تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 1 من ؟)
نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 21-1-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4891
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 1 من ؟) (1)
تقديم واعتذار
كنت قد بدأت في نشر هذا العمل مسلسلا اعتباراً من نشرة 17/5/2020، ثم توقفت بعد ثلاث نشرات مختصرة مفضلا البدء بقراءة أحلام فترة النقاهة، نظرا لما ورد فيها من جرعة النقد المناسبة، ولم ينس ذلك أصدقاء الموقع وألحو فى طلبها مرارا، وبمجرد أن انتهيت من الأحلام عدت إلى طلب الأصدقاء ووجدت أنه علىّ أن أبدأ من البداية مع الاعتذار عن تكرار النشرتين الأولى والثانية، وسوف أواصل نشر هذا العمل تباعا كل خميس أسوة بما فعلنا مع قراءة أحلام فترة النقاهة.
يحيى
مقدمة
…وهذا عمل آخر نتعرف من خلاله على هذا المبدع الكريم الصديق العظيم من زاوية أخرى تقع بين السيرة الذاتية وإبداع القصّ القصير والقراءة النقدية المتواضعة،
أرجو أن يتحمل القارئ نشره فى حلقات مثل الكتاب السالف الذكر “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”.
يحيى الرخاوى
21-1-2021
مقدمة الطبعة الحالية
لم أجد ما أضيفه على المقدمات الثلاث (2) التى تصدرت “الطبعة السابقة” فحمدت الله ودعوت لصاحب الفضل بالرحمة وحسن الثواب، كما دعوت لنا بالوفاء والقدرة على الاستمرار فى مسئولية حمل الأمانة.
يحيى الرخاوى
1/1/2018
مقدمة (1) أبريل 1994
حدْس الكلمة
لا أميل إلى المبالغة فى إعلاء قيمة شخص فرد مهما تميز وأعطى، كما لا أحب تسمية عصر باسم شخص مهما كان هذا الشخص، وحتى كلمة عبقرى هى عندى كلمة تحتاج إلى تعريف دقيق، واستعمال حـَذِر. لكن ماذا أفعل فى شيخنا نجيب محفوظ هذا الذى يضطرنى إلى أن أفرح أننى أعيش زمنا أفرزه، ويجعلنى أكاد أخالف ما تقدم من تحفظ لأقف أمام شيخنا منبهرا، داعيا، فخورا متعلما، بلا حدود؟
أرجو أن يكون هذا اعتذارا لبعض المبالغات التى اضطرتنى إليها فرحتى بهذا العمل الذى أكتب هذه الكلمة عقب ظهور بداياته فى الأهرام.
هذه المقدمة الباكرة أثبتها كما هى مع أنها مغامرة بحق، لأنها تتناول عملا مسلسلا لم يكتمل، ينشر فى عدد أسبوعى فى صحيفة يومية، وأنا لا أحب (ولم أحب) أن أقرأ قصة طويلة أو رواية مسلسلة فى أى صحيفة أو مجلة، وبالذات لنجيب محفوظ، اللهم إلا أولاد حارتنا فى الستينات التى اضطررت لقراءتها مسلسلة حين رجحت أنها قد لا ترى النور مكتملة، لكن هذا العمل ليس قصة قصيرة، وليس رواية طويلة، وليس مسلسلا، بل هو عدة روايات متداخلة، هو أصداء فعلا لوجود متعدد الأبعاد غائر الأعماق، تجد فيها ذكرى عابرة تبدو عادية، لكن حين يحكيها شيخ – بفرحة طفل – تبدورائعة وخاصة ومتميزة، كما تجد فيها رواية طويلة طولها سبعين سنة يكتبها محفوظ فى أربعة أسطر وكأنه نشال انقض على وعيك فنشل غفلته حين أضاء بسطوره الأربعة مساحة لم تكن منتبها إليها، فإذابك أنت مؤلف هذه الرواية التى طولها سبعين سنة بالتمام.
