نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 15-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3970
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الحادى عشر (والأخير)
“إبراهيم الطيب”
-1-
كلما اقتربت من نهاية مرحلة ما – أو خيل إلى ذلك – أحسست بخطورة الخدعة، لا بد من اليقظة المستمرة حتى لا يستدرجنى أى بديل مهما بدا براقا سهلا، أخذت دورا أكبر من قدرتى…. أخذته بكامل وعيى وحسب رؤيتى، وأعتقد أنى قمت وأقوم به بكفاءة، ترى هل هذا الدور هو أنا؟ ألا يمكن أن يلهينى عن حقى فى الحياة؟ هذا هو الخطر القائم المهدد، منتبه إليه ملء وعيى… لكنى لست مترددا ولا متراجعا، يبدو أنه ليس عندى بديل.
وحيد تماما، بالرغم من أنى أشعر أن نبض الحياة فى داخلى يكفى لأن يدفع بعجلة الناس- كل الناس- إلى نهاية المطاف، المطاف الذى لا أعرف له نهاية، أتساءل لماذا لا يدفع عجلتى أنا أولا، أحيانا أحس أن عجلتى تلف مثل “كورونا” السيارة لتدفع بهذه اللفات عجلاتهم إلى الأمام، هل تكون هذه الحركة ذاتها انتقال بى إلى الأمام ضمنا؟،
وهـْمٌ آخر أخشى الوقوع فيه، لا أحد يدرى ما بى، ربما لا أريد أن يدرى بى أحد، كل واحد منهم يتصور أنه يستمد منى شيئا ما، أجد فى هذا ما يبرر استمرارى، أغلبهم يطمئن لوجودى، يثقون فى، هكذا يخيل لى… ولكنى أزداد وحدة حين تخطر على بالى حقيقة موقفى، وأن أحدا منهم لا يرانى كما أنا، ومع ذلك فأنا أحبهم، وهل أملك إلا هذا؟ تبدو حياتى فى حبهم وحب من هم مثلهم ومن ليسوا مثلهم، فقط أريد أن أحب نفسى بنفس القدر ونفس الوضوح، “أن تـُحـِب” هذه ثروة أخرى أرحب وأدوَم.
أكرمونى بكل ذلك…. ولكنهم قيدونى قيدا عنيفا لا أعلم كيف السبيل إلى أن أتخلص منه، ولا متى، تـُرى هل سيستمر الأمر هكذا إلى نهاية المطاف؟ جاهز أنا لحملكم من أول فردوس الطبلاوى حتى عبد السميع الأشرم، حتى غريب نفسه لم يتنازل عن ذاته تلك المرة إلا وأنا أحيط به، كل هذا يعطى معنى لوجودى، أحس أن بقائى على هذه الأرض – رغم كل شئ – هو مفيد بشكل ما، ألا يعطينى هذا الحق فى أن أستمر، بل الفرحة فى أنى مستمر.
أرجع أتساءل: هل هو حقى أم واجبى؟ أحس أن الفرق ليس كبيرا، لا أشعر بحقى فى الحياة إلا من خلال تواجدى معهم، فأين حقى الذى اكتسبته بالولادة، هل نسيت أمى أن تعطينيه؟ هل ضاع بين اللفائف والضجة وبقايا الأشياء؟ هل أخذه الناس خطأ قبل أن أتعرف عليه أنا صاحبه الأول؟
وحيد حتى القاع، وحيد فوق القمة، وحيد معهم وبهم ولهم، لا مانع، هى البداية غالباً، وسأظل وحيدا حتى يرانى أحدهم دون أن يستدرجنى إلى لعبة البيع والشراء، دون أن يمصمص شفتيه، دون أن يجرجرنى إلى الوراء طلبا للراحة، دون أن يرفعنى على كتفه أو يقفز فوق رأسى ويدلى قدميه حول رقبتى، وحيد معك أنت شخصيا يا شيخى الطيب، لن أنكر فضلك ما حييت حتى لو لم أتقدم خطوة عما أنا فيه، كان موقفك هو مفتاح هذه المرحلة التى أخوضها بكل ألمها وقسوتها وعبثها وروعتها، لم تـُشـَوِّه زوجتى الداعرة، ولم تصفها بذلك، أنا الجبان الذى كررت ذلك مرارا، جئتك وفى قلبى حقد العالمين ولم يكن قد تبقى إلا الترتيبات النهائية حتى أقبض روحها حقيقة لا مجازا، ماذا بعد الخيانة؟ الكذب والخديعة يخرجان لى لسانهما فى مرآة الحمام…. وزجاج الأتوبيس، وشمع الأرضية، صورتها تبصق فى وجهى والأطفال فى الشارع يشيرون إلى هاتفين “أبو خليل، أبو لبن” “كرباج ورا يا اسطي” قرأت ذلك فى نظراتهم، لم يصل بى الحال إلى سماع مالا يقال، ولكن الخيانة أكبر من احتمالى، وياليتها خيانة فيها قصة حب أو أى قصة مما نسمع عنها، كانت مجرد خيانة مفتوحة النهاية، كيف لم أشك فيها قبل ذلك؟ جئتـك يا رجل لتصدمنى بحقيقة أن الحكاية – مثل كل حكاية – تبدأ بداخلى أنا: تعلمت معنى آخر لكلمة “المومس”، اكتشفت أن أى علاقة غير صادقة هى علاقة مومسية، جاءنى اليقين من خلالك حتى كدت أشكر زوجتى المسكينه أنها صدتنى بهذا الوضوح بدلا من أن تواصل ممارسة معى نفس العلاقة بورقتنا المشروعة فأظل مسحورا منوما حتى الموت، رحمتنى معرفة هذه الحقيقة من الانسياق وراء مبررات القتل والانتقام التى كان يمكن ألا يكون أمامى غيرها، لكنها فتحت على أبوابا لا قبل لى بها، ورؤية لا يحتملها أحد لكنها حقى بلا شك، وشرف وجودى.
