نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 4011
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
مقدمة
الحمد لله
لم يبق إلا الفصل الأخير ننشره غدًا، وتنتهى الورطة،
مع أن هذه الورطة على بعضها هى فى رأيى أفضل ما كتبت وليس عندى أى شك فى أنها ستصل يوما إلى أصحابها الساعين إليه فى “ملحمة الرحيل والعوْد”
وهذا هو الفصل السادس عشر
حارة السكر والليمون
-1-
لم يجد جلال مكانا أفضل من المكان الذى سبق أن قابلها فيه، نفس المطعم الصينى، وكان قد قبض بقية أتعابه عن تغطيته مؤتمرى العريش. وشعر براحة أنه سوف يرد لها الدعوة ولو بعد حين.
ـ أكاد أعرف لماذا دعوتنى هنا الآن.
ـ توفرين بذلك جهدا ووقتا.
ـ تحجج بما يتراءى لك، لست فى عجلة، أريد أن أجلس معك أطول مدة.
تعجب أن مشاعره تجاهها لم تتغير، هل تعادلت غيرته من محمود مع تعاطفه لحالتها الصحية؟ لا هذا ولا ذاك، هذه المرأة تشع حالة إنسانية خاصة تفرضها عليك فتعاملها بقوانين أخرى، الآن فقط تذكر تلك الليلة، وهل نسيها أبدا؟
ـ محمود هو الذى أخبرك أنه قال لى:
ـ ليس تماما، لكننى علمت بزيارتك له.
جلال لا يريد أن يخفى شيئا عنها، ولا يستطيع حتى إذا أراد، لكنه أبدا لا يقدر أن يفاتحها فى موضوع علاقتها بمحمود.
ـ فهو أمين، هل تصارحتما؟
ـ لا، لكنه لم يخف عنى مقابلته لك على أى حال.
ـ أريد أن أطمئن على صحتك أنت أولا.
استفسر منها عن معلومة أن مرضها لم يعد من قبيل ما يسمى سرطانا أصلا باعتبار أنه يمكن أن يشفى مائة فى المائة، وأن النجاح فى علاجه يعتبر فاتحة للانتصار على التحدى الذى يمثله خبث هذا الغول القبيح.
ظلت هى تسمع له باهتمام صبور، وهى تبتسم ابتسامة غامضة.
ـ ما هذا الطب كله؟ هل أطلعك أمين على نتائج الأبحاث، هل عرفت نوع الخلايا، هل هو الذى قال لك كل هذه المعلومات بهذا التفصيل؟
ـ … ومن غيره؟
ـ ومحمود؟
ـ محمود قال لى إنك تعرفين، ربما تعرفين أكثر، وهو الذى نبهنى إلى أنك وأمينا تخفيان الأمر عن بعضكما البعض.
ـ أليست هذه مسخرة بالله عليك؟
ـ طبعا، هى حكاية غريبة بالقياس بعلاقة المصارحة الرائعة التى تعيشانها منذ زواجكما.
فجأة توقف جلال عن الحوار، بدا وكأنه يخاطب واحدة أخرى، فى تمام الصحة والعافية، وأنهما يتحدثان بشأن مريضة أخرى مصابة بسرطان الدم هذا، السرطان هو السرطان، لكن هذا الوجه، وهذه الإشراقه، وهذا الجمال، وهذه الأنوثة، وهذه الحياة هى كلها ضد السرطان، التشخيص خطأ مائة فى المائة، مجرد شحوب بسيط فى الوجه زادها جمالا، مهما قالوا.
ـ هل أنت متأكدة؟
ـ مم؟
ـ من التشخيص؟
ضحكت فى دعة غامضة.
هذا كثير، لم يعد يفهم شيئا، لابد أن يشك، لا ينفع أن يتهمها بالتبلد، ليس الأمر كذلك، مهما كان؟ ماذا تعنى، هل فهم خطأ من محمود؟ طلب منها أن يؤجلا الحديث عن المرض.
ـ وهل نستطيع؟
ـ لا.
سكت طويلا وهو ينظر إليها، ولم يعرف كيف اغرورقت عيناه، تبعتة دون إنذار، ودون توقع، وبغير صوت.
طال الصمت. هم جلال أن يمد يده ليمسح دمعها، ولم يفعل، ولا جفف دمعه هو.
كان ملمس الدموع وهى تنساب فى صمت على صفحة وجه كل منهما يقول ما يريد لهما، وبينهما، وعبرهما، لم يكن جلال يعلم أنه يحبها إلى هذه الدرجة، بهذه الصورة، لم يكن يمكن للصمت أن يطول أكثر من ذلك، كانت هى الأشجع.
قالت:
ـ أظن أنك دعوتنى من أجل أمين، أليس كذلك؟
ـ بصراحة، نعم، لجأ الرجل إلىّ لست أدرى لماذا، ولم يطلب منى شيئا، هل مازلتما تخفيان الأمر عن بعضكما البعض.
ـ ليس تماما، لم يكن يمكن لهذا الوضع أن يستمر.
ـ أنا مرتبك، بم تصارحتما؟ علاج أم لا علاج؟ شفاء أم لا شفاء؟
ـ أقول لك الصراحة، هناك احتمال بسيط جدا أنه من النوع الذى يعالج، لن يتم التأكد منه إلا بعد بذل النخاع، ولن أفعل ذلك إلا هناك، سأسافر قريبا.
ـ وستخطريننى:
ابتسمت وأرادت أن تداعبه، ربما لتخفف عنه، أو تغيظه، قالت ومازالت الدموع تبلل خديها:
ـ بصفة ماذا؟
لم يفاجأ، وتذكر منال وهو يعزيها، يبدو أنه بلا صفة فعلا عند أى أحد، هو موجود فى وعى كثيرين، يلجأون إليه، يأتنسون به على ما يبدو، لكن، بصفة ماذا؟ بصفة ماذا فعلا؟ أمين له صفة بالنسبة إليها، محمود له، ربما، أما هو؟ أين يقع هو منها، أو من أى أحد؟
ـ بأية صفة تقررين أن تعينينى فيها؟
ـ أفضل صفة “مدرس الأولاد”، موافق؟
ابتسم حتى كاد ينشج مكتوما، وأردف:
ـ كما ترين، مادمت تعلمين أنها صفة لم تعد موجودة، إن كانت قد وجدت يوما.
أردف بسرعة قبل أن يسحبهما الكلام ثانية:
ـ هل يمكن عمل شئ لأمين؟
تعجب لنفسه، أيهما الأولى أن يعمل له شئ، المريضة بالسرطان أم الزوج المخدوع، لا ليس مخدوعا، الزوج المهجور، ولا مهجور، صحيح. ما صفة أمين فى هذه المسألة؟ الزوج الـ “ماذا”؟ مازال يكلم نفسه، وإن كان غيرمتأكدا أنه لا يصدر صوتا، فجأه علا صوته وكأنه يصيح فعلا:
ـ حدث خطأ فى العلاقات البشرية.
أجابت من فورها بيقين واضح:
ـ صحيح.
ولم يفتحا موضوع المرض، ولا العلاقات البشرية بعد ذلك.
