نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 21 -3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4585
“عن الحرية والمخاطرة فى العملية الإبداعية” (1) (2 من 3)
بين حرية وحرية
الفصل بين الحرية الضرورية لتحريك عملية الإبداع، والحرية اللازمة لتسويق ناتجه ليست مسألة نظرية. إن الاهتمام بالأخيرة دون الأولى (أو أكثر من الأولى) يمكن أن يترتب عليه مضاعفات كثيرة، حتى لو بدت كأنها إنجازات بشكل أو بآخر. نورد بعض هذه المضاعفات -كأمثلة- فيما يلى:
لو أن حرية التعبير أصبحت كاملة (مائة بالمائة، وهذا مستحيل حتى فى أكثر الدول زعما بإطلاق الحريات) مع قصور فى توفير حرية العملية الإبداعية، فإن الاحتمال الأغلب هو الحصول على قدر هائل من الأصوات والكتابات من أقصى أطراف الاستقطاب دون إضافة حقيقية تدل على معنى الحرية التى تخدم الإبداع، وترسم الطريق إلى “الآتى”.
ذلك أنه على الرغم من احتمال السماح غير المحدود بحرية التعبير (والنشر) أحيانا (من الناحية الرسمية، أو القانونية، أو الحقوق المعلنة) إلا أن ذلك لا يمنع من قيام مؤسسات أخرى بتشويه هذه المساحة من الحرية، أو توجيهها الوجهة التى تريدها دون إدراك كامل من جانب المبدع يحميه من مغبة ذلك. بل إنه فى كثير من الأحيان تقوم هذه المؤسسات باختلاق قضايا زائفة، أو فرعية، تغرى المبدع بخوضها، وهو يتصور أنه يصارع من أجل حريته، فى حين أنه لا يخدم إلا تشويهها، وتزييفها. (تذكر مثلا سماح السينما الأمريكية بشجب حرب فيتنام لتفريغ طاقة معارضيها، فتستمر الحرب أطول).
ثم إن ما يجرى قصدا أو مصادفة من تصنيع غرائز مانعة للحرية مسايرة لما يغلب عند القطيع البشرى فى وقت بذاته: ما هو إلا مواكبة للحركة المانعة للحرية برغم ما تحمل من أسماء تغرى بأنها تنتمى إلى ما هو حرية وتحرر (مثل منظومة العقل الطاغى، ومنظومة العلم المؤسسى، ومنظومة الديمقراطية الإعلامية ومنظومة احتكار تفسير الدين، ومنظومة الطب التقليدي).
أخلص من كل ذلك إلى القول بأن التركيز على حرية الخارج هذه قد يترتب عليها الانسياق وراء الاكتفاء بالتركيز على المتاح من الحرية، دون اختبار يطمئن إن كان هذا المستوى هو حقيقة يمثل الحرية، أم أنه المستوى الأسطح الخالى من المغامرة الحقيقية، المكتفى بفرحة زعم الانطلاق، دون صراع المعيقات وقفز الحواجز اللازمين لجوهر الإبداع.
ضرورات لتوفير حرية إبداع حقيقية:
أولاً: مساحة كافية لاستيعاب حركية الوعي
الحديث عن المساحة التى يتحرك فى رحابها الوعى البشري، غير الحديث عن عمق الوعى أو حيويته، برغم التداخل الضروري. مجرد ذكر لفظ “مساحة” فى هذا المقام يحتاج وقفة، المساحة ليست سعة مكان بقدر ما هى عدد من الوحدات (المشتبكية، والجزيئية) مضروب فى عدد من احتمالات التربيطات. (تصل إلى البلايين فى حالة الإنسان، إذا اكتفينا بمشتبكات دماغه فحسب)، والإبداع يلزمه أكبر قدر من هذه المساحة المرنة الخلاقة.
ثانياً: تنشيط لأكثر من مستوى من “الوعى” معا
لا جدوى من رحابة المساحة (بالمعنى السابق) لتسع حركية مستويات الوعى مهما بلغت، إلا إذا تم التنسيق المناسب للتحرك فيها. الحركة فى المساحة المتاحة لا تسير عرضا فى رحابة امتدادها فحسب، وإنما هى تغوص طولا إلى أغوارها الحاملة للتاريخ (الفردي، والنوعي)، أعنى إلى مستويات الوعى البشرى الـمرتبة هيراركيا حاملة تاريخ الحياة برمتها، مستعيدة تاريخ النمو الفردى فى نفس الوقت.