أوقفتنى يا شيخنا على الأرض عاريا معزولا، نزعت منى سلاح الانتقام والبكاء على الظلم والاضطهاد، هأنذا أمضى عاريا: جلدى ينزف وجرحى يفرز الصديد، والناس من حولى تلوّح لى بحقى فى الحياة، حقنا، ربما وأنا معهم، لست متأكدا، هل يكفينى هذا حتى الموت؟ كيف أكسر وحدتى يا شيخى الطيب؟ وعيناك تحذرنى من الاعتماد عليك، تخشى أن أتخذك بديلا عن نفسى؟ ولكنك أيضا أوقعتنى فيما ترى.
أنت تحيرنى يا شيخى، ماذا فعلت بوحدتك أنت، لعلك وحيد وحدتى وأكثر، هل ياترى لك جرح مثل جرحى؟ ما الذى رماك على الناس هكذا إلا قلة الناس، أكاد أقسم أنى أعرفك ولا أملك لك شيئا سوى هذه المعرفة، هذه العلاقة الصامتة تعطى لحياتى معنى آخر ولعلها تعنى لك شيئا حقيقيا، دون أن نعلنها يتهموننى أحيانا أننى مساعدك مثل إصلاح فاضل وأتمنى أحيانا أن أكون مساعدك فعلا، لو أن لى مثل مهنتك لاختبأت فيها بقية حياتى غير ملتفت إلى وحدتى وألمى أصلا، ولا مانع من الارتزاق على الماشى، أشك فيك أحيانا ولا أراك إلا حرفيا ماهرا، أعود وأراجع نفسى وأتساءل: وماذا فى ذلك؟ أليست حرفتك هى التى ضمدت جرحى فى نفس الوقت رغم أنه ما يزال ينزف؟ إلا أنى واقف أمسح ما يتراكم عليه بشجاعة عاشق الحياة المزمن؟ أحسدك على حرفتك وأشفق عليك منها، ربما تضطرك إلى نسيان نفسك بقية حياتك، أما أنا فمضطر لكسر وحدتى مهما استغرقت فى مساعدتهم، فرصتى أفضل منك، سأعطى نفسى لهم فترة موقوته تؤكد لى قدرتى، ثم أنطلق منها إلى… إلى… إلى أين؟ إلى ما يمكن بدءًا بنفسى! ولكن كيف؟ أحيانا أتصورك مريضا مثلنا سواء بسواء، لافرق بيننا إلا أننا ندفع وأنك تقبض، أنا أصارع وحدتى ليل نهار فماذا تفعل أنت؟ أنا أتقبل ما يلوح من حبهم بصبر وحذر حتى دون قصد منهم، هو يثرينى بما يناسب حاجتى، أعطيهم ما يريدون ولكنى لا أخدع نفسى، وأرتفع فوقهم.
لا أستطيع أن أميز من هو الأصعب فيهم، أحترم محاولات فردوس برغم ظاهر استسهالها:
- ابراهيم لا تبدو واثقا هكذا والا حسبـتــك ”مـَلـَكة”.
= هذا طريق أعرفه تماما يا فردوس…… ليس تماما تماما، ولكنى أعرف ضرورته وأنه ليس لى إلا السير فيه، أنا لا أكذب عليك يا فردوس ولا على غيرك حين أقول أنى أعرفه تماما لا أعنى ذلك تماما، لا أحد يعرف طريقه تماما، ثم هل ترين لى طريق آخر؟ وإلا.
- أنا أحبك يا ابراهيم،
= وأنا أيضا يا فردوس
- يا نهارأسود.
= ليس أسود من قلوب الحقد
أحبك يا فردوس، وأحب نجوى وبسمة ومختار وشيخنا الطبيب،.. ما المانع؟ هذا رغم وحدتى الشائكة، أو بسببها يا فردوس، هل أمامى شئ آخر غير أن أحب؟ الكذب هو الحرام الأوحد يا فردوس فلا تهربى من خوفك، غاية ما يمكن أن نحققه هو أن أراك بحجمك وترينى كما أنا، زوجك عبد السلام لا يعرف لك معالم، هو لذلك يكاد يغرق فى بحرك، لو أنك يا فردوس أكملتِ شيئا حقيقيا، لو أنك نجحت مع عبد السلام بشرط الصدق رغم العرى والصقيع، لو أنك فهمت معنى ما تقولين، إذن لانكسرت قوقعة وِحْدتى وأمِنـْتُ للعالم من خلالكما، وحدتى قاسية والفرصة أمامك أكبر وأعمق، عبد السلام صبور رائع، لم ينسحب بغباء الجبناء، عفارم عليك يا عبد السلام، أتمنى لو صبرت عليها أكثر حتى لا تضطرها للتمرغ فى وحل الخطيئة وهى لم تفتح عينيها بعد.
- ألا تخاف مما تقوله يا إبراهيم؟
= بل أخاف مما لا أقوله، يا فردوس
- وعبد السلام ؟
= هو مثلك يا فردوس بالنسبة لى، بل لعلى أحبه أكثر.
****
= ماذا تفعل يا عبد السلام وحدك؟،
- الألفاظ لا تسعفنى يا إبراهيم فهل تعرف مابى؟،
= الأطفال جوعى للمسة عطف.
- والنساء لا يحتملن الحرية أو الانتظار.
= والرجال أكثر،
كيف أحتمل أنا الحرية والانتظار؟! جرحِى ينبض بألم رائع، كيف أعيش إلا بكم؟ حسابات شيخى الطيب تلزمنى بالمسئولية عن كل ما جرى وما يجرى، آمنت بها حتى حسبتها حساباتى فزالت كل نوازع الانتقام، كلما غمرتنى آلامى حتى أكاد وكادت تثور علىّ فجأة أنسى كل شئ، أجرى نحوكم لاهثا أرتمى فى أحضانكم لأصدق وجودكم حوالىّ، جرحى غائر يا عبد السلام، ومتقيح ورائحته نافذة، هو هو الذى أتى بى هنا إليك يا عبد السلام، وإلى فردوس، وإلى كل الناس، خطيئتها ليست فوق الغفران ولكنى أصبحت الآن شيئا آخر، وأنت تعلم يا عبد السلام ماذا تعنى المحاولة، لم أستطع أن أستسلم لها فانقطعت خطوط الاتصال بيننا، لعبة الضياع ليس فيها كبير مهما اختلفت المعايير، من منا يا ترى وجد بغيته دون خداع؟ هى راحت تتدهور علانية، تزداد عمى وتزداد امتهانا لنفسها وتزداد بلادة، لم تعد تفهم أبسط العبارات ويبدو أنه لا أمل – فى مجال بصرى – فى إيقاظها، وأنا من يفهمنى لى؟ حتى بينكم، مع أنى أتصور أنى أفهمكم مجتهدا “معاً”.
