نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3983
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
قبل المقدمة: (من بريد الجمعة: أمس!!)
أنا أسف
يبدو أن نشر الرواية مسلسلة، خاصة الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعوْد” فى هذه النشرات اليومية هو ضد التلقى الأشمل.
أنا اسف،
وأعتقد أنه لا سبيل للتوقف أو للتراجع
وعموما فالرواية بأكملها متاحة إلكترونيا وورقيا لمن شاء (1)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثالث: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الرابع
“مصر الجديدة”
-1-
يطل عليه فى نضارته الطازجة وهو يفسح له مكانا بين ثنيات سحابة شاهقة البياض، هشة الكثافة، هل هو كعادته فى طريق السويس يتأمل قرص الشمس المتسحب شروقا فى يقين مطَّرد فى بداية رحلته إلى “دهب” فى صباح شتوى منعش؟ يتشكل المنظر فى ملامح بشرية دقيقة شديدة التناسق، فيفاجَـأ بأن ثم فرقا لم يكن يدركه من قبل بين العيون الزرق والعيون الخضر، هذه زرقة صافية تتلألأ فى رقة عميقة.
ألمَّ جلال بكل ذلك فى هذا الجزء من الثانية حتى قبل أن يسأل عن أمين بك عبد الحكيم.، وقبل أن تجيبه بالإيجاب وتدعوه للدخول، انتبه أن السحابة البيضاء لم تكن سوى هالة شفافة، أشبه بطرحة تحيط بهذا الحضور الجميل المقتحِم فى حياءٍ متردد يفسر تلك الحمرة المشتعـلة، هل هذا حجاب أم “إشارب”؟ هل هو تديـُّنٌ أم لباس جديد صُنع خصيصا لهذا الجمال، هكذا؟ أراد أن يلتفت إليها بعد أن أدخلته إلى حجرة الاستقبال ليتمكن ثانية مما رأى لكنه تحرَّج حرجا شديدا، وهمس لنفسه: “عنده حق. أمين عبد الحكيم هذا: هل عنده حق؟”.
كاد يجزم أن هذه الحورية التى فتحت له هى حاضرة، وحارة، بما يكفى وزيادة، حارة أكثر مائة مرة من منال، وطازجة، وشهية، ياه، ما كل هذا؟ عيب كذا!!، حاول أن يؤكد لنفسه ما جاء من أجله: زيارة عمل؟ لكن المؤكد أكثر أنه إذا كان أمين عبد الحكيم عنده حق فى كل شئ، فإنه ليس عنده أدنى حق فى مسألة منال هذه، بما أن الأمر هكذا، كره نفسه وهو يعقد هذه المقارنة وكأنه أهان نفسه لا منال.
جالسٌ هو فى الصالون غير المذهب، الدال على ذوق هادئ رقيق، ينتظر، المنزل أنيق جميل بسيط، فى مصر الجديدة الحقيقية قرب مكتبة فريال (سابقا)، راح يفكر مرغما فى الفرق بين الملائكة والحور العين، وهو يعلم ـ باسما ـ أن الملائكة ليسوا إناثا، ثم اتسعت ابتسامته، وليسوا ذكورا، هو لم يحب الملائكة حبا خاصا أبدا، بل إنه لم يشغل باله بدورهم أصلا، وكان يرى ـ حين يسمح لنفسه بالتفكير ـ أن الله يمكن أن يلقى بما شاء كيف شاء فى قلوب الناس مباشرة فما بالك بالأنبياء؟ لا شئ يحول دون ذلك، فلماذا المراسيل؟ له حكمه وحكمته، هم يقولون ذلك دائما ويريحون أنفسهم، وقبل أن يبعد هذه الأفكار القديمه قدم الطفولة، وقبل أن يستغفر تلقائيا دون إصرار، اقتحمته مرغما أفكاره القديمة فى مسألة الحور العين.، وهى من المسائل التى قرر بينه وبين نفسه ألا يعود إليها أبدا، انتبه أكثر واستغفر بذات الطريقة وهو يطرد ما تبقى من هذه الأفكار الصبيانية (هكذا يفضل أن يسميها برغم علمه بأنها لا صبيانية ولا حاجة). استطاع بجهد حقيقى أن يستبعد هذه الوساوس، ولكنه عجز عن أن يتخلص من تحفظة على مدح شخص ما بأنه ملاك، أو أن توصف سيدة جميلة بأنها حورية من الجنة، ما هذا، هل معقول أن كل هذه الخواطر تخطر له فى هذه الثوانى، وهذه الإشراقة تطل عليه حالا هكذا؟ لكن ما هذا الذى يحيط برأسها هكذا؟ بديهى أن شعرها ذهبى، أو لعله ذهبى مائل إلى البياض الذى ليست له علاقة بالمشيب، أو لعله بنى فاتح جدا، لماذا تخفيه هكذا، إذا كان هذا حجابا، فهل جاءت من بلادها ـبلاد القوة والقدرة والتاريخ والعلم المعاصر والفن الأصيل والفكر الفحل- هل جاءت إلى مصر تتزوج من أمين عبد الحكيم، لتتحجب؟ هل ستأتى فرصة لكى يسألها؟
انتبه إلى الأسئلة التى لم تخطر بباله، تـُرى ما اسمها؟
ـ “فاتيما”.
