نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-1-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4900
التباعد البدنى أنقذنا من النفاق! (1)
حوار أ. د. يحيى الرخاوى مع الأستاذ/ مفيد فوزى
1- ما أبرز ملامح عالم ما بعد الكورونا في تقديرك؟
د. يحيى:
يستحيل قبول هذا التعميم، وأنت ملك “الدنيا سؤال”، إلا إذا كنت سأعتبره أجابة وليست سؤالا، والإجابة التى وصلتنى منك هي أنه من المستحيل تعميم ملامح لهذا العالم الآن، ونحن في عمق مركز الأزمة هكذا لأن المفروض والمتوقع أنه سوف يكون عالما جديدا لم نعرفه من قبل حتى لو استقرأنا التاريخ الكارثى الذى مرّت به الإنسانية من قبل في مواجهة الكوارث العالمية، ذلك أن الوسائل في عالم اليوم أصبحت أسرع وأقدر وأخطر، ولا يمكن ملاحقتها بسهولة من جميع جوانبها، وكل ما علينا إن كنا جديرين بالاستمرار كبشر يرتقى هو أن نكون مستعدين لاستخدام كل هذه الوسائل الأحدث والأقدر لصالح البشر جميعا وإلا فسوف ندفع الحساب باهظا علينا جميعا.
2- هل تظل وسائل الحرب كما هي دبابات/طائرات أم حرب ما بعد الكيميائية بالفيروسات؟
د. يحيى:
كل شيء جائز، وبرغم أن حرب الفيروسات عموما أخبث وأخفى، إلا أنها هذه المرة بدت وكأنها بروفة حرب عالمية صريحة، تحمل جرعة تهديد لكل البشر الغنى والفقير، المتحضر والمتخلف، الشجاع والجبان، النذل والطيب، وقد بدا للمتعجل أن هذه تذكرة بما عجزنا عن تحقيقه ونحن نمارس حروبا أخرى قذرة تقودها قوى منفصلة عن التاريخ وعن الناس وعن الله، وهى تزعم عكس ذلك تماما، تزعم أنها عولمة لصالحهم!!.
3- كيف يتعافى اقتصاد العالم الذى كان صرحا فهوى؟
د. يحيى:
لستُ الشخص المؤهل للإجابة على هذا السؤال بالذات، فللاقتصاد متخصصون يلعبون بالدولار واليورو والين واليوان العملة الصينية، وكل فريق يمكنه أن يجيب على هذا السؤال بما يخصه وقد تكون بعض الإجابات أو معظمها قاصرة على مشاكله شخصيا ولو على حساب خراب غيره، ومع ذلك فإن سؤالك جعلنى أتساءل بدورى: هل كان اقتصاد العالم سنة 2020 صرحا فعلا وهوى؟ أم كان وهما وتحيزا واستغلالا بنى على أساس خاطئ ولم يستطع الصمود؟ فهو لو كان صرحاً لما هوَى بهذه السرعة وهذا العموم، ولعل في ذلك خيراً من حيث المبدأ لو حمل تذكرة للعالم أن ما بنى على باطل فهو باطل.
4- هل تتصحر العواطف بالتباعد البدنى وعدم القبلات والاحضان على المدى البعيد؟
د. يحيى:
الأرجح عندى أن التباعد البدنى وعدم القبلات والأحضان يمكن أن يقرب الناس من بعضهم البعض لا أن يباعد بينهم، وذلك بعد أن وصل حال الحوار الجسدى والتلويح العاطفى مرحلة من النفاق لم تعد تخفى حتى عن من كانوا يبالغون في ممارسته على حساب المشاركة، فلعل هذا التباعد البدنى الذى اضطرتنا إليه كورونا يذكرنا بقنوات اتصال أكثر صدقا بين مستويات للوعى أعمق وأبقى وأكثر إبداعا ودفعا لاستكمال مسيرة التطور.
5- عالمنا المعاصر في حاجة إلى علماء أم فلاسفة؟
د. يحيى:
بصراحة، إلى فلاسفة، بالمعنى القديم الأصيل الذى يقرن الفلسفة بذكاء السؤال أكثر مما يستسهل الأجابة، الفلسفة تحترم أسئلة الأطفال وتحافظ عليها طول العمر وهى تعيد النظر ليواصل الإنسان تجديد طفولته وهى التي تحافظ على علاقته بالطبيعة والكون وربه، وهى ليست قاصرة على مادة الفلسفة التي تدرس في الجامعة أو يتباهى بها أكاديميون، أما علماء اليوم – مع احترامى لكثير منهم – فقد أصبح الكثير منهم أدوات فى خدمة مؤسسات التكاثر والطبقية، وبعضهم نحت للعلم صنما يُعبد ويُقدس على حساب تطويره ونقده وخدمة جموع الناس، وقد بلغ من تقديس هذا العلم المؤسسى الوصى أن ظهرت أعمال تنقذه إذْ تتكلم عن ضلال العلم أو Delusion of Science وهى أعمال تشير إلى عبادة نظريات علمية ثابتة ممنوع الاقتراب منها بالنقد أو المراجعة تحت زعم الموضوعية والأساليب الضابطة الأحدث.