حتى الشيخ الحكيم نفسه لا أجرؤ على خوض بحره وحدى، أخشى أن ينغلق عالمى عليه فلا يشعر بى إلا هو، أنتظر اصطحاب أحدكم إليه، أخاف أن أضع بيضى كله فى سلته، من يدرى فقد يكسرها فى لفتة هنا أو سهوة هناك – حتى بلا قصد، أنتم أهم عندى منه، وأنا أهم من الجميع، يا ليت!!، ياليتنى أصدق نفسى، إياك يا عبد السلام أن تتوقف عن المحاولة مع فردوس، ليست الشطارة فى أن تكتشف خدعة الحياة، ولكن أن تتحمل مسئولية اكتشافك.
تبينت دون قصد كيف كانت علاقتى مع “عزيزة” كاذبة مرهقة ثقيلة طوال سنوات طويلة، كان اكتشافا متسلسلا هادئا اتخذ شكل الضجر الثقيل المـُمـِلّ، حتى انتهيت إلى أن شيئا ما فى حياتنا لابد وأن يتغير، وما إن تراجعت بضعة خطوات، أنظم فيها صفوفى وأعود إليها لنبدأ من جديد حتى تبعثرت اللعبة كلها.
انتقل الضجر المر والابتعاد البطىء إلى إعلان الشرخ الذى ظهر بيننا: عميقا متزايدا معلـنا عن الأخدود القابع فى حياتنا من داخل الداخل…. ابتعدت أكثر ونسيت كل شئ إلا استحالة الاستمرار، كنت أتصور أنى أنتظر أن ترى صدقى وصبرى- فتحاول أن ترى الجانب الآخر، لم تستطع الانتظار، سرعان ما وجدتهم فى كل مكان، لم أنتبه إلا مصادفة، وهأنذا أدفع الثمن، وما أغلاه يا عبد السلام، فلا تفعل مثلى يا أخى، الله يسترك ويسعدك، لا تترك فردوس ولا تستسلم لها، كيف؟ لست أدرى، لا تفعل مثلى والسلام، ياليتنى أساعدكما فيما عجزت عنه أنا، ربما كان ينقصنا أنا وعزيزة ثالث أمين، فلأ كن لكما هذا الثالث الأمين فأكفر عن خطئ وألطف جرحى بنجاحكما،ونجاحنا، ياليت يا عبد السلام، ويا إصلاح، ويا شيخى ويا غريب، ياليت.
لماذا كل هذا يا غريب بالله عليك؟ مصيبتك كبيرة وأنا أعرف ذلك، ربما مصيبتى أكبر، ابتسامتى الواثقة، وجنونى المحب، ليسا دليلا على أنى أعب من نهر التفاؤل دون حساب، هما علامتا إصرارى على ألا أستسلم لهذه الوحدة القاسية، أنا وحيد مثلك وربما أكثر، جرحى لم يلتئم بعد، أنا هنا بجوارك يا غبى… صدق أو لا تصدق، موقفى منك يعطى حياتى معنى وأنا فى قاع الهجر والنبذ، إياك أن تحسب أنى أعطيتك شيئا من فضل، أنت تعطينى أيضاً، وربما أكثر، لو قبلت اجتهادى ومحاولتى.
آه لو تسمعنى يا غريب يا أخى، ماذا فعلت بوحدتك حتى تاريخه يا غبى؟ أنا وحيد مصارع، أما أنت فوحيد تدعى الحكمة بالاستسلام قبل أن تحاول أصلا، الجبن ليس وراءه إلا الصقيع، والخيال المر، الوحدة! لا مفر من محاولة كسرها، حتى لو ظللنا نحاول يا أخى ونحن بداخلها مدى الحياة، قد يكفينا شرف صدق المحاولة.
المسألة تستأهل، أنت يا غريب تمضغ الزجاج المكسور وتشرب ماء النار، وتجعل الحروف التى تقرؤها تدخل فى عينيك كأسنة الدبابيس! ثم ماذا يا رجل؟ ثم ماذا؟ لا أنت قادر على الموت والتبلد، ولا أنت تريد أن تحاول معى معنا، يدى ممدوة لك وقلبى مفتوح ووحدتى أكبر من وحدتك، فقط: خوفى أقل، لتعش معى هذا الخوف ونحن نحاول بصدق، ليست دموعا ما ترى فى عينىّ، هى قطر الندى الذى يطهرنا من أوزار الوحدة، أراها وراء مقلتيك بعيدا بعيدا، فلا تحبسها، الضعف ليس عيبا ولكن العار كل العار فى هذه الحياة هو الشقاء، الشقاء جريمة، غول نذل غبى، هو سبة حياتنا مهما أقمنا حوله من أضرحة وقدمنا إليه من قرابين، المصيبة فى هذه الجريمة، ”جريمة الشقاء”، هى أن الجانى هو هو المجنى عليه والشهود الذين يحضرون ساحة الإعدام يدرجون فى كشف العدم حتى يأتى دورهم، وهم يسيرون فى طوابير الوحدة الجبانة.
حين تركت نفسك بيننا يا غريب ذلك اليوم وتفجر مخزونك صادقا مرعباً: أيقظت فينا أملا حقيقيا أن نتواجد معا دون أن يلتهم بعضنا بعضا، حسدتك يومها على شجاعتك وتمنيت أن يأتى علىّ الدور لأفعلها فى حضنك، فى ظل أمانك، حسبت أنك ستحتفظ بها ولكنك تراجعت بعدها مباشرة يا غريب، لملمت نفسك وتراجعت إلى أبعد مما كنت، لماذا يا غريب؟ ماذا أخافك يا أخى؟ ماذا حجر على وجودك؟ من أرعبك من حقك فى الحياة؟ من يومها تركتنا وحيدا كما جئتَ وأصعب.