هكذا عرّفته بنفسها وهى تعتذر عن تأخر زوجها قليلا لأنه فى الحمام، قدمت نفسها إليه باسمها، وهى تجلس تضيّـفه حتى يحضر زوجها، فرحَ، وتعجـّب، وخجِل، وذكر اسمه كاملا مع ترجيحه أنها تعرف اسمه الأول الذى لا بد أن زوجها قد حدثها عنه وهو يخبرها عن موعد قدومه، قال:
ـ جلال غريب الأناضولى.
ـ هل أنت من أصل تركى، أظن أن هضبة الأناضول هذه فى تركيا، أو لعلها تشمل تركيا وبعض جوارها.
كانت تتكلم بالمصرية السلسة بإتقان عجيب، بحيث لا يكاد يتبين أصلها الألمانى إلا من دقق فى الرنين، أو لاحظ بعض الحروف.
ـ لا أعلم، والدى…
سكت فجأة فهو نادرا ما يتحدث عن والده، والده ماذا؟
ـ والدك ماذا يا أستاذ جلال؟
ـ والدى لم يذكر لى شيئا أصلا عن عائلته، بل إنه لم يذكر لى شيئا عن نفسه، لم يذكر لى شيئا عن أى شئ. والدى ..
(سكت فجأة وهو يخشى أن يعترف لها أنه ليس له والد برغم تداعيات اسمه الأناضولي).
كيف جاءت سيرة أبيه هكذا فجأة فى هذا التعارف الذى لا علاقة له بوالده، ثم كيف أنها ـ هكذا قال لنفسه فيما بعد ـ لم تندهش أصلا لهذه المصارحة غير المألوفة، أو على الأقل لم تظهر على وجهها علامات تدل على ذلك، أتاح له كل هذا الجديد الغريب فرصة التمادى سائلا:
ـ حضرتك، تتحدثين عن هضبة الأناضول بيقين الدارس المتخصص.
ـ هذه بديهيه جغرافية يا أستاذ جلال، ألست المدرس الذى سوف يدرس للأولاد.. أم أن الاسم اشتبه علىّ؟
ـ لا.. لست مدرِّسا، ولكننى قد أدرس للأولاد.
ـ لستَ مدرسا؟ إذن كيف تدرس للأولاد؟
وجد نفسه على بعد خمسين ألف فرسخ من الإجابة، فسارع مدافعا.
ـ أنا لم أدرِّس بعد لأحد، وبوسعكم أن تستغنوا عنى قبل أن أبدأ، والأستاذ أمين يعرف كل شئ.
انتبهتْ فاتيما إلى أنها أحرجته، فتراجعت، واعتذرت، وازداد وجهها احمرارا وجمالا وإشراقا، هذا الوجه المشرب بهذه الحمرة وسط هذه الهالة البيضاء، يجمع بين قرص الشمس بعد اكتمال بزوغه مباشرة من الشرق، وبين استدارة القمر فى ليلة شتاء صافية تجلت فيها زرقة السماء بعد مطر طهرها مؤقتا من كل فضلات المدنية، هذا الكوكب الجدلى المصنوع من شمس مشرقة وقمر بدر دون حرف عطف، يطل عليه الآن فى تكامل فريد من بين ثنيات سحابةٍ لم تكتمل إحاطتها به، فرح بخجلها الذى أشرق عليه هكذا، وزال حرجه، فتجرأ ليسألها، على الرغم من علمه بطباع الأجانب، إذا ما اقترب غريب من خصوصياتهم، ومع ذلك وجد فى نفسه الجرأة أن يسأل:
ـ وأنت؟ حضرتك…. يعنى؟
ـ نعم؟
تراجع من فوره عما كان ينوى قوله، وحوّل الكلام:
ـ حضرتك مشغولة، أنا يمكن أن أنتظر وحدى حتى يحضر الأستاذ أمين، حضرتك تستطيعين أن تقومى لشئونك، شكرا.
بذل جهدا مناسبا وهو يحاول أن يتجنب التفكير فى إجابات للأسئلة المتلاحقة التى خطرت بباله عن حجابها، وحضورها إلى مصر، بل عن زواجها من أمين، بل إن سؤالا أخطر خطر بباله حتى تصور أنه كان يمكن أن يقفز دون استئذان بين هذه الأسئلة، سؤالا عن مدى معرفتها بعلاقة أمين بمنال، بل كاد يسألها عن حرارتها الجنسية وكيف وهى جاهزة بهذا الشكل، ينظر زوجها أمين إلى غيرها؟ أى والله، كل ذلك اختفى وراء ادعاء الأدب الذى زعم به أنه لا يريد أن يعطلها عن شئونها وأولادها، ثم إنها أجنبية، وغاية علمه عنهن أنهن لا يجالسن غرباء هكذا لمجرد انتظار زوج بالحمام، مادام هؤلاء الغرباء ليسوا أصدقاء العائلة، لكنها ردت:
ـ أهكذا الأصول يا أستاذ جلال؟ لقد تركتُ ألمانيا برمتها حتى لا أتركك وحيدا، كما يترك كل الناس كل الناس بعضهم بعضا هناك، لقد جئت هنا لأجالسك حتى يحضر زوجى، نتحدث.