6- انت القائل الزحام مؤدى للجريمة.. والعدوى أيضا؟
د. يحيى:
لا أذكر هذا القول تحديدا وإن كنت أوافق عليه وأفضل عليه قول وينكوت Winnicot الصحة النفسية هي أن تكون “وحيدا مع” أي أن تتمسك بتفردك فردا متميزا، ولكن فردا قادرا على مواصلة نشاط برنامج “الدخول والخروج” إلى الجماعة ومنها، لتصبح أكثر ثراء وأوسع وأشمل وعيا وتقاربا ضاما يقظا معا: دفعا إلى مواصلة التطور.
7- من صاحب التأثير الأقوى في المجتمع: النجوم أم كباتن الكرة أم المثقفون؟
د. يحيى:
هذه المفاهيم الثلاث تحتاج إلى تعريف قبل الإجابة:
فإذا كنت تعنى بالنجوم “نجوم السينما أو التليفزيون” فتأثيرهم أقوى عن من لا يعرف نجوما غيرهم، أعنى من لا يعرف نجوم الفكر ونجوم العلم ونجوم الإبداع مثلا.
أما تعريف المثقف حاليا فهو أصعب من تعريف النجم والكابتن، فلم يعد المثقف هو عضو المجلس الأعلى للثقافة، ولا الحائز على جائزة الدولة كذا أو كيت، وإنما المثقف هو الشخص الذى يمثل وعى مجموعة الناس الذين ينتمى إليهم فردا بينهم فيمثلهم، فالكبير الحكيم الذى يمثل وعى قريته هو مثقف قريته، والعالم الجهبذ الذى يمثل وعى مجموعة علماء مركز أبحاثه هو المثقف بين زملائه.
وبهذا الإيضاح، وبعد تخثر وعى الجماعات لظروف خارجة عن اختيارهم، أصبح تأثير المثقف أقل فأقل.
أما عن كباتن الكرة فهم قد أصبحوا ألمع وأشهر من كثير من النجوم خاصة، إذا جاءت نجوميتهم من إنجازات عالمية تشرفنا، في وقت نحن أحوج فيه أن ننتباهى “بشعر بنت أختنا” (دون ذكر المثل الأصلى)
ثم يأتي دور العلماء ونرجع إلى الشك الذى أشرت إليه في الإجابة على سؤال سابق وكيف أن كثيراً منهم عبر العالم أصبح أداة تسويق لمؤسسات مالية وسلطوية أكثر منه أداة كشف للحقائق واثراء المعرفة
8- هل لدينا “مصطلح النخبة” الآن؟
د. يحيى:
نعم يوجد من حيث المبدأ، أما من حيث تحديد أفراد بعينهم على أنهم يمثلون النخبة فقد أصبح هذا أمر مستبعد، لكن لكل فئة نخبتها التي تمثلها، وتميزها في نفس الوقت.
9- هل ضعف سلطان العادات الحميدة والثوابت والأعراف. ولم ؟
د. يحيى:
في ظاهر الأمر أنه ضعف ويجرى هذا الحكم على ألسنة كبار السن – مثلى – عادة حين يحكمون على الجيل الأصغر فالأصغر بأنهم أصبحوا أقل تأدبا وأكثر تبجحا.. الخ، لكننى أعتقد أن هذا تعميم جائر، وأود أن أنبه أن الجيل الأصغر يرد على مثل هذه الاتهامات بأن الأكبر يزداد جمودا، وتصلبا وضيق أفق كلما تقدمت به السن.
10- هل تراجع أطباء النفس عن دورهم في المجتمع والتوجه النفسى السليم ؟
د. يحيى:
لا أظن، بل الأرجح أن دورهم قد زاد بغير وجه حق، خاصة على مستوى الإعلام (ولا أقول الإعلان) أما على مستوى التربية والتعليم وتنمية الانتماء وتطوير العلم وتدعيم الصحة النفسية والوقاية فأظن أنه تراجع.
11- حالات تنمر مجتمعى من ملاحظاتك كمفكر راصد؟
د. يحيى:
أنا أسمع عن حالات التنمر عامة خصوصا في المدارس وعند الجيل الأصغر، أما التنمر المجتمعى، وخاصة بالنسبة للفضائح المقصودة، والتشهير الكاذب عبر وسائل التواصل المختلفة فقد زادت وتدنى منهم للأسف إلى مدى بشع مقزز.