أكملا العشاء فى صمت تتخلله بعض التعليقات الخفيفة على نوع الطعام، وجودة الطهى، ثم إنها شاركته الشراب هذه المرة، وهى تحبك الحجاب على رأسها.
رفض أن توصله.
وافقت.
-2-
حارة السكر والليمون، مصر القديمة، بلوك (8) الدور الثانى أول باب على اليمين، اللافتة موجودة، عبد السميع الأشرم، الله يسامحك يا أنور، ما له هو ولهذا كله؟ لم يفتح أحد، أعاد رن الجرس ونظر فى الساعة: الخامسة والنصف مساء. لم يفتح أحد، أخذ يدق الباب بيده من باب الحيطة، مع أنه كان قد سمع صوت الجرس واضحا.
فتحت الجارة الباب المقابل، وأخبرته بخجل شديد أن الشيخ ليس موجودا، وأنها لا تعرف متى يعود، وأنهم أخذوه، لكنه سرعان ما سيعود، ويبدأ من جديد، وأنه يمكن أن يترك له رسالة تحت عقب الباب، وأنه يمكن أن يتفضل ويستريح عندها، وأنه مع السلامة، وربنا يسلم له طريقه.
الله يسامحك يا أنور يا ابن الطيب.
-3-
وجد رسالة على تلك البدعة، المسماة “ماكينة الرد” من واحدة اسمها نجوى شعبان، وقد تركت له رقم تليفونها، هذا الرقم ليس غريبا عليه، هو رقم أنور إبراهيم نفسه، طلبها، أم أنور، نعم، صوت رخيم، ليس حزينا، صوت واثق بغير غرور، دعته لمقابلتها أوتحضر هى إليه، فضل أن يذهب إليها مع إشارة محدودة إلى علاقته بأنور، دون التركيز على منال.
ـ… فأنت ابن غريب الأناضولى:
ـ المفروض.
ـ لم يخبر أحدا منا أن له ابنا.
ـ يبدو أنه شخصيا لم يخبر نفسه أن له ابنا، بل إنه لم يخبرنى أنا شخصيا.
ضحكت السيدة برغم كل شئ حتى أن الضحك تخلل ردها وهى تقول:
ـ هل كنت تريد أن يستأذنك قبل قدومك؟
ـ أحيانا أشعر أننى أريد أن أتخلص من خلاياى التى يقبع هو داخلها دون موافقتى:
ـ هل عرفته يا جلال يا إبنى إلى هذه الدرجة، لقد عاش وحيدا ومات وحيدا
ـ يستأهل.
ـ ربما، لكن المرحوم، عمك المرحوم إبراهيم كان له رأى آخر. أنا شخصيا ..
قال مقاطعا وكأنه يريد أن يقطع الحديث، ولايريد…
ـ فأنت تعرفين أبى:
ـ أبوك لم يكن يسمح لأحد أن يعرفه.
ـ تعرفينه عن طريق المرحوم عمى إبراهيم.
ـ ليس تماما، كلنا كنا نحاول أن نعرف بعضنا البعض، يعنى.
قرر أن يسرع بأداء الممكن، سألها عن سبب المقابلة، وأنه تحت أمرها.
قالت له نجوى شعبان إن الحكاية طويلة، وإن المسألة كلها – الآن – تتعلق بالمهمة التى تصور أنور أنها وصية، ولا هى وصية ولا حاجة، وإنها إنما استدعته لتعفيه من هذه المشقة التى لا لزوم لها ولا معنى فيها.
ـ إذن لماذا شغل المرحوم أنور ابنه بمثل هذا الأمر، إذا كان لا يستأهل هكذا؟
ـ لا أدرى، هو عموما كان يحمل هم الناس جميعا، أو هذا ما كان يحب أن يعلنه دائما، أو على الأقل يقنع به نفسه.
وعدها ألا يأخذ المسألة جدا أكثر من اللازم، ثم إنه تجنب حتى أن يذكر لها أنه بدأ فى تنفيذ الوصية دون انتظار إذنها.
وشعر جلال أن فى الأمر شيئا.
-4 -
لأول مرة يذهب إلى هناك بالطائرة، هذا الاختراع السخيف الذى تساوى فيه السماء بين الأمكنة بسماجة منقطعة النظير، قاوم شعورا غامضا أن يقفز من الطائرة وهم فوق جبال سيناء العظيمة، كل المطارات الصغيرة مثل بعضها وكل المطارات الكبيرة مثل بعضها، وكل الفنادق التى لها ذات النجوم هى أيضا مثل بعضها.
كان أنور فى استقباله بعربته الصغيرة ذات القفا العريض فى مطار شرم الشيخ، كان قد خاطبه فى الهاتف ليشرح له اعتذاره عن موقف والدته الذى علم بعضه بطريقة بدت عابرة، وفى ذات الوقت كان جلال قد حضر هذه المرة لأمر مختلف.
وادى كونــِّكـْشــَنْ، اسمه كذلك، ليس له اسم عربى آخر، صحيح أن ترجمته هى وادى “الربط” أو”الترابط” أو “التواصل”، لكن لايصح أن نترجم ما لا ينبغى ترجمته أصلا، مع أنه مشدود إلى كل ذلك، هو واد يختلف عن وادى جْنىّ كما يختلف كل واد عن الآخر، وكل جبل عن الآخر، وكل حجر عن الآخر، ملعون أبو الطائرات وربط الأحزمة، المكان متسع، والجبال بعيدة، والنخيل قليل، عرض على صاحب المخيم أن يدفع له ثمن مبيت أربع خيمات (ثمانية أفراد) مقابل ألا يشغل ماكينة الكهرباء هذه الليلة، لم يكن هناك أحد إلا نرويجيان (نرويجى ونرويجية)، فاستأذنهما الشاب صاحب المخيم، ورحبا بدورهما فقد كانت ليلة قمرية ولو أن القمر ليس بدرا بعد، ولم يقبل صاحب المخيم ـ من كفرالشيخ ـ أية زيادة عن أجر فرد واحد فى خيمة واحدة.
ـ متى أحضر لآخذك؟
ـ أريد أن آخذ راحتى يا أنور، لا تربطنى بموعد محدد، هذه المرة ليست ككل مرة، تعبت من البحث هناك، فربما وجدت ضالتى هنا، من يدرى:
ماذا تفعل الأمكنة بالناس؟ الناس فى هذه الأودية ليسوا ناس العسلة، مع أنهما الاثنان فى دهب، ومع ذلك فإن دهب تصبغ كل من يعيش فيها بروح مشتركة مهما كان موطنه الأصلى”عربى” صبى”فرج” من الفيوم. والرجل بائع الطعمية بجوار فرع البنك الصغير بجوار محطة الأتوبيس، هذا الرجل من المنوفية، ومع ذلك، فهو حين اشترى منه فى المرة السابقة بجنيه طعمية وبآخر فولا، كان قد أكل ثلاث طعميات أثناء القلى، ولم يرض الرجل أن يحاسبه عليها، مع أنه كان الزبون الوحيد، ثم إنه أعطاه رغيفا دون مقابل حيث أن الفرن بعيد وهو غريب، يخاف جلال أن يفسد هؤلاء الناس فى دهب كما فسد ناس رأس الحكمة بعد ما كان.