كاد يرد عليها”جئت مصر لتجالسينى أنا؟ هنا؟ هكذا؟ نتحدث؟ لكنه امتنع فى آخر لحظة، وغمغم.
ـ شكرا.
أردف وكأنه يكلم نفسه، أو لعله كان فعلا يكلم نفسه: “… فيم نتحدث، ونحن لا نعرف بعضنا البعض؟ هل أحدثك فى الجو مثلما الأمر عندكم، أم نتحدث كما هى الحال عندنا فنغتاب أصدقاء مشتركين لم يوجدوا بعد؟ هل أحدثك بما أتصور؟ أو بما تتوقعين؟ أو بما اعتدت؟ “
كل ما نطقه بعد هذه التساؤلات الصامتة هو أن أعاد الشكر:
ـ شكرا.. شكرا.
ردّت وكأنها تقاطعه:
ـ على فكرة، قد يتأخر أمين أكثر مما تتوقع، فهو لم يتخلص من هذه العادة التى يسميها النظافة الواجبة وأسميها أنا الوسواس، أنت لا تعرفه، وليس عيبا أن أخبرك، لابد أن نتحدث فى أمر ما حتى يحضر، هذا من أجمل ما تعلمته منكم هنا.
ـ بصراحة أنا لا أتقن كثيرا واجبات الضيافة هذه، لم أكن زوجا تقليديا، لم تكن لى أسرة بالمعنى المألوف لمدة كافية.
ـ وحيد أنت؟ .
ـ ليس تماما، لم أشعر بالوحدة الحقيقية إلا خلال تلك الأشهر التى أمضيتها فى عش الزوجية، لماذا أسموه “عشا”.
ـ ربما ليسهل تحطيمه.
ـ كذا …؟ .
ـ يبدو أن هذا هو ما فعلتـَه أنت، وبسرعة.
ـ ليس تماما، لم أفعلها وحدى، كان عشا هشا أصلا، ثم إننا قد اتفقنا نحن الاثنين على أن المسألة لن تنفع، فعلناها بشجاعة وبسرعة قبل أن نخسر بعضينا، وازددنا صداقة بعد ذلك.
ـ فعلتم مثلما نفعل عندنا، يا خسارة.
ـ خسارة ماذا؟
ـ خسارة هدم عش لمْ يتكون، وأيضا خسارة أنكم لا تأخذون منا إلا ما لم يعد يصلح لنا، ولا لكم، ولا لأحد.
صمت وكأنه تمادى أكثر من اللازم، أو كأنها تمادت هى، وحاول أن يطرد أغنية مقتحمة “والنبى لا هشُّهْ يا لـْعصفورْ، وأنكشْ له عشـُّهْ، يا لـْعصفورْ ”
استسلامه مكـَّنه من أن يعاود محاولة طرد الأغنية، مع أن أثرها ـ هكذاـ هو الذى جعله يتمادى:
ـ هل تسمحين أن أستفسر أكثر؟
ـ طبعا، نحن فى مصر.
ـ نحن أين؟ آسف.
ـ … أقصد : لسنا فى شتوتجارت.
ـ يبدو أنك تعرفين مصر أكثر منى.
ـ أنا أعرف مصر التى جئتـُها، ولكن يبدو أننى لا أعرف مصر التى وجدتُهاَ.
ـ وأى مصر تتوقعين منى أن أمثلها.
ـ أنا لا أعرفك بالقدر الذى يسمح لى بالتصنيف هكذا، أنا دائمة البحث عن مصر، التى أحبها، مصر التى تسمح لك الآن أن تقترب دون استئذان.
(أقترب؟ أقترب أنا دون استئذان، أقترب من قرص الشمس القمر؟ أحترق يا سيدتي!! أذوب)، لم يقل ذلك لكنه التقط الضوء الأخضر: ـ هل اسمك الأصلى هكذا “فاتيما”.
ـ نعم، فاتيما، أمى كانت عندها صديقة أسمتنى على اسمها، فاتيما اسم معروف، ألم تسمع عن سانت فاتيما. ميدان سانت فاتيما هنا فى مصر الجديدة.
ـ آه، صحيح، وهل هو ما يقابل فاطمة عندنا؟
ـ لا أعرف، يبدو ذلك، على كل حال يظهر أن أمى كانت تستجيب لحدسٍ ما ينبئها أن هذا الاسم يتفق مع مسار حياتى.
ـ ألم يخطر ببالك أن تغيـّريه إلى “فاطمة”؟
ـ ولماذا؟ لو كان اسمى فرانسواز لاحتفظت به كما هو، إن تغيير الأسماء له دلالة قبيحة، وهو خطر على الهوية التى تكونت منذ الصغر.
زادت ربكته بدرجة لم يتوقعها وتمنى فى ثانية، إحدى ثلاث أمنيات، أو هن جميعا: أن يحضر أمين فى الحال، أو أن يصاب هو بالبكم، أو أن يقفز من النافذة، ومع ذلك أكمل فى اندفاعة مباغتة وهو يحدث نفسه “سوف أقول وما يحدث يحدث:”
ـ هل تغيير الاسم أخطر على الهوية من تغيير الدين؟
ـ أنا لم أغير دينى يا أستاذ جلال.
