نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-10-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4424
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة السادسة)
…………
…………
مقومات الحرية وقيودها
ما دامت حركة الحرية بهذا التركيب المكثف، والبعيد جزئيا عن الوعى، والممتد طوليا فى الزمن، والمحتاج أساسا للآخر، والمتصل دوما بالحركة البيولوجية (وهى المشار إليها بالمرونة أساسا فى التعريف السابق) فإنه لكى نتدارس فرص الأديب المبدع (كمثال للإبداع) فى أن يكون حرا فى إبداعه، علينا أن نحاول الإجابة على تساؤلين يكمل أحدهما الآخر،(أو لعلهما واحد).
التساؤل الأول: ما هى المقومات الطولية فى نمو الإنسان (مشروع المبدع) حتى تتاح له فرصة مناسبة من الحرية تسمح له بالحركة التى تسمح له بتجاوز العادية لاقتحام الاختيار الأعمق بدرجة من الوعى والحركية، وهى التى تسمح له بالتالى بترجيح جانب الإبداع على جانب الجنون، وبالتحرك ما بين العادية والإبداع، بدلا من الإفراط فى تضخيم العادية خوفا من الجنون؟
التساؤل الثانى: ما هى معوقات الحرية، وبالتالى معوقات الإبداع؟
وللإجابة على هذين التساؤلين نقول:
المقومات القبـْلية للحرية (البنية الأساسية)
يحتاج الإنسان -للتمتع بالحرية القادرة على إتاحة الفرصة للإبداع- إلى بنية أساسية تحتية، تسمح بالقدر المناسب لترجيح فعل ما، ويتمثل ذلك فيما يلى:
1) المقومات الأساسية للحفاظ على الحياة بأبسط قدر من الضروريات.
2) درجة مناسبة من الأمان الأولى، بالإضافة، فى نفس الوقت، إلى درجة مناسبة من اللاأمان الأولى، وهنا يجدر بنا أن ننبه أن المسألة ليست “أمان” فى مقابل “لا أمان”، وإنما هى تناسب دقيق بين هذا وذاك (2) ، وأيضا ترجـَـحٌ مرنٌ بينهما .
3) جرعة مناسبة من المعلومات الأساسية.
(ثروة الأبجدية الحركية من المفردات والمعلومات ذات المعنى المناسب لمرحلة استعمالها، والتى لا تفرض وصاية دائمة تجمد محتواها فيها/ فينا = التغذية البيولوجية بالمعلومات الحية ) (3).
4) مساحة داخلية مناسبة لحركية المعلومات فى منظومات
(المساحة الداخلية هنا تشير إلى المرونة، والتبادل بين حدود الذوات، ومدى السماح لحركية الداخل التى نسميها أحيانا – من باب التقريب -الخيال أو التخيل أو غير ذلك، مما لا مجال لتفصيله الآن هنا).
5) مساحة خارجية مناسبة لتفعيل حركية المعلومات
(المساحة الخارجية هنا تشير إلى درجة السماح، وفرص النشر، وموضوعية الحوار، وحركة النقد، أنظر بعد: “تطبيقات”).
6) حضور حركى (فعلى وفى المتناول) للآخر/ ككيان حقيقى واقعى يقترب ويبتعد (وليس ككيان ذاتى مُسقط).
7) فرص مناسبة لتفعيل الحرية فى فعل قابل للتعديل من خلال التلقى وحضور الآخر جدلا مراجعا .
8) الحفاظ على مدى ودوامية تنشيط النبض الحيوى الإبداعى (بما يحمل الوعى به) بحيث يسمح النبض بإعادة التنظيم وخاصة فى ما هو طور البسط.
على أن ثمة متغيرات قد يبدو فى إعادتها هنا تكرار لمعلومات مدرسية (مثل الاستعداد الوراثى، وظروف البيئة وغير ذلك) لكن ذكر بعضها كأمثلة، من منطلق هذا المفهوم الذى قدمناه للحرية; خليق أن يساعد فى إيضاح بعض أبعاد الإشكالة.