يفسد الناس بفساد الأمكنة، وتفسد الأمكنة بفساد الناس..!
رجل المخيم فى وادى كونكشن، من كفر الشيخ، لكنك لا يمكن أن تفصله عن العراء، والخلاء، والجبال، والنخل القليل. ولا عن السكون والهمس الشجى: لليل جلاله العظيم، وللظلام همسه السارى، وللسكون حنينه المحيط، وللرمال هسهستها المحاورة المتسحبة المفيقة.
أخذ يناجى كل ما يمكن ومن يمكن، رق قلبه، فبكى فى سكون، حاول أن يظل بكاؤه صامتا لكن الصمت انقلب إلى ما يشبه الكتمة، قرر ألايعمل حساب شئ أو أحد، علا نشيجه، وجد نفسه داخل ظلام العباءة التى تضيؤها الآيات التى لا يفهمها متفرقة لكنه يستشعرها كلها على بعضها، حتى الآية التى فيها “تلين القلوب”، أبى عمه أن يشرحها له، وها هو الآن فقط يعرف معنى “كيف تلين القلوب”. فأحب أمه أكثر، تحضره آية “وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى”، رفض أن يشرح عمه ما وصله من صيغة الاستثناء هذه ، ليس …إلا، اطمأن حتى ابتسم، “وأن سعيه سوف يرى”.
= “هل رأيت كيف أن الرؤية مبنية للمجول”.
= ” يعنى ماذا”.
= “يعنى هذا”.
= ” لا بجد: يعنى ماذا”.
= يعنى الباب مفتوح لكل من يرى، أو من يحاول أن يرى.
اتسعت ابتسامته جدا وزاد اطمئنانه بما لا يقاس.
فجأة، أحب أباه أيضا. أول مره خلال حياته كلها يستطيع فيها أن يحب أباه.
قام فتوضأ وصلى، هو لا يعرف القبلة ولا ماذا صلي: المغرب أم العشاء؟ كان يسمع عن الجمع والقصر، حتى الصلاة لها تقاسيم على الـلحن الأساسى: هذا مكان غير مسجد جرزة يا محمود، هل تتغير الصلاة بتغير الأماكن أيضا؟.
تمدد وأحس بالدفء يسرى فى كل ما حوله، كلمات منغمة تملأ وعيه، متقطعة، لا هى آيات، ولا هى ليست آيات، كان عمه سليمان قد نهاه أن يقرأ أجزاء من الآيات دون أن يكملها، هو ليس له ذنب، هى التى تأتيه، هو لا يستطيع أن يوقفها، هى لا تأتيه بصوت عمه بل بصوته هو طفلا: “بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ” “..فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ”، “أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ” “.. قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً”،. لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ” وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ “… ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ ”، “… شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ”، “… فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ” “..
خفق قلبه وخاف أن يـُجـَنّ ، لكنه لم يفتقد الطمأنينة.
لا رابط، ولا داع، ولا قصد، ولا شئ.
نادى عمه سليمان بأعلى صوته فلم يرد عليه إلا صدى غامضا لم يستطع أن يميز بينه وبين صوت الضبع الذى سمعه فى وادى جنى عند عم عليان. فرح أن صاحب المخيم كان قد استغرق فى النوم فلم يسمعه وهو ينادى، ولم يسأله، ولم يحكم عليه بالجنون.
-5-
ألقت بسمة قنديل الصحيفة التى كانت بيدها بعيدا، أبعد ما يمكن، ثم قامت إليها، وأمسكت بها ثانية، وفردتها أمامها، ثم جمعتها إلى بعضها بعصبية أكبر، ثم مزقتها، لكنها عادت فالتقطت جزءا كبيرا من بقاياها، الجزء الذى به صورة الجانى أو المتهم أو المشتبه فيه، وأخذت تتأملها وهى تردد: غير معقول!!، غير معقول، “ليس هكذا، غير معقول، لا”. هى تريد أن تصرخ، أن يكون معها أحد، أن تختفى، أن تثور، أن تكف عن كل شئ. الجريمة بشعة، غير مفهومة، يا ليتها كانت جريمة قتل، هى جريمة ألعن، ثم أن الجريمة بهذه الصورة تفتح أبوابا للقيل والقال، والشماتة والتشفى، والكذب والحقارة بلا حدود، ياليته مات، كان أرحم.
الذى حدث أن الدكتور جميل النشرتى اعتدوا عليه اعتداء مجرما كاد يودى بحياته، ويا ليته مات فعلا؛ فقد تمكن الجانى ـ أو الجانية ـ من بتر ما يميزه رجلا، كيف؟ من؟ متى؟ لاتوجد تفاصيل، ولا حتى أية إشارة لاتهامات معينة، كل ما أمكن عمله هو الإمساك بهذا الشاب صاحب الصورة المنشورة وهو يحاول القفز من النافذة، بعد سماع صراخ الدكتور، تجمع الناس على الباب حتى كسروه، قال شهود عيان إن امرأة شوهدت، وهى تنزل مهرولة على السلم، ثم اختفت، ولم يلحقها أحد، وقيل إنها رجل منقب، أما صاحب هذا الوجه القبيح المنشور.. ياه بسمة تتذكر الآن، هو ذات وجه الشاب الذى دخل يومها، وانتظر فى الصالة، ثم انصرف دون إذن، هو هو، فى الأغلب هو، بل هو – فى الأغلب.
لا يمكن أن تكون الجريمة من فعل الجماعات، فهى جريمة لم نعتدها من الجماعات، هى جريمة تبدو أنها تتعلق بالسلوك الشخصى للأستاذ الدكتور المرحوم، انتقام امرأة؟ ثأر زوج؟ تنافس غريم؟ قيل إنها جريمة ترتبط بآراء المجنى عليه وكتبه، وقيل إنها تتعلق بتجاوزات سلوكه، وإلحاح جوعه للقيام بدور بطولة ما، وقيل إنها لا تتعلق بأى من هذا، وأن الجانى مجنون. مهما كانت الأسباب والمبررات، فالجريمة تعلن مدى تدهور الحس الإنسانى:
المجنون لا يمكن أن يرتكب مثل هذه الجريمة.
اتصلت بسمة بحصة فلم تجدها، اتصلت بجلال وهى تعرف أنه لم يعد صحفيا، وبالتالى لم تعد عنده أنباء خاصة أو سرية، لكنها وجدته، طلبت أن تقابله من فورها، ولم تذكر السبب لكن كان باديا على صوتها أن أمرا جللا قد حدث، لم يكتشف جلال أنه لم يقابلها منذ مؤتمر العريش، حضر إليها بأسرع ما أمكنه.
ـ مالك يا بسمة؟ لم كل هذا الأسى، عمرى ما رأيتك هكذا؟
ـ ألا تقرأ الصحف يا جلال؟
ـ يعنى، أقرأها طبعا، هذا عملى، كان عملى، يموت الزمار وإصبعه يلعب.
