة تماما من الرموز والأبجديات الساكنة، “العقل القلنسوة” لا يمكن أن يُثبت وجود الله، لكنه وبنفس منطقه الخائب، لا يمكنه أن ينفيَه. نحن نحتاج إلى إعادة التعرف على مفاهيم كثيرة شاع استعمالها قاصرة بعد أن تجمدت فلم تعد كما وعدتْ، وفى مقدمة ذلك: العقل، والوعى، والعلم، والواقع.
الوعى والعقل
فى كتابه عن “الطريق لفهم الوعى” والمسمى “أنواع العقول” (4)تناول دانيال دينيت تصنيف العقول ومراحل تطورها باعتبارها مراحل فطبقات من الوعى، منذ ما قبل الإنسان. هذه الأنواع من العقول هى مستويات وجود متصاعدة تم برمجتها بذكاء فطرى حافظ على بقاء كل نوع إلى مداه. العلوم النفسية الأحدث لا تتناول ما هو “وعى” بما ينبغى من جدية ومثابرة. علم السلوك ينفيه أو يهمشه، والتحليل النفسى التقليدى يضعه قشرة شعورية فوق، وحوْلَ، مجهولٍ غامض مراوغ اسمه “اللاشعور”، والطب النفسى التقليدى والعلوم العصبية تختزله إلى وظيفة لجهاز عصبى شبكى صاعد، يقوم بوظائف الانتباه واليقظة وما إلى ذلك. الوعى غير كل ذلك، مع أنه يشمل كل ذلك. مستويات هذه البرامج الحيوية ترتبت هيراركيا بطريقة شديدة الإحكام ترجع عادة إلى تاريخ حيوى أقدم كثيرا من ظهور الإنسان، ثم اشتملها الإنسان لتحمل تاريخه ليتكامل. الوعى المشتمِل هو أداة السعى إليه، وفى نفس الوقت هو هدف السعى الذى لا يتوقف، هو “عملية” حركية جُماع العقول التشكيلية الكلية الهيراركية المتناغمة الفاعلة الذكية. لا يجوز، والأمر كذلك، أن يحل العقل الظاهر أو الشعور (الفرويدى) محله بحال.
واقع، وواقع، وواقعْ…
فى نفس الوقت، أدى الرعب من الخرافة إلى إنكار الغيب برمته، مع أن الغيب هو واقع آخر. احتكَر الواقع الظاهر كَّل ما يسمى الواقع، فاحتل أرضا هى أرحب بكثير من أن يشغلها، هذا الواقع الملموس أزاح كل واقع آخر سواء بالداخل أم بالخارج، سواء أمكن رصده أو رصد آثاره أم اقتصر الأمر على استشرافه فالإيمان به يقينا من خلال إيقاع الحركية إليه. بداية الطريق هى الإقرار بأن الواقع هو واقع وواقع وواقع، وكثير، تماما كما أن الوعى هو وعى ووعى ووعى ، وكثير، إليه واحدا أحد.
…………….
ونكمل غدًا
برجاء من سيقرأ نشرة باكر أن يبدأ بإعادة قراءة هذه النشرة
شكرا
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد يونيو – 2006)
[3] – يحيى الرخاوى – إيهاب الخراط (مواقف النفّرى بين التفسير والاستلهام) عام2000، (ص 91) الناشر: مركز المحروسة.
[4] – قام المترجم د. مصطفى فهمى، ربما تسهيلا على القارئ العربى بترجمة العنوان إلى “تطور العقول” برغم أنه ترك العنوان الفرعى مشكورا وهو “الطريق إلى فهم الوعى” .
– دانيال دينيت “أنواع العقول” ترجمة: د. مصطفى فهمى، الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003
Daniel C. Dennet “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness” (1996)