”الآن حصحص الحق”: قفزت هذه الكلمات: جملة ثقيلة من رأسه إلى مقعدته لتثبته على الكرسى حتى لا يقفز منه، هى مازالت على دينها، وهذا جائز، فى الإسلام، بل إن هذه الحقيقة كانت من ضمن الإضاءات التى أضاءت له جانبا من دينه حتى تمنى أن يجوز العكس أيضا، هى مازالت مسيحية، قالها لنفسه وهو يواصل المغامرة غير المحسوبة، هى التى تشجعه بكل الإشارات والتحولات.
ـ فلماذا هذا الحجاب؟ أليس حجابا؟
ـ وهل تشعر أنه يحجبك عنى؟ أو يحجبنى عنك؟
”أى امرأة هذه؟ سأل نفسه ـ وما السبيل إلى التراجع؟ وإلى متى تطول وساوس أمين فى الحمام؟ ثم انتبه ليجيب عن تساؤلها:
ـ يحجب؟ أبدا أبدا، لا أبدا.
(هل يمنع السحاب قرص الشمس من مواصلة الشروق؟ أم يزيده طزاجة وجمالا؟ ، لم يقل ذلك).
ـ أنا أخذت ذلك القرار بنفسى على الرغم من أنه ليس سَنـّة مؤكدة.
”الله أكبر” قفزت هذه التكبيرة السرية فى رأسه مثلما قفزت “حصحص الحق” لكنها لم تتثاقل إلى مقعدته، بل ثبتته فى السقف بسلك صلبٍ خفىّ، “سنة مؤكدة!!. ” هذه الألمانية الأعجمية الجميلة تتكلم عن السنة المؤكدة؟ ما كل هذا الفقه يا حاجَّة؟
أنقـذه من تماديه فى الدهشة التى ظهرت بوضوح على وجهه أنها استطردت دون توقف:
ـ الأمر بالحجاب كان لنساء النبى عليه الصلاة والسلام، وأمين ليس نبيا كما تعلم.
لا… لا.. لا… المسألة أكبر من تصوره، بل من قدرته على المتابعة، المفاجآت سريعة، ومتلاحقة وهو لم يستعد لها، مع أن عنده إجابات وإسهامات، بل اجتهادات، كم اضطر إلى مناقشتها ـ بلا لزوم ـ فى محافل لا فائدة من ارتيادها، إذن فقد أسلمت، فكيف قالت إنها لم تغير دينها؟ لم يجرؤ أن يسألها، ورجح أنه أساء السمع، فرك أذنيه واكتفى بالتعليق على الجملة الأخيرة وكأنه يمزح (وهو يطرد من ذهنه علاقة أمين بمنال).
- .. أعرف طبعا أنه ليس نبيا، أعنى أن أى أحد منا ليس نبيا، وهذه رحمة من الله، أليس كذلك؟
ـ طبعا، من ذا الذى يقدر على هداية الناس هذه الأيام؟ الأنبياء نجحوا فى مهمتهم؛ لأن الناس كان عندهم اشتياق واستعداد لما أتوا به، فضلا عن أنه كان عند الناس وقت للاستماع لهم.
قال ساهما مستسلما:
ـ يبدو ذلك.
-2-
لولا أن دخل أمين فى هذه اللحظة فربما كان قد سألها عن مدى علمها بعلاقة أمين بمنال، تنهد حتى كاد يسمع زفيره، وكأن يدا انتشلته من متاهة أخذت تتشعب به مساراتها، حتى بدت كسيقان أخطبوط هـُلامى أصيب بسرطان شرس يـُفرز له ساقا كل ثانيتين، استأذنت بابتسامة أعذب فأعذب، وتركتهما “يأخذان راحتهما”، هكذا قالت باسمة وهى تنصرف.
ـ أهلا أستاذ جلال تأخرت عليك.
ـ أبدا.
ـ لعلك استأنست بفاتيما، تعرفتما طبعا، يقول أصدقائى إنها محدثة رائعة، بعضهم يقولون إنها مصرية أكثر منى، تصور أننى أكاد لا أعرفها كما يعرفها أصدقاؤنا المصريون.
ـ والأجانب؟
ـ ليس لنا أصدقاء أجانب، إلا أقل القليل.
ـ هل لى أن أتطفل فأسأل لماذا؟
ـ هى التى اختارت ذلك، حاولت أن أعرّفها على كثير من الألمان الذين أتعامل معهم فلم ترحب، وهى تزعم أن الأجانب لا يعرفون الصداقة.
ـ وهل يعنى نحن الذين نعرفها؟ هل أخفيتَ عنها ما آلت إليه حالنا؟ ألم تلاحظ ذلك بنفسها؟
ـ لاحظتْ، لكنها تصر، وهى تزعم أن مصر التى جاءت إليها مازالت كما هى، ولكن أصحابها لم يعودوا يرونها كما ينبغى، وهى تتصور أنها تستطيع أن تسهم فى إنقاذها…
ـ إنقاذها؟ من أهلها؟ منا؟
ـ .. ربما، وربما من أهلها هى، من الغرب الذى هربت منه.
ـ بصراحة، لست فاهما.
ـ بينى وبينك، ولا أنا!.
ـ لكنك قلت لى إن بنتكما عمرها 14 سنة.
ـ حصل.
ـ ومازلت لا تفهمها؟
ـ نعم.
ـ عندك حق.