ـ أين أنتَ من الجريمة المنشورة أمس؟
ـ الجرائم كثيرة، تقصدين المدمن قاتل أمه أم الرجل الذى قتل أولاده الأربعة؛ قبل أن يموتوا جوعا، ثم رصَّ رؤوسهم على طبلية فى أطباق؟
ـ لا هذا ولا ذاك.
بدأ صبره ينفذ فأراد أن يرد لها غيظه قال:
ـ الجريمة الكبرى أننا ما زلنا أحياء، أليس هذا هو ما يردده البهوات المثقفون، وهم يتجشأون الحياة؟
ـ كفى، ليس هذا وقته أنا ما لجأت إليك إلا بعد أن..، كدت..لست أعرف كدت ماذا؟
ـ أفصحى:
ـ جريمة الاعتداء على الدكتور جميل النشرتى:
ـ آه.
ـ آه ماذا؟ كيف زحزحتها إلى أسفل القائمة هكذا مادامت قد بلغتـك.
ـ بصراحة لا أعرف، على أية حال هى ليست أصعب مما ذكرت من جرائم.
ـ ربما، لكنها الأبشع والأغرب.
ـ اسمعى يا بسمة، أنا لا أحتمل أن يـُجرح إصبع طفل أثناء تقليم أظافره، وهذه الجريمة.. هذا الاعتداء على هذا الدكتور من أخبث وأدنأ الجرائم، لكنها ليست أبشعها، ولا هى أقساها كما تقولين، أنا مقدر موقفك، ربما لأنك عرفت الرجل شخصيا، أنا لم أره حتى يوم واعدتنى أن تعرِّفينى به، لم يحصل لى الشرف، وإلا ربما تغير موقفى عما أنا عليه الآن، ومع ذلك أنا رأيي….
ما هذا يا جلال؟ ماذا تقول؟ رأيك؟ هل هى مسألة آراء؟ لا أريد أن أغير رأيى فيك، ومع ذلك ماذا يا أخى؟ ماذا تقول؟ هل فيها “مع ذلك” ؟
ـ لولا أنك بسمة قنديل لمصمصت شفتىّ معك، ولعنـت الجماعات والدين بالمرة، يا بسمة أنا أتألم لجرائم دعارة الأطفال بما لا تتصورين، لماذا ننساها ونتوقف عند اسم مشهور، أو رئيس مهفوف إذا ما أصيب بمكروه؟
- مكروه !! هل تسمى كل هذه الجريمة البشعة مكروها؟ أنا آسفة، يبدو أنى اخترت الشخص غير المناسب.
ـ تريدينى أن أكذب عليك؟ الرجل مجروح، مهان، ولا أريد أن أقول رأيى فيه الآن، فيما كتب، وفيما يمثله؟ ليس هذا من الشهامة فى شئ، الحادث بشع بكل مقياس، لكن ليس معنى ذلك أنه يستحق ماحدث، أشعر أننى يمكن أن أنتقم له شخصيا لو تمكنت، لكن لا ينبغى أن ينسينا بريق اسمه بقية الجرائم، بما فى ذلك الجرائم التى ارتكبها هو شخصيا دون مطواة قرن غزال، أنت التى حكيتِ لى كيف كان، وما زال، يقوم بكى العقول.
ـ أنا لم أقل كى العقول، لكنى قلت كى الزوائد التخريفية التى فى عقولنا بالرغم منا.
ـ ليكن، وهل ثبت أنها زوائد تخريفية أم أن هذا رأيه ومخاوفه؟ وهل ما يظهر لك وأنت تكتبين قصصك زوائد تخريفية؟
ـ هو لم يهجم على أحد فى بيته ليزيل منه زوائد فكره، نحن الذين كنا نذهب إليه بأنفسنا، ونسمع منه ونقرأ له، مثلما يذهب المريض للجراح ليزيل ورما أو يفتح له خراجا.
ـ إن كان ذلك ينطبق على كل الناس فأنت أعلم بأن ما يصلك أثناء إبداعك ليس ورما يحتاج استئصالا، ولا زائدة تحتاج البتر.
ـ لم يكن الدكتور يغصبنى لأصدقه، وحين فشلت أدواته معى لم يحاول أن يمنعنى من المضى فى طريقي.
ـ و ماذا عن الذين لا يملكون أدواتك وصلابتك؟
– هل تحاول يا جلال أن تبرر ما حدث!؟ أنا أكرهك، قسوة هذه أم تشف، يا ساتر!! من أنت يا جلال؟ قل لى من أنت؟ يا ليتنى ما دعوتك.
لم يعتذر، ولم يحاول أن يخفى إدراكه لمدى بشاعة الجريمة كما وصلتها، راح يشرح لها وجهة نظره بإصرار عنيد غير عابئ بحساسية ما يقوله، راح يذكرها أنها ليست بالضرورة جريمة فكر، وأن علاقات الدكتور النشرتى النسائية ليست فوق مستوى الشبهات، بل إن هناك كلاما فى هذه المنطقة لا يجوز إعادته طالما الدكتور ما زال فى هذه الحال، وأن تحويل هذه الجريمة الشخصية الخبيثة إلى جريمة رأى يضر بكل الأطراف، وأن علينا أن ننتبه إلى خصاء العقول والوجدان وكل أدوات المعرفة التى خلقنا بها، بذات القدر الذى نهتم فيه بمثل هذه الجرائم، وأنه على يقين أن الحكومة والمؤسسات وأمريكا والإعلانات وبعض الأزهر وحزب شاس وبعض الانجيلين الأصولين الأمريكيين يقومون بعمليات خصاء جماعية لخصوبة البشر الإبداعية، كاد يضيف، والإيمانية لكنه لم يقلها، الخصاء الجماعى جار على أذنه للرجال والنساء والأطفال والجميع. أضاف: إنه حين فكر فى مشروع تعليم اللغات لتنظيم الدماغ، تلك الحكاية الخائبة إياها، كان يتصور أن العودة إلى نبض اللغة الأصلى، وإحياء موسيقى الحروف، يمكن أن ينظم العالم ويحمى الأدمغة من أمواس الخصاء الكاوية بأنواعها.
نظرت إليه طويلا، ثم نظــرت إليه ثانية، وقالت فى نفسها، “هذا الرجل لا يـَهْمد”، برغم أنه لم يصل أبدا إلى ما يريد، فمن أين له بهذا الإصرار؟
عادت فتقززت منه حين تصورت أنها يمكن أن تزور الأستاذ الدكتور جميل النشرتي، لتقول له: حمدا لله على السلامة، واكتشفت ـ وكلها خجل ـ أن ذلك مستحيل، إذ كيف تتجنب أن تذهب نظراتها إلى حيث لا ينبغى؟
-6-
بسمة لم تحب الدكتور جميل النشرتى أبدا، ولا هى حتى أعجبت بآرائه، هى كانت معجبة بإصراره، هو لم يحاول معها، لم يكن نذلا صريحا ولا متعجلا، سمعت عنه أشياء كثيرة ليست طيبة، لكن مهما فعل، ومهما كان فهو لا يستحق هذا، ليس هكذا، ليس هكذا.