وحدتى غير وحدتك يا غريب، قلت لك، أنا مازلت أحاول مع غيرك، ومع نفسى، فماذا تفعل أنت يا غريب، أسمع جَـرْس كسر الزجاج يملأ فمك وأنت تمضغ الألم وحدك، أرى قطرات الدماء تقطر من عينيك من فرط صدق القراءة، ماذا أفعل لك؟، لو كنت أعلم ما يبرر كل هذا لعذرتك فى أن تنجو بجلدك من أى التهام أو مساومة، لو كنت قد استمررت مع زوجتى وحدنا مع عجزى عن قتلها لاستمرت حياتى مثلك وألعن، أنت تركت المحاولة أصلا وجعلت كل الناس مثل بعضهم البعض كما يصورهم لك خوفك الغبى، حتى فى عز سخريتك اللاذعة المهاجـِمة كنت أرى الدم يتسحب على خديك ثم يتساقط من شدقيك، وحول قلبك، وتحت جلدك، أنت عارٍ وداخلك ينضح بالمشاعر وطلب النجدة بالرغم منك، لست غبيا حتى أضيع وقتى معك، لا سبيل إليك الآن، أشك فى قدرتك على النسيان، أنا فى انتظارك رغم أنفك، فمتى وأين ألقاك؟! لو لم تستسلم للغباء الأكبر وتختفى تحت التراب فلسوف نلتقى حتما.
- غريب يا إبراهيم
= ماله يا عبد السلام؟ ، لم نره من زمان.
- هو جارى كما تعلم وهو هذه الأيام فى حال.
= ماله يا عبد السلام؟
- شئ ما قد حدث له بعد فقد صديقة عزيزة عليه، شئ يبدو خطيرا، لا أفهمه جيدا، ولكنه يتكلم عن الهجرة إلى أستراليا، وعن حضن التراب، وعن أشياء غريبة أخرى، وقد أصابه الهزال بدرجة مخيفة.
= ما هذا يا عبد السلام، أنا أنتظره، أعتقد أنه سيعود ألينا
- أكاد أحس أنه ينتظرك أيضا، ولكن لا سبيل إليه فهو يكاد يقتل من يقترب منه.
= هل كتب علينا يا عبد السلام أن نتفرج على بعضنا البعض بقية حياتنا.
- حواجز الخوف المسلحة لا تـُفتح إلا لمن ينسفها.
= هذا يزيد من إصرارى على المحاولة.
- إياك أن تفقد حساباتك، أو تتهور.
= لو كان معنا الآن,… ربما.
- ولا ربما ولا غيره، لا يخدعك أملك، الحواجز قائمة قائمة حتى ونحن مع بعضنا، لو كان هناك شئ يـُعمل قهرا لـمـن فى متناولك لعملتـه لزوجتك.
= ولكنها وجدت مخدرا يخفى وحدتها، أما غريب فيعيش بلا مخدر.
- المخدرات المغشوشة تضاعف من الوحدة لا تكسرها.
= أعلم، للأسف.
- لا سبيل للأسف يا إبراهيم.
= وما السبيل إذن؟
- السبيل هو تحقيق الممكن.
= ولكن المستحيل هو الممكن الوحيد الذى ينفع.
- أعلم ذلك، فليكن السعى إليه هو تحقيقه.
=……. على شرط أن نصل يوما ما.
- يوما ما.
-2-
ما أقساك يا مختار وأروعك، رأيتنى كما أنا غير رؤية الآخرين لى، ربما لأنك أقل من أخذ منى، أنا لا أكتمك الحقيقة إذ أقول لك إنى أخذت منك أكثر مما أخذت منهم جميعا، رؤيتك لى زادى وأملى، رأيتنى كما أنا ولكنك توقفت بعد إعلان بيانك القاسى الصادق، أخذت أتساءل هل كنت ترانى أم ترى خوفك منى؟ حسبتها بداية علاقة أفتقر إليها من قديم، لا علاقة إلا برؤية صادقة مسئولة، رؤيتك صادقة بلا شك ولكنها ليست مسئولة، ألم تسمعنى يا مختار، وأنا أستنقذ بك بملء وحدتى وألمى.
- أنا الوحيد الذى أفهمك، أنت تعلم ذلك يا إبراهيم
- يجوز، أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنين، لكننى لا أستسلم لفهمك، تكفينى صدق محاولتك.