ولنأخذ متغيِّراً متحـديا أساسيا يفيد التركيب الجاهز الذى لا يبدو فيه اختيار أصلا، وهو “الوراثة”.
العوامل الوراثيـة (كمثال)
ونحن نتكلم عن حركية البيولوجى ومرونة الوجود كأساس لما هو حرية لا بد وأن تقفز أسئلة ترجعنا إلى الأصل من حيث التركيب الجبـِلِّـى، الفردى أو الجماعى، فيا ترى; هل ثم استعداد خاص يسمح لفرد أو جنس بفرص ممارسة فعل الحرية (فالإبداع) أكثر من غيره؟
بكلمات أخرى:
هل يمكن أن يتصف فرد أو شعب (كما يشيع فى بعض الحماسة الوطنية أو التمييز العنصرى) بأنه أكثر أو أقل حرية من آخر، هكذا بطبيعته (الوراثية)؟
(ستكون الإجابة عن هذا السؤال – مثلها مثل أغلب الإجابات- تقريبية مبدئية بطبيعة الفرض المقدم).
فى ذلك نقول:
1- إنه لا يوجد مورّث اسمه مورث الحرية.
2- إن الذى يمكن أن يورَّث جزئيا هو “المرونة البيولوجية” (4) إن صح التعبير، وهذه المرونة لها مظاهر متعددة، على الجانبين: ففى ناحية قد تتجلى فيما يسمى الجنون الدورى، كما أنها فى ناحية أخرى قد تظهر فى إبداع فائق ذى حركية بالغة.
3- من المفترض أن تكون هذه القابلية التى قد تورث، مكتسبة من واقع المرونة التى سمحت بتطور النوع عبر تاريخ التطور (5)، وهى تختلف فى درجاتها حسب مسارات التطور السابق لكل نوع، وأيضا لكل مجموعة إثنية، ثم ربما لكل أسرة، حسب الفرص اللاحقة لتدريبها، أو حسب القهر الذى يحد من حركيتها عبر الأجيال. (هذا مع الإقرار أن الكاتب ينتمى إلى قبول توريث العادات المكتسبة ذات الدلالة التطورية من منطلق مفهوم البصم، والمفهوم الأحدث فى الهندسة الوراثية (أنظر بعد)
4- كما أنه يمكن أن يتدرب عليها من لم يرثها بدرجة كافية.
5- وأيضا يمكن أن يفقدها من لم يدعمها وينميها.
6- إن هذه المرونة والحركية – زيادة ونقصا- لا تحمل ابتداء وبشكل نهائى طريقة توجيهها إلى جنون أو إبداع أو عادية، وإنما هى تعلن قابلية المرونة، وسهولة الحركية، بصفة عامة فى مقابل جمود وانغلاق الإيقاع الحيوى، كما أنها قد ترتبط بزخم طاقة التحريك بشكل أو بآخر.
7- وبالتالى فإن المسئولية تزداد على المجتمع تجاه توجيه ناتج هذه الحركية – بقدر طاقتها الموروثة زيادة ونقصا- إلى ما هو إبداع أو إلى ما هو دورات فارغة أو مغلقة (اضطرابات الشخصية) أو شاطحة، عشوائية، متناثرة (الجنون) .
8- تظل مسئولية تعميق وتوريث الحركية المرنة من مسئولية الجنس عن بقائه وتطوره من خلال البصم (التعلم بالبصم Imprinting ) عبر الأجيال.
9- إن الوعى بما يرثه الفرد من تهيؤ يفيد المجتمع والمسئول المربّى أيا كان موقعه بما يسمح له بتوجيه وتعديل الفرص المتاحة بإرادة منتظمة، التى هى جزء أيضا من فعل الحرية.