12- ما أهمية العالم النفسى على مائدة صاحب القرار؟
د. يحيى:
هي أهمية أخذت أكتر من حقها، لكنها مازالت أهمية حقيقية
ولكن علينا أن نتذكر أنه لا تصدر التوصيات النفسية والتفسيرات التأويلية السياسية من علماء النفس أو أطباء النفس فحسب، ولكنها تصدر من أي مبدع أو مشارك بعمق في تركيب ومسار النفس الإنسانية ودوافعها.
ونحن مازلنا نذكر سلسلة مقالات الأستاذ حسنين هيكل التي كانت تصدر في الستينات عن “العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط” وحتى بعد نكسة 1967، على أن هناك تخصص فرعى يسمى علم النفس السياسى وأحيانا الطب النفسى السياسيى وله إسهاماته بلا شك كما أن له أخطاءه ومثاليته، وينبغى أن تؤخذ توصياته بحذر، وقد حاولت إسرائيل أن تستعمله حتى في علاقتها معنا على قنوات متنوعة وفشلت في ذلك والحمد لله.
13- هل الحضارة الأوروبية هي الحضارة الإنسانية الوحيدة؟
د. يحيى:
لأ طبعا، لا التاريخ يقول ذلك، ولا الجغرافيا الحالية تقول ذلك، فالتاريخ يحكى لنا أن الحضارة لها حلقات ازدهارها وهبوطها، وهو يحاول تفسير كل مرحلة بآليات تناسبها، وحاليا لا يمكن أن تكون حضارة الولايات المتحدة الأمريكية مثلا (مع أنها تفتقر إلى قدر متجانس حتى تستحق هذه الكلمة) بحضارة الصين أو حتى حضارة اليابان، ناهيك عن ارتباط كثير من الحضارات بتاريخ الأديان والاختلافات المعرفية والأيديولوجية في كثير من الأحيان، أما الحضارة العربية فهى تحتاج إلى بعث يجددها وينقيها وينميها من كل أبنائها حتى يكونوا أهلا لتاريخها.
14- هل زمان التنوير هو الزمان الماضى ، ألا يوجد ملامح تنوير معاصر؟
د. يحيى:
أعتقد أننا في زمن تنوير خطير غير مسبوق، وقد امتلك العالم أجمع أسلحة أمضى وتكنولوجيا أسرع من أي وقت، ولكن كل هذا هو سلاح ذو حدين، فكل الأدوات الأحدث من تقنيات ووسائل تواصل وتوصيل، لا يمكن الاطمئنان إلى ترجيح أي حد هو الذى يقطع الشر والآخر يقطع الخير، لكن انتشار هذه الأدوات بين عامة الناس عبر العالم ومنذ الطفولة يمثل مسئولية أكبر كما يمثل خطرا أكبر من كل تصور، فلزم التنويه على التربويين والسياسيين والمبدعين.
15- هل دخل العقل العربى ملف التفكير المستقبلى؟
د. يحيى:
ليس بعد للأسف، اللهم إلا في الشكل الخارجي وإن كانت توجد استثناءات رائعة ومشرفة
16- هل انتهى بالفعل زمن الإيدلوجيات؟
د. يحيى:
للأسف لم ينته هذا الزمن بل بولغ فيه وتجلى فى تشنج كل فريق بالقبض على مذهبه، بل وأخذ أشكالا أخفى وأخبث، فمعظم التعصب الدينى الحالي يخفى خلفه ايدلوجية غير معلنة، أما التعصب السياسى فقد خفّت أصوات ايديولوجياته بعد أن توزع الناس فيما بينهم حسب المصالح العاجلة، وبزوغ الطبقات الجديدة، وليس حسب المبادئ والانتقاء الطبيعى، ولعل ما أصاب المؤسسات السلطوية العلمية أو التي تسمى نفسها كذلك هو نوع أحدث وربما أخطر من أنواع الأيديولوجيات، فهو يقف بالمرصاد لأى إبداع منهجى أو نقد ثائر لا يملك إمكانياته المادية المغيرة.
17- ما فضل محمد حسنين هيكل على الكتابة والصياغة؟
د. يحيى:
لقد ذكرت مسبقا في الرد على السؤال رقم (12) سلسلة كتاباته في الستينات عن العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط، لكن إسهامه في تكوين المدرسة التي تنتمى إلى فكره وأسلوبه هو إسهام تاريخى لا يمكن التهوين من شأنه وتأثيره الممتد حتى الآن، وأعتقد أنه أخذ حقه في الاحترام والتقدير، ونال أقل من ذلك في النقد والمؤاخذة.