ثم ما حكاية العنوان (أصداء)؟ ثم العناوين الفرعية؟
قبل أن أتناول العنوان تذكرت بعض ردود نجيب محفوظ حين طلب منه أن يكتب سيرته الذاتية فعقب بما بدا أنه تواضع، وهو ما استقبلتـٌهٌ على أنه يقظة من يخاف على كنزه الخاص الذى لا يعرف قيمته إلا هو: أن يوضع فى غير موضعه، قال ما أذكر معناه: إنه رجل مصرى من عائلة قاهرية متوسطة ليس فى حياته الخاصة ما يستأهل الانتباه والتسجيل فيما هو سيرة ذاتية، ثم تذكرت ما سمعته من أنه كيف تزوج سرا تقريبا، ولم يعرف بعض أصدقائه نبأ زواجه إلا حين اكتشفوا أن فتاة فى مدرسة ابتدائية إسمها أم كلثوم نجيب محفوظ، وأخيرا تذكرت ألمه الذى كاد يصل إلى غضب رافض (وهو نادرا ما يثور فى أحاديثه) حين عقب على نيله جائزة نوبل أنها كانت – أيضا- سبيلا إلى انتهاك خصوصياته بشكل أو بآخر، كل ذلك يعلن أن نجيبا لا يريد ولا يقر وربما لا يستطيع أن يرصد أو يسرد ما يسمى “سيرة ذاتية”.
لكننى عدت أسترجع علاقتى بكل أعماله فوجدت أننى لم أر فيها إلا نجيب محفوظ شخصيا، ليس فقط كمال عبد الجواد (الثلاثية) كما يزعم البعض، وهو ما أشار إليه إحسان عبدالقدوس حتى كادت تحدث القطيعة بينهما، وليس ما استشهد به جمال الغيطانى فى “نجيب محفوظ يتذكر”، وإنما أنا أراه فى، كل أعماله بلا استثناء (بلا استثناء: حتى ليالى ألف ليلة، ورأيت فيما يرى النائم)، وحين كتبت عن الشحاذ تلك الكتابة الباكرة التى نسختـها بعد ذلك، قلت إنه وصف ما هو اكتئاب وصفا يستحيل أن يعرفه إلا من كابده، وإلى درجة أقل: قد يعرفه طبيب نفسى قديم حاذق،
هذا الرجل الذى رفض أن يكتب سيرته الذاتية، هو هو الذى لم يكتب – كما استقبلته طوال رحلته – إلا سيرته الذاتية، وها هو يخرج علينا فى سن الواحد والثمانين، وقد ثقل سمعه وكاد يكف بصره، يتكلم وكأنه يهمس فى هدوء، لكن همسه يظل يتردد صداه متصاعدا فى وديان غفلتنا يهز جبال الصمت، ويتعتع الوعى المتجمد مما يحتاج إلى وقفة مناسبة.
وهذه هى.
سوف أكتفى فى هذه “المقدمة” بوقفة عند اختيار عنوان العمل “أصداء”، وكيف قرأت حضور حدس هذه الكلمة فى وعى هذا الرجل بما يذكرنا بموقع الكيان اللغوى للمبدع كمستوعب لتاريخ حى يتمثل فى حدْس فائق فى لحظات بذاتها.
حين قرأت العنوان وقبل أن أتحسس طريقى فى وديانه، وأيضا قبل أن أتوكأ على أدواتى فى مصاعد دروب جباله، حضرنى وعى خاص لا يحضرنى إلا وسط الجبال، أذكر أننى استشعرت مثل هذا الوعى لأول مرة بوضوح كاف، فى فالورسين قرب قمة مون بلان فى جبال الألب، ثم عدت أستشعره أعمق وأقرب فى شتاء سانت كاترين حيث الثلج الهش يذكرنى أن مصر هى “كل الدنيا” وليست فقط “أم الدنيا”، حين أنفرد بنفسى وسط الجبال، أبدأ بنداء أن: “ها” فأرد علىّ أن: “ها” “ها” ها”، ثم آه فيأتى الرد: آه. آه،.آه ثم: يحيى، يحيى، يحيى، يحيى، ثم يا رب، وحين أصل إلى يا رب، لا يتردد الصدى أن يا رب يا رب يا رب، وإنما يرد الصوت نعم، فأدعو بما تيسر، وأطمئن أنه “هو” وأننى حى أرزق (فهذا أمرليس مؤكدا طول الوقت).