لكنها اللحظة التى لم تأت يا مختار، لوَّحـْتَ بها ثم ألقيتـنى معها بعيدا ونعتنى بأبشع الصفات، كانت تلك نقطة بدايتى ولكنك تركتنى وحيدا ملطخا بصدقك، كنت ترانى لك ليس لى، ياليتك علمت كم أنا محتاج لرؤيتك، أنت قلتها لتحمى بها نفسك من الجانب الآخر لوجودى، أنا جبان كما قلت تماما، ولكن ليس “فقط”، خشيتَ أن تقترب بعد بيان الهجوم الصادق، خشيتَ أن ترى الجانب الآخر فتضطر للحياة، تساؤلك عن سبب وجودك هنا يصلنى واضحا صارخا، أنا أقول لك فى السر إنك هنا لأنك ملطخ أيضا، وجودك يعنى أنك تحاول كسر وحدتك بالرغم من كل دعواك، كل منا هنا ليكسر وحدته وإن اختلفت الطريقة، أنا بالخوف ومد يد المساعدة على ما قـُسم، وأنت بالإشعاعات الجنسية تحت شعار الحرية، لم أنجح فى الوصول إلى ذاتى أو كسر حواجزى ولم أخدع نفسى، أما أنت، ماذا فعلت أنت؟ قلبى يحدثنى أنك أبأس الناس وأشقاهم رغم بريق حديثك وسحر استغنائك، غريب رأيته أثناء تفجره وعقدت معه معاهدة بلا توقيت، أما أنت فمختبئ دائما وراء ضباب أحلامك، قشرة غريب من فولاذ، ولكنها تغرينى بكسرها لأن لها ملمس صلب، أما قشرتك فرخوة تنسجها من جو حالم يغلفك بلا أمل فى اختراقه من فرط طراوته واهتزازه، تترجم كل ما يدور حولك إلى رموز خاصة تعينك على ندف الصوف من حولك حتى لا يراك أحد إلا فى غمامة من الإدعاء، تنسى أنك أرق من ذوقك الكاذب، وأبأس من صوتك الحالم، وأكثر وحدة حتى من غريب ومنى، حتى غريب له صاحب، إنه يصاحب الكلمات ولو فقأتْ عينيه “دبابيس” الحروف، أنت لا تدرك إلا ما فى عقلك، وعقلك ليس به شئ إلا صوتك الرخو وما نفستو حقوق الإنسان عن الحرية والمساواة، أنت لا تكاد تسمع حتى صوتك وأنت تتحدث عن الحرية، ياليت ما تقوله وما تريده ممكنا يا أخى، لو كان كذلك لكنت أول الحاجزين فى جنتك، هل هناك أروع من الحرية بلا شروط؟ والأخذ والعطاء بلا بيع أو شراء؟ والاختيار للفرد بلا خداع أو إملاء؟، ولكن كيف يا مختار؟ جـَنـَّتـُك تؤجل رفع الستار باستمرار إلى العرض القادم، ما يجرى وراء الكواليس لا يبشر بخير، كيف تلوّح للأطفال بحرية لا تستطيع أنت تحقيقها؟ كيف تحمّـل الرضَّع مسئولية الانتحار؟ كيف تغرى الجوعى بأكل السم، ثم تتركهم يـَتـَلـَوّوُن ذات اليمين وذات اليسار يدفعون ثمن جوعهم الحر؟ ما أسهل الحلم يا مختار، وما أصعب تحقيقه، قبلت رؤيتك لى وسعدت بها فهى بعض ما هو أنا، تركتنى أتمرغ فى جبنى وادعائى وحدى، ألعق الدم والصديد من جرحى الغائر، ما أصدقك حين قلت لى:” كبتك وخوفك يحبس الأطفال فى مهودها حتى تكاد تموت من الشلل والرعب”، أنا لا أكتمك شوقى للجرى عاريا والبزازة فى فمى، فهل تضمن لى ألا يطلقون على النار؟ لن تدفعنى وحدتى للاستسلام لأحلامك ولن أكون حتى مثل غريب، ولا مثلك، ولا مثل أحد.
تـرى ماذا فعلت أنت بوحدتك؟ أراها وراء مجيئك إلى هنا، ولكن ماذا بعد مجيئك؟ هل جئت تحكم الرباط على عينيك؟ ترى هل يكسرها استجابتهن لك؟ ياليتك تواجه نفسك بشجاعة الفرسان، إذا كنت قد نجحت فأنا أول أتباعك، تقول إنك لا تحتاج أتباعا وأنك لست صاحب دعوة، أليس هذا القول فى حد ذاته دعوة يا أخى؟ يا شريك وحدتى على القطب المتجمد الآخر، أُمـْسـِكُ بخطاطيفى وألقى بها حيثما اتفق والجليد يخوننى فى كل مرة، أتصبب عرقا وأتلتف فى كل اتجاه لعل خطافى يشبك فى شجرة أو صخرة مدببة، لابد أن أسعى بعيدا عن الصقيع، يصاب بعض الأحياء أثناء محاولاتى الملهوفة للابتعاد عن قطبى المتجمد، لا أملك إلا هذا يا مختار، أنا لا أملك فراء أحلامك، ولا قوقعة غريب، ولا حتى شجرة كمال التى اعتلاها يتفرج علينا من فوقها، أتابع خطواتك وخطوات غريب وكمال بصدق وشغف وأنتظر بديلا خيرا من سعيى المتلهف الأعمى، كـُلـَّما فشلتْ رمية خطافى نظرت إليكم فأصاب بخيبة أمل من جمودكم الساكن رغم ما يعلو وجوهكم من بسمة ساخرة أو ثقة عنيدة، إخص عليكم يا أوغاد لماذا لا تنجحون وتريحونى، إخص عليك يا مختار يا أخى… لماذا لا تغرب عن وجهى، وأنت تبرر جرائمك باستسلام الضحية باختيارها؟!!
- أمور لا تخصنى، أنا أعيش وأحقق رغباتى، والضحية تريد ذلك.
= هكذا تلقائيا.
- نعم تلقائيا، أى فعل غير تلقائى هو فعل تافه لا دوام له.
= هل تصدق نفسك؟ الله يخيبك يا مختارّ ألا تخجل؟
يا ليتك تنجح إذن يا أخى ياليت، ياليتك تكسر وحدتك بحريتك المزعومة ربما تحيى فىّ الأمل، وأنا أواصل سلخ جلدى حتى لا يتنحـّس من اليأس أو يتيبس من جفاف قبح الانسحاب وتزييف الحاجة، أفضّل أن أظل أدمى حتى تحت التراب من أن ألبس درعا منسوجا من فشلك وخوفى، وكذب المخدوعين والمخدوعات.
-3-
متى ترجع إلى مرسمك يا كمال؟ متى تعود لشعرك لتبعث الحياة فى ألفاظ ماتت على ألسنتنا من سوء الاستعمال؟ متى ترقصها على نغمات إحساسك؟ حضورك هنا يا كمال كان مصيبة بالنسبة لى، قضيت بذلك على ما تبقى لى من أمل فى حل مؤجل، لماذا فشلتَ يا كمال؟ لماذا توقفت؟ إذا لم نستطع أن نصنع المستقبل، فلنرسمه لمن يصنعه بعدنا، ماذا فى هذا بالله عليك حتى تتوقف، ثم تأتى معنا مثلك مثل العجزة أمثالنا؟ أهمُّ فى كل مرة أن أطردك من هنا وأنهاك عن المجئ لو كان لى هذا الحق، أدعو الله أن آتى يوما فلا أجدك معنا، أقلب الصحف لأراك فلا أجدك فيها، أبحث عن شعرك يوميا لأطمئن أنك عدت إلى قلمك سالما، سمعتك تتحدث مع مختار فى عنف صادق حين رفضت حريته الزائفة، ولكنك فشلت فى مواصلة الحديث بلغة فنك، تحتقر هرب غالى وزوجته حتى نخاعك، فماذا أنت فاعل أفضل منهما؟ لم تفاتحنى ولم أفاتحك، بعض ما دار بيننا دون كلام كان أبلغ من الكلام، هل تذكر؟
- لن أكون مثلك يا إبراهيم، حتى ولو كنتَ أنت الحقيقة ذاتها.