18- ما ملاحظاتك على نمط الحوارات الفكرية؟ (شيخ الأزهر والدكتور الخشت نمطا)؟
د. يحيى:
هذا الحوار بالذات من أهم الحوارات الأحدث، مع أننى لم أتابعه تفصيلا، وأعتقد أن الاحترام المتبادل، واللهجة المتوازنة تعطيه فرصة أكبر للوصول لكل أو بعض من يهمه الأمر وخصوصا من الشباب، والجادين والمجددين.
19- ما هي سلبيات العقل المصرى من مرصدك؟
د. يحيى:
عندك يا رجل، وهل مجرد ذكر السلبيات هو السبيل للإقلال منها أو التنبيه إلى مخاطرها، ومع ذلك فدعنى أقول لك أن مرصدى قد رصد سلبيتين أفزع كلما حاولت أن أبدأ تتبع أثرهما وحجمها:
الأولى هى: الكسل العقلى (ويظهر أكثر في عزوفه عن النقد والمراجعة)
الثانية: هي خصّام الوقت وإهداره
20- ظاهرة الصالونات الثقافية التي كانت، لماذا غابت؟
د. يحيى:
ليس عندى علم تفصيلى بغيابها
كما أننى لم أكن من روادها، اللهم إلا في السنوات الأخيرة التى أكرمنى فيها شيخنا الجليل المبدع نجيب محفوظ وسمح لى بأن أشارك فى أغلب لقاءاته الأسبوعية حتى اختاره الله برحمته، وقد تعلمت منه ومنها ما كان ينقصنى حتى في مجالى النفسى شخصيا.
(21)- ماذا يوقظ الوعى القومى؟ وما هى أكثر أدوات التأثير فاعلية عليه؟
د. يحيى:
الشعور بالخطر (ولتكن جائحة الكورونا مثلا)
والجدّية فى التعامل مع وحدات الزمن الأصغر فالأصغر،
والوعى أن ربنا سيحاسبنا على كل ثانية منحنا إياها بماذا ملأناها وكيف نسيناها وهى أمانة في أعناقنا.
(22)- ما ضرورة العيادة النفسية في المدرسة المصرية؟
د. يحيى:
لم أفهم جيدا ما تقصده بالمدرسة المصرية (ثانوى/ابتدائى أم مدرسة فكرية؟)
فهل تقصد أنه هل توجد مدرسة مصدرية نفسية تتميز بها الممارسة النفسية؟ إن كنت تقصد ذلك فأنا أنتمى إلى نظرية خرجت من ثقافتنا الخاصة جدا باسم “الطب النفسى الإيقاعحيوى التطورى”، وشرحها يطول، تتبناها جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى والجمعية المصرية للعلاجات الجماعية وبعض زملائى وطلبتى في كلية الطب قصر العينى.
(23)- (في مديح البطء) نظرية حراك عالمى يتحدى عبادة السرعة. كيف تراها؟
د. يحيى:
البطء الممتلئ بالفعْل ربما يعكس توصية الصوفى القائل بأن أعظم العبادة هى “أن تملأ الوقت بما هو أحق بالوقت” فإذا كانت هذه الوصية تتناسب مع هذه النظرية فأهلا بها وسهلا، ودعنا نحمل الأمانة معها
(24)- ما هي السعادة عند د. يحيى الرخاوى:
أن يكون وجودك مفيد لك وللآخرين
– ما هو التخلف؟
أن تكون “تابعا” طول الوقت
– ما هو الجمود؟
الثبات على المبدأ (جدا جدا … جدا)
– ما هو الانغلاق؟
ألا تسمع إلا نفسك
– ما هي العنصرية؟
أن تعتبر نفسك وأهلك هُمْ الأفضل دائما أبدا
– ما هو الجنون؟
أن تفشل أن تقلب تفككك إبداعا
– ما هو الرشد؟
أن تملأ الوقت بما هو أحق بالوقت
– ما هو الوقت؟
هو المسافة بين إنجازين
– ما هي الوطنية؟
أن تنتمى إلى ناسك بدءا بناس أرضك ثم تتسع بك الأرض إلى نهاية الدنيا وما بعدها
– ما هو التحضر؟
أن تواصل التحضر
(25) ما فاتنى ولم أسألك عنه؟
(س) كيف تحافظ يا مفيد يا إبنى على حيويتك وصحصحتك هكذا؟
بارك الله فيك وحفظك
(جـ) بالحرص على الاحتفاظ بالحيوية، ومتابعة الجارى، وحمل المسئولية.
[1] – نشر الحوار في جريدة المصرى اليوم 12-7-2020