نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 3-11-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4082
مقدمة:
امتدادا لما أشرنا إليه سابقا، وبإصرار العناد والأمل: تم تخصيص اليوم “السبت” لمقتطفات من كتاباتى السابقة التى لها علاقة دالة بالفروض التى تعتبر إرهاصات أو أساس هذا الفكر الدائم النمو والتطوير،
وبالنسبة لمقتطف اليوم هو استكمال لما وعدنا به السبت الماضى (1) لتقديم شهادات من مبدعى الحكى، ثم شهادات من مبدعى الشعر الأسبوع القادم، وأنا أنشر الشهادات ثم تعليقى عليها فى محاولة الكشف عن عملية الإبداع حتى قبل الولادة.
*****
مقتطف من كتاب:
“حركية الوجود وتجليات الإبداع” (2)
“………………..
5 – 2 – 2
شهادات من مبدعى “الحكى”
…………
(د) مجيد طوبيا:
”.. مدخلى إلى القصة شحنة وجدانية تصرخ بداخلى طالبة الوصول إلى القارئ، شحنة تظهر وتنمو بسبب اختلافات بينى وبين غالبية من يحيطون بى، ورفضى لبعض ما استقروا عليه… وهذه الشحنة أو الفكرة تبدأ مبهمة بداخلى ولكنها سرعان ماتتجلى…”
قراءة فى الشهادة: (3)
يشير هذا المقتطف إلى “شحنة” “مبهمة”، ويصفها المبدع فى البداية بأنها وجدانية، ثم يقرنها باحتمال أنها فكرة، وهذا وذاك قد يشيران إلى ماسبق أن أوضحناه من طبيعة “المكد”، من أنه مُدْرَك كلى داخلى وأولىً، يصعب فيه فصل الوجدان عن الفكر، عن حفز الفعل، فيصفه الكاتب مرة بهذا ومرة بذاك.
وتفسير الكاتب لما يثير هذه الشحنة / الفكرة/ المبهمة بأنه “اختلافه عما حوله” هو تفسير متواضع، وغير ملزم فى الوقت نفسه، لأن هذه المواجهة المتأزمة مع الغير المختلف إنما تمثل فى العادة مرحلة سابقة، أو لاحقة، للتنشيط الأولى. كذلك فإن تصوره أن هذه الشحنة تصرخ للوصول إلى القارئ، قد لا يشير إلا إلى استقباله لإلحاح هذا التنشيط على الظهور، ثم دوره هو.. “ليتوجه” به: فإذا وجهته القارىء. ثم إن ارتباط الحركة بموضوع فى الخارج هو مايميز توجه حركية الإبداع عن دائرية الجنون المغلقة، “فالقارىء” هنا الذى تلح شحنة مجيد طوبيا الوجدانية للوصول إليه ليس بالضرورة هو “من يقرأ” عمله هذا بوجه خاص، ولكنه كل من يوجد، ومن يتلقى، ومن يسمح، ومن يتحرك “بجوار” ثم “مع”..، وهذا التعميم هو محاولة لعدم تخصيص حركية الإبداع بنوع خاص من التلقى، وفى الوقت نفسه نرى من خلال هذا المقتطف الفرق بين الجنون والإبداع. فى مسألة “العلاقة بالموضوع/الآخر”، ففى حين أن المجنون ـ رغم إلحاح عطشه ـ يواصل فى اتجاه إلغاء كل ما هو “آخر”، بدعوى اليأس منه (لم يسمعنى الآخر…) ثم الاستغناء عنه (يأسا مصنوعا) نجد أن المبدع يواصل محاولات السعى نحو الآخر، وإعلان توجهه إليه به قارئا أو غير قارىء.
(هـ) نجيب محفوظ:
”… تدب حركة من نوع “ما” (التنصيص من عندي) فينشط الكاتب لتوصيلها إلى القاريء بعد أن تتجسد له فى شكل معين، ما هذه الحركة ؟ قد تكون “أى شيء”، أو “لا شيء “بالذات… “.
قراءة فى الشهادة:
فنلاحظ هنا تعبيرات “تدب حركة” “ما”، فلم يستطع الكاتب المبدع هنا أن يلتقط من هذا الذى يدب (ينشط) إلا أنه من نوع “ما “، فهو ليس مجهولا كل الجهل، كما أنه ليس محددا بعد. وهذا هو أقرب شئ إلى حركية ”المَكَدْ”. ثم نلاحظ هنا تحديد استجابة الكاتب – مثل المقتطف السابق- بأن ثمَّ توصيلا يلح للإنجاز، وأن ثمَّ “آخر” يتوجه إليه التنشيط (تنشيط الكاتب فى مقابل ما تنشط من دبيب الحركة)، على نحو يؤكد الفرق بين حركية الإبداع المتوجهة (لا الموجَّهة)، ودوائرية الجنون المغلقة والمتناثرة معا على الرغم من حركتها فى المحل، أو للوراء.