خطر ببال جلال أن يربط بين دهشة أمين عبد الحكيم الممتدة عبر خمسة عشر عاما بمقاله المنشور فى “الأهرام”، لكنه لم يجرؤ مستبعدا تماما أن يكون من قراء الملحق أصلا، فاستجاب لإغراء الحديث الدائر:
ـ هل تسمح لى يا أستاذ أمين أن أسأل أسئلة خاصة بعض الشئ، أعنى أسئلة قد تبدو خاصة، وهى ليست كذلك تماما، بل لعلها تتعلق بالمهمة التى جئت من أجلها، أعنى: التى تصورتُ أنه يمكننى القيام بها، بصراحة هى أسئلة تتعلق بك أنت والسيدة فاتيما، وهى قد تحدد معالم مهمتى، أعنى فكرتى، لا أقول مشروعى الآن.
ـ تحت أمرك، ولكن أذكرك أن فاتيما هى التى تحمست للفكرة حين نقلتها من منال إليها.
ـ… لكنها انزعجت حين عرفت أننى لست مدرِّسا محترفا.
ـ هل انزعجت؟
ـ خيل إلى ذلك.
ـ لا أظن، لقد أفهمتـُها بوضوح أنك لست مدرسا محترفا، بل لعلى قلت لها إنك لست مدرسا أصلا، وإن كنت لا أذكر هل حددت لها مهنتك الأصلية أم لا؟ ألستَ صحفيا مازلت؟
تمنَّى جلال أن يسأله ـ بالمناسبة ـ إن كان قد قرأ مقاله فى “الأهرام” أم لا، خجل وتردد، طبعا هو لم يقرأه مع أنه متعلق بالموضوع.
ـ أحمل بطاقة النقابة، وأكتب أحيانا.
ـ آه، صحيح، لقد قرأت مقالك الأخير فى “الأهرام”، وتصورت أن لقاءنا هو الذى أوحى لك به، وإن كنت لم أفهمْه كله.
كاد جلال يقفز من الفرحة. أخيرا وجد من قرأ المقال، بل فاتحه فيه، كاد يكذب ـ مجاملة ـ ويدعى أنه استوحاه فعلا من لقائهما، لكنه تراجع.
ـ بصراحة أنا كتبته قبل أن ألقاك.
ـ ربما، لأن “منال” حين حدثتنى عن فكرتك، كانت بهذا الوضوح، لابد أن تكون قد كتبتـَه قبلَها، ولكن ألم تـُضف إليه أى شئ بعد مقابلتنا، مراجعة مثلا، تعديل.
ـ بصراحة: مقابلتنا فتحت لى باب التراجع لا المراجعة.
ـ تراجع عن الفكرة، أم تراجع عن الصفقة التى سوف نعقدها معا الآن؟
ـ صفقة؟!!.
ـ لا تؤاخذنى فى كلمة الصفقة، حكم المهنة طول النهار والليل صفقات صفقات.
راح جلال يشرح له كيف أنه تراجع عن التراجع بعد أن قابل السيدة فاتيما، وأنه شعر أن من يترك وطنه من أجل فكرة ما، هو أشجع ممن يترك مهنته من أجل مهمة مثل ما ينوى، وأنه قرر أن يواصل مهمته ما أتاحوا له الفرصة لذلك، ثم انتبه أنه لم يقل حرفا من ذلك، انتبه على صوت أمين يقول:
ـ .. ما أوّلهُ شرط، آخرهُ نورْ.
ـ تذكر يا أستاذ أمين أننى لم أعـد إلا بالإخلاص والتفانى والوضوح، وقد يفيدنى فى نجاح مهمتى أن أعرف المطلوب منى تحديدا.
ـ عندك حق، فما أطلبه أنا غير ما تحلم به أمهم.
ـ ماذا تطلب أنت أولا؟
ـ أنا؟ ليس مهما ما أطلبه، إن كان علىَّ أنا: أرسل الأولاد ليتعلموا فى بلد أمهم، وأشترى لهم أى جنسية تضمن مستقبلهم، أو ليتجنسوا بجنسية أمهم مع أنها لا توافق، ويا دار ما دخلك شر.
ـ.. أنا آسف، لكن ما دام الأمر كذلك، ففيم نتكلم إذن؟
ـ أعني أن فكرة التكامل ومثل هذه الأشياء التى لا أفهم فيها كثيرا هى فكرة أمهم، بل إنها تقول إنها هى التى ربطتها بى، بمصر، وأنا على الرغم من عدم الفهم، وافقت عليها، بل ربما استحسنتها، بل إنى ضبطت نفسى أتفرج منتظرا نتائجها، ثم التقت أحلامها، أو قل طموحاتها بفكرتك، أو مشروعك، أو اقتراحك،، هذا كل ما فى الأمر.
ـ فما هى فكرتها؟ .
ـ ألم تسألها أثناء غيابى فى الحمام؟
ـ طبعا لا، ثم إنها قالت لى كلاما أربكنى، كلاما أنا السبب فى إثارته حتى أنى نادم.
ـ نادم على ماذا؟
ـ لم يكن يصح أن أفتح موضوع الدين أصلا.
ـ آه، فهمت، لابد أنها قالت لك إنها لم تغير دينها.
قالها أمين ضاحكا وواصل.
ـ إنها تعتبر نفسها، ماذا أقول لك؟ شئ أشبه بما كنا نسمعه عن دين إبراهيم أو الحنيفية، هل سمعت عن مثل ذلك؟
ـ …. ملة إبراهيم حنيفا.
