“يوميا” الإنسان والتطور
2007-11-15
نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة
نص الحلم (7)
ياله من ميدان مترامى الاتساع مكتظ بالخلق والسيارات وقفت على طوار المحطة أنتظر مقدم الترام رقم 3 والوقت قارب المغيب، أريد العودة إلى بيتى على الرغم من أنه لا ينتظرنى أحد، ويهبط المساء وتغلب الظلام على أضواء المصابيح المتباعدة وشعرت بوحشة وتساءلت عن آخر الترام 3، وخفتّ حركة الميدان وقلَّ مرور السابلة، حتى كدت أترك وحيدا فى المحطة فى ميدان خال انتظر تراما لا يجئ، وسمعت صوتا خفيضا فنظرت فرأيت على مبعدة يسيرة فتاة ينطق مظهرها بأنها من بنات الليل فازداد شعورى بالوحشة واليأس وسألتنى :
- أليست محطة الترام رقم 3؟
فأجبت بالإيجاب وفكرت فى مغادرة المحطة وإذا بالترام رقم 3 يقترب فى هدوء ولا أحد فيه سوى السائق وقاطع التذاكر وشئ من داخلى دعانى إلى عدم الركوب فوليت الترام ظهرى، ولبثت على حالى حتى غادر الترام المحطة، ونظرت فرأيت الفتاة بموقفها، ولما شعرت بعينى ابتسمت وسارت نحو أقرب منعطف، فتبعتها على الأثر..
القراءة
المسرح هذه المرة ميدان مزدحم بالناس (الخلْق) والسيارات.
والرقم 3 يعود من جديد، لكنه هنا رقم الترام لا عدد الأشخاص (راجع حلم (3) يومية 25-10)، (حلم (4) يومية 1-11) والراوى ينتظر الترام ليعود إلى بيته الخالى ممن ينتظره (فلماذا يرجع؟ أو: ربما لهذا هو ليس حريصاً بالضرورة على أن يسارع بالرجوع).
الوقت يمضى، والظلام يعم، والوحشة تزحف، والميدان يتناقص شاغلوه، وهو يريد أن يعود حتى لو لم يكن ينتظره فى بيته إلا الوحدة، لكن يبدو أن خاطراً يخايله أن الوحدة داخل جدران بيته أرحم من الوحدة فى ميدان عام، خاصة وأن الميدان نفسه بدا يعلن بدوره خواءه من الناس “وخفّت حركة الميدان، وقلّ مرور السابلة، كدت أترك وحيداً فى ميدان خال“
الانتظار يطول، والترام لا يجئ.
الانتظار هو الذى يمد الحاضر إلى المستقبل بشكل ما، ومع ذلك فقد يتجسد عادة فى وعينا باعتباره انتظاراً لشخصٍ ما، لحدٍث ما، لنقلةٍ ما فكرة الانتظار هى فكرة كامنة فى التركيب البشرى بصفة أساسية(1).
التى حضرت، أو أحضرها الانتظار، هى من بنات الليل، وبدلاً من أن يستقبلها الراوى على أنها “فرصة ما“، وقد حلّ الظلام، ازداد شعوره بالوحشة والناس، ليس هذا التواصل المأجور هو الذى يكسر وحدته فى الميدان. ولاهو بديل عن وحدته فى بيته حيث لا ينتظره أحد.
حركت البنت شيئاً ما بداخله، لا ليست …، ليس هكذا تنكسر وحدته، يبدو أن هذا الشىء الذى تحرك بحضورها، هو هو الذى حركه فى الاتجاه المضاد ليغادر المحطة، هو لعبة – آلية: “الكرّ والفرّ” على مدى حركية التواصل البشرى.
يلوح الترام فى الأفق ليعرّى موقفه أكثر،
يحضر الترام- بعد طول انتظار- لكنه ، يحضر خالياً من البشر،
يحضر ليعلن وحدة جديدة.
الميدان خالٍ، والترام خالٍ: وليس هناك من ينتظره فى البيت
وظهور البنت – بنت الليل – لم يزده إلا وحشة ..“فازداد شعورى بالوحشة”
فما جدوى أى شئ؟.
ما جدوى الانتظار، وما جدوى ركوب ترام خال من البشر، ترام لم يتميز إلا برقمه، ما جدوى أى شىء.
فليذهب الترام
وليذهب هو أيضاً
لكنه لم يذهب.
بل أرسل الدعوة إلى الفتاة، (ولماّ شعرت بعينى، ابتسمت)، فمضى وراءها ضد عزوفه الأوّلى عنها، وضد وحشته البادئة من قدومها.
هل هو تسليم أن هذا النوع من التواصل العملى الوقتى الصفقاتى هو المتاح؟
هل يعود من جديد ينتظر الترام رقم ثلاثة أو ثلاثمائة؟
بطائل أو بغير طائل؟
لم يقدم الحلم إجابات وتركنا نتساءل عن وجهتهما، ومصير وحدة الراوى، ودور الفتاة.
تركنا نتساءل عن مدى انتظارنا لما لا يكون
تركنا بعد أن تحرّك فينا كلّ من الانتظار، والأمل، والوحشة ، والحيرة…
هل نكف عن انتظار مالا يأتى ..؟
أم نتبع الموجود بغير طائل واعد؟
أنت وما ترى.
****
نص الحلم (8)
عندما اقبلت على مسكنى وجدت الباب مفتوحا على ضلفتيه على غير (العادة) وجاءتنى من الداخل ضوضاء وأصداء كلام.
دق قلبى متوقعا شرا، ورأيت من أحبابى ابتسامات مشفقة، وسرعان ما عرفت كل شئ، خلت الشقة من الأثاث الذى كوم فى ناحية داخل المكان .. عمال من متفاوتى الأعمار، منهم من دهن الجدران ومنهم من يعجن المونه ومنهم من يحمل المياه.. وهكذا نفذت المكيدة فى أثناء غيابى وذهبت توسلاتى فى الهواء.
وهل أطيق هذا الانقلاب و أنا على تلك الحال من الإرهاق؟
وصحت بالعمال: من أذن لكم بذلك، ولكنهم استمروا فى عملهم دون أن يعيرونى أى اهتمام، وقهرنى الغضب فغادرت الشقة وأنا أشعر بأننى لن أرجع إليها مدى عمرى، وعند مدخل العمارة رأيت أمى مقبلة بعد رحيلها الطويل وبدت مستاءة، وغاضبة، وقالت لى
-أنت السبب فيما حصل!
فثار غضبى وصحت
– بل أنت السبب فيما حصل وما سوف يحصل
وسرعان ما اختفت، ومضيتُ فى الهرب.
القراءة
يبدو أن منظر الباب المفتوح، والشقة الخالية، والأثاث المكوّم سوف يتكرر فى الأحلام بشكل متواتر. لولا نهاية هذا الحلم ، أو قل لولا ثلثه الأخير، لاعتذرت عن قراءتة ناقدا، لأنه وصل لى لأول وهلة أنه ليس حلما، فقد عشت معه شخصيا بعض هذه التفاصيل، لكننى تراجعت، فقد سحبنى ثلثه الأخير إلى ما هو إبداع يتجاوز الواقع، وذلك حين أعلن الراوى الغضب فالهرب، ثم تظهر المفاجأة حين تظهر الأم وهو لم يغادر العمارة بعد، وكأننى أسمع بينهما العتاب حول شأن آخر غير ما أغضبه حتى خرج طريداً أو هارباً هكذا، لعله شأن قديم بينه وبين أمه، أم الراوى لا الكاتب(!)، وأن هذا الشئ القديم هو الأصل الذى ترتبت عليه كل الأحداث، حتى الآن، بل والأحداث القادمة أيضا، وما الحدث الأخير إلا رمز لما اختلفا حوله قديماً وحديثا”.
هو يحّملها مسئولية ما حدث وما سيحدث، وهى تذكرّه بأنه المسئول، مهما كانت علاقتهما الخاصة هى الخلفية الأعمق لما حدث.
فيصلنى أن كلاًّ منهما مسئول مسئولية ممتدة.
والنتيجة: أنها تختفى
وهو يمضى فى هربه،
فلا هى تختفى، لأنها ظهرت (وتظهر) بعد رحليها الطويل
ولا يبدو أن هربه سوف ينجح حتى لو كان قراره “ألا يرجع إلى الشقة مدى الحياة”.
[1] – وربما تكون هى المسئولة عن ظهور المهدى المنتظر فى وعى الناس، حين تتعملق الفكرة مرضا، تصبح مسئولة عن تقمص بعض المرضى لهذا المهدى، أو للمسيخ الدجال المنتظر أيضاً، وهى – فكرة الانتظار – تظهر فى كثير من الإبداعات بشكل متواتر. على سبيل المثال ذلك النبى الذى يحمل قلماً ينتظر نبياً يحمل سيفاً ( ليلى والمجنون : صلاح عبد الصبور) أو فى انتظار جودو (صمويل بيكيت).