حين نتحدث عن مستويات الوعى لا نقصد ما يسمى الشعور فى مقابل اللاشعور، ولا حتى اللاشعور الجمعي. الإنسان منتظم دماغه خاصة، ووجوده عامة، فى مستويات لها أسماء مختلفة حسب المدرسة النفسية أو العصبية أو الفلسفية التركيبية التى تصفها. هذه المستويات يمكن أن يـنظر إليها باعتبارها حالات ذات (ذوات) متنوعة، كما يمكن أن ينظر إليها باعتبارها منظومات دالة على مرحلة بذاتها من مراحل التطور الحيوي، وأيضا النمو الفردي. كل منظومة (مستوي) من هذه المستويات هى تركيبة كيانية متكاملة قائمة بذاتها، لكنها منتظمة -هيراركيا- مع سائر المنظومات الأخري، الأقدم والأحدث.
فى لحظة بذاتها يقوم أحد مستويات الوعى بالتفوق والقيادة (وعى اليقظة الظاهر هو المتقدم البادى عادة). فى حين تكمن مستويات الوعى الأخرى حتى يتغير الموقف والموقع والوقت (أثناء النوم مثلا) فتنتقل القيادة إلى مستوى آخر، وهكذا، هذا التبادل يدل على سلامة وكفاءة ومرونة التركيب البشري، وهو يتيح فرصة للتنظيم والأداء الراتب للعمل العادى والتكيف معا.
فى حالة الإبداع، تزيد الكفاءة والمرونة حتى يتم السماح بتنشيط أكثر من مستوى معا فى نفس الوقت، هذا ما يحدث أيضا فى حالة الجنون (أو بعض الجنون على الأقل)، لكن بصورة سلبية، وناتج سلبي.
التربية المهيئة لطلاقة الإبداع هى التى تسمح بطرح الأسئلة بنفس القدر، وأحيانا أكثر، من ذلك القدر الذى تعطى به إجابات حاسمة، وهى التربية التى تحترم الجهل والمجهول، بما فى ذلك الأحلام والشطح الغامض.
ثالثا: القبول بدرجة من المخاطرة
لا يوجد إبداع بدون مخاطرة، حتى فى الظروف التى وفرت المساحة الرحبة، والسماح لأكثر من مستوى من الوعى معا، حتى فى تلك الظروف ، فإن الإبداع الحقيقى لا يتم إلا من خلال درجة ما من المخاطرة. تأتى المخاطرة من مصدرين أساسيين:
الأول: إن عملية الإبداع هى خطوة إلى مجهول حتى لو بدأت من معلوم هادف فكثيرا ما تبدأ العملية فى اتجاه بذاته، لتحقيق فكرة ما، أو للكشف عن منطقة ما، لكن المبدع الحقيقى عادة ما لا يواصل المسير فى نفس الاتجاه الذى بدأ به ليحقق ما أراد. إنه عرضة دائما (ما دامت المساحة رحبة، و”الوعى نشطا”) أن يجد نفسه فى طريق لم يقصده، سائرا إلى مآل لا يعرفه.
الثانى: الإبداع هو مخاطرة نحو تجربة مرعبة، وهو فى نفس الوقت منزلق إلى جنون محتمل. لا يوجد مبدع – لحظة الإبداع- مهما تماسكت شخصيته، وترسخت قواعده، إلا وهو يخاطر بما لا يعرف، بما فى ذلك احتمال خبرة الجنون، حتى ولو كان ذلك للحظات محدودة، فى الإبداع الأصيل لا يوجد سقف للمخاطرة، حيث لا توجد قيم محظورة أصلا.
إن الأخذ بالمخاطرة فى مراحل العملية الإبداعية التى هى شديدة الخصوصية ليس له سقف. المخاطرة هنا تقتحم أى محظور من أى نوع مهما تقدس: دينيا، أو أيديولوجيا، أو علميا، أو عرفا، أو تقاليدا، أو محرمات، أو وعيا عاما، أو رأيا غالبا، أو ديمقراطية أو قانونا. المبدأ الأساسى فى هذا الموقف هو أن “كل شيء قابل للتناول، وكل مسلـمة قابلة للمراجعة، وكل مقدس قابل للفحص والنقد”، إذا انعدمت المخاطرة بإطلاق، مات الإبداع، أو تشوّه على أحسن الفروض برقيب أخطر وأكثر تحفزا. فقد يكون رقيبا جاهزا قديما معينا فى داخلنا منذ الولادة فيما هو جينات ووراثة، وقد يكون رقيبا لحق بنا منذ بداية التنشئة، وهو يمسك بيده المعجم القديم الثابت لتحديد المسموح من الممنوع، وقد يكون رقيبا من واقع سلطة دينية، (وليس الدين فى ذاته). سلطة تمادت فى التفسير والتحجيم والوصاية ، بما يعوق لا بما يخلق. وقد يكون رقيبا معينا (داخليا أيضا، وليس فقط فى الخارج) من قبل أيديولجية شاعت وتمادت، حتى أصبحت من المسلمات، باعتبارها النهاية القصوي. (مثل الماركسية حول منتصف القرن العشرين، أو العولمة المأمركة بديمقراطية موصى عليها حالا) وقد يكون رقيبا مؤلفا من كل ذلك.