ـ ولهذا فهى تعتبر أنها لم تغير دينها.
ـ ولكن، لا تؤاخذنى… لا… لا… آسف دعنا من كل هذا، إذن فهى مسلمة.
ـ أكثر منى ومنك.
- أكثر منى نعم، ولكنك…ما علينا، هل أتجرأ وأسأل المزيد حتى أعرف بعض التفاصيل التى قد تكون لازمة للتعرف على أية أرض أسير، إذا ما قمت بمهمتى للأولاد؟
ـ أرجو أن تكون عندى إجابات تنفع.
ـ ربنا يستر.
ـ يا رجل توكل.
-3-
لم يعرف جلال كيف تجرأ وسأل عن كيف تعرفا، وكيف تزوجا، ولم يتصور أن أمين يمكن أن يحكى له كل ما حكى هكذا بأقل قدر من التردد، وهو يترجـح بين الاستمتاع وهو يحكى، والابتسام، والتعجب، وكأن الحكاية حدثت أول أمس، وليس منذ أكثر من خمسة عشر عاما.
قال له إنها ليست قصة حب بالمعنى الشائع، وإنه لم يتعرف عليها أثناء سفره للخارج كما هو مألوف. قال له إنه تعرف على فاتيما عن طريق طبيبة كانت تساعد والده، تذكر جلال ما حكته منال عن والد أمين، الطبيب النفسى المعروف، فتابع ما يحكيه أمين وهو ما زال يتعجب من أن ينتهى ابن الدكتور عبد الحكيم نور الدين إلى أن يكون تاجر سيارات، حتى لو كان بكل هذه الثقافة والرشاقة والتحضر، ولابد أنه سأله عن ذلك بشكل ما، ذلك أن أمينا قال.
ـ تاجر سيارات والحمد الله، جاءت سليمة، هربت بجلدى من سنة ثانية طب.
ـ آسف ….، ولكن! يعنى، هل وافق والدك على هذا التحول؟
ـ رسبت ورسبت ورسبت حتى اضطر أن يوافق، كان هذا هو السبيل الوحيد لإقناعه، لم أكن أقصد، والتحقت بكلية التجارة.
توقف أمين عن الحكى، وتساءل بصوت مسموع عما استدرجهم إلى كل هذه التفاصيل، وما علاقة ذلك بما تقابلا بشأنه.
ـ هل ستكتب قصة أم ستبدأ دروسك للأولاد بتعريفهم كيف تزوج أبوهم أمهم، أو كيف تحول مسار أبيهم الدراسى؟
لم تمنع هذه الجملة الاعتراضية من أن يمضى أمين فى سرد تفاصيل كيف أنه التقط هو ومساعدة والده، الدكتورة إصلاح فاضل خطط والده الخفية (ثم اعتذر عن أنه ذكر اسمها ولكنه عاد وبرر وأعلن أنه لا يذيع أسرارا)، وأردف أنهما ـ هو والدكتورة إصلاح ـ اكتشفا أن والده كان يخطط لزواجهما من بعضهما بشكل أو بآخر، وذلك بعد أن فشل أمين فى استكمال دراسته فى كلية الطب، وقد رجحت الدكتورة أن أستاذها يريد أن يعوِّض فشله فى أن يمتد فى ابنه، بأن يحول امتداداته إلى الزوجة التى يختارها له، وربما إلى أبنائهما، وكلام من هذا.
ـ شئ معقد لم أفهمه كثيرا، كلام صعب كان يحلو لوالدى وللدكتورة إصلاح أن يتبادلا الاتهامات بمثل هذه اللغة.
أضاف أمين أنه كما ترك كلية الطب، تركت الدكتورة إصلاح والده ودارت 180 درجة هى الأخرى والتحقت بشركة للأدوية، وفتح الله عليها، وتوثقت علاقتهما، كمن يجد رفيقا له يهربان معا من ذات الخطر الذى يهددهما.
ـ خطر؟ أبوك كان خطرا؟
ـ لست أدرى، لكن الدكتورة إصلاح كادت تتهمه بالجنون أحيانا برغم أننى أقسم أنها كانت تحبه، ليس فقط كأستاذ لها ولا حتى كوالد، كانت تحبه فعلا، وربما لهذا تركته.
ـ وأنت؟
حكى أمين أنه كان يحب والده، على الرغم من أنه كان غريب الأطوار، وافر الأحلام، مزعج الآراء، شديد التقلب، ورجح- بأدب- أن مهنة والده هى التى أفسدته.
ـ كان يريد لنا، منا، أنا وإخوتى وإصلاح وتلاميذه (كان كثيرا ما لا يميز بيننا) كان يريد منا، لنا، أن نكون غير الناس، أن نكون الناس الذين يتصور أن ربنا قد خلقهم على شاكلته، على شاكلة أبى أو على شاكلة ربنا، لست أدرى، قالت لى إصلاح مرة ـ بعد أن تركته، أوبعد ذلك لا أذكر، أنه غالبا كان يريد أن نحقق له ما فشل هو فى تحقيقه.
ـ يبدو أنها لم تنس المهنة بعد أن تركته.
ـ الغريب أنها كانت تعرف تماما موقع شركات الأدوية التى هربت إليها من فكر والدى.