10- وأخيرا تجدر الإشارة إلى الوراثة النوعية للمستويات التطورية (التنظيمات الهيراركية) إذ يختلف كل فرد، كما تختلف كل عائلة وإلى درجة أقل كل جنس فى مسألة قوة وضعف هذه المستويات، وحين نـرث مستوى أقوى من الآخر (أو أقوى مما هو عند غيرنا مما يماثله) إنما نرث تحديا فى مواجهة كيف يمكن أن يتاح لهذا المستوى أن يعبر عن هذا الحضور الغالب، وأين يقع الوعى به من مسألة التحكم الإرادى فى تناسب تعبيره عنه،
إذن نحن لانرث دونية عنصرية أو تميزا فائقا لفرد أو لجنس بذاته، وإنما وراثتنا لقوة هذا المستوى أوذاك إنما تشير إلى مسئولية الفرد والتربية فى محاولة استيعاب تنوع تجلياته السلبية والإيجابية، ومن ثم تصبح الحرية طولا وحالا هى فى ترجيح المسار، الايجابى، أو اختيار المسار السلبى.
خلاصة القول: إن الوراثة ليست عائقا فى ذاتها فى مواجهة ممارسة الحرية، لكنها مسئولية تؤكد أهمية استيعاب وتوجيه حركية البيولوجى فى تجلياته المتنوعة فى المجال المتاح، والممكن.
……………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – فى تنظير إريك إيكسون(childhood & society) لهذه المرحلة الأولى وهو يعرض ماهية الثقة الأساسية فى مقابل عدم الثقة Basic trust versus basic mistrust لم تكن الصياغة إما أو،(إما “ثقة” أو “لا ثقة”) وإنما كانت الصياغة – (“ثقة”فى مقابل “لا ثقة”)، وقد تناولت هذا فى الدراسة المقارنة للرباعيات الثلاث جاهين والخيام وسرور: يحيى الرخاوى “رباعيات ورباعيات” ص45-98 المجلد الثالث، العدد الأول (1982) مجلة الإنسان والتطور الفصلية.
المهم هنا أن اللاأمان هو ضرورة لحركية الإبداع مثل الأمان سواء بسواء.
[3] – استعملت تعبير “التغذية البيولوجية”، بقصدية محددة، وذلك لأمنع ترادف مسألة بيولوجى بما هو حسى عيانى، وفى نفس الوقت أعطى للمعلومة أبعادا وحضورا جسديين، فأشير إلى أن المعلومات المدخلة إلى المخ البشرى، والتى سيقوم بهضمها، أو تخزينها ثم إعادة محاولة هضمها، إنما تكون معلومات مثرية ومرنة ومتسقة وقابلة للتحريك وإعادة التنظيم بقدر ما تكون ذات معنى، وليست مجرد “جسم غريب محشور” (يستعمل من الظاهر)،وكلما كانت المعلومات المدخلة ذات معنى كان احتمال استعمالها كأبجدية للإبداع واردا، لكن بما أنه لا يوجد لفظ -مثلا- يحمل معناه بالضبط، ولا يوجد هضم وتمثيل كامل للمعلومات أبدا، فإن حركية الحلم والإبداع هى القادرة على مواصلة محاولة إتمام المهمة التى من المفروض ألا تتم أبدا (أنظر أيضا الفصلين الأول والثانى)
[4] – ليست مرادفة للمطاوعة العصبية meuronal plasticity، لكنها إشارة إلى حركية البيولوجية كلها من أول برامج المعلومات الداخل خلوية…..
[5] – يختلف الباحثون فى أصل الإيقاع الحيوى للكائن الحى، وللإنسان ضمنا: هل هو هكذا بطبيعة المادة الحية أم أنه نتيجة لتكيف المادة الحية مع عالم هو منتظم بإيقاع حيوى راتب منذ الأزل، وبصفتى أكثر ميلا إلى مقولة وراثة العادات المكتسبة، فإننى أميل إلى الرأى الأخير، أى إلى أن الإيقاع الحيوى الإنسانى لاحق للإيقاع الكونى الأصلي. أنظر مثلا:
Stroebel C. F.،in Kaplan H.and Sadock J. (1980) Comprehensive Text Book of Psychiatry] Williams & Wilkins Company P 67 – 70.