= لست الحقيقة…. لست شيئا أدعو أن تكون مثله يا كمال فماذا أنت فاعل.
- وجودك هكذا عاريا عاجزا مدعيا يعطلنى.
= يعطلك عن ماذا…. أنا أتمنى أن تذهب إلى مَـرْسـَمك وأوراقك اليوم قبل غد.
- كذاب، أنا أمَـلـُك فى كسر وحدتك لأنى أكثرهم تماسكا وأقلهم رقصا على السلالم.
= لا أنكر أنى أتمنى أن أشاركك وجودك لحظة صدق، ولكن أنت..؟ أنت خسارة، خسارة أنت يا كمال…. أنت فنان.
- كفى ادعاء! أية خسارة؟ ولماذا لم تلجأ إلى الفن أنت بدلا منى.
= لا أملك مقوماته، أو أدواته
- كذاب، الفن ليس حكرا لأحد، هو كشف عن الآتى بوعى أشمل، دع رموزك تتحرك بلا وصاية.
= فلماذا توقفت أنت؟
- رأيت أكثر مما أستطيع أن أترجم.
= وهكذا أنا، وأنت تعلم ذلك.
- إذن، كفى ادعاء، ودعنا نواصل الفـُرْجة.
= أنا لا أتفرج يا كمال إلا مرغما، ثم لنفرض، إلى متى تمتد فرجتك انت يا كمال؟!.
- حتى أيأس من محاولاتك المستميتة مع هؤلاء الناس ونفسك، ساعتها سوف أرجع إلى أحلامى، إلى ريشتى وقلمى، أضعها فى شكل يبقى؟ أتركها عهدة لأصحابها فى أفق المستقبل.
= تثنينى عن الاستمرار هنا وكنت أحسب أو أرجو أن نصنع المستقبل معا لا نرسمه.
- أنت لا تستطيع التوقف، وأنا لست أبـْلـَهاً لأحاول.
= جرحىِ غائر يا كمال، ورؤيتى شملت الكون طولا وعرضا فماذا أصنع بها؟
- أنا لا أنصحك…. ولكنى أنتظر فشـلك، وإن كنت لا أتمناه.
= تتمنى نجاحى إذن.
- ليس تماما وهذه هى المصيبة الأعظم.
أنا يا كمال أشفق من اللحظة التى ستذهب فيها، أنا أعلم ما يمكن أن تعنى لى هذه اللحظة، لا أستطيع أن أغمض عينى أو أتناسى، قد تواصل فنك ثانية، ولكن ألم العالم يغلى فى داخلك…. فليكن، وليخرج الغليان بخارا يتصاعد إلى سحاب يمطر أمل المستقبل، وليحققه أصحابه فينمو زرعهم أنفذ وأعظم.
لا تـُطـِلْ وقفتك يا كمال.
-4-
يا ناس يا هوه، تدفعونى إلى معركة متصلة لتحدى سلبياتكم وهى داخلى ترعى، من يراها يصفعنى بها، ومن يعمى عنها يتحدانى بها أيضاً، وحدتى بلا حدود، وحيرتى دوامة بلا قرار، ومع ذلك فإن إجاباتى حاسمة وسأستمر بلا تردد، أتحدى سلبياتكم، أى سلبياتى، حتى الموت، أنا لا أملك الاستسلام ولا التراجع مهما تراكمت سلبياتى أو سلبياتكم خوفا أو استسهالا أو عـمى أو ما تشاؤون من تسميات، كلها لا تعنى شيئا ذا بال، وجودها لا يزيدنى إلا تصميما على استيعابها لأتخطاها إذا أردت أن أعيش، أنا أريد أن أعيش، ولكن كيف؟ كيف يا ربى؟ أين أنت؟ كل ما حولى يقول إنك هناك، إنك هنا، أحاول أن أعرف نفسى لأعرفك، ولكنى حين أغوص فى ذاتى أبتعد عنهم فأرعب، وحين أتلاشى فيهم أبتعد عنك فأضيع، الحركة تطمئننى، فلتسمر الحركة على الأقل، وسوف تنعدل الدّفة إليك: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
أجدك أحيانا فى لحظات سكونى الآمن اليقظ، لكنها لحظات أو أقل، لكنها تكفى، ربما تكفى، أعلم أنى المسئول عن ذلك، منظر عبد السميع الأشرم وهو يتصور أنه الوحيد الذى يرفع رايتك يقربنى إليك وأنا أشفق عليه، أكاد أصرخ فى عبد السميع أن “لا” ليس كذلك، يحاورنى ويداورنى وأنا واثق أنه لا يعلم شيئا عنك إلا باطل الأباطيل، وجهه الآخر “غالى جوهر” يثير زوبعة غبية يتصور أنه سيخفيك فى ترابها، يحاول تحطيمك دون أن يعرفك أصلا، أنىَّ لغالى جوهر أن يعرف عنى ذلك كله، هذا كلام لا يقال وإن قيل فهو لا يـُفهم، أدفع نصف عمرى، حتى أعرف أين يقف هذا الطبيب منك، هل عرفك داخله أم أنه يستعملك من الظاهر.