ـ لعله نفس موقع تجارة السيارات.
ـ بالضبط، أنا وهى عملنا عكس ما كان يريدنا أن نعمل تماما.
توقف أمين عن الحكى وكأنه يراجع نفسه، وتعجب مرة أخرى كيف استـُدرج إلى كل هذه التفاصيل، وعاد يسأل نفسه: هل حقا هناك علاقة بين المهمة التى جاء جلال من أجلها، وبين ما يحكيه؟ وكيف حكى كل ذلك لواحد لا يكاد يعرفه، مهما كان قد ارتاح له أو أحبه؟ ولماذا يشعر بالألفة هكذا مع هذا الشخص الغريب، القريب؟
قرر أن يختصر: فذكر كيف عرفته الدكتورة إصلاح على فاتيما ابنة رئيس مجلس إدارة شركة الأدوية التى تعمل بها، وكيف أن هذا التعرف كان فى مناسبة مؤلمة، رائعة، غريبة.
ـ كانت مناسبة تأبين شقيق فاتيما الذى استشهد فى فلسطين.
ـ نعم؟ نعم..؟
ـ استشهد فى فلسطين.
ـ هل أسلم هو الآخر؟
ـ وهل من الضرورى أن يسلم حتى يحارب مع الفلسطينيين ليحرروا أرضهم؟
ـ تقول استشهد.
ـ نعم، ماذا فى ذلك؟
ـ آه، صحيح ماذا فى ذلك؟ يحاربون معا، ويموتون معا، فلماذا لا يذهبون معا؟
أكمل أمين:
- أعتقد أن الدكتورة إصلاح، تصورت أن فى هذا الزواج ما يؤكد مزيدا من البعد عن أفكار والدى، لكننى فوجئت أن أفكار فاتيما هى أقرب إلى أفكاره!!، أفكار والدى.
ـ ماذا؟
ـ لعلى أخطأت التعبير، فوجئت أن أحلامها أقرب إلى أحلام والدى (“يعنى”!).
اقترب جلال أكثر، ليس من أمين، وإنما من حلم غامض مشترك، هل يمكن أن تأتى واحدة من أقصى ألمانيا لتتزوج واحدا، من أقصى مصر (الجديدة)، لأنها تشارك أباه الذى لم تره أبدا حلما لا يقره ابنه الذى من ظهره، ومع ذلك تزوجها؟ ما هذا؟ يقول أمين إنها لم تكن قصة حب، كانت نوعا من الهرب اللذيذ إن صح التعبير السمج، لكن ما الذى جعل فاتيما تقبل نقيضها؟ هل رأت فى داخله أباه بحدْسٍ ما؟ صمت جلال صمتا طويلا نسبيا، وصمت أمين لنفس الوقت وكأنهما ـ فجأة ـ اتفقا على أن هذا يكفى. مع أن جلال راح يفكر فى الشبه بين جنونه وجنون هذا الطبيب الحالم، والد أمين وعلاقة هذا وذاك بشطح تلك المرأة القادمة من الشمال، هل هى نفس الدائرة تدور نفس الدورة فى تجليات مختلفة، لماذا تتعقد المسائل بهذه الصورة؟
قطع جلال الصمت متسائلا:
ـ وما الحل؟
ـ حل ماذا؟
فعلا. حل ماذا؟ انتبه جلال إلى أنه ليست هناك مسألة بذاتها يحاولان حلها، وأنه جاء يتعرف على الأولاد، أو يحدد الميعاد، أو يتفق على المهمة، ولم يجئ ليحل مشكلة الكون، أو ليعمل بحثا لمقارنة الشرق بالغرب، أو الأديان وبعضها، أو حتى منال بفاتيما.
استسهل جلال أن يهرب فى التساؤل الأول: إذا كانت فاتيما بكل هذا الحضور، والجمال، والإخلاص، والحيوية، والحرارة؟ مالذى يجعل “أمين” يرافق “منال” التى لا تفعل شيئا إلا أن تتفرج عليه فى الفراش؟ هل هذا هو السبب الذى يجعله لا يغار منه على منال، ولكن بأى صفة يغار؟ لعله – أمين- مازال يواصل الهرب من أبيه؟ من فاتيما التى تمثله بشكل ما.
قال جلال فجأة:
ـ نرجع إلى موضوعنا، لا أريد أن أعد سعادتك إلا بما أستطيع.
قالها جلال وهو يكاد يرجو أن تنتهى المقابلة بفض المسألة قبل أن تبدأ.
ـ بصراحة أنت صاحب الفكرة التى أفهمتـْنى منال أنها بالنسبة إليك محددة تماما.
(محددة ماذا ياعم، كان على منال أن تنبـِّهك إلى ما تعرفه من جنونى).
أضاف أمين وقد بدأ يتململ:
ـ المسألة أن ثم وجه شبه بين ما وصلنى من فكرتك، وبين ما تردده زوجتى أحيانا بشأن مصر، والأولاد، ومستقبلهم فى العالم الواسع، وكلام كبير من هذا، فلا تحشرنى فى الموضوع أكثر من ذلك، لعلى أخطأت، مسألة تغيير الأطفال، وتغيير الكون، مسائل تبدو لى مضحكة، لقد اكتفيتُ شخصيا بالدعوة إلى تغيير السيارات كل عام.