المصيبة فى شأن كل هؤلاء الرقباء هى أننا نحن الذى نعينهم فى الداخل، بل إننا كثيرا ما نحتفل بمراسم تسلــمهم صولجان الرقابة. المصيبة الأخرى هى أننا – لذلك، ولغير ذلك- لا نحاول مقاومة هؤلاء الرقباء أو مواجهتم، ناهيك عن مخالفتهم، أو تحجيمهم (اللهم إلا فى طفرة إبداعية غير مأمونة العواقب) الرقابة فى هذا المستوى الداخلى أشد وأخطر بل إن رقابة غيْر مقدسة قد تـعين من قبل المنظومة التى تسمى “الحرية” حين تصبح قيمة مقدسة، لا حركية نابضة.
رابعا: حركية مناسبة ذات توجه جدلى ضام
بعد الطمأنينة إلى المساحة، والسماح بالتنشيط لمستويات الوعى معا، والأخذ بالمخاطرة بكل أبعادها، لا يكون الإبداع إبداعا إلا إذا اتصف بحركية نشطة، لا تلتزم باتجاه بذاته، اللهم إلا المثابرة حتى تمام التوجه (وليس تحقيق هدف محدد مسبقا) إن مجرد الحركة قد تمثل رعبا يفسر بما جاء عن المخاطرة فى الفقرة السابقة، يكون الأمر أكثر صدقا وأخطر إرعابا حين تكون الحركة طليقة نسبيا (لا كليا).
لا إبداع بدون حركة، ولكن ليست كل حركة إبداعا. ثمة حركة فى المحل، وثمة حركة مشتته، وثمة حركة زائفة، وثمة حركة ظاهرية فحسب.
الحركة التى تجعل التنشيط فى المساحة “معا” إبداعا هى حركة ضامة جدلية. إنها حركة تحتوى الأضداد دون تسوية، وتلملم الشتات دون محاولة الرجوع إلى التنظيم القديم مهما بدا أكثر أمـنا. فرط الحركة قد يكون – فى نهاية النهاية – ضد الإبداع، وضبط السرعة ليس عملية سهلة، أو جاهزة، أو ممكنة طول الوقت.
الرقيب على هذا المستوى هو قريب من الرقيب المختص بالتحذير من المخاطرة (الفقرة السابقة)، ذلك أنه عادة ما يبالغ فى مخاطر الحركة (سواء من الإفراط فيها، أو من العجز عن ضبط توجهاتها). هذا الرقيب يحد من حركية الإبداع ملزما بقواعد “تهدئ اللعب” كما يقولون. (المقصود هنا بالإلزام هو الإلزام الداخلى المسمى فى العادة “الالتزام”.)
خامسا :القدرة على التناوب بين الكمون والبسط
العملية الإبداعية ليست محدودة بوقت بذاته، إن لم تتم فيه ألغيت لتأخرها عن الموعد مثلا، قد يخضع الناتج الإبداعى لاحتمال تحديد زمن بذاته لإنجاز ما اتفق عليه فى عقد ما، أو التزام ما، أما العملية الإبداعية نفسها فهى مطلقة متراوحة فى الظهور والاختفاء، بين الكمون والإعلان.
لكى تكون الحرية التى نعنيها هنا متوافرة فعلا للعملية الإبداعية دون ربط مباشر بما هو إنجاز إبداعى محدد، علينا أن نحترم الكمون بقدر ما نحترم الظهور، كما أنه علينا ألا نطمئن طويلا إلى كمون طال، حتى لا ينقلب إلى نشاط توقف. التراوح بين الكمون والنشاط كصفة لازمة لحركية الإبداع ينتمى إلى فرض يربط بين “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”
الكمون جزء لا يتجزأ من تخليق الإبداع إذ يسمح بقدر من حرية التخمر والتوليف الداخلي، مثلما يهيئ للبسط فى طور آخر. لكى يتحقق إبداع لا يمكن تفضيل طور عن طور حيث يكمل أحدهما الآخر. إن من لا يعطى لحركية العملية الإبداعية حقها فى الكمون إنما يفرض عليها قهرا قد يشوهها أو يسطحها بشكل أو بآخر، كذلك إذا اقتصرت العملية الإبداعية على مرحلة الكمون فهى إبداع يتباطأ حتى يصمت، أو على أحسن الفروض إبداع مؤجل إلى أجل غير مسمى.
[1] – أصل المقال كان بعنوان: “تعليم تلقينى.. وسلطات قامعة عن الحرية والإبداع والقهر الداخلى” مجلة وجهات نظر – نوفمبر -1993
وهذا الجزء الثانى ثم اختصاره وتحديثه بشكل جذرى للأسف.