نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3928
إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من نقدى للنص الإدبى)
نبض المكان فى الوعى البشرى
بين “لحس العتب” و “قنديل أم هاشم” (2)
استهلال:
…وحتى أبين ما أعنى بـ “نقد النص البشرى” وهو المحور الذى تدور حوله أغلب أساسيات “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” سوف أواصل تقديم مقتطفات من نقدى الأدبى لبيان بعض ذلك.
مقدمة:
لا أعرف ما الذى جعل قنديل أم هاشم يقفز إلى وعيى وأنا أقرأ رواية “لحس العتب” لخيرى شلبى. أهو التعمق فى حضور “المكان” برغم الاختلاف الشديد بينهما؟ أهو التباين بين الوصف المتناهى الدقة لخارج الداخل، وبين الحدس المتناهى الكشف لداخل الخارج؟ أهو المسافة الزمنية الواقعة بين كتابة العملين (1939-1991) (2) برغم قرب زمن الأحداث نسبيا؟ أهو تميز الكاتبين تميزا إبداعيا ومصريا، كلّ بطريقته؟ أهو المقابلة بين ريفنا القديم، وقاهرتنا القديمة، بما يحمل من دلالات؟ أهو تناول كلا العملين لما يسمى التطبيب الشعبى على مستويين متناقضين تماما؟
لعله كل ذلك.
المقتطف من النقد المقارن (1)
هذا الجزء من الدراسة يتناول المكان كما جاء فى “لحس العتب” ، مقابلة بالمكان فى قنديل أم هاشم، حضورا فى، وجدلا مع: الوعى البشرى الفردى والجمعى.
الترابيزة
أتيحت لى فرصة عابرة لمشاهدة فيلم قصير من إستونيا باسم “المنضدة” عرض فى مهرجان الاسماعيلية التاسع (2005)” من إخراج “جلينا جرلين” و”مارى ليس” و”أورماس جويميس”، حاولت أن أجد أية إشارة مباشرة لما هو منضدة، أو مائدة (أو ترابيزة) ففشلت، وتصورت أن القائمين عليه تعمدوا ذلك ليتيحوا للمشاهد والناقد فرص أن يرى ما يرى، ربما مثلما فعلت ناقدة حاذقة (أمل زكى) حين اعتبرت” أن المائدة فى الفيلم “…. هى المكان و الزمان والرمز والأسطورة، هى أستونيا، هي مخاض الولادة ومقبرة الموت وباعثة الحياة، ………..، هي تلك الأرض القوية الصلبة التي يقف عليها المدافعون عنها يطالبون بالغناء سوياُ و الصمت سوياً و التنفس سوياً والفناء سويا….إلخ”. شعرت أن رواية خيرى هى أولى بهذا الاسم “الترابيزة” (وليس المائدة أو المنضدة)، ليس فقط لأنها تبدأ بها وتنتهى بها، ولكن لأن وجودها المحورى بدا لى أنه هو ما يميز هذه الرواية أكثر من ظاهرة التطبيب الشعبى سلبا وإيجابا، حيث يمثل “لحس” العتب الجانب السلبى من ذلك
تبدأ رواية “لحس العتب” حول “ترابيزة” فى وسط المندرة، وتنتهى وقد نزعت الترابيزة من الدار نزعا بعد أن انهار عليها جدار الممر الذى سحبت إليه قسرا فى فترة من تاريخ حياتها. تدور جميع الأحداث تقريبا حول هذه الترابيزة، أو فوقها، أو بجوارها أو تحتها أو بالقرب منها، أو حتى بعيدا عنها. حتى حين سافر “فخرى” إلى البندر للعلاج، تصورت أن هذه الترابيزة ظلت تمثل خلفية متنقلة وراءه خشية أن يتغير (ولو إلى الشفاء) بعيدا عنها، وسرعان ما استعادته (الترابيزة) كما هو. بدأ الرواية هكذا: “ليست هذه الترابيزة العجيبة هى كل ما تبقى…” (ص 5). كما كانت أخر كلمات الرواية عن الترابيزة حين قال الوالد: “….. وحين كانت الذكريات تجرهم إلى الحديث عن الترابيزة الشهيرة كان أبى يبتسم قائلا: الملك فارق نفسه انزاح عن عرشه! سبحان من له الدوام”. (ص 66). انتهت الرواية إذن بنزول هذه الملكة، الترابيزة، عن عرشها: الناس والذاكرة.
التمحور حول مركزٍ ما (تكملة فى نفس الصفحة نفس النقد)
لكل منا محور أساسى يدوّر حوله حياته. يجرى ذلك فى مستوى ما من الوعى، حتى لو لم ندركه. يتجلى أثر ذلك فى الشعور، أو يظل كامنا فى مستوى أعمق من الوعى طول العمر، أحيانا يكون لهذا المحور اسم نظرية أو أيديولوجى. بلغة سيلفانوا أريتى يمكن أن يكون “الفكرة المركزية”. وبلغة الأساطير: الأيقونة ذات السحر الغامض، وبلغة الإسلام الحقيقى: أنه “لا إله إلا الله”، وهكذا. إلا أنه لا يتحتم دائما أن يعرف أى منا تحديدا حول أى محور يدور. ولا هذا ممكن معظم الوقت. ثم إن أى محور هو ليس ثابتا بالضرورة. هو قابل للتغير والتعديل مع كل ولادة جديدة على مسار النمو. كذلك فإن أى واحد منا عادة ما يُسقط (و/أو يزيح) موضوع تمحوره خارجه على رمز أو حدث، بوعى أو بغير وعى.
وصلنى أن الراوى فخرى، فى مسح العتب، قد تمحور حول تلك الترابيزة مثلما فعل أبوه وأسرته، كل بطريقته، وأيضا: بما تعنيه مختلفا عند كل منهم. فخرى زحف على سطحها طفلا، ودار حول أثرها صبيا، وبحث تحتها تلميذا مستكشفا، وحادث أشلاءها وأشياءها أخيرا، لكنه فى النهاية قفز بعيدا عنها و كأنه وُلد من رحمها بالرغم منها حين انطلق إلى الخارج (الشارع/الطبيعة) بعد أن شفى بتناغم وعيه مع وعى حقيقى آخر فى رحاب الوعى الإيقاع الحيوى الطليق.
وبعد
هذا ما جاء فى مقدمة هذا “النقد المقارن”
فهل أطمع فى تعليقات تحفزنى على مواصلة هذه الطريقة، فى هذا العمل وغيره.
وهل يحرك هذا الوصف بعض ما يمكن أن تعنيه لنا “هنا”، “..” فى القاعدة الأساسية فى العلاج الجمعى “هنا والآن” ( أنا ó أنت)
وهى تذكرنا ذلك بكتاب جاستون بشلار فى “شاعرية المكان” جنبا إلى جنب مع كتابه ” حدسُ اللَّحظة”(3)؟
شكرا
[1] – نشرت فى مجلة وجهات نظر – عدد فبراير (2006)
– وصدرت رواية لحس العتب فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005
[2] – كتبت رواية قنديل أم هاشم فيما بين (1939 – 1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل.
[3] – جاستون بشلار ” حدسُ اللَّحظة ” ترجمة: رضا عزوز، عبدالعزيز زمزم، الدار التونسية 1986، وقدم الكتاب فى ندوة “إشكالة الزمن فى الحياة والمرض النفسى والعلاج الجمعى” فى شهر مارس 1988