ثم يعود الكاتب ليجهِّـل -بمنتهى اليقين المعرفى- طبيعة هذه الحركة فى أنها “أى شيء” أو” لا شىء بالذات” على نحو يتحقق معه الفرض الأصلى الذى أوردناه هنا، والذى يشير إلى أن الخطوات الأولى للإبداع تتميز بحركيتها وتوجهها أكثر مما تتميز بمضمونها أو هدفها (المحدد). وتعبير “لاشىء” هنا لايمكن أن يؤخذ إلا بما لحقه: “لاشىء بالذات”.
والفرق بين هذه الظاهرة كما تبدت هنا وبين التفكير العِهنى (4) فى الجنون هو أن التفكير العهنى غير المحدد هو بداية ونهاية، فى حين أن ما يقابله هنا هو مجرد بداية يتعهدها الكاتب بحرص حتى يتولد بها ومعها ومنها ماتطلقه من طاقة ومادة فى تضفر جدلى مع سائر المستويات.
(و) يوسف إدريس:
”.. الإبداع عندى أشبه مايكون بخلق الكون..، سديم من الإحساس يتكون داخلى، ثم يبدأ حركة هائلة الضخامة، بطيئة الوقع. وتتخلق الأفكار من هذه الحركة السديمية للأحداث والشخصيات.. وبتوقف الحركة تكون القصة قد تخلقت فيما أسميه القصة -الكون – الحياة التى هى أعلى مراحل السديم “.
قراءة فى الشهادة:
(أ) فنلاحظ هنا تعبير”السديم” الذى هو أقرب عندى إلى صورتين (معجميتين أصلا)، الأولى “السديم: الضباب الرقيق”، والثانية: “السديم: مجموعة نجوم تظهر بعيدة، تظهر كأنها سحابة رقيقة”، وكلا منهما يبدو أقرب إلى مايتفق مع تعبير “أريتي” عن المعرفة “الهشة” (بما اخترنا له بالعربيه لفظين معا: “الضبابية المدغمة”). ووصف إدريس لهذا السديم بأنه من “الإحساس” هو تقريب غير ملزم، فالإحساس فى هذه المرحلة مرادف للإدراك الأولى، وللحفز الغامض، وللانفعال المعرفى، وللتوجه العام جميعا.
(ب) ثم نلاحظ كيف أن هذا السديم ليس مثولا ثابتا، بل هو حركة أساسا (الحركة السديمية)، ومع أنه ألحق بها “للأحداث والأشخاص “، إلا أنها فى مرحلتها السديمية تلك ليست أحداثا بذاتها أو أشخاصا متميزين بقدر ما هى تنبيء، وتجزم فى الوقت نفسه، بأحداث وأشخاص “ما”.
(ج) ثم إن الأفكار تتولد من هذه الحركة، وكأن الأفكار هنا هى التى تنشيء من هذا الضباب الرقيق (أو تكثفه إلى) ما تَمْثُلُ به فى المستوى المفاهيمى للمعرفة، فهى ليست ترجمة الإحساس إلى مفاهيم بقدر ما هى تخليق لمفاهيم قادرة على استيعاب حركة السديم المنبعثة.
(د) ولا يخدعنا تعبير “هائلة الضخامة بطيئة الوقع “، فنتصور من خلاله أن هذه المرحلة تحدث فى وحدة زمنية كافية لرصدها هكذا بأى مقياس، فارتباط هذه السديمية بالكونية، إنما يتواكب مع عملية إيقاف الزمن (العادى) على نحو يجعل الجزء من الثانية يحمل هذا الإيقاع البطىء إلى حد الإيحاء بالتوقف، كما أن هائلية الضخامة هنا إنما تشير- فى الأغلب – إلى تمدد الذات – فى الكون- دون فقد لحدودها (بما يميزها عن الجنون).
[1] – أو ننصح بالبدء بقراءة نشرة السبت الماضى أولا، وهذا هو الرابط (نشرة 27-10-2018)
[2] – المقتطف: فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” (ص 165 إلى 167) (الطبعة الأولى 2007) المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[3] – سوف أذكر هذا العنوان دون إشارة كل مرة إلى أنه قراءتى شخصيا.
[4] – التفكير العهنى woolly thinking هو نوع من التفكير الفصامى يتصف بالهلامية والغموض والهشاشة، وفى نفس الوقت يبدو من بعيد وكأنه ضخم فخم قد يفيد شيئا، لكنه لا يحتوى إلا الشكل بلا فحوى تقريبا، وقد وصفناه بالعهنى استلهاما من الصوف المنفوش فى الآية الكريمة “… و تكون الجبال كالعهن المنفوش”