هذه هى علاقتى بالصدى
قبل أن أقرأ أصداء محفوظ تردد فى وعيى إيقاع دورات “ملحمة الحرافيش”، وهمهمات “حكايات حارتنا”، وصور”المرايا” متبادلة متلاحقة متصاعدة مجسمة.
إذن فهى أصداء حضورنجيب محفوظ فى سيرته، وترددات جنبات ذاكرته، لكنها أبدا ليست سيرته أو ذاته المحدودة بوجوده الفردى البشرى.
صوت شيخنا يتردد، فتـردده جنبات الحضور المصرى، التاريخ: غائرة فى وجداننا المحيط بوعينا، ليكن.
هل يا ترى كان يعنى بالصدى ما يصلنى الآن من الكلمة؟
وهل يا ترى كان يعرف ما ذا يمكن أن تثير فى واحد مثلى كلمة أصداء (جمع صدى)؟ وما هى حقيقة وتاريخ وتقاسيم وتفريعات ما احتوته كلمة صدى و”أصداء” من نبض وإيحاءات ورؤى؟ صدى السيرة، صدى التاريخ، صدى الأحداث، نِعْمَ ما اخترتَ يا شيخنا؟
ثم رحت أقرأ الحلقات الأولى الثلاث (3)، فلا أجد -لأول وهلة -فى الحلقة آلأولى ما يشدنى، وتهزنى الثانية أكثر قليلا، أما الثالثة فقد جعلتنى أقفز وأنا أدعو له بطول العمر، وأتصور فقده فلا أستطيع، ثم إننا لن نفقده أبدا، سوف يظل صوته وستظل أصداؤه معنا حتى نلتقى هنا أو هناك. أقول حين وصلت إلى الحلقة الثالثة فهمت أكثر معنى أنها أصداء فعلا لما هو سيرة ذاتية، إنها نبش فى ذاكرة يعاد تخليقها، وليست سردا لأحداث يراد ترتيبها.
رجعت إلى بعض معلوماتنا الهزيلة عن الذاكرة والتذكر، وكيف يتناولها علم النفس والطب النفسى تناولا يسطحها لدرجة المسخ، وتذكرت ما تعلمناه فى الطب النفسى والباطنى معا، وكيف يؤثر السن على الذاكرة بالذات تأثيرا هو كذا وكيت، وكيف يؤثر تصلب الشرايين بالذات، وكيف يسرع المرض السكرى (الشهير بالبول السكرى أو السكرى فقط) بتصلب الشرايين ومن ثـَمَّ تدهور الذاكرة، ثم ماذا يحدث للذاكرة حين يقل التواصل عبر السمع والبصر جميعا فى العقد التاسع من العمر؟ ودعوت ربى أن يرى زملائى معى ما يؤكد لهم أن كل هذا كلام لا ينبغى أن يؤخذ على علاته، وأن العقل البشرى، يحفظ الشرايين ولا يخضع لها فقط، وأن الذاكرة بتشكيلاتها الخلوية والنيورونية تظل رائقة وحادة طالما أن الإبداع نشط وهادف، ينبغى أن نقف أمام الظاهرة البشرية -خاصة للمبدعين – نتعلم من عطائها لا نفرض عليها قصور ما نتصوره عنها، ينبغى احترام تعدد مصادر المعارف، فالعلم لا يفسر الأدب بقدر ما يستلهم أعظم معارفه منه، وهذا هو نجيب محفوظ يقدم لنا بعمله هذا فى سنه هذا، بكل مرضه بالسكرى، وصعوبة سمعه، وبصره، وتصلب شرايينه، يقدم لنا ما يعلمنا عن الذاكرة ما عـَجـَزت كل تجارب العلماء وغرور بعضهم وضيق أفق الآخرين أن يـَعْـلَموه أو يتعلَّموه أصلا، ناهيك عن أن يعلمونا إياه. وحضرنى تصور للذاكرة وأنا أكتب “الناس والطريق” (4) فرحت أتحدى به تصنيفات الذاكرة التى علمونا إياها (الذاكرة القريبة،العاجلة، الآجلة، اللحظية إلخ) وذلك أننى اكتشفت وأنا أعيش (حالة كونى كاتبا) تجليات أخرى %D
2021-01-21