لم يعقـِّب جلال فمضى أمين متعجلا:
ـ أنا واضحٌ تماما، وهذه هى أهدافى، ليست لى أية علاقة بما تطمع فيه زوجتى أو كان يطمع فيه والدى، أو ما تخطط له أنت، كل ما فى الأمر أننى أعرف كيف أوزع الأدوار لأتفرَّغ لدورى شخصيا، اعذرنى وسوف أناديها لك تتفق معها على الوقت والنظام، حتى أكمل ارتداء ملابسى.
الخوف الذى طرأ على جلال كان جديدا، كان كمن أفاق فجأة على أمر لم يكن واضحا بدرجة كافية، هذا الرجل، الأولاد، الحلم، مصر، ألمانيا، إيش أدخله هو فى كل هذا؟ لماذا صدَّقته منال؟ لماذا قـبل أمين؟ مـَنْ فاتيما هذه؟ ماذا يريد هذا الرجل لأولاده؟ ماذا تريد هذه الخوجاية؟ ماذا يريد هو؟ هل الأولاد لعبة؟ حقل تجارب؟ أى نموذج هو يسعى إلى تحقيقه معهم؟ مثل من سيكونون؟
نطق الجملة الأخيرة بصوت مرتفع، كانت فاتيما قد حضرت دون أن يشعر، ويبدو أنها سمعت الجملة الأخيرة وقد قالها بصوت عالِ، قالت:
ـ أريدهم أن يكونوا مثل أنفسهم.
ـ يعنى ماذا؟
ـ لا أعرف، لقد تركتُ بلدى وجئت مصر لأعرف .
تعرف هى أو لا تعرف، هو ماله؟ ما الذى أتى به إلى هنا؟ وكيف تحدث إليه أمين وكأنه صديق قديم؟ هل تذكـّر أمين والده من خلال شئ ما فى مشروعه لتعليم الأطفال؟ ماذا قال هو بالضبط هل هو الشطح أم الخيبة البليغة؟ ليس يدرى، ربما كلاهما، يشك جلال أن”أمين” قد حكى أيا من هذا الذى حكاه له لأحد قبله، كان يحدث نفسه، خيل إلى جلال أن”أمين” هذا تجنب مثل هذا الحكى سنين كثيرة، ربما طول العمر، فما الذى جعله يحكيه هكذا لشخص لا يعرفه، ربما هو فعل ذلك؛ لأنه لا يعرفه، وهل جلال هو الذى يعرفه؟ هل جلال يعرف جلالا؟ كان منذ قليل يسأل فاتيما عن أولادها تريدهم مثل من، وهو شخصيا؟ .جلال نفسه، مثله مثل من؟
صحفى وخاب، زوج فاشل، شخص مهزوز، لم ينجح فى أن يتخلص من إيمانه، ولا هو نجح فى أن يكتشف إيمانه، دروس ماذا وهباب ماذا؟ لا. لن يسمح لنفسه أن يضر أحدا، يقسم بالله أنه لن يضر أحدا، خصوصا الأطفال، لن يستطيع وحده أن يقاوم كل هؤلاء: الحكومة والنقود والناس والأشباح، والمشايخ والمثقفين والسبعينيين والثوار والتنويرين ومناديى السيارات. هل هو يستسهل؟ هل هو يضع همه وحلمه فى الأطفال المادة الخام التى لا تقاوم؟ كيف تصور أن تنظيم دماغ طفل أو عدة أطفال سوف يقف فى مواجهة كل ذلك؟ كان غيره أشطر، طاغور، جارودى أو حتى بيجوفتش، قال تدريس لغات قال!!؟ هل هذا هو الذى سوف يفك الشفره بين الإنسان والطبيعة؟
الله يخيبه.
طيب، ماذا لو اكتشف أنه لو وصل إلى فك شفرة هذا الحوار فإنه سوف يجد نفسه متورطا فى إيمان ليس هو قدره، لم يستعد له، وحتى لو نجح فى أن يتقبله مضطرا مستسلما فرحا مرعوبا، فمن أين يأكل؟ مثل هذه الدروس الخصوصية لا تؤكـِّل عيشا، وهو يحاول أن يقنع نفسه أنه مستعد أن يبيع نفسه بالقطعة لصحف الخليج، حتى يتمكن من دفع الإيجار، وفاتورة النور، وسداد بعض الأقساط المتبقية التى تورط فيها بسبب زواجه الفاشل، ولكنهم لا يشترون أمثاله.
ـ 4 ـ
مال أمين على أذن جلال وهو يودعه:
ـ سلم لى على منال إذا قابلتـها قبلى.
التفت جلال إليه دون انزعاج، ودون فهم، وردّ.
ـ الله يسلمك.
وقبل أن يغلق أمين الباب استدار جلال إليه فجأة، وكأنه نسى أمرا مهما وسأله:
ـ قل لى: هل تزوجت الدكتورة؟
دهش أمين، وتساءل:
ـ أية دكتورة؟
ـ الدكتورة إصلاح.
قهقه أمين عاليا وسأله فى سرور باد:
ـ لماذا؟ هل تشاور عقلك؟
ابتسم جلال، واعتذَرَ، وعـَرِقَ، وادّعَى المـِزاحْ، ونزل السلالم عدوًا.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .