نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-1-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4166
مقدمة:
لعلها فرصة حقيقية ونحن نبحث عن تاريخ وأصول هذا الفكر العربى المصرى البسيط أن نرجع إلى المجلة الفصلية الأم الإنسان والتطور وننتقى منها بعض معالم هذا الفكر، وخاصة فيما يتعلق بتنمية الموقف النقدى، الذى ظل جليا من أول عدد من مجلة “الإنسان والتطور” (يناير 1980) مثلا فى باب جديد باسم “نقرأ معا مرة ثانية: مقتطف وموقف” حيث كنا نختار نصّا، ثم نقرأه معاً، بحروف مكتوبة، ثم ندعو للحوار، هذا وقد آن الأوان أن أعلن أننى شخصيا كنت مسئولا عن هذا الباب مسئولية كاملة – بلا توقيع – طوال عمر المجلة.
*****
مقتطف من مجلة الإنسان والتطور الفصلية (1980)
(مقتطف …. وموقف) (1)
هل العلاج بالعقاقير النفسية يطفئ الإبداع؟
مقدمة:
امتلأت الروايات والكتب والمجلات السيارة بالكتابات عن النفس الانسانية والتربية البشرية !! والسعادة السلوكية وغير ذلك من أفكار وأبحاث بالأكوام لابد وهى على هذا القدر من الوفرة أن تؤمل الانسان المعاصر فى فتح أبواب آفاق رحبة يحلون فيها بالجنة المرتقبة، أو ينتظرون وصفات السلوك السوى مغفلة فى أكياس المعامل الجديدة، مع تفاصيل طرق طهى الهناء والإبداع فى نشرات الأبحاث المنشورة على الأوراق المصقولة بالحروف السوداء اللاتينية فى الأغلب، والعربية اللاهثة وراءها.
وقد اعتادت المجلات عامة والمجلات المبتدئة خاصة أن تخصص فصلا اسمه “مقتطفات” تعرف به القاريء فى إيجاز عن بعض ما نشر من أبحاث ومقالات وكتب فى مجال تخصصها، وهى بذلك تقدم للقاريء خدمة جليلة لأنها تتيح له الفرصة أن يلم بالجارى هنا وهناك فى إيجاز طيب فتوفر عليه الجهد والوقت، وأغلب الدوريات تقف من “المقتطف” موقفا محايدا، وهى بذلك تؤدى خدمة جليلة أيضا لأنها تترك الفرصة للقاريء أن يحدد موقفه بنفسه، وحين فكرنا فى مثل هذا الباب، أحسسنا أننا نختلف، فهذه المجلة لها موقف، ولابد أن يكون هذا الموقف معلن ومسئول، وأن نلحق رأينا بالرأى الذى يقدمه البحث أو المقال أو المعلومة التى ننشرها، وعلى القاريء أن يتخذ موقفا جديدا من واقع متعدد الأطراف، وليس من معلومة مقدمة له وكأنها التنزيل المنزه..
ولابد أن نعترف أننا ونحن نحاول أن نسهم فى مسيرة الانسان وتطوره، لابد أن نعترف أننا نحتاج أن يعاد تعليمنا “كيف نقرأ”، أى كيف نتغذي، وننقذ، ونرفض، ونعيد النظر ونتساءل، ونتحمل الخيرة، ثم نعيد النظر ثانية، ثم نقبل استمرار الحيرة، وفى كل ذلك نحن نتخذ موقفا محددا باستمرار، ومن وظيفة الذين يحملون مسئولية الكتابة والنشر أن يعلموا الناس وهم بتعلمون القراءة الجديدة المسئولة.
فإذا عنونا الباب أن “نقرأ معا مرة ثانية” فنحن نعنى التعلم والتعليم معا، وسنبدأ هذه المرة بنموذج لهذه المحاولة آملين أن يسهم القراء والزملاء معنا فى المستقبل فى تزويدنا بما يستمر به الحوار من ناحية، وبما يفتح آفاقا جديدة مفيدة ومثرية.
المقتطف:
“تأثير بالعلاج الليثيم فى مرض الهوس والإكتئاب على الانتاج الفني”
اعداد: موجنس شو (2)
المجلة البريطانية للطب النفسى المجلد 135 عدد أغسطس 1979.
أجرى هذا البحث على 24 فنانا يتعاطون علاج الليثيم ممن استجابت نوباتهم لهذا العلاج بحيث خففت من حدة النوبة أو منعت الارتجاع إلى درجة كبيرة، وقد سئل أفراد العينة عن انتاجيتهم الفنية ومدى ما تأثرت به مع هذا العلاج، وقدد قرر اثنى عشر منهم زيادة فى إنتاجهم كما قرر ستة آخرون أنه لم يحدث تغير يذكر بهذا الشأن وقرر الستة الباقون أن إنتاجيتهم قلت من ذى قبل.
ويبدو أن تأثير هذا العلاج على الانتاجية الفنية يعتمد على درجة شدة نوع المرض كما يعتمد على الحساسية الفردية وكذلك على ما تعوده الفنان من كيفية استثمار طاقة نوبة الهوس بوجه خاص.
وقد اعتمد الباحث فى بحثه على انتقاء الفنانين ذرى الأدوار الإنشائية الأساسية (وليس الفنانين أو التابعين) ممن يعانون من مرض الهوس والإكتئاب والمستمرين على العقار.
وكان هؤلاء الفنانين من بلجيكا وكندا وتشيكوسلوفاكيا والدانمارك وانجلترا وإيطاليا والسويد وسويسرا وألمانيا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد اتبع طريقة دراسة الحالة (تقرير اكلينيكى) (3) وكان أمينا كريما حين اعترف بفشله فى جدولتها بل لعله رفض ذلك فى حقيقة الأمر منعا للبس الذى قد ينشأ عند القاريء من مظنة أنه يقوم نتائح “كمية”.. وهذا غير حقيقى ومضلل إلى حذ ما، ثم قدم حالات كل حالة فى بضعة سطور ليس إلا ليتعرف عليهم القاريء أساسا، وقد جمع معلوماته من مصادر عدة من بينها المقابلات الكلينيكية الخاصة، وقد راسل واحد وقابل أربعة وحصل على المعلومات الباقية من الأطباء المعالجين بعدا استئذان المرضي، وبتواضع العلماء بدأ نقاشه بأن هذه العينة صغيرة لدرجة يصعب معها اعتبارها ممثلة تمثيلا طيبا للظاهرة.
وأثناء النقاش أشار إلى “إنه من الصعب، وربما من المستحيل أن نقيس القدرة الإبداعية بواسطة اختبارات سيكومترية موضوعية” وأشار إلى بحث قام به آخرون مستعملين اختبارات لقياس الادراك الجمالى والطلاقة اللفظة بعد إعطاء الليثم وعقار خامل لأشخاص عاديين ولم تظهر فروقا دالة.
وانتهى نقاشه إى اقتراحات متواضعة ونافعة تقول:
1- إن زيادة الانتاج الفنى أثناء علاج الليثيم كلن نتيجة مباشرة للحيلولة دون فترات الهبوط الاكتئابى أو النشاط الهوسي، وكلاهما يعوق الانتاجية الحقيقية، وقد قرر أفراد كثيرون من العينة تحسن نوع الانتاج وكمه معا.
2- إن بعض الحالات التى لم يتغير إنتاجها من الناحية الكمية قررت أن تغيراً “نوعيا قد حدث” حتى وصف أحدهم رسما تغيرت طريقته أثناء تعاطى الليثيوم حتى سمى هذه الفترة “المرحلة الليثيمية” (4)
3- إن تحليل النتائج فى هذا البحث فى البحوث القريبة فى التراث يشير الى أن عددا من الفنانين تهبط إنتاجيتهم الفنية مع الليثيم لأنه يبدو أنهم كانوا قد تعودوا أن يعتمدوا فى إنتاجهم على استثمار نوبات هوسهم، فإذا أعطوا الليثيم، وضبطت هذه النوبات فقللت إنتاجيتهم، وبلغ الآمر فى بعض الحالات أن نشأ موقف غير محتمل حتى فضلوا المرض مع الانتاج الفنى عن الصحة مع العجز عن ذلك أو إنخفاضه.
4- يبدو كذلك أن فترات الاكتئاب التى تتراءى فيها أشباح الموت وما إليه، تعطى مادة وخبرة تصلح للإبداع، إن لم تكن أثناء فترة الإكتئاب فبعدها مباشرة، وعلى كل حال فلم تثبت أى من الملاحظطات المتاحة حسب هذا الفرض بصفة خاصة.
5- إنه يمكن الافتراض أن الإبداع فى مجالات أخرى – غير الفن – قد يخضع لنفس الاحتمالات.
***
الموقف:
والآن … كيف نقرأ هذا البحث؟
كيف يفيد منه الشخص العادى؟ وكيف يفيد منه الممارس الإكلينيكيى فى العلاج، وكيف يفيد منه الباحث فى نفس المجال؟
إن لنا – هذه المجلة – موقفا تجاه كل كلمة وكل معلومة وردت به كما أن لنا تعليقا على كل من طريقته ونتائجه جميعا.
وباعلاننا لهذا الموقف وذكرنا هذا التعليق نسهم بدورنا فى أن يتخذ القاريء ما يشاء من مواقف، بناء على ما أثاره هذا الحوار..
أولا: لعلنا ننتبه كثيرا – أن نخجل إلى الحد الذى ينبغى – حين نستعمل كلمة الفن بلا ضابط ولا رابط، فتنشأ ناشئتنا وفى تصورها أن الفنانين هم الآلاتية والممثلات، ولا نوصل إليهم معلومة بسيطة ومركزة عن ماهية الفن كموقف إبداعى فى الحياة، وهذا هو أول ما يوحيه قراءة العنوان، والأمر الثانى ألا نجعل كلمة الفن دائما مرادفة للإبداع، وقد شرح الباحث كيف إنه اختار نوعا محددا من الابداع هو “الفن” دون بقية أنواع الإبداع فى المجال العلمى وغيره، وقد ذهب سيلفانو أريتى فى كتابه “الابداع” (5) إلى توسيع مفهوم الابداع حتى الابداع الديني.
ثانيا: إن تقييم عقارٍ ما يحتاج إلى أبعاد جديدة غير الأبعاد المألوفة من أن الأعراض اختفت أو أن المرض زال، والباحث هنا يبحث بعذا جديدا ولكن عند فئة بذاتها وهى الفنانين، فهل يا ترى نعتبر ونحن نقيم مفعول عقار أو علاج ما حتى مع غير الفنانين لنعرف أن هذا العلاج أو ذاك قد أطفأ الموقف الإبداعى للحياة أم أثار؟ وهل يا ترى تفتح الآفاق لأن نعرف أن الانسان السوى ليس هو الذى بلا أعراض، وإنما هو الانسان القادر على التجدد والتغير والاسهام مع المجموع؟ وهل تستحق هذه الصفات أن توضع فى الاعتبار ونحن نقوم علاج ما؟ أو ونحن نعطى علاجا ما.
ثالثا: إن المتحمسين من مناهضى الطب النفسى يدعون – خوفا أو إجتهادا – أن مثل هذه العقاقير – بصفة عامة – هى مثبطة لإبداع الانسان ومشوهة لبشريته، فهل يا ترى يراجعون موقفهم حين يعلمون أن البحث العلمى – بلا تعصب مسبق ولا مقاييس مشكوك فى أمرها – يمكن أن يخفف من غلوائهم حتى تصبح الكيمياء كما ظهر من هذا البحث مسخرة لخدمة التطور كما ذكر يحيى الرخاوى (6) وبالتالى تصبح القضية ليست فى “هل نعطى العقار أم لا” ولكن تصبح كيف نعطيه، ولمن نعطيه، ومن يعطيه، وكيف نقيس مفعوله، وكيف نضيع فى الاعتبار إبداعية الانسان وإنتاجيته الخلافة أثناء ذلك”؟
رابعا: إن أبحاث الإبداع لها نصيب الأسد فى أبحاث الزملاء علماء النفس الأفاضل فى مصرنا العزيزة، وهى تزدهر فى مركزين علمين أساسين هما كلية آداب القاهرة وتربية عين شمس (وغيرهما مثل تربية المنصورة … الخ) فهل يا ترى آن الآوان لتقويم هذه الأبحاث من جديد، حتى يمكن أن نوصى من واقع نتائجها بشيء يحافظ على ثروتنا البشرية الإبداعية فى مرحلتنا الخطيرة التى تمر بها؟ إن هذا البحث الذى خاطب المبدع مباشرة فى تقويم إنتاجيته خليق بأن يذكرنا بأن “دراسة الظاهرة” قد تستغرقنا على حساب الظاهرة ذاتها.
وكأن السؤال يقول: هل شعبنا أصبح أكثر إبداعا، أو يمكن أن يصبح أكثر إبداعيا تناسبا مع الافراط فى أبحاث الإبداع الجارية؟ وذلك بالمقارنة بفترة سابقة لم نكن نعرف فيها أبحاث الابداع أصلا وإنما كنا نعرف فيها الابداع شخصيا؟
وأين الخطأ فى ذلك؟
أهى الهوة بين البحث والتطبيق، أم يمكن أن يكون البحث فى الابداع قد أغنانا عن البحث عن الابداع، وتنميته وتوفير ما يمكن أن يثيره؟
إن قضية الابداع مرتبطة أشد الارتباط بقضية الحرية الحقيقية، الداخلية والخارجية، ونحن بعد أن استقطَبَنا الفكر الدينى السلفى من ناحية، والفكر اليسارى الجامد المتشنج من ناحية أخرى، أصبح الابداع مخاطرة قد لا يحلها البحث فيه، ولكن المحافظة عليه وفهم مصادره وفتح مجالاته وإطلاق طاقاته.
إن من أكثر الأمور أسفا أن يشعر قاريء أبحاث الإبداع أحيانا أنها – ذاتها – أبعد ما تكون عن الإبداع.
إن هذا البحث يثير قضية عصرية متكاملة، إذ يعتبر الموقف العلاجى للطب النفسى مجرد جانب واحد صغير جدا من هذه القضية..، تلك القضية التى يحذر منها كل محبى الإنسان المؤمنين بحتم تطوره ألا وهي: إلى أى مدى يمكن أن يسهم نتاج عقل الانسان فى تعويقه أو دماره؟
وفى مجال الطب النفسى تصبح مثل هذه البحوث غير المتعصبة أو المتشنجة هى إحدى مصادر المعلومات الهادية على طريق الصراع المحتدم بين العقل فى قفزات النمو وبين تأثير نتاجه على دفع أصالته.
خامسا: إن هذا الباحث الدانماركى إذ يأخد عينته الصغيرة (24 حالة) من عشرة بلاد متباعدة ليدرس نفس الظاهرة يذكرنا بعصرنا الذى أصبح فيه العالم قرية صغيرة نأمل أن يتواصل العطاء بين سكانها حفاظا على انلوع ودفعا للحضارة .
وبعــد
فلنقرأ معا مرة ثانية …
ولنفكر بهدوء .. ولكن فى يقظة
ولنتفق أو نختلف …
فهذه هى روعة الحوار.
[1] – عدد يناير – مارس 1980 مجلة الإنسان والتطور
[2] – الاستاذ “موجنس شو” يعمل استاذا للطب النفسى البيولوجى فى وحدة أبحاث الفارما كولوجيا النفسية فى معهد آرهاس الجامعي، المستشفى الطبنفسى فى رسكوف بالدانمارك.
Artistic Productivity and Lithium Prophylaxis in Manic Depressive Illness by MOGENS SCHOU.
[3] – Case report
[4] – Lithuim Period
[5] – Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York
[6]- يحيى الرخاوى: كتاب “عندما يتعرى الإنسان” الطبعة الرابعة 2017 (الطبعة الأولى 1969) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.