هل أنا الذى أتعاطى الأفيون يا غالى يا جوهر، هلاّ نظرت فيما تفعله أنت وزوجتك المصون، أنا لا أكرهكم ولكنى أرفض أن أصمت وأنتم تهربون من كل شئ فى اللاشئ، ما أعظم الحديث عن الشبع والعدل والمساواة ولكن ما أصعب الطريق إلى تحقيق كل ذلك، أما أن يكون الحديث عن الجوع إلى اللقمة والغموس هو مبرر التوقف والغيبوبة، فيا ضيعة كل شئ، أشعر أنكما محقان، دينك داخلك يا غالى، فدعه يترعرع بلا إذن من ملكة ولا خوف من كمال.
وأنا؟ لماذا لا أدعه يترعرع أنا أيضا، أنا وحيد مع خوفى يلفنى فى قمقم لا ترونه، لكننى أصارعه بالهجوم على وحدتى ليل نهار، ويبدو أن أول الطريق للتخلص من الخوف هو أن تخاف دون استسلام، يا خوفى التنين لن أستسلم لك أو أعتذر بك، أنت حاضر وسوف أستغلك بحساباتى الخاصة بكامل وعيى، لن تغرينى بالوحدة الانسحابية – فكل من استسلم لها هو يائس بائس، ليس عندى حل وسط، الموت أهون من الاستسلام… فهى المواجهة المستمرة رعب أزلى يعوق الأنبياء أنفسهم، أنا لست نبيا ولا مدعيا النبوة، الأنبياء أنقذهم الوحى من الوحدة، ونحن نريد أن نصنع صنيعهم دون وحى، رعب حقيقى من هول المشقة ومظنة الفشل، أحاول أن أصنع من هذا الرعب ذاته أملا يقربنى منك حيثما كنت، فإن هربت منى يا غالى كما فعل غريب فسألقى كل يوم ألف غالى وألف غريب، هذا هو عبد السميع نقيضك ووجهك الآخر بدأ يلين ويقشعر جلده بعد أن كان قد نحـَّـس بلا أمل فى أدنى اهتزاز، أنت تختبئ فى الناس، أو بالأحرى فى الحديث عن الناس وهو يختبئ فى الدين، بل بالحديث عن الدين.
لستُ متصوفا ولا زاهدا ولا مجذوبا، أعبد الحياة وأصر عليها وأنا أنزف دما من كل جانب، فيزداد إصرارى وأنا أتلقى الحراب والسهام عارى الصدر حتى النهاية.، لأن المسألة تستأهل، المسألة هى الحياة.
من أين آتى بكل هذا الكلام المضىء المتفجر، كيف يخرج منى بلا تردد ولا خجل “سهاما للحق ومشاعل للحياة”، يا صلاة النبى! ثم أرتد فأجدنى وحيدا مسكينا لا حول لى ولا قوة، حين تنطلق منى الكلمات بكل هذاالصدق الذى أتصوره، أشعر أننى أكاد أشعل الحياة من حولى فورا، وأنى –هكذا- أضرب الباطل بسهام الحق فينصلح الناس، هذه خطابة خائبة، ليس تماما، فهى تصل إلى أصحابها بأى قدر مهما شككت فى جدواها.
أريد أن أعرف أين أنا؟ من أنا؟! أحاول أن أتحسس طريقى بهدوء وحذر، أنا على يقين من أنى على صواب، لو أعلنت ذلك أو بعض ذلك بلا حساب لكان مصيرى هو المستشفى العقلى، أو السجن حسب مزاج الساسة، أو خوف الأطباء، أيهما أغلب؟
أحترم قانون العقوبات بنفس الدرجة التى أحترم بها هذه القوة الطاغية داخلى ذات القانون الخاص، أخاف من الخارج الكاذب القاهر الغبى، قانون العقوبات وكل القوانين أغبى قيود صنعها الإنسان بمحض إرادته ولكنها هى هى التى تحمينى من أن يقذفوا بى فى مستشفى المجانين بقية حياتى، ربما هذا هو سر خوفى ومبرراته، أرى الواقع فى نفس اللحظة التى أواجه فيها الحقيقة، الواقع غير الحقيقة، أحيانا يكون نقيضها، يا للقسوة! ما أسهل أن ترى أيهما وترتاح، لو أنكم تعرفون قسوة كل هذا ما تركتمونى وحيدا هكذا؟ مر الواقع لا يخففه الهرب منه، أو التحايل عليه، أمضغه فى أناة، وأتجرع عصارته حتى الثمالة، ما أسهل الصياح والجنون والدعارة يا أوغاد، ما بين قانون العقوبات وإلحاد غالى جوهر ومادية زوجته العمياء، وتشنـّخ دنيا عبد السميع الأشرم، سوف أعيش دون تراجع ولا تردد، ولا استسلام يا عبد السميع، إسمع لما أقول لك يا جدع أنت: اتق الله يا رجل، المؤمن ليس ذليلا ولا جبانا.
-5-
كيف يا نجوى أعيش بلا خوف وأنا أعانى كل هذه الوحدة، هل غرك أنى أبدو وكأنى ملجأكم، وكأنى طبيب مجانى قبل الجلسة وبعدها؟ هل غرك صوتى العالى ومنطقى الواثق وحبى للحياة؟ أنا أحب الحياة يا نجوى لأنى أحمل فى داخلى موتا يكفيكم جميعا، حتى أنت جئت تسأليننى وكأنى أحمل مفاتيح خزائن السعد، وما أنا إلا مريض يتردد على العيادة مثلكم، يصارع الموت والضياع، أتسلق جبال الوحدة وأقتحم كهوف الخوف دون سلاح إلا تعويذة حب الحياة والناس “تسأليننى ما الحرية؟” وكأنى أعرفها، أسألينى عن السعى والتحدّى والكدح والفرحة والألم الخلاّق يا شيخة!.
“شقائى مع إصرارى على مواصلة السعى قد يكون حريتي” فهل صدقتنى يا نجوى؟ ما أغباك لو صدقت، لقد ضبطتنى متلبسا بالشقاء مثلما ضبطنى مختار ممتلئا بالخوف، وضبطنى غريب غارقا فى الوحدة، ليس أمامى خيار بين الموت والحياة، لن أقبل أى صورة للموت إلا بعد أن تكف أنفاسى عن التردد، إما أن أواصل سعيى بكل ما يدبّ فى من نبض أو يهمس لى من أمل أو يهزنى من رعشة، وإما “لا” كاملة، نعم، يخطر لى ما أخشى أن أصرح به، يخطر لى أنهم لو قطعوا يدىّ ورجلى ولسانى وفقأوا عينى وأصموا أذنى لاستمررت أتدحرج هنا وهناك على غير هدى لعلى أصدم بكاذب يفيق من كذبه، إذ يرى بشاعة منظرى وإصرارى على الحركة حتى بلا غاية ولا وسيلة، أتصور نفسى وأنا على هذا الحال من العجز وأقول إنه حتى لو افترسنى وحش جائع أو التفت حولى أفعى دنيئة فلسوف أحس بقيمتى وأنا فريسة تصرخ لتعلن عدم استسلامها إلا لقهر خارجى لا تعرف مصدره أصلا ولا طريقة دفعه، سوف أحيا يا نجوى من أجل ما فى الدنيا من شر، لأصنع الخير حتى منه، وربما أكتشفت أنه ليس شرا أصلا إلا لأننا تركناه يستشرى، سوف أستمر يا نجوى حتى لو بقيت وحدى مدى حياتى، (أريد أن أصدق نفسي).
فلماذا تتركيننى وحدى يا غبية، يا أغبياء؟
أحاول اختراقكِ واختراق كل من حولى؟ لنتواصل بأى درجة ممكنة من الصدق، وقد لاح لى أن هذا ممكن من خلال جمعنا هذا، أحياناً أفكر فى أن أنسحب إلى وحدتى فى انتظارك أو انتظار أى واحد يريد، قد أعذر بسمة وهى تطمئن لإصرارى ووضوح رؤيتى والتمادى فى نقاشها نقاشا حادا مثل السيف، حتى بسمة الرقيقة ترانى فى أوقات صحوها على حقيقتى فتحيـِى فىّ الأمل أن يرانى أحدكم قبل النهاية، لا أنكر مصيبتى، يا بسمة، حقيقة أنا أستعمل ألفاظا فخمة أو رنانة، ولكنى لا أجد غيرها إلا الكذب، الألفاظ إما مسئولة نابضة، أو جوفاء باهتة، وألفاظى تخرج من أحشائى يا بسمة يا حبيبتى، لست على عقيدة غالى أو ذهول عبد السميع، وما أنا إلا مصارع دائم بلا احتمال للتراجع، لست وحيدا يا بسمة يا ابنتى ما دمت أصارع وحدتى فى كل لحظة، قد لا أنجح أبدا فى التخلص منها، ولكن صراعى المستمر معها يبرر استمرارى منتصرا حتى النهاية، قلبى عليك يا ابنتى وقد رأيت كل هذه الرؤية وأنت بعدُ فى أول الطريق، ما أشجعك وأشقاك، ياليتك تمتعت قليلا بلذة العمى، يا ترى هل للعمى لذة؟ قلبى معك يا بسمة حتى لو تراجعت فهذا حقك ولو لبضع سنوات.
أين أنت يا نجوى يا ابنة شعبان يا راقصة على السلالم بلا شمعدان.
-6-
مثل القضاء والقدر أبلغتنى نجوى بصدورالحكم دون استئذان أو انتظار لرأيى، وقبل التنفيذ طلبت طلبا واحدا هو أن يكون قتل الوحدة إعلانا للإيمان، فوافقت فورا دون أن أفكر “كيف”.
فعـَلتيها يا نجوى وسط النار، والجرح لم يندمل بعد فعلتيها، وأنا على أتم الاستعداد لمقاومة أى اقتراب كاذب، ربما لهذا جاء انقضاضك بلا إنذار ليكون أسرع السبل للقفز فوق الحواجز.
= هل يمكن يا نجوى؟
- قد أمكن.
= ماذا تنتظرين منى على وجه التحديد.
-… لا شئ.
= لا شئ بتاتا؟
-…… ربما التوقف عن الأوهام حتى ندع الفرصة والوقت لالتئام الجرح.
= هكذا ببساطة.
- لم لا…؟ البساطة هى الأصل، وهى هى دليل الصدق.
= وأوهامك يا نجوى….. أحسب أنها أكبر من أوهامى.
- لذلك قررت دخول الحياة معك دون استئذانك.
= ومن يضمن الاستمرار؟
- رحلات الداخل والخارج…. منهم إليهم، ومنه إليه، إليهم، وبالعكس.
= ما هذه اللوغارتيمات؟ هل تحبيننى يا نجوى؟
- خيبك الله…. طبعا لا.
= أعلم إجابتك أردت أن أسمعها لأطمئن.
- يا شيخ…؟!!!!.
= أمامنا عمل لا ينتهى، علينا دينْ للناس لابد من سداده، دينْ لا حدود له.
- سوف نوفيه لأصحابه.
= ونحن الاثنين على أول قائمة أصحابه.
-طبعا.
****
أعيش هذه الأيام معها بدونها، لا أصدق أن هذا ممكن، أدخل عالمها وقتما أشاء دون شرط أو مقدمات أو مطالب، وأستقبلها وقتما تريد بلا حقد أو عدوان أو اعتماد، تطردنى فلا أموت، وأطردها فلا تـُجرح كرامتها، أؤمن أنى سأجدها وقتما أريد، لأنها تجدنى حين تقرر، نحترم العلانية والناس بضعفهم وخوفهم، الناس يملئون حياتنا بلا واجب ولا اختناق، لا ننسى أنفسنا من أجلهم ولا ننساهم أبدا، نعيش بعمق دون خوف من الوحدة أو الجنون مع أن الألم لم يختف لحظة، الناس جزء لا يتجزأ من وجودنا، عماهم مسئوليتنا وعملنا الهادئ لا يساوى شيئا إن لم يفتح الطريق لأكبر عدد منهم للحصول على اللقمة والعدل طريقا للوصول، إلى أنفسهم إليه!.
يارب…. لم أطـَلـْت الطريق علينا..
أهكذا؟
أصعب الأمور أسهلها؟!.
والمستحيل…. هو هو أبسط صور الممكن؟!!.
هل هذا صحيح؟
ولـِمَ لا؟
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).