قالت حصة لبسمة:
ـ طبعا ليس هكذا، ولا غير هكذا، ولكن لماذا أنت منفعلة بهذه الصورة يا بسمة وأنت لا تعرفينـه مثلنا؟
ـ المسألة ليست مسألة شخصية، المسألة مسألة فكر، والفكر لا يصارع إلا بالفكر.
ـ الحمد لله أنك لم تعرفيه مثلنا، وإلا لكنت تصورت احتمالات أخرى غير حكاية الفكر هذه.
ـ ماذا تعنين؟ هل تشككين فى الفاعل مثل جلال؟
ـ من جلال؟ آه.. الصحفى بعض الوقت الذى قابلناه فى العريش.
ـ هو ذاك، لقد كان موقفه غريبا، لولا أننى أعرفه من داخل الداخل لاعتبرته…..
قاطعتها حصة:
ـ أنت تحبينه يا بسمة؟
ـ هل هذا وقته، أحبه يا ستى، وأحبك أنت أيضا.
ـ لابد أن تقبلى الاختلاف، ثم إن معلوماتك عن الجريمة هى من الصحف فقط.
استفسرت بسمة بتردد عما ليس فى الصحف، حكت لها حصة عما سمعته من بعض المقربين، وأن المسألة ليست لها علاقة بأية خلافات فكرية، وأنه قد وُجدت ورقة لفت بها الأداة التى تمت بها الجريمة، وكذا جسم الجريمة، مكتوب فيها ما يفيد انتقاما نسائيا بشعا مثل الذى نسمعه حتى من زوجات يقترفن ذات الجريمة مع أزواجهن، وأن أحمد عبد الغفار قد استدعى إلى الشهادة فى التحقيق، مع أنه ليست له دعوة، وأن المسألة ليست بالبساطة التى تتصورها بسمة.
هدأت بسمة قليلا، ثم قالت:
ـ أمَا كان على الصحافة أن تتريث فى نشر الخبر، أو حتى لا تنشره إطلاقا؟
قالت حصة، وهى تشعر أنها استطاعت أن توضح الموقف ولو بالتقريب:
ـ الصحافة هى الصحافة، اسألى جلالا لمَ تركها، ثم جاوبى على سؤالك.
ـ ترى هل يستطيع الدكتور أن يكتب بعد الآن؟
ـ قد يمضى فى عناده، وقد يتعلم، وقد ينسحب، وقد ينتحر.
ـ لكنه لن..، لن يؤمن؟
ـ لن ماذا يا بسمة؟
ـ لن يؤمن.
ـ حين تؤمنين أنت أولا.
ـ وهل تشكين فىَّ يا حصة؟ ألم أقل لك يا حصة عن خبراتى أثناء الكتابة؟ ألم يصلك كيف أنى لا أملك حينذاك للإيمان دفعا؟
ـ لا تضحكى على نفسك يا بسمة، الإيمان ليس طاقة نتزود بها بعض الوقت لزوم الدفع الإبداعي.
– الحكاية ليست طاقة دفع، إن ما يتجلى ما لى وأنا مستغرقة فى الكتابه يقربنى إليه مثل سجود غامر
– سمّه ما شئِت، يبدو أن المسالك متعددة
ـ وأنت يا حصة؟
ـ أنتِ مالك.
-7-
عــلـم أن فاتيما سافرت تكمل تحليلات لبذل النخاع واحتمال العلاج، فكان لزاما أن يطلب أمينا وخاصة أنه لم يتصل به طول هذه المدة، على الرغم من أن هذا كان تقريبا هو ما طلبه أمين منه فى المقابلة اياها، طلبه جلال، وقبل أن يعرض عليه المقابلة سارع أمين بذلك، وحدد المقابلة فى نفس المكان السابق، فلفلفه بجوار كوبرى الجامعة:
لم يبدأ جلال بالسؤال عن فاتيما، بل عن الأولاد، وعن هدى بالتحديد (وليس رشا على الرغم من أنه لم يقصد ذلك)، ثم سأل عن فاتيما فأخبره أمين أنهما تصارحا حول المرض قبل أن تسافر، وأنه علم بمسألة التحليلات الخاصة التى عملتها دون علمه، وأنه على يقين من أن ما بلغه شخصيا هو الأقرب إلى العلم الحديث، وأن التفاؤل ما زال غالبا، بل مؤكدا من جانب كل أصدقائه الأطباء وزملائهم، وأنه استشار أيضا بعض زملاء والده من كبار الأطباء الذين كان يعرفهم صغيرا، وأنهم طمأنوه.
لم يصدق جلال، ولم يكذب، ووجد نفسه ينتقل بغير مناسبة إلى التدخل السخيف:
ـ وهل ما زلتم تسكنون فى الملاعب؟
ـ ملاعب ماذا يا جلال؟
- ملاعب الجولف
- اسمها أرض الجولف، أنت كما أنت يا جلال، لا تتغير أبدا.
ـ ألا تفكر فى أن تعود إلى مسكنكم القديم، أو إلى أى مسكن وسط الناس؟
ـ بصراحة أفكر، أنا لست مرتاحا، أزداد وحدة واستغراقا فى النجاح كما تعرف، لكننى أخجل أن أتراجع، ماذا يقول شركائى وزبائنى؟ ثم إن الناس فى أرض الجولف هم ناس أيضا، والأولاد بدأوا يتعودون على المكان، وعلى الجو العام هناك.
ـ وهذه هى المصيبة.
ـ أية مصيبة؟
- لا شئ.
سأله جلال ـ ليتيح له، ولنفسه، فرصة الهرب ـ عن أحوال الشركات، والقرى السياحية، ومصانع السيارات، فضحك أمين وقال له: ”وكأنك تتابع كل نشاطاتى”، لكن جلالا استدرك بسرعة قائلا:
ـ أريد أن أسألك عن شركة الأدوية بالذات.
ـ هذه الشركة بالذات تسير كالقطار، لست أدرى لماذا؟
ـ ببركة صديق أبيك الأستاذ غالى أم ببركة مساعدتـه القديمة، الدكتورة إصلاح؟
ـ يبدو أنك تعرف كل شئ الا قليلا، أو إلا كثيرا، أصحح لك إذن؟ الدكتورة إصلاح تركتنا، أخذت نصيبها ولم يكن قليلا، وقررت أن تفتح عيادة من جديد.
ـ نكسة متأخرة، لم تستطع أن تتخلص من تأثير والدك بعد كل هذه السنين؟
ـ يا ليت الأمر كذلك،. أنا غير مصدق، الاسم أنها تمارس ذات التخصص، لكن ما أسمعه غير ذلك.
ـ بصراحة أنا لست مهتما بأخبارها، قابلتها فى مؤتمر العريش الذى حدثتك عنه، ولم أرتحْ لها، لكننى ظللت مشغولا بها طول الوقت، لست أدرى لماذا؟
- هى ليست موضوعا صحفيا على أى حال.
ـ أنسيت أنى لم أعد صحفيا.
ـ بصراحة، أمرها يقلقنى، لقد حكيت لك عن دورها فى زواجى، وعن كيف كان ذلك بمثابة الهروب معا من تأثير أبى؟
ـ وها هى تعود كما كانت فتمارس ذات التخصص الذى رفضته.
ـ قلت لك لم تعد تمارس نفس التخصص، بل هى راحت أبعد حتى من مسألة شركات الأدوية.
ـ لا أفهم.
ـ سمعت أنها تمارس فى عيادتها ما تسميه علاجا، يعنى ..
ـ بصراحة لا أريدك أن تـكمل، عذرا، هذا كلام لا يستأهل مجرد حكايته.
خجل جلال من صده لأمين هكذا مباشرة، كما رفض تماما أن يكمل هذا الحديث عن واحدة لا يعرفها، لم يستطع أن يصدق ولا اهتم أن يكذب، كان وهو صحفى يسمع أشياء كهذه باستمرار، هذا أمرمألوف فى الخارج، فما أهمية أن يقوله أمين هكذا؟ هاج الرفض أكثر، لكنه وجد نفسه يعتذر عن ما لا يعرف:
ـ أنا آسف.
قال أمين متراجعا:
ـ أنا أفهم أخلاقيا مغزى اعتراضك، لكن المسألة ليست ترويج إشاعة، المسألة هى أننى فعلا جزعتُ من هذا الاحتمال، لقد ظللت أحترم حماستها لأبى، ثم صراعها ضده بانتمائها إلى الفريق الآخر، ثم حماستها لتجارة الدواء، لكن ذهابها إلى هذا المدى، إن صح، هو شئ لا يصدق، إن ما سمعتـه لا يقال، وهو قد لا يمثل الحقيقة، أنا لا أعرف لماذا اعتبرته ضمن جرائم أبى، أو مسئوليته؟ يبدو أننى ما زلت أحتاج مزيدا من الأدلة ضده، ضد أبي، أنا لا أعرف حتى لم أحكى لك ذلك؟ شفقة عليها؟ أم اتهاما لأبى؟ أشعر أننى أحتاج من يكذبنى، أنا شخصيا لا أريد أن أصدق.
ـ إلى متى سوف تظل تحمـِّل أباك ما أنت فيه، ما أنتما فيه؟ ألم تلاحظ أى شبه بين ما تزعم أن الدكتورة تمارسه، وما تقوم به أنت؟
فزع أمين فزعا شديدا، وفوجئ بهذا التشبيه، وخاصة أنه كان يحكى عن الدكتورة إصلاح من على مسافة، من فوق، كان قد نجح أن يخرج نفسه بعيدا بعيدا، وإذا بجلال، بهذه العفوية، يفسد كل ذلك، ويكاد يجرجره إلى ما هو دونها قال أمين:
ـ هل ترى حقيقة يا جلال أننى انتهيت إلى ما انتهت إليه الدكتورة إصلاح؟
كاد جلال يقول له: “وألعن”، لم يكن يعلم تحديدا ما انتهت إليه الدكتوره، فاكتفى بأن قال:
ـ نعم.
ـ صحيح؟
ـ صحيح.
سكت أمين، ونظر فى الأرض، ثم نظر إلى النيل طويلا، وطال الصمت.
ـ أين ذهبتَ يا أمين؟
ـ مع ذبذبات سطح النيل، غصبا عني، أفكر فى كلامك، لا أرفضه، ولا أقبله؟ جـَعـَلـْتـَنـِى مثل إصلاح، بعدما جرى لها، بعدما ما آلت إليه، بعْد ما تورَّطت فيه، أو حتى بعد ما اضطـُرَّت إليه، كله واحد، ماذا تنتظر مني؟ .. ماذا تقصد بالضبط يا جلال؟
- أنت تهرب منك إلى إصلاح، دعها فى حالها، لا يوجد مبرر لتركيزك على ما تتصور أنها آلت إليه، لمجرد أنكما هربتما معا، دعنا نواجه الدعارة الحقيقية، والخصاء العمومى، والمخدرات الرسمية.
ـ اسمع يا جلال، أنا لا أعرفك جيدا، هذا الكلام يمكن أن يقوله، واحد مثالى، أو شاب حالم، أو سياسى أحمر، أو موْتور مجنون، أما أنت، فاسمح لي.
ـ أظن أنك فهمتنى خطأ، أنا لا أتكلم لا فى السياسة، ولا فى الاقتصاد، أنا أكلمك من خبرتى الصعبة التى لم تنته، هناك شئ فى بؤرة الوجود قتلناه بنمط حياتنا هذه، سمِّه إيمانا، سمه ربنا، سمه إبداعا، سمه ما تشاء، أنا لا أريد أن أشغلك بالحكى عن بحثى الذى لا يتوقف، ولا عن إحباطى فيمن يدعى معرفته، هذا الذى أبحث عنه هو القاسم المشترك الأعظم فى كل شئ، كل شئ، علينا أن نجده، أن نكتشفه حتى دون أن نبحث عنه، نفعل ذلك بأمانة، بدلا من أن ننصب المحاكمات لبعضنا البعض.
ـ يا جلال اسمح لى أن أقول لك إنك أكثر هربا ممن تتهمهم بالهرب، لا أنكر أنه يلوح لى من بعيد أحيانا شئ مثل هذا، لكننى أنجح دائما فى أن أصرفه، وفورا، لم لا تفعل مثلى وتريح نفسك.
- وهل فى مقدورنا أن ندفن طبيعتنا.، أصلنا مصيرنا، مسارنا.
ـ تقول ندفن ماذا؟ لست فاهما.
ـ نعم، طبيعتنا، أنت لا تفعل شيئا إلا أن تهيل عليها التراب، كلما خيل إليك أنها ستبعث من جديد، كل شركة جديدة، هى كوم جديد من التراب تهيله على الأصل، أنت تخاف حتى أن تفكر فيها، تصور، ولا تؤاخدنى، إن فاتيما بكل طفولتها وأخطائها وأصلها الخواجاتى وسلوكها تواصل بحثها بأمانة أصعب، بألم أصدق.
عاد أمين إلى صمته دون أن يتوقف عند تلميحات جلال، وتمنى لو انتهى اللقاء، بل كاد يستأذن، وقاوم كثيرا أن ينظر فى ساعته; ذلك أنه أحس بشئ جديد يقتحمه، كما شعر بتعاطف غامض مع الدكتورة إصلاح التى كان يدمغها منذ قليل، قال:
ـ جلال.
أطرق جلال ولم يحاول النظر فى عينيه، فأكمل أمين:
ـ أنا خائف… خائف… أنا خائف جدا يا جلال.
تردد جلال، لم يطل صمته فأكمل، وكأنه يزيح حاجزا آخر.
ـ لا أريد أن أعتذر.
عاودت أمينا فكرة أن يعرض على جلال عملا فى إحدى شركاته، ليس من باب المساعدة هذه المرة، ولكن كان يغلف هذه الرغبة شعور بأنه يريد أن يورِّطه حتى يغوص بأقدامه فى الطين، ليتخلص من هذا التحليق الذى يـرعبه، ولا بد أنه يرعب المحيطين به، بل لعله يرعب كل الناس، عدل فى آخر لحظة مثلما عدل فى مرة سابقة لا يذكر تفاصيلها، وكاد يقول له لا تتصل بى ثانية، لكنه قال العكس.
ـ أريد أن أسمع منك قريبا.
قال جلال بصراحة:
ـ أليس رقم تليفونى عندك؟
خجل أمين، وحاول أن يتذكر رقم تليفون جلال وهو متأكد أنه موجود عنده، وكاد يعرق حين قفزت بدلا من رقم التليفون أرقام كثيرة تتزاحم، ليست أرقام تليفونات أخرى، ولكنها أرقام أسعار العملة هذا الصباح.
-8-
الشيخ عبد السميع الأشرم هو الذى فتح بنفسه، ما هذا؟ من هذا؟ رجل طاعن فى السن، يبدو أكبرمن سنه الحقيقية مهما كانت سنه الحقيقية كذلك يبدو أصغر، يبدو طفلا جميلا، كله أبيض فى أبيض بما فى ذلك لحيته وشعر رأسه الكث.
ـ أنا جلال غريب، من طرف أنور إبراهيم الطيب.
رحب به عبد السميع الأشرم ترحيبا متواضعا، ودعاه إلى الدخول دون أن يسأله عن سبب مجيئه.
ـ كان المفروض أن أنور هو الذى يحضر لفضيلتك، لكن كما تعلم هو فى آخر الدنيا، فكلفنى أن أقوم عنه بهذه المهمة.
ـ اسمع يا ابنى، ليست لى فضيلة، دع عنك حكاية فضيلتك هذه، ماذا قال لك المرحوم ابراهيم، أعنى ابنه أنور.
أخبره جلال باختصار مقصود كيف أن أنور طلب منه أن يبلغه وصية أبيه نيابة عنه، وأنه لا يعرف محتواها، وأنه يأسف أن أنور لم يبلغه بنفسه، فقد يعرف أكثر.
ـ رحم الله إبراهيم، كان صاحب فضل دائما.
ـ أنا لا أعرف أية تفاصيل، أريد أن أطمئن إلى أننى قمت بالمهمة.
ـ قل لابن الطيب لا يشغل باله، وأن عمه عبد السميع سوف يقوم بالواجب نحو كل من كان والده يحرص على رعايته، وأننى لو احتجت شيئا فسوف أتصل به، طمئنه وقل له إننى أدعو له بالتوفيق، ولوالده بالرحمة.
تنهد جلال بعمق، وكأن عبئا انزاح من على كاهله، لكن لم تمض دقيقة أو بعض ذلك، حتى ثارت فى نفسه مسائل أخرى كثيرة غير التى جاء من أجلها، ود لو يفاتح هذا الرجل الغريب فيها، ضد كل حساباته وهواجسه.
بسرعة تعجب لها جلال، أحس بألفة محيطة، وكأنه يعرف الرجل من سنين، حتى أن الرجل رد على تساؤلات جلال التى وجد نفسه يطرحها بتلقائية لايعرف مصدرها، لعل سماح وجه مضيفه هو الذى استدعاها، كانت ردوده سهلة وواضحة.
قال له الأشرم إنه لا يعيش وحيدا، بل يعيش مع الناس طول الوقت، حتى لو لم يقيموا معه بعد أن امتحنه ربه بفقد زوجته التى كان الفضل فى زواجه منها للمرحوم إبراهيم الطيب، وأنها لم تنجب، يقصد أنه هو الذى لم ينجب لحكمة لا يعلمها، فتوجه إلى مساعدة الأطفال بما يشبه الدروس لتنقية اللسان وشحذ الحس باللغة ذات المعنى، وبالقرآن، هؤلاء أطفاله الأحلى من الذين كان سينجبهم، قال ذلك وضحك، ثم أضاء وجهه بما هو أجمل من الضحك، فتصور جلال أنه التقى طفلا رائعاً باسما جاوز السبعين، وتصور أيضا أنه لو كان مشروعه قد نجح ولو نجاحا أقل، لأمكنه أن يضحك هكذا، وابتسم، لكنه، بعد بحث سريع مقارن بين مشروعه ومشروع هذا الشيخ الطيب قرر أن يتمادي.
ـ كانت لدى أفكار مشابهة، لكن الظروف حالت دون تحقيقها.
رد الأشرم بيقين:
ـ لا شئ يحول دون تحقيق الخير، إبحث عن طريق آخر، وسوف تجد ألف سبيل.
اكتفى الأشرم بالابتسام، وبدا أنه ينتظر أن يُـكمل جلال، ولما زاد الصمت بينهما، عاد يؤكد لجلال أن غباء الناس له ما يبرره، أما غباء الحكومة، فهو الأدعى إلى الدهشة.
ـ هل تعرف أبى حقيقة يا عمى؟ كل من قابلتهم كانوا يذكرونه، ولا يعرفونه.
ـ أعرفه؟ أعرفه ونصف، كان رجلا بائسا جميلا.
أول مرة يسمع من أحد يعرف أباه أن أباه كان جميلا.
ـ أنا لم أره أصلا لأعرف إن كان جميلا أم غير ذلك.
ـ أنا أقول لك إنه كان جميلا بائسا مجتهدا، وعمك المرحوم إبراهيم لو كان حيا لصدّق على كلامي.
لم يتمالك جلال نفسه، قال بصوت مرتفع لا لزوم لارتفاعه:
ـ إن كل ما أعرفه عن أبى هو دعوات أمى له بالرحمة، وعشرات الكراريس التى ليس فيها أدنى جمال، تصور يا عمى أننى لم أحب أبى إلا فجأة، وبدون أى مناسبة، هناك فى وادى الكونكشن (يبدو أنه قال الجملة الأخيرة فى سره).
ـ اسمع يا إبني، دعنى أصارحك، لستَ صغيرا، لولا أن أباك كان كما أقول لك جميلا بائسا مجتهدا، لما هيأ الله له الفرصة أن يعرف عمك إبراهيم الطيب، الذى ظل يرعى بنتا له من امرأة مسكينة حتى رحل، جاءت البنت صدفة، كانت أمها الفاضلة، أظن اسمها صفية، قد أخفتها فى أحشائها حتى أذن الله فى أمرهما ما أراد، ولولا أن أباك كان طيبا ما سخرنى أن أكمل رسالة عمك ابراهيم هذه التى أوصى بها ابنه أنور، لقد فكرت فى البداية ألا أخبرك حتى لا تزداد حقدا عليه، أو بعدا عنه، لكنى مطمئن الآن بعد أن أخبرتنى أنك صالحتـَه.
- أنا ؟ صالحتـُه؟.
- ألم تقل لى أنك أحببته هناك فى مكان لم أستطع أن أفسر اسمه جيدا؟
- ليس تماما كانت لحظات عابرة؟.
- إيش عرفك؟ وهل العمر إلا لحظات عابرة
- ثم إن أبى كان عكسك تماما يا عمى، أبى مات ملحدا تماما.
- إيش عرفك ؟.
- كراريسه؟.
- وهل هو كراريسه يا بنى، الله يحاسبنا نحن لا نحاسب بالكراريس، يكفيه اجتهاده حتى يغفر الله له، دعك من كل ذلك وثق فى عدله ورحمته، الآن وليس بعد.
- ماذا تعني؟.
- لا شئ، أكمِل طريقك وأنت تعرف، إسمع يا بنى، آن الأوان أن تشاركنى وصية عمك إبراهيم، إن لك أختا لا تعرفها، لكن لأمها ظروفا خاصة، رحمها الله.
ـ أختى أنا؟ هل أنت متأكد؟
ساد الصمت بينهما وكان مفعما بكل الكلام.
لم يحاول جلال أن يتخلص من المفاجأة، كما لم يحاول أن يتمادى فى الاستفسار، فكر أن يستأذن و ينسى كل ما حدث، هو ليس ناقصا، بدا كأنه ليس هنا.
راح الشيخ يشرح له كيف أن وصية المرحوم إبراهيم الطيب، كانت تتعلق بأن يقوم هو – الأشرم – بالاتصال بأخته هذه التى كان يرعاها المرحوم ابراهيم شخصيا وفاء لصديقه غريب.
قال جلال وهو لا يكاد يصدق:
ـ فلماذا كادت تثنينى أم أنور عن مجرد زيارتك؟ هل كانت تعرف الوصية؟
ـ هذه قصة أخرى، ليس عيبا أن أقول لك إنها كانت تتصور أن أختك هذه هى بنت إبراهيم، وليست بنت أبيك.
زاد الأمر تعقيدا، وتمنى جلال أن يمضى دون أن ينبس بكلمة.
ـ وأين هى؟
ـ من؟
ـ أختى كما تقول.
ـ دعها يا بنى فى حالها; فهى فى أحسن حال، ربـَّـتها خالتها فى الأزاريطة فى الإسكندرية، وزوَّجتها لرجل طيب من أولاد على فى رأس الحكمة، وإن كان فى سن أبيها، وقد أنجبت منه ثلاث بنات من أطيب وأجمل البنات، وزوجها يكرمها أشد الكرم وأبلغه، انتبه جلال فجأة على سؤال لم يتوقعه:
-.. ألا قل لى يا بنى دون حرج، هل عندكم أخبار نهائية عن….عن والدك؟
تذكر جلال أنه حتى هذه اللحظة لا يعرف إن كان أبوه قد مات أم أين ذهب؟ فأجاب بالنفى، واستأذن.
ثلاث بنات جميلات، لو قابلـَهـُنَّ لقلـْنَ له: يا خالي. كذا يا والدى؟ كذا؟ كذا يا غريب يا أناضولى، تنجب أختى بعد ظلم أمها كل ذلك الظلم، ولا تقلْ لأحد، وتنجبنى ثم تطرد أمى، ثم تختفي. كيف يقول عنك هذا الرجل الأبيض إنك جميل حتى لو كنت بائسا؟ كيف سمحتُ لنفسى أن أحبك غصبا عنى فى واد بعيد وسط الجبال، وكيف ظهرتَ لى وأنا أبحث عنه فى الخلاء هناك؟
راح جلال يختبئ أكثر فى عباءة يعرفها وهو يرتجف، وأحس بيد تهدهده، التفت وحاول أن يقبـلها فابتلت اليد ببعض دموعه.
-9-
ـ غير معقول.
ـ الذى حصل.
تزوجتِ يا وردة دون أن تشورينى، وطُـلـقـتِ دون أن آخذ خبرا.
ضحكت وردة بملء أنوثتها، وقالت له إنه هو المخطئ، وأنه تأخرعليها كثيرا، وهو يعرف كم تعزه (لم يكن متأكدا كم تعزه)، وأنه لو كان قد مر عليها لكانت استشارته، وأنها متأكدة أنه لم يكن ليوافق، وأنها كانت ستأخذ برأيه، لكنها تصورت أنه ظِـلّ رجل قد يحميها ويحمى ابنتها من نظرات الرجال ولعابهم السائل.
ـ الرجال كالكلاب الضالة يا سعادة البك.
ـ أنت يا وردة قدّهم وزيادة.
ـ طبعا، لكن الستر شئ آخر.
ـ ولم طُـلقت هكذا سريعا يا حاجة.
ـ الله!!!!. لم يكن رجلا يا سعادة البك.
ـ جرى ماذا؟ ماذا تعنين؟
ـ لا، لا يذهب فكرك كذا أو كذا، من هذه الناحية كان مثل الطلوقة، لكن المرأة منا تريد رجلا، لا تريد ثورا ولا مؤاخذة.
ـ تعرفين أنى مطلق يا وردة، فأريد أن أفهم ماذا تعنين بأن المرأة تريد رجلا؟
ـ اسم الله على مقامك، أعرف من أين أن سعادتك مطلق،؟
ـ آه.. صحيح تعرفين من أين؟ منى؟ هأنذا أقول لك.
ـ خلاص، الصلح خير.
قالت ذلك وضحكت فشجعته أن يقول لها:
ـ اسم الله على شطارتك.
ثم حكى لها أنه اكتشف أن له أختا فى رأس الحكمة، وأنه لم يرها فى حياته، وأنهم يقولون إنها مرتاحة، برغم أن عمر زوجها ضعف عمرها، وأخته هذه لا تعرف أنه أخوها، وأنه لم يجد أحدا يأخذ رأيه فى ما يشغله إلا هى.
ـ بصفة ماذا؟ أنا عيناى لك، لكن بصفة ماذا إن شاء الله؟
ـ بصراحة، بصفة أنك وردة، وأنك ست الكل وتعرفين كل شئ.
ـ لا تلخبطنى، ما هذا الذى تقوله يا جلال بيه؟ إن كنت تريد رأيى، يبقى اترك أختك هذه فى حالها، وادع لها.
شكرها، وضحك معها، وشرب الشاى الثقيل، وذهبت وهى تقسم أن ينتظر قليلا، ثم عادت وقد أحضرت كوز أذرة مشوى بِقِشْرِهِ من الولد الذى كان يشوى بجوار المزلقان.
شعر بذات الشعور النبيل الرائق الممتد الذى شعر به فى وادى كونِّكشن فى دهب، لكن هذا الشعور هنا مع وردة به لمسة أمومة حانية حاوية.
عاد يحب أباه من جديد بالرغم منه، بالرغم من كل شئ.
غير معقول.
كان الشعور هناك مليئا بالوجد والكون والنبض والجذب، لم يكن به ناس قريبون هكذا من لحم ودم. مع وردة، وبهذه البساطة، وجده هو هو ذات الشعور مليئا بالناس، شعر وكأنه رأى أخته التى لا يعرفها وهى تقبـِّل رأس وردة شاكرة، هز رأسه فاختفت أخته وهى تدعو لأبيها بالرحمة، حسِبَ أن أخته خجلت أن تواجه وردة، أو هى أرادت ألا تحرجه.
لما اقتربت وردة، وانحنت ترفع الصينية، حوّل جلال رأسه بعيدا حتى لا يطيل النظر فيما بين ثدييها.
خاف، وفرح، وقرر، وابتسم، وظلت عيناه تلمعان بحزن جميل.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .