عودة إلى: جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص) استمرار وتعديل
نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 2-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3927
عودة إلى:
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
استمرار وتعديل:
بناء على ما وصلنى فى البريد السابق، ورفضا لما تكرر منى فى مسألة التوقف بعد البدء، قررت أن أواصل نشر مقتطفات من إبداعى – الذى اكتشف أنه كان ضمن إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى بالتطوير من التالى:
أولاً: سوف أعدل عن تقسيم الفصل الواحد على نشرات فى ثلاثة أيام متتالية وأنشر الفصل كاملا يوم السبت.
ثانياً: سوف أخصص يومَىْ الأحد والأثنين لمقتطفات من إبداعى النقدى (للأدب) الذى أضاء لى بعض طريقى فى الطب النفسى، ومن ثم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.
ثالثاً: سوف أسبق نشرة الفصل يوم السبت بموجز للفصول التى سبقته باستمرار.
(وفى جميع الأحوال فإن الأصول كلها مكتملة موجودة بالموقع لمن شاء أن يرجع إليها)
أولاً: ملحق ما نشر:
موجز الفصول الثلاثة التى نشرت:
الفصل الأول : في البدء كان الكلمة:
عبد السلام المشد المواطن المصرى الطيب “متزوج ويعول”. فجأة وبدون أى مقدمات أو علامات منذره وجد نفسه فى خبرة يقال عنها “مرضا” وذلك حين فوجىء وهو واقف فى صف دفع ايصال كهرباء متأخر، فوجىء بلا مفاجأة: أن موظفة الشباك تسأله: “الاسم يا سيد”، وإذا به وكأنه يتعرف لأول مرة على أن له اسم، وأن هذا الاسم ليس جاهزاً طول الوقت، وأنه غالبا يدل على من يتسمى به: الذى هو المدعو “عبد السلام المشد نفسه”، وإذا به يعيد النظر فى “مـَـنْ” هو و”لماذا هو” و”إلى أين”، يعيد النظر فجأة وبحدة وتشتت، هكذا ينطلق داخله فى التجوال داخل داخله، وحوله، وخارجه بطريقة، لم يـَـعـْـتـَـدها، ثم يواصل التداعى الذى يسمى جنونا إذا أعلن كما هو.
الفصل الثانى:”إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”:
يبحث عبد السلام عن علاج لحالته فيبدأ باستشارة طبيب العائلة (أمراض نساء وأطفال) مع أنه لا يعترف بأنه مريض، ولكنه يستجيب لإلحاح زوجته، ويروح يقرأ داخل الطبيب بحدسه النشط، ويكاد يشخص الطبيب، ثم يواصل تداعياته حول هواجسه وما يعتريه من كوابيس وتداخل الحلم بالواقع، كما يصف ما طرأ على مشاعره تجاه عمله وزملائه وزميلاته، وهو يرعب من أى طارق يقترب من كشف هذا الذى يجرى داخله، ويتحدث عن الطفل غير الشرعى الذى يكمن فى أعماقه، ويعوث لعبا وارباكا فى نومه وأحيانا فى صحوه، وهو يعيد التعرف على جاره “غريب” من منطلق آخر، فيحترم عزلته وهو يرفض حلوله وأفكاره ويكتشف خواء حياته الماضية واغتراب المجتمع ويواصل خبرته فى وحدةٍ ورعب معا.
الفصل الثالث “يمامتان”:
يواصل عبد السلام رحلته السرية مع ذاته وهو يمارس عمله بصعوبة بالغة وهو يعيد التعرف على زملائه من جديد وكأنهم ليسوا هم، ويضبط مشاعره نحو زميلته التى يسمح له خياله أن يجرى معها حوارا ينتهى بوعد بلقاء، وهو لا يكتشف أن كل ذلك من صنع الخيال إلا من خلال إفاقة من سؤاله بواب المكتب الذى يبلغه أن زميلته فى إجازة وضع منذ مدة بعد الحادث، ثم تلتقى به زميلته بعد عودتها من الإجازة لقاء طيبا جادا حانيا يكاد لا يصدقه.
نشرة اليوم
الفصل الرابع
“اللهو الخفى”
كلما حصلت على درجة من التوازن، أو عقدت صلحا خفيا بين شخوصى، أو حاولت أن أكمل ما بقى لى من حياة بطريقة سرية، انقلبت موازينى فجأة بمجرد اقتراب مخلوق بشرى منى اقترابا صادقا خطرا، لو أنى كنت أملك القدرة على فعل شىء آخر، غير الفرجة والتخفى والمخاطرة غير المحسوبة، لاستمر توازنى – بشكل ما – لفترة أطول، ربما أصبحت فيلسوفا، أو ممثلا فى فرقة مجهولة، أو على أسوأ الفروض “مثقفا”مثل الأستاذ غريب، ولكنى كنت خلوا من المواهب – رغم فترة المراهقة العنيدة التى أمضيتها فى البحث والقراءة التى انتهت بفرمان سلطانى بالكف عن إضاعة الوقت فى الكلام الفارغ، بعد أن تكرر رسوبى فى شهادة “الثقافة العامة “، قاومت هذا الفرمان بعض الوقت إلى أن استسلمت له لما لم أجد جدوى من كل هذه القراءة، وكأنى أصدرت أنا الفرمان الفعلى من داخلى، أتعجب حين أذكر كيف صدر هذا الفرمان فجأة، انتقلت من النقيض إلى النقيض، الظاهر أن كل التغيرات الحقيقية فى حياة البشر تحدث فجأة، إما إلى أعلى أو إلى أسفل، ولكن من المؤكد أنها تحدث فجأة، أو على الأقل: هى تبدأ فجأة،
منذ لقائى الفريد مع هذه المخلوقة العجيبة التى وضعتها بين السماء والأرض، قدمها على الأرض بلا جدال ورأسها فى السماء بلا تفكير، وأنا فى دوامة أكاد لا أفيق منها، نجحت فى الانتقال إلى مكتب آخر، واستقبلنى الزملاء الجدد بالترحاب وحب الاستطلاع أول الأمر، ولكن سرعان ما تغير الحال، لم أحاول أن أبدو طبيعيا طول الوقت، فهم لا يعرفونى قبلا ولا مجال للمقارنة بين ما كنته وما هو أنا الآن، تصرفت بتلقائية نسبية حتى يحسبوا أننى “هكذا”منذ البداية، فيقبلوني”هكذا”أيضا، صمتى المفاجئ، وحديثى البعيد عن اهتماماتهم، وتعليقاتى الساخرة أحيانا، الشاذة أحيانا، هى أنا، عرفت بينهم “هكذا”: إنسان غريب الأطوار، وكأنى طول عمرى “هكذا”، أحسست أن من حقى أن أفرض عليهم بعض أطوارى التى أصبحت جزءا من وجودى هذه الأيام، حتى أتمكن من الاستمرار، ومع ذلك فأنا غير قادر على الاستمرار، الهمس يزداد، وأحوالى الداخلية لا تهدأ، تذكرت كلمات المدير فى ذلك اليوم البعيد “كل هذا يسمونه اضطراب فى الأعصاب أنصحك أن تستشير أحد المختصين فى الأعصاب”.
وماذا فى ذلك؟ خلق الله الطب والمرض، ولكنى سأذهب هذه المرة خفية من وراء زوجتى، يبدو أن حياتى كلها قد أصبحت حلقات فى مسلسل سرى، ربما نحن نعيش جميعا بعقود سرية، وغاية ما يمكن عمله هو أن ننقل هذا السر من جيل إلى جيل لنحافظ عليه من الضياع ربما يتوصل الجيل الأخير إلى اللغز، أو لا يتوصل أبدا، كل من يحاول أن يكتشف هذا السر يصيبه ما أصابنى هذه الأيام، فما بالك بإفشاء هذا السر، .!! يكفى أن أعيش وحيدا بطريقتى الخاصة فى كوكبى الخاص حتى أكفــر عن خطيئتى حين اقتحمت المنطقة الخطرة فى محاولتى للأكل من الشجرة المحرمة، حين جرؤت ذات صباح أن أبحث عن معنى لما يقال، لأجيب بصدق عن سؤال تلك المرأة عن “هويتى”، بالرغم من كل ذلك فسوف أذهب إليه، ربما وجدت عنده بعضا من هذه الوصفات الكيميائية التى تتزايد مع عدد الأتوبيسات ومسلسلات التليفزيون.
دخلت إلى عيادته المزدانة حوائطها بأشياء كثيرة، وشهادات عظيمة، وعضويات فى جمعيات عالمية عليها رموز علمية لا أفهم منها شيئا، إلا أنى أعرف أنه كلما زادت الحروف المرصوصة بجوار الاسم زادت كمية العلم المرصوص فى الدماغ، كما يوجد على حوائط العيادة عدد من المعلقات الشعرية التى ذكرتنى بمعلقات الكعبة فى الجاهلية، وهى تحوى قصائد مديح تطمئن كل من يبحث عن العون من أهل العون، إلى ما ينتظرهم من معجزات، استرعى نظرى من بين هذه المعلقات قصيدة تبدأ هكذا:
”أتيناك وقد شلت أيادينا، خرجنا من لديك وقد شفيـنا”.
أى والله، إذن فأنا فى رحاب ساحر عالم قادر والحمد لله، يبدو أننى اهتديت أخيرا إلى ضالتى، تلفت حولى أرى الزملاء فى المرض، فوجدت عددا لا بأس به ممن شلت أياديهم أو أرجلهم، وقلت فى نفسى “إن شاء الله سوف يخرجون من لديه وقد شفوا بإذن العليم القدير” أخذت أنظر إلى أعضائى أبحث عن عجز مشابه حتى أشارك فى هذا الأمل الأكيد، ولكنى لم أجد شللا قد أصاب عضوا بذاته، تعجبت وخشيت أن أكون فى المكان غير المناسب، لكن طمأننى أن هناك آخرين مثلى لا يبدو عليهم علامات الشلل الخفى، سمعت صوت أمى زمان وهى تدعو على غاضبة بأن أصاب “باللهو الخفي”، ربما يكون هذا هو مرضى الحقيقى أو ربما يكون الشلل قد أصاب مخى دون أطرافى، فكثيرا ما يخوننى مخى فجأة حين يعجز عن مواصلة تتبع فكرة معينة كنت ألاحقها بإصرار، أتعجب من هذا الذى الذى يحدث: الفكرة فى متناول يدى، ألمسها، وأتركها تبتعد قليلا لألاحقها بثقة القط يلاحق الفأر، ولكن المطاردة تنقلب فجأة لتصبح بين غزال جامح ودينصور غبى، يركض الغزال ويختفى بين غابة من المشاعر المتضاربة، والدينصور فاتح فاه فى دهشة الأبله المتجمد من هول المفاجأة، أليس هذا هو الشلل بعينه: أن تنقلب المطاردة بين القط القادر والفأر العاجز إلى مطاردة بين الغزال الهارب والدينصور الغبي؟ هذا هو مرضى :”شلل فى العقل”.
كيف كنت أفكر قبل ذلك؟ لماذا لم ألاحظ هذا الانفصال العجيب بين الفكرة والمفكر قبل اليوم؟ ما أروع أن يسألك أحدهم سؤالا فتجيبه على الفور، عمل تلقائى يفرز الأفكار فى كتل متراصة بطريقة آلية مثل ماكينة الجيلاتى فى ليالى رمضان فى سيدنا الحسين أو على شاطئ الاسكندرية، يضغط على الذراع فيخرج قمع الجيلاتى متعدد الألوان فى كتلة مخروطية متماسكة، هكذا يعيش إنسان اليوم دون حاجة إلى تفكير آخر، يبدو أن المرض يبدأ حين تضطر إلى تقليب أرشيف مخك للبحث عن إجابة مناسبة ذات معنى لسؤال ليس له معنى، فأنت معرض أثناء تقليبك الأرشيف أن تقفز إليك أسئلة لا حصر لها ولا لزوم لها، وكأنها مجموعة من الكلاب الضالة الصغيرة التى التقت بصاحبها بعد طول هجر، ثم تمضى فى تقليبك للأرشيف تبحث عن معنى حتى تقترب من الطبق الأوسط المغطى منذ الأبد، والمحرم رفع غطائه كشرط لإكمال الوليمة، فإذا كنت أهوج أحمق فسوف تفعلها، وهنا يقفز الفأر من تحته ويجرى على المائدة يقلب الآنية ثم يقفز ليختبئ فى ركن من أركان الحجرة، وتبدأ المطاردة بين القط والفأر النشط، حتى هذه اللحظة أنت ما تزال متمكنا من اللعبة، تترك الفأر وقتما تشاء لأنك واثق أنك ستلحقه كما تشاء، ثم تثور عاصفة المشاعر الهوجاء لتجد نفسك فى غابتها، وتنقلب المطاردة إلى لعبة الغزال والدينصور ويحدث الشلل المرعب.
يا “نهار أسود”.. كيف تتوارد هذه الأفكار بهذا التسلسل الغريب العميق، .؟ على كل، .، شىء يقطع ملل الانتظار! فلأستمر فى التفكير (وكأنى أستطيع ألا أفعل):
لست أدرى إلى أين تجرنا تلك الحماقة التى حذرتنا منها كل الأديان والأساطير القديمة”لا تأكل من الشجرة المحرمة” ” لا تسأل عما لا يعنيك، “لا تسألوا عن أشياء إن تـبد لكم تسؤكم”.”لا يغلبك حب الاستطلاع حتى تكشف غطاء الطبق الأوسط، لا تفتح الحجرة المقدسة فى سرداب سكة الندامة”، كل هذه النصائح الأزلية هى لتحافظ على آلية ماكينة الجيلاتى التى تضخ الأفكار السابقة التجهيز حتى لا يصير الإنسان إنسانا قبل الأوان، متى الأوان؟
وأنا؟ أنا مالى بكل هذا؟ لم يخطر فى بالى أن أكون “إنسانا”فى يوم ما، أنا لا أعرف معنى الكلمة، كنت قد تبت إلى الله أن أعود لهذه المحاولة من بعد خيبتى فى المراهقة، ما ذنبى أنا الآن فى كل هذا؟ أنطق بشىء كالحكمة، وأبحث عن مجهول اسمه الحقيقة، وأدعى إمكان المعرفة دون قصد.
المصيبة أننى لا أكف عن التفكير فى هذه المسائل وتناولها بجد وحماس لا يتناسب مع إدراكى بأنى مقحم فيها دون إرادة كاملة، تـرى هل سأجد عند رب الطب هذا أجوبة لهذه الأسئلة؟ هل سيعيد حبـك الغطاء على الفأر الهارب؟ وإذا فعل فكيف أستجيب له؟ يبدو أن المحظور قد وقع بغير رجعة، حتى لو عاد الغطاء إلى مكانه فإنى أعلم أن تحته فأرا، هذه الخدعة لا تصلح إلا للمواطنين المسالين الذين لم يرتكبوا هذه الحماقة أصلا، أما من فعلها مثلى، .. فماذا يكون مصيره؟
أفقت من ذهولى الظاهرى على صوت الممرض يسألنى هل أخذت ميعادا سابقا؟ لماذا؟ هل هو موعد غرامى لابد من الاتفاق عليه مسبقا؟ ولكن النظام هو النظام لا يستثنى إلا بنفحة سخية لإقناع ماسك مفاتيح خزائن الحكمة.
- حالة مستعجلة، .. الله يستر عرضك.
- ربنا يشفى، ولكنك، …….الحمد لله.
- الله لا يوريك، تعبت من الجرى وراءه وأريد من يمسكه معى.
- آه، ..!!!
قالها بشفقة حقيقية وكأنه وصل إلى التشخيص المبدئى لحالتى، حمدت الله أن حالتى لها تشخيص سهل يمكن أن يدركه رضوان الممرض من جملة أو اثنتين، ومع ذلك فقد وقف فى هدوء حذر وعيناه تقولان شيئا آخر، ناولته ما قسم، فأصبحت بقدرة قادر من الحاجزين، الوقت يمر ببطء، لا أحاول أن أتبادل الحديث مع أحد، يقترب منى بنظراته شاب خجول من المنتظرين، يهم بالكلام ثم يعاود الصمت قبل أن يبدأ، أحمد الله على أنه لم يبدأ، أمتلئ شعورا به، أكاد أقول “لا”دون أن أعلم على ماذا أعترض.
…..
دخلت إلى غرفة الكشف، واستقبلنى هذا النطاسى العالم بابتسامة بشوشة مرحة، الغليون فى فمه، والدخان الرمادى يتصاعد منه فى هدوء الواثق الذى يشبه هدوء صاحبه، المكتب بينى وبينه يبدو كبيرا جدا، يزداد حجمه فى نظرى بسرعه هائله حتى أتخيل أنى أحتاج إلى بضعة شهور لو حاولت أن الف حوله لأصل إلى الجانب الآخر، عقلى لا يتركز فى حالى، دائم التخيل والشطح، دائم السخرية، نظرت إلى عينيه وراعنى ذلك المنظر المهيب خاصة فوديه اللذين صبغا باللون الرمادى وقد غزاهما الشيب على استحياء، أحسست أنى أمام مخلوق بشرى “خاص”، صحيح أنه من كوكب الأرض ولكن لا بد أن موطنه الأصلى فى قارة اخرى، أحسست أنى أجلس على شاطئ الإسكندرية وهو على الشاطئ الاخر، وأن المكتب هو البحر الأبيض المتوسط.
أخذ يسألنى عن اسمى، وعنوانى، ووظيفتى، وعدد أولادى، وأخذت أجيب عليه بما سمح له أن يقوم بتسجيل أشياء محددة فى سجل أمامه، وبما سمح لى بمواصلة محاولة تحديد موطنه الأصلى عبر البحر المتوسط، فسمرة وجهه تقول إنه من جنوب إيطاليا، وتلك الراء اللدغاء تقول إنه من فرنسا، يسألنى:
- ماذا يقلقك الآن؟
كدت أقول إن ما يقلقنى هو تحديد موطنه الأصلى، ولكنى سارعت فى آخر لحظة بالإجابة.
- النوم.
- ماله النوم؟
ما أدرانى ماله، لو كنت أعرف، لما جئت هنا.
- صعب على هذه الأيام.
- بسيطة.
بسيطة !!!؟ ما هى تلك التى هى “بسيطة”؟ طريقة العلاج؟ أم صعوبة النوم؟ لماذا لا يأخذون المسائل جدا؟ وكيف يصلون إلى هذه الأحكام بهذه الثقة والسرعة؟ أم هو نوع من التشجيع الطبي؟ بسيطة، بسيطة، أنا مالى، هو أدرى، أنا عملت ما على، ولتعالجنى البساطة، “عالباساطه الباساطه”، كم أحب هذه الأغنية فعلا، لابد أن موطن هذا النطاسى هو فرنسا لأن العلاقة بين فرنسا ولبنان مثل العلاقة بين صباح والبطاطة.
طال صمتى وإن كان وجهى قد أشرق بهذا الاكتشاف، نظرت إليه فوجدت أن وجهه قد أشرق هو أيضا بهذا البشر البادى علىّ، لعله اطمأن من ابتسامتى أن الحالة فعلا بسيطة، وأنه استطاع أن يطمئننى، ظهر البشر على أكثر لما أيقنت أن الهوة بيننا تتسع، مضى يسأل فى اهتمام ظاهر:
- وماذا أيضا؟
- تغيرات لا أعرفها ولكنى أصاب أحيانا بدوار ويقل انتباهى عما حولى، ولا أتذكر أسماء الأشياء جيدا فى بعض الأحيان.
- وماذا أيضا؟ مم تشكو غير ذلك؟
أشكو؟ أنا لا أشكو ولكنى أتعجب من الذى يحدث، أريد تفسيرا، أحس أننى بعيد، بعيد جدا، بعيد عن ما لا أعرف، ثم هب أننى شكوت فهل تسمعنى وأنت على الشاطئ الآخر وأنا لم أتمكن من تحديد موطنك الأصلى، أحسست بإشفاق شديد عليه إشفاق مشوب بالاحترام لقدرته هذا الإنسان على التخيل، رددت عليه فى هدوء أقرب إلى اليأس.
- أبدا.
طلب منى أن أخلع حذائى وتذكرت ذلك الموقف مع جارنا طبيب الأطفال وأمراض النساء، ولم أسمح لخيالى أن يرجع بى إلى هذا العهد القديم فوق ظهر أم صبحى أثناء حمام ليلة العيد، اكتشفت أن الحال غير الحال، ولم يعد خيالى ساذجا مثل الأول، الآخر كان طبيب أمراض نسا وأطفال، وكنت أنا بادئا فى الكار، أما هنا فإن تطور الأمور يلزمنى بالتركيز والمحاولة الجادة، رغم البساطة المطروحة كحل سعيد.
حيرة عجيبة تلك التى مررت بها مع هذا الإنسان العظيم الصبور العالم، لم يترك فى جسمى شبرا إلا وشكه بدبوس أزعجنى فى أول الامر، ولكنى رويدا رويدا أخذت استمتع باللعبة الجديدة، حاولت أن أتعاون معه إلى أقصى مدى: كلما شك شكة وطلب منى أن أقارن بين هذه المنطقة وتلك، ازداد احترامى لإتقانه عمله – ولكن يبدو أنى خيبت ظنه فى أغلب الأحوال لأن استجابتى للدبوس كانت تتوقف على أفكارى الخبيثة لا على مدى إحساسى بالشكة، حين وجدت وجهه يعبس، خفت وقررت أن أجامله بأن أصطنع فرقا بين إحساسى هنا وإحساسى هناك، حتى أعطى لعمله معنى.
- لا، .. هنا أكثر.
- طيب، .. وهنا أكثر؟ أم هنا؟
- أكثر قليلا.
- وهنا؟ أم هنا؟
- لا، هنا.
فشلت مرة أخرى فى إرضائه فقد”زغر”لىّ” زغزة”طبية محترمة ألزمتنى حدودى وأعادتنى إلى أفكارى السابقة تاركا له جسدى يفعل به ما يشاء من ثنى ومد أشبه بتدريبات الرياضة البدنية، وحين طلب منى أن أرفع حواجبى وأصفـر، كدت أظن به وبنفسى الظنون، استمرت اللعبة حتى هرش أسفل قدمى بمفاتيحه، قلت بدأ “بالزغزغة”وربنا يستر، حاولت أن أقاوم الاستجابة للدغدغة فلم أفلح، انفجرت فى الضحك ولم يسكتنى إلا إطفاء نور الحجرة.
أحسست بهدوء غريب، وقدرت أننا نقترب من اكتشاف الحقيقة، أحسست به وكأنه قفز إلى من شاهق فى صاروخ عابر للقارات ليقترب منى فى هذا الظلام المريح، نور مستدير يصدر من جهاز بيده أيقظ الأمل فى بشكل لم أعرفه من قبل، هل يأتى النور أخيرا من جوف الظلام؟ اقتربت الدائرة أكثر ثم اختفت حين غمر عينى شعاع ساطع، اقترب هذا النطاسى الفذ منى حتى أحسست بلفح أنفاسه تغمر وجهى، الآن فقط تبينت أنه من لحم ودم مثل سائر البشر فهو يتنفس مثلنا، مثل الآخرين، انتقل النور من عين إلى عين وأنا فى حالة من الانتباه والانبهار والأمل معا، كنت أحس بجديته وهو يبحث فى عينى عن كنز خفى ويأمرنى أن أنظر إلى إصبعه، وأن أثبت نظرى حتى يتمكن من الرؤية، ذكرنى بمصباح ديوجين وهو يبحث عن الإنسان فى وضح النهار – هل يبحث هو الآخر فى عينى عن الحقيقة، يبدو أن الطب الحديث قد عثر أخيرا على طريق مباشر لاكتشاف الحقيقة فى أعماق العين، كان ينبغى أن يعلنوا هذا فى كل مكان حتى يستريح الناس “يا خلق يا هوه!! الحاضر يبلغ الغائب: إنهم وجدوا الحقيقة فى قاع العين، فلا ترهقوا أنفسكم وأنتم تبحثون عنها خارجكم” (حلوة هذه)، لو بلغ هذا الإعلان جارنا الاستاذ غريب لتوقف عن الغوص فى كتب الفلاسفة بلا طائل، ولتوقف كثيرون غيره عن الشقاء والضياع والتساؤل، العلم الحديث قد نجح أخيرا فى تحديث مصباح علاء الدين السحرى.
ملأ النور الحجرة فجأة، أفيق من سرحتى بسرعة مناسبة لأكتشف أن ذلك الإنسان العالم قد انتقل بقدرة قادر إلى الناحية الأخرى من البحر المتوسط، وأنه قد استغرق فى أوراقه بوجه حازم وأخذ يكتب أشياء واضحة باهتمام بالغ، هل هذا هو نفس الرجل صاحب الأنفاس الدافئة تلفح وجهي؟ هل هو نفسه الباحث عن أصلى وفصلى عن الحقيقة فى قاع عينى بمصباحه السحرى؟ أكاد أحس بأنهما شخصان على الأقل، هل هى مجرد خيالاتى التى صورته لى إنسانا دافئا جادا يحاول مساعدتى وهو فى الحقيقة ذلك الإنسان الآخر العالم ذو الغليون واللكنة الأوربية؟
قال لى بوجه حازم.
- فعلا، بسيطة.
رجعنا إلى البساطة ثانية، سبحت خيالاتى مع رياح البر والبحر عبر الأبيض المتوسط، كتب لى بضعة أقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم، كما أمرنى بالامتناع عن مأكولات عزيزة على منها الجبن والزبادى والفول، والطعمية والسلمون والسردين، ما علاقة هذه الأشياء بمرضى العصبي؟ هل هو تسمم غذائي؟ عادت تقتحمنى أغنية البساطة والبطاطة فلم أتردد أن أسأله:
- هل أمتنع أيضا عن الزيتون والبطاطة؟
نظر فى دهشة، ولكنه قال فى علم أكيد.
- لا، .. هذه المأكولات التى منعتك عنها لا تتناسب مع بعض الأدوية التى ستأخذها، أما باقى المأكولات فأنت حر تأكل ماتشاء.
وفوق كل ذى علم عليم، ما علاقة الأقراص بالأعصاب بالجبن بالسلمون بالبساطة بالبطاطة، ما أعظم هذا العلم الحديث!! وإيش عرف الحمير فى علوم الجنزبيل،
خرجت من لديه شاكرا محترما كل ما حدث وإن تملكتنى شفقة غريبة عليه، هذا الإنسان الذكى العالم: ماذا عرف عني؟ من أنا؟ أين ذهبت به ظنونه؟ أيهما أقرب إلى الواقع: خيالى المريض أم خياله العالم؟
خرجت وأنا شاعر بالامتنان، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أثناء مرورى بالصالة لمحت المعلقة إياها فنظرت إلى نهايتها، كان آخر بيت يقول:
”سنبقى شاكرينك ماحيينا، وأنتم رب طب العالمينا”.
ملأنى شعور بالخجل أن أخرج “هكذا”بلا عرفان حقيقى بالجميل لـ”رب طب العالمينا”، كيف يكون هو كذلك، وأنا لا أحمل تجاهه إلا نوعا من الشفقة، وبضعة علامات استفهام تتراقص أمامى فى تحد، ثم شىء فى داخلى يخرج لي- وله – لسانه،
رغم كل هذا الجحود وتلك الشقاوة والشك والتردد تناولت الأقراص كما وصفها لى، ولم أستطع أن أخفى عن زوجتى هذه الزيارة حتى أجد مبررا لهذا النظام الغذائى الخاص، لم تخف زوجتى فرحتها بأنى عقلت أخيرا وذهبت لأستشير أصحاب الرأى، واطمأنـَّـتْ إلى أن مابى عارض يمكن أن يزول بأقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم وممنوعات فى الطعام.
* * *
ليال وأيام لا أعلم كيف تمضى، أحس أن كابوسا هائلا يكتم أنفاسى، أصحو وكأنى نائم، وأنام وكأنى مستيقظ تماما، ولكنى مقيد الحركة فى الحالين، أحاول أن أتخلص من هذه الأقراص اللعينة التى نجحت فى تجفيف ريقى بقدر ما كادت تطرحنى أرضا، كانت عملية إعطائى الحبوب تذكرنى بشربة زيت الخروع التى كانت مقررة علينا ونحن أطفال كل شهر لتغسل الجوف وتجلى الذهن وتعالج الدمامل، لم نكن نجنى منها إلا هذا الشعور بالقيء، كنت أحاول رشوة أبى ليعفينى منها لو أنى طلعت الأول فى امتحان الفترة الثانية، ماذا يعفينى من هذه الأقراص اللعينة الآن؟ أنا مستعد لأى شىء حتى لو وضعوا فى عينى ”ششما” فإنه أرحم، لماذا لم يفكر هذا الطبيب فى ذلك بعد فحص عينى بمصباحه السحرىّ؟ أنا طول عمرى أفضل الششم الأسبوعى على زيت الخروع الشهرى حتى لو كان كالشطة ذاتها، بدأت فى التحايل على إخفاء الحبوب ثم إلقاء بعضها خفية من وراء زوجتى حتى اختفت كل الأقراص من العلبة بحمد الله، أحسست كأنى كالطائر الحبيس الذى أطلق سراحه فجأة، رأسى صاف وأفكارى عادت تطير بأجنحة من نور فى كل مكان، لم يعد يقيدها هذا الثقل الكيميائى، استعدت حريتى فجأة وعرفت قيمتها ولن أفرط فيها ثانية تحت أى وهم من أوهام العلاج، حتى لو اقتضى الأمر أن أعيش فى السر بقية حياتى، سوف أخفى كل شئ، سوف أحذر كل نصيحة بعد الآن، المدير لا يفهم إلا فى الإدارة، والطبيب لا يفهم إلا فى الطب، ما عندى ليس طبا ولا إدارة، إنها أشياء لم تدخل بعد قاموس عالمنا الأرضى، لا يوجد فى الدنيا أغلى من الحرية.
* * *
خرجت إلى الشرفة ووجدتنى أستنشق الهواء بعمق طال شوقى إليه، لعلى كنت أتأكد أنى طليق بعد إزاحة هذه الأحجار الملونة عن خلايا مخى، رحت أرى العربات فى الشارع وكأنى أشاهد لعب الأطفال تتصارع للوصول إلى هدف غامض، أحس بخلايا جسدى تتحرك تحت جلدى فى يقظة حديثة لاذعة، لا أكاد أعرف لنشاطها هدفا معينا، يبدو أن مجرد محاولة البحث عن هدف هو شىء سخيف ليس أسخف منه إلا محاولة البحث عن معنى، ماذا يقول لى هذا الإحساس الجسمى تحت جلدي؟ لا شىء إلا أنه يشعرنى بالحياة “كما هي”.. ربما دون هدف، تـرى هل كل هؤلاء الذين يتحركون فى الشارع يشعرون بهذا الشعور الخاص؟ وإذا لم يشعروا بشعور الحياة هذا فهل هم أحياء؟ وكيف؟
تحول نظرى إلى الشرفة المقابلة فلمحتها: “أمانيى”، عصفورتى وروح قلبى، لوحت لها بيدى، كادت تقفز من الشرفة وهى تلوح لى هى الأخرى بعينيها ويديها ووجهها، وصدرها، وكلها، تذكرت مرة أخرى ذلك الإحساس القريب مما أنا فيه والذى غمر جسدى قبيل إعلان الرجولة، ذلك الإحساس اليقظ الذى يعطى نسمة الهواء معنى، كنت فى سن أمانى ولكنى لا أعلم متى وكيف اختفى هذا الشعور، ثم إنى لا أعلم أكثر لـِـمَ عاد هذه الأيام؟ لماذا أشعر أنى فى سنها وربما أصغر؟ لماذا أحس بنبض كل خلية فى جسدى وعقلى حتى أظافر رجلي؟ يبدو أن هناك ما ينبغى أن يسمي”لغة الخلايا”وهى أعظم وأصدق وأبهج من لغة العيون أو لغة القلوب، ناهيك عن تلك الألفاظ التى دخلت قاموس الإنسان لتفصـل بين عواطفه وعقله وجسده، ربما كان هذا الشعور الكامل هو الذى أشعرنى أن أمانى تلوح لى “بكـلها”، خلاياها تقفز من تحت جلدها وخلاياى كذلك، لم تعد مثل ابنتى الصغيرة، أحس أن خلايانا يمكن أن تلعب سويا، تقفز الحبل، تتدحرج على الشاطئ، تطير فى السماء، تذوب فى البحر، لم تعد أمانى ابنتى، ماذا أصبحت لى؟ حبيبتى؟ أختى؟ أمى؟ صديقتى؟ لا، هل هى “أنا “؟ يجوز.
اختفت من الشرفة، لمحتها بعد لحظات فى الشارع، نزلت دون تفكير، تسقط كل حسابات الأرض.. ابنتى، عشيقتى، لوليتا، عفريتا، هذا آخر ما يمكن أن أفكر فيه الآن، نزلت هكذا والسلام.
كانت أمانى تمسك بشىء ما بين ذراعيها ضاغطة بهما على صدرها – كتب أو حقيبة – وكان هذا الوضع يجعل جسمها يتحرك بأكلمه فى نعومة متماوجة تتناسب مع توقف حركة المجدافين عن ضرب الهواء، كانت مثل السفينة الشراعية تسير حسب الريح رافعة رأسها لتلتقط موجات النسيم فتنساب فى سحر هادئ، أيام الثانوى كنت أعجب من هؤلاء الطلبة الذين يتناوبون توصيل الطالبات إلى المدارس من المنازل وبالعكس، محتفظين ببعد ثابت منهن مثل الكلاب الأمينة، كنت أتساءل عن جدوى كل هذا؟ يبدو أن فى الإنسان قوى جاذبة للمادة الحية لا تظهر إلا إذا ترتبت أجزاؤه مثلما كنا نمغنط الدبابيس فى حصة الأشياء والصحة، لازالت خلاياى نشطة تخاطب أمانى فى صمت، ضجرت من هذا الصمت وأصابتنى شجاعة ليست فى الحساب، قفزت إلى الرصيف الآخر بعد أن سبقتها ببضعة أمتار ثم تمهلت حتى اقتربت منى، كادت تتخطانى وهى لا ترانى، التفتُّ إليها حتى لا تضيع الفرصة، أيه فرصة يا أكبر عيل؟ فرحت بى فرحة حقيقية، تحدثتْ معى بلا تردد وهى تكاد تتعلق برقبتى مثل ما تعودت منذ كان طولها لا يتعدى ركبتى، أطلقت فرحتى أنا الآخر دون خجل، مشاعر قريبة من المشاعر التى مرت بى مع آمال فى خيالى إلا أنها أعمق طفولة وأكثر جرأة أيضا، نفس الإشكال: لا تستطيع أن تسميها جنسية كما لا تستطيع أن تستبعد منها الجنس، شىء جديد أقرب إلى تفتح الزهر أو اهتزاز البطة لحظة خروجها من الماء، أو نشوة رذاذ المطر تحت الشمس، سألتها عن دروسها وعن واجباتها وعن ميعاد عودتها، أجابت فى فرحة غامرة عن كل سؤال، وكأن فى إجاباتها البسيطة إجابات لكل الأسئلة الحائرة فى الكون، عرضت عليها خدماتى فى الجبر والهندسة فسعدت بذلك سعادة بادية، ووعدتها بالمرور عليها لبدء الدروس تطوعا بعد استئذان والدتها الحاجة.
* * *
فى اليوم التالى مباشرة ذهبت إلى منزل أمانى فى الساعة الخامسة بعد الظهر، ولم أعن بأن أخبر زوجتى عن وجتهى أو لعلى تعمدت ذلك، لا علاقة بين العائلتين إلا تحيات الشرفات المتقابلة، طرقت الباب وفتحت لى “الحاجة”مرحـِّـبة داعية شاكرة، اتجهت إلى حجرة “الجلوس”، أريكتان عربيتان متقابلتان مرتفعتان عن الأرض بشكل ملحوظ، أمامهما منضدة مستديرة، عليها قرص من الرخام مشقوق من جانب وقد عض على المفرش القديم الملقى عليه فى إهمال عضة يبدو فيها الإصرار وعدم الأمان بعد الكسر، جلست وحدى أنتظر تلميذتى، وابنتى، وصديقة رذاذ المطر، فى لهفة يقظة ساخنة.
ماذا جرى لى؟ ماذا أفعل؟
منذ أطلقت سراح عقلى بالكف عن تعاطى هذه العقاقير وأنا أتجنب مثل هذه الأسئلة خشية أن تؤدى بى مرة ثانية إلى إحدى هذه العيادات التى يديرها علماء جدا، ولكنى لم أكن أستطيع أن أوقف مخى عن التساؤل فى مثل فترات الانتظار هذه حيث تقفز الأسئلة دون استئذان، ولم يكن ذلك يخلو من فائدة على أى حال.
ماذا جرى لى، .. وماذا أفعل الآن؟
لم تمهلنى “الحاجة” إذ دخلت وقد وضعت على رأسها طرحة بيضاء تظهر بياض وجهها مشوبا بذلك الإشعاع الأحمر الهادئ الدافئ المشرب ببياض خفى كانت ملامحها تشبه ملامح ابنتها ولكن على بعد من السطح كأنما هى ملامح مختبئة وراء غلالة تشى بما صنعه حج بيت الله، وزيارة الرسول، وسنوات العمر، ثم التفكير فى مرض زوجها وجنون الأسعار، كل ذلك معا، لكل ذلك وغيره فأنت لا تستطيع أن تتبين عمرها، لتكن طفلة لم تتعد العاشرة أو عجوز تخطت الستين، يتبادل الوجهان فى حذر وراء الغلالة التى لا تميز بينهما.
سألتنى:
- قهوة أم شاى؟
تباطأت فى الإجابة عن عمد، ولكنى قلت فى النهاية.
- أريد أن أحدثـك.
كنت أريد أن أكتشف شيئا لاح لى من بعيد، كما كنت أريد أن أتعرف على حالتى أكثر.
قالت:
- لقد قالت لى أمانى كل شىء؟ لا أعرف كيف أشكرك.
كل شىء؟ ومن أدراها بكل شيء، لم تغير إجابتها اتجاهى الذى لا أعرفه.
- ولكنى أريد أن أطمئن على حضرتك أيضا.
- الحمد لله، صابرين على قضائه.
- أنا تحت أمرك.
- أكثر الله من أمثالك، أنت تعلم ظروفنا منذ مرض الحاج، والمدرسون أصبحوا ندرة، ولا بد من الحجز السابق مثل الأطباء هذه الأيام.
- أمانى ابنتى وأنا أحبها منذ كانت تحبو.
- فيك الخير يا إبنى.
إبنها؟ أنا إبنها وابنتها ابنتى، هى بنت من؟ ضاعت منى معالم الزمن، أحس أن كل الناس ليس لهم عمر، أو هم فى مثل عمرى، لا أرى فى الناس إلا ذلك الجزء من العمر الذى ليس عمرا، نحن الثلاثة أبناء بعض، . “هيه”!.
نظرت إلى الحاجة بعمق لا أعرف معناه، ولكنى تصورت أنه يحمل دعوة للعب مثلا، التقت نظراتها بموافقتى على ما لا أعرف، احمر وجهها حتى تراخت العضلات وتباعدت التجاعيد عن بعضها فأشرقت من وراء نفسها، أحسست برغبة فى الاقتراب منها أكثر، عاودتُ النظر إلى العينين، امتقع وجهها هذه المرة فى رعب لا مثيل له، ماذا فعلت بهذه العجوز الوديعة؟ ماذا أحمل هذه الأيام فى عيني؟ ماذا أريد؟ وإلى أين؟ عاودها بعض الهدوء بعد أن كادت تهرول خارجة دون حساب، قالت فى براءة خائفة.
- ماذا؟ ماذا يا عبد السلام أفندى، .. فيه ماذا؟
أطرقت بسرعة وقلت بحزم حان،
- لا شىء يا حاجـّـة، .. كل خير.
- خير يا ابنى اللهم اجعله خيرا، .. سأذهب أنادى لك أمانى.
انصرفتُ، وأنا مازلت أتعجب مما جرى، سمعتها تهمس قبل أن تغلق الباب ناظرة إلىّ بربع عين “يا ساتر استر على الولايا”.
* * *
جاءت أمانى بعد قليل كالوردة النضرة، “فرحانة”، لأول مرة أجد أن وقع هذه الكلمة له رنين خاص، تبدو كلمة أكثر تغلغلا فى الجوف من كلمات مرادفة مثل “سعيدة” أو “مبسوطة”، إنها تخرج من الأعماق مارة بكل خلية حتى تملؤ الحلق فى وداعة نشطة، جاءت أمانى “فرحانه”، كل خلاياها فرحانه، ليس فى كيانها كله خلية واحدة ضجرة أو صامته، إذا تحدثتْ رقصتْ عيناها حتى تحس بتيار الرقصة يصل إلى لون ساقيها، وإذا ضحكت خدودها بغمازتيها ضحكت أحشاؤها وأصابع قدميها، بل إنى رأيت التآلف ينتقل إلى الجماد من حولها، كانت تجلس على الكرسى وتضع يدها على المنضدة فتدب الحياة فيهما ويصبحان جزءا من نغم الحياة الغامر، مددت يدى، ربت على خدها متظاهرا بأمور غير موجودة، كنت أريد أن أتأكد أنها من نفس المعدن الذى صنع الله منه البشر، كنت أريد أن أتحسس خامتنا فى صورتها الأولى قبل أن تتراكم عليها طبقات الصدأ والخوف والجشع، وضعت يدى على خدها لم أربت عليه هذه المرة، لم تجفل أو ترتعش، سـَـرَتْ فى جسدى رعشة رائعة وكأنى نهلت من مادة الإنسان الخام جرعة تكفينى أن أفخر أنى كنت يوما ما من نفس هذا النوع من الكائنات، الآن تأكدت أن هذه العواطف التى تجيش بصدرى ليست جنسا، وهذه الرغبة فى الاقتراب ليست شهوة، شعرت براحة هائلة، تيقنت أننى إذا عدت بشرا مثل البشر، لو يعاد صنعى من الأول بهذه المواصفات، فسوف أكون طيبا جميلا، هل تقدر الطيبة مهما كان لها من وهج جميل أن تواجه هذا العالم البشع؟ لا يمكن أن تكون هذه الإنسانه من طين إلا إذا كان هناك نوع من الطين المشع، ربما توجه البحث العلمى لإعادة اكتشاف هذا النوع حتى يعاد صنع الإنسان الذرى الذى يتناسب مع العصر، غير أن هذه المادة البشرية الخام غير قابلة للتحطيم أو الانفجار إلا إذا انفجر العالم كله، ربما أكون أنا هو حطام هذا التفجير الخفى، ثـَـمَّ إشعاع أمامى يعيد تجميع أجزائى.
قالت فى دلال:
- عمى عبد السلام، أين أنت؟
- هنا معك.
- أنت تنظر إلىّ كأنك ترانى لأول مرة، هل بى شىء غريب.
– نعم.
- ماذا؟
- أنا أحبك.
- أنا أعلم ذلك، أنت طول عمرك تحبنى.
- وأخاف عليك من الصدأ.
- من ماذا؟
- من التـفـتت.
- من ماذا؟
- من الناس.
- ولكنى لا أخاف، إطمئن.
- لا أعنى ما تعنيه أمك “الحاجة”أو أبيك شفاه الله، لا أعنى أنى أخاف عليك من الغواية أو الفساد ولكنى أخاف عليك من خوفهم.
- أنت خائف يا عمى، أنا أحبك أيضا.
كدت أحتضنها حتى أذوب فيها ويتبخر رذاذ المطر تحت جلدى فى دفء حبات النور التى تشع من كيانها كله على شرط ألا أعود أبدا.
فتحت الحاجة الباب ودخلت تحمل فنجان القهوة فى الوقت المناسب.
- على الريـحه، حسب طلبك، حصلت البركة.
- الله يبارك فيك ويحفظك يا حاجة.
لم أشعر بالحرج أو الذنب، لم يكن بداخلى ما يشين، يا حلاوة! هل يوجد فى العلاقات الإنسانية شىء مثل هذا: بلا جنس ولا ذنب ولا خجل، وبكل الجنس والطمأنينة وهذه الثقة؟ شىء لم نسمع عنه أو نقرأ عنه فى الكتب لأنه ليس فى متناول الوصف حيث هو أغنى من الألفاظ، وأكبر من مجموع الأجزاء؟ نظرت الحاجة بجانب عينها إلى الكتب التى لم تفتح بعد، وانصرفت دون أن يبدو عليها الرفض أو الخوف، غير أنى سمعتها تتمتم هذه المرة”يا منجى من المهالك يا رب”.
بدأنا الدرس مباشرة وتبينت أن أمانى لا تحتاج إلى جهودى التدريسية، بل إن حضورى يمكن أن يكون مضيعة للوقت، أصابنى نوع من السكينة يجعلنى أقول الصدق بلا حساب، حضرت الحاجة وأخبرتها ببساطة عما يجول بخاطرى.
- أمانى شاطرة، وأخشى أن أضيع وقتها فى الدرس دون داع.
قالت الحاجة بانزعاج.
- هل تتركنا يا عبد السلام أفندى ونحن ما صدقنا.
صدقتم ماذا؟ أترككم؟
- أنا تحت أمركم.
قالت أمانى بواقعية لا انزعاج فيها:
- تحضر لتراجع لى، وترى مستواى كل أسبوعين.
قالت الحاجة:
- وتسأل عنى يا ابنى.
- أنا تحت أمركم، ياليت كل الناس مثلكم.
- أكثر الله خيرك يا ابنى.
عادت الدائرة تدور: أنا ابنها وهى ابنتى، وابنتها ابنتى وربما تكون هى ابنة ابنتها، من منهما أكبر من الأخرى؟ شتان بين جوع الأم وجزعها وبين واقعية الإبنة وثقتها، الدنيا تكاد تكتمل فى دائرة أنا أضعف حلقاتها.
لم أنس أن أسأل عن الحاج، دخلت حجرته فوجدت وجهه قد ازداد بياضا من طول بعده عن الشمس، أحسست بنفس الشعور الغامر من السكينة والنشوة مما أكـد لى أن الأمر كله مشاعر إنسانية جديدة – ليس إلا – ولا داعى لتشويهها بالذنب أو حتى بمحاولة التفسير، انحنيت على يده أقبلها وأطلب منه الدعاء، هـَـمـْـهـَـمَ بأصوات غير مفهومة، أخذت من المريض الأبكم المشلول أكثر مما أخذت من الطبيب المختص فى الشلل، استطاع أن يغمرنى بعاطفته وأحسست به وكأنه يعالج شلل عقلى، يا سبحان الله.
خرجت إلى الشارع وكأنى اكتشفت كنزا فى هذا العالم، شيئا نفيسا جدا ولكنه ليس مثل الجواهر النادرة التى أحسست بها زمان، هو شىء عادى ورائع فقط.
لو أن أى واحد رأى رؤيتى فى هذا اليوم لوجد أن الحياة تستأهل أن نعيشها بكل وسيلة وبلا هدف.
إذا كان هذا الشىء موجودا فى عالمنا فلابد أن الله موجود، ما علاقة هذا بذاك؟
* * *
كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء، وقدماى تقتربان من منزلنا، لمحت “الزاوية” فى الشارع الجانبى المؤدى إلى بيتى والتى تقع فى بدروم إحدى العمارات وكنت أتعجب وأنا أمر بها يوميا كيف يـُـعبد الله فى بدروم تحت الأرض؟ دخلتها دون تردد، أحسست أنى أدخل غار حراء، لم أجد بها إلا رجلا واحدا ملتحفا بعباءة تغطى رأسه ووجهه وهو يجلس فى ركن من أركانه، كان يهتز هزات رتيبه إلى الأمام والوراء، كأنه بندول الكون، اتخذت مكانى على بعد منه وجلست القرفصاء أنظر فى حجرى، “أحسست”أن جسدى قد بدأ يهتز بنفس النظام فى هدوء ذى نغم، بدأت النشوة تنساب تحت جلدى إلى كل أجزائى ثم إلى كل ما يحيط بى، نظرت إلى أعلى المنبر المكون من درجتين خشبيتين متآكلتين، وخيل إلى أن المكان أصبح أكثر إشراقا ونورا، صليت ركعتين دون أن أتأكد من وضوئى، أحسست بالخشوع الحى، طال سجودى حتى كدت أستوى بالأرض.
تسحبت فى هدوء إلى الخارج دون أن ألقى السلام على الإنسان المجهول القابع تحت عباءته يحسب الزمن الكونى باهتزازه المنتظم.
ما علاقة هذه الأشياء بعضها ببعض: أمانى، بالجنس، بالصلاة، بأمها، بالشلل، بالله؟ بالشيخ؟ بالسجود؟ بالجنون؟ هل تتآلف الأشياء هكذا ونحن الذين نبعثرها؟
حين اقتربت من منزلنا لم أشعر بالرهبة مثل كل مرة، لم أشعر أنى غريب ينبغى أن أتردد فى الطرق على الباب وكأنه ليس له حق الدخول، لم يزل التآلف بين كل الأشياء يملك علىَّ كيانى، وجدتها نائمة، قبلتها على جبينها، ابتسمت وهى نائمة وكأنها تحلم، أحكمت وضع الغطاء حول ظهرها، زادت بسمتها، أطفأت نور الأباجورة حتى لا تستيقظ، التف ذراعها حول عنقى وهى مازالت نائمة، أحسست بالعالم يتجمع بين يدى وكأننا عدنا إلى أيام الخطوبة أو بدء الخليقة، حين التحمت بها أحسست بخشوعى فى الصلاة، ونشوتى حين وضعت يدى على خد أمانى، وهى نفس مشاعرى حين قبلت يد والدها المشلول، خيل إلى أن استجابتها فى الأول قد خالطتها الدهشة أو الخوف إلا أن فيضانى أغرقها وسرى فى عروقها حتى حطم ترددها، وأسكت أسئلتها قبل أن تطرحها حتى على نفسها، فاحتوانا ما لا نعرف.
ونمت كطفل غلبه النعاس بعد أن شبع، وحلمة الثدى لا تزال فى فمه.
* * *
فتحت عينى فى الصباح وحاولت أن أتذكر الحلم الذى كنت فيه فلم أستطع، كان واقعا آخر اختلطت به أحداث أمس حتى ابتعد عن متناول وعيى الآن، أخذت أبحث عن المشاعر الغامرة التى ملكتنى طوال أمس بين منزل أمانى وزاوية البدروم وحضن زوجتى فلم أجد شيئا من ذلك كله، نظرت إلى وجه زوجتى وهى نائمة فوجدتها لا زالت تبتسم، لم أستطع أن أستجيب لابتسامتها بـِـسـَـكـِينـَه أمس،
أين ذهب كل ما حدث؟ لم يكن حلما كله، لم يكن حلما أصلا، أستطيع أن أقسم، أنا ما زلت أستطيع أن أفرق بين الحلم والواقع بوعى كامل وحذر غير محدود، منذ ذلك الحادث الأول وأنا لا أسمح لخيالى بأن ينفصل عنى ولا لثوان معدودة.
أمس كان واقعا كله، أين ذهب إذن الآن بمشاعره وكل ما كانه؟
عقلى مازال يعمل بنفس النشاط، ولكن جسدى هامد مثل كيس الرمل، كأن شيئا أطفأ حبات النور حتى انقلبت حجارة من سجيل، إشراقة النور من وراء شفافية الحساب اختفت بعد أن أصبح السحاب كتلا من كثبان رمال متماوجة متحركة، رمال داكنة يمكن أن تغمر قافلة بأكملها فتقضى على كل نبض فيها.
إلى متى سأظل أعيش بالصدفة؟ تأتينى المشاعر دون إنذار فتدب فىّ الحياة وتغمرنى وأغمرها حتى أحس أنه فى قدرتى أن أسوى بشرا مثلى، ثم تذهب عنى دون استئذان فتتركنى مثل عود أذرة جاف فى مواجهة ريح الخريف ينتظر من يخلع جذوره، ويهرس خواءه،
متى يأتى اليوم الذى أضع فيه يدى على مفاتيح هذه المشاعر؟ آتى بها وقتما أريد، وأختزنها حين ترهقنى الحياة العادية، أو حين يغمرنى خدرها بما يفوق احتمالى أو يعوق حركتى، كيف يعيش بقية البشر؟ بها؟ بدونها؟ إذا كانوا يعيشون بها فكيف يتحملون تقلباتها تلك؟ وإذا كانوا يعيشون بدونها فلماذا يعيشون؟
* * *
كان اليوم يوم جمعة بمحض الصدفة، واعتبرت ذلك عبئا ثقيلا لا قـِـبـَــلَ لى به، إذ كيف أمضى كل هذه الساعات تحت كثبان هذه الرمال المتماوجة بعد أن اختفى كل شىء آخر، وكيف أواجه زوجتى طول النهار؟ تـرى هل تتوقع تغيرا فى معاملتى بعد ما كان؟ أنا لم ألاحظ شيئا فى تصرفها حتى الآن، ربما كانت أكثر واقعية فاعتبرت الأمر كله مجرد حلم عابر، وعزمتُ ألا أفاتحها، لا أحد يضمن شيئآ، هل من مهرب؟
لبست ثيابى بسرعة وخرجت وليس فى نيتى وجهة معينة، أقفلت الباب خلفى وقبل أن ألتفت إلى الدرج لأهم بالنزول، توقفت نظراتى على باب الشقة المقابلة، مازال ذهنى يستطيع أن يفكر بالرغم من انطفاء شعلة أمس، هذا وقت الأستاذ غريب، سوف أذهب لأبحث عن بعض مفاتيح هذه المشاعر التى اختفت، حتى لو كان هو بلا مشاعر فقد يعرف مفاتيحها حتى لو لم يحسن استعمالها، لن ألعب معه “كيكا عالعالي”، لن أسمح لتصورى أن يرسمه لى وقد غمرته الشماتة إذ أطرق بابه، لن يحول بينى وبينه شيء، لن أقرأ فى عينيه”أخيرا جئت”. لقد تقدمت في”الكار”وتمركزت على قاعدتى المقامة فى كوكبى الخاص الذى لا أتركه إلا لأحتوى أهل الأرض بلا تمييز، هذا ما حدث يوم أمس، أعتقد أننى أستطيع أن أعرف الآن من هو غريب على وجه التحديد، ولعلنى أعرف “لماذا”أيضا، مع أننى لم أعرف بعد من أنا، قدرتى على الحكم على الأشياء قد شحذت لما تطايرت الأقنعة القديمة رغما عنى، أصبحت قادرا على الرؤية متحملا الخطأ، أتذكر أيام المراهقة وأحس بوجه الشبه، هناك اختلاف واضح، فأنا هذه الأيام لست متحمسا لأن أهدى أو أهتدى، أنا فقط قادر على المواجهة.
طرقت باب غريب وفتح لى مرحبا فعلا وكأنه كان ينتظرنى فى نفس اللحظة، لا شماتة ولا تحد كما توقعت، ربما كانت الشماتة فى المرة السابقة مجرد تصوراتى أنا،
- تفضل.
دخلت دون تردد، وجلست فى الصالة وبقايا قطعة جبن أبيض منزوية فى ركن طبق من البلاستيك على المنضدة، ونصف رغيف جاف يرتجف بجوارها من البرد، وأربعة كتب متناثرة بجوارهما، وكراسة مغلقة على قلم مختبئ فى طياتها فى استحياء، أحسست كأنى رأيت هذا المنظر قبل ذلك رغم أنى لم أدخل داخل شقته هكذا أبدا، بدا وجهه طيبا ومرحـبا عكس كل تصوراتى وأنا بعيد عنه، وجهه لم يخل- طبعا – من بعض الدهشة،
- تشرب شيئا ساخنا فى هذا البرد.
- شايا لو سمحت.
- ليس عندى شاى؟ عندى ينسون أو حلبة.
لم أتردد فى طلب شىء ما حتى تتاح لى فرصة التأمل والتفكير والاستعداد لشىء لا أعرفه تفصيلا، عندى رغبة فى الاستكشاف يصاحبها خوف من الامتحان، كنت أشعر أنى أفتح على نفسى بابا كنت أغلقته واسترحت، لكن ما وراءه ظل كامنا فى نفسى كالشقة المقابلة، حتى آن الأوان.
هل حقيقة آن الآوان؟
ياليته يحدث.
ويارب لا.
ذهب غريب يعد المشروب الساخن.
من فرجة باب الحجرة المقابل لمحت سريره وقد تكور عليه غطاء كالح لا تستطيع أن تميزه إن كان “لحافا”أم بطانية، الملاءة البيضاء – تاريخا – أصبحت أميل إلى السواد، تسحبت إلىّ ابتسامة قديمة وأنا أتذكر القرداتى يسأل قرده “نوم العازب أزاى”، لم لا يتزوج هذا الغريب الطيب؟ كيف يصرّف أموره؟
- تفضل يا أستاذ عبد السلام.
- شكرا.
جلس بجوارى فى وداعة طفل، وأخذنا نرتشف هذا السائل الذهبى فى هدوء، وانتظر كل منا أن يبدأ الآخر بالحديث.
- لماذا لا تتزوج يا أستاذ غريب؟
انزعج قليلا ولكنه سرعان ما استعاد ثقته وهدوءه.
- هل عندك عروسه؟
(هل بدأت المباراة؟ واحد صفر)
(……..)
سخيف هذا الصمت، لا، لن أرد على الهدف حتى لو تمزقت شباكى كلها من كثرة أهدافه، سوف أغامر لأكتشف، ورزقى على الله.
- أنا أمر هذه الأيام بشىء جديد، تصورت أحيانا أنك تعرف عنه أكثر منى.
- خير يا أستاذ عبد السلام؟
- الأسئلة عندى زادت عن الأجوبة، ولا أكاد أمسك بخيوط تفكيرى، أشعر أحيانا أن كتلة تفكيرى مثل لفة الصوف التى تشابكت خيوطها بلا أمل فى سـلسلـتها مرة ثانية،
- أنا سعيد بلقائك.
لا، … ليست شماتة، .. ولن تكون صحبة، هو مجرد لقاء، أنا لا أحتمل المشاركة الحقيقية لأى درجة، أنا لم أقفل باب زوجتى لأفتح هذا الباب، ليقف كل فى مكانه، ..”كما كنت”. سألته فجأة دون مقدمات ولا تردد.
- لماذا نعيش ياغريب، ياأستاذ غريب، هل تعرف؟
- يقولون: لنعبد الله.
- هذا ما تعلمناه فى رياض الأطفال، ومن فوق المنابر، ولكن كيف نعـبد الله فى هذا الزمان؟
- وأنت ما رأيك، ؟
- جئت هنا لأقول لك إنى لا أعلم.
- ولا أنا.
واتتنى الشجاعة لأواصل انسحابى الهجومي.
- – إذن، لماذا نستمر؟
- لا أشعر أنى مستمر.
- وماذا تنتـظر؟
- لا أدرى.
…… ولم تهتز خلجة فى وجهه!.
تُرى هل مر يوما بمثل مشاعرى أمس، وهل يستطيع أحد أن يمر بمثل هذه المشاعر ثم ينتهى كهلا باهت اللون حاد القطع هكذا؟
اسيقظ فىّ الإنسان السيف فجأة:
- ولكنى أحس أنك تدرى يا غريب.
شىء ما يحدث عندما تسقط الألقاب وحدها، أشعر أن حاجزا ما يتحطم؟ أشعر بالراحة أكثر من ذى قبل، لأول مرة أشعر أنى أصل إلى طبقة الخوف داخل أعماقه، تقدمت بخطوات حذرة، يتقدم هو الآخر، ولكنه تراجع وأستأذن وهو يتساءل:
- كيف عرفت أننى أدرى يا أستاذ عبد السلام؟
- انفتحت فى بلا مناسبة طاقة من المشاعر تصحبها معرفة تلقائية، قل لى يا أستاذ غريب ماذا تنتظر، ما دمت ترى أنك غير مستمر؟
لابد أن يسلم، لا أحد - مثله – يستطيع توقى هذا الهجوم،
- لعلى أبحث عن السبب.
- كيف؟
- فى هذه الكتب.
- السبب، فى الكتب؟
امتقع وجهه وزاد غموضا وتحفزا.
- إذن، .. أين نجده يا أستاذ عبد السلام؟
- هذا ما جئت أسألك عنه.
تغير وجهه وأحسست أنى نجحت حين بدا مدافعا محتجا، قال على غير توقع:
- تجاورنى عشر سنوات، وتتجنبنى فى منزلك أغلب الوقت، ثم تزورنى بلا استئذان، لنتبادل حديثا كالاتهام، ماذا تريد منى الآن بالضبط يا أستاذ عبد السلام؟
انهار اتفاق وقف إطلاق النار، اكتشفت أنه تخطى حدودا كان قد رسمها لنفسه، حاول أن يتراجع فلم يستطع، تماديت فى الهجوم مهتما ببحثى عن جواب لى، وليس لتحقيق أى نصر خائب.
- إلى متى ستنتظر يا غريب؟
- حياتى انتهت إلى هذه الوقفة المتوازنة، ليس أمامى إلا مواصلة البحث وأنا أنتظر ما أنا على يقين أنه لن يكون.
- يخيل إلى أنك لا تبحث ولا تنتظر.
من أين لى بكل هذا يا ناس !.
- كل شىء وارد فى صفحات الكتب.
- فلا داعى إذن للبحث، مادام واردا بهذه الإحاطة.
- علينا أن يعثر كل واحد بنفسه على ما يؤكد له تمام نفيه.
انتبهت إلى أننا نتكلم عن مجهول يقينى بشكل ما، واصلت بالرغم من ذلك ولكنى غيرت الاتجاه حين تذكرت أنى جئت أبحث عن مفاتيح تلك المشاعر فأحالنى إلى قاضى القضاة، سألته مباشرة:
- أحسست يا غريب مؤخرا بشىء كالزلزال، هز كل كيانى، وكأن القيامة قد قامت، جعلنى هذاالشىء أشك فى كل شئ، كل شىء فجئت أسألك عن طريق لمعرفة ما حدث ظنا منى أن كثرة ما قرأت قد يفيدنى فيما أنا فيه، لكنك خيبت أملى.
يبدو أنى كنت صادقا دون قصد، رأيت وجهه يضطرب حتى اهتز جسمه، فتماسك بجهد قبل أن يقول وكأنه يحدث نفسه:
- لا، … لن أخوضها ثانية.
أدركت أنه يعرف ماذا أتحدث عنه أكثر مائة مرة من ذلك العالم الطبيب النطاسى صاحب مصباح علاء الدين، لكنه يعرفه من شىء جـَـرَى، وليس من هذه الكتب.
- أحس يا غريب أننا لو عرفنا مفاتيح تلك المشاعر فإننا نعرف مفاتيح الحياة ذاتها.
- هذا سبيل خطر، أنا كل همى أن أعرف ماذا عرفوا، لا أن أحاول من أول وجديد.
- ليس المهم ما عرفوه، ولكن كيف عرفوه.
- من أين جئت بكل هذا يا عبد السلام، يبدو أنى أسأت بك الظن، لم تشرب حلبتك،
- أريد ملعقة صغيرة، فأنا أحب أن آكل “الحصا”.
- طعمه مر.
- ليس أمر من أشياء كثيرة، ثم إنى أضع سكرا كافيا.
ذهب ليحضر الملعقة، ولماعاد أحسست أن فراغا قد ملأ رأسى بحيث لم أجد قدرة ولا رغبة فى مواصلة الحديث، جلس مترددا متحفزا على طرف الأريكة، طال الصمت بيننا فاستأذنت فجأة، .. ولم يحاول أن يستبقينى.
* * *
خرجت من عنده وأنا مضطرب متعجب، من أين جاءنى كل هذا الكلام الصعب؟ أنا لا أعرف مـن أنا ولا إلى أين، ولكنى كنت أتكلم معه وكأنى أعرف، أو كأنى أستطيع أن أعرف، ذهبت لزيارته وأنا أحسب أن تحت القبة شيخا، ولكنى وجدت أن ما تحت القبة كتابا، ليس مقدسا على أى حال، أحببته أكثر من أى وقت مضى، كنت أخاف منه، كنت أحس بالنقص تجاهه، أحسده على شىء لا أعرفه، ذهبت كل هذه المشاعر ولم يبق إلا الحيرة والشفقة والألم، ما معنى الألم؟ لقد نسيت هذا اللفظ فى زحمة المشاعر العملية المحسوبة مثل”الرغبة، والشبع، والعطش، وحتى الحزن لم يعد له شكل يحتوى معنى الألم، هذا ألم آخر غير ألم إصبعى “المـِـدُوحس”فى العام الماضى، ألم أحس معه بسريان الحياة وقسوتها فى نفس الوقت، بم يشعر الأستاذ غريب؟ .. هل يشعر أصلا؟ هل يتألم؟ هل يحب؟ وأنا؟ إلى متى، .؟ ..إلى أين؟
زمان – قبل الواقعة – كنت أحسب أن غريب يكاد يعرف كل أسرار العالم، كانت نظراته تقول لى دائما”أين أنت”؟ ماذا تهبـب؟ أنا لا أنسى ذلك اليوم الذى وقعت فيه الواقعة حين كنت أقف أمام شباك إيصالات النور وأنا أستعيد زيارته فى اليوم الاسبق للواقعة، كنت أحس حينذاك أنه يدعونى – سرا – إلى عالمه، فلما استجبت له رغم أنفى وذهبت إليه، ..ولو بعد حين، بناء على دعوته تلك – بشكل ما- وجدته بلا عالـَـم، كان مثل زهرة محنطة مضغوطة بين صفحات كتاب، لا هى تتحلل إلى ذرات يذروها الريح ربما وجدت بذورها أرضا أخرى، ولا هى تعلن موتها باختفاء لونها، مازال لغريب لون محدد لون تحت الجلد، لكنه بلا رائحة، ألمح بذورا جافة يا غريب تلمع بين صفحات كتبك، هل مازالت يا ترى قادرة على الإنبات؟
* * *
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ، لم أيأس، ولم آمل فى شىء محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالىّ، تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغنى، جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شىء لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا، كدت أسمعها
- لماذا لم تحضره معك؟
- لست ولى أمره.
- إذن لماذا أحضرته معك فى المرة السابقة؟ فقلبت كيانى.
- هو لا يستأذن فى حضوره أو غيابه.
- إخص عليك.
- إحذرى: إنه قد سمع نداءك.
أفيق من خيالى على صوت أمانى تسألنى سؤالا ما، فأجيب عليها إجابة صحيحة رغم ما كنت فيه، كيف أمكننى ذلك؟ لا أعرف، تقترب لحظة الانصراف التى كنت أنتظرها بفارغ الصبر فإذا بى أفزع، تغمرنى شهوة غريبة نحو أمانى، شهوة جنسية صريحه لاجدال حول طبيعتها، أو هدفها، شهوة مستقلة منفصلة عن كل شيء، ضبطت أعضائى متلبسة بها، خيالى يتصور أو ضاعا جنسية مبتذلة مع هذه الطفلة البريئة، أسرعت بجمع أشيائى وخرجت مهرولا أكاد أعدو.
* * *
فى المرة الأولى كانت مشاعرا من نوع جديد فريد، لا تصلح أن توصف بأى صفة من الصفات الشائعة، لم تكن جنسا ولا حبا ولا فرحة ولا نشوة، كانت كل ذلك مخلوطة بالألم والصحوة، لو أن لى حقا فى أن أسميها لسميتـها “الحياة”يمكن أن يخرج منها الجنس أو الشعر أو الثورة، يمكن أن تحطم بها الذرة، أو تغير تنظيم الكون، أو تجعلك تسبح فى السماء، أو تطير فى قاع البحر، أما هذا الشىء الذى حدث اليوم، وأنا أغادر بيتهم فهو الشبق الجنسى بلا زيادة ولا نقصان، الجنس جنسا مع طفلة هى ابنتى بكل المعايير العادية.
أمر ما يحدث فيقلب أروع الأشياء إلى أخبثها، أمر أنا لا أعرفه.
إذا انفصل الشىء عن الأشياء ضاع كل شىء فى اللاشئ.
ما هذا الكلام الفارغ.
ماذا يجرى فى الداخل؟
هل أجرؤ أن أذهب إليهم ثانية؟ هل أنجح أن أهرب بلا عودة؟
* * *
رجع الغيام يلف فكرى، أظلمت كل مصادر النور ولم يبق لدى سوى هذه الشهوة التى أخذت تتزايد يوما بعد يوم، شهوة تذكرنى بحمار أزرق اللون كبير السن كان من علامات عراقة حظيرة المواشى عند أبى، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، يحمل السماد والتراب دون بنى البشر، لا يقبل أن يستعمل “ركوبة”على ما فى ذلك من مزايا، كان ذو فحولة يخشاها بقية الحمير حتى حمار أبى الركوبة المزدان بما يليق، كانت إذا “طلبت”أتان الحمل احتكرها لنفسه بعد كل نقلة سماد، فلا يجرؤ غيره من الحمير الاقتراب منها فى وجوده، كان يجرى فى اتجاه أى أتان يلقاها فى الطريق فإذا حال دونه حائل رفع رأسه إلى السماء وكأنه يستجير بها فاتحا شفريه وهو يجز على أسنانه، كنت وأنا طفل أعجب به أشد الاعجاب وأرهبه فى نفس الوقت أشد الرهبة!! عادت صورته تراودنى وأنا أغلى بالشبق الجنسى المستقل وهو يدفعنى فى كل اتجاه وراء أى عضو أنثوى يظهر فى الطريق، وحتى المصائب التى كانت تحدث فى “الأتوبيس”أحيانا لم تنبهنى إلى تدهورى السريع،
ماذا جرى لي؟ هل أنا الذى لم يكن يعرف كيف ينظر إلى جارته فى مدرج الكلية؟ هل أنا الذى كنت أبتهل إلى الله ساجدا فى الزاوية منذ أيام حتى كدت استوى بالأرض؟ هل أنا الذى كنت أناقش الأستاذ غريب، أدعوه للحياة وأرفض انتظاره السلبى؟ هل أجرؤ على الذهاب إلى بيتهم ثانية؟ لا مفر من معاودة التجربة، ..
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ، لم أيأس، ولم آمل فى شىء محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالى، تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغنى، جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شىء لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا، كدت أسمعها.
* * *
فتحت لى الحاجة بنفسها ووجهها الطيب هو هو، بسمتها الوديعة تملأ صفحته ورائحة المطبخ تفوح منها، وفى إحدى يديها حزمة ملوخية وفى الأخرى سكين، أمانى تكاد تقفز “من”داخلها لتتعلق برقبتى مرحبة، كدت ألتهم العجوز من أول وهلة، لاحظت نظراتى وبدا عليها الغضب والدهشة والرغبة فى آن واحد.
- أهلا وسهلا تفضل استرح من السلم، أمانى لم تحضر بعد، وسوف تتأخر فى حفل المدرسة السنوى.
هز الحمار ذيله فى أحشائى ودخلت دون تردد.
- كيف حالك يا فتحية (سقط لفظ “الحاجة”وحده، أو بفعل فاعل).
- الحمد لله، … ها نحن نحيا
– ليس تماما، المرأة كالزهرة تذبل إذا لم يروها الماء المحمل بالطمى.
نظرت إلىّ فى دهشة حادة مستثارة، وتظاهرت بالغباء، ..
- كله من عند الله.
أكملت وكأنى لم أسمع.
- النار فى داخلك لم تهدأ رغم مظاهر ذبولك.
نظرت فى حذر أكبر، وتمادت فى التغابى.
- يرحمنا الله من عذابها ويهدينا جميعا.
- ربنا لا يرضى الظلم، وأنت تظلمين نفسك.
- هو أرحم الراحمين.
- خلقنا لنعيش، نارك لم تنطفئ، أنا ألمح جمرها يتوهج تحت رماد الصبر المزعوم.
احمر وجهها ولم تفلح فى أن تستمر فى الغباء، ارتجف جسدها وكأنه اشتعل فجأة، راح لهيبها يقوى العاصفة ويقاومها فى آن، حاولت أن تتمالك نفسها قائلة:
- النار للعصاة فى كل زمان.
قالتها وكأنها تذكر نفسها، حتى لا تنسى.
- نار الآخرة فى علم الغيب.
- علمه عند ربى، كيف حال المدام يا أستاذ عبد السلام.
تجاهلت الإنذار للتذكرة، سقطت كل الحسابات التى لم تكن موجودة أصلا، واصلت بلا تردد.
- أنت لم تعرفى الحياة يوما، كل جزء منك ينبض ويستغيث قبل قهر السنين.
- ماذا جرى لك يا عبد السلام يا ابني؟ أنا فى عمر والدتك.
نهق الحمار بأعلى صوته وهز ذيله بلا انقطاع.
- أريد أن أريك شيئا لم تعرفيه فى حياتك، .. أنا أحبك.
رغم تحفـزها الدفاعى رأيت كيانها يهتز، كادت تسقط حزمة الملوخية من يدها،
لم أتردد، شفتاها فى فمى والنار تغلى فى عروقى، دفعتنى بعنف، سقطت الملوخية على الأرض لم أتراجع، راحت تدفعنى بيدها الأخرى الممسكة بالسكين، لمع النصل فى عينى، ذعرت ذعرا حقيقيا وبدأت فى التراجع، وقبل أن أتبين ما يحدث غـمرت وجهى بصقة هائلة.
* * *
خرجت أجرى إلى الشارع، ليس معى منديل، أمسح السائل اللزج من على وجهى بأصابعى فينمحى معه كل ما كان، حتى معالم وجهى، ياليت.
* * *
انتظروا الفصل الخامس السبت القادم:
“عقل بالى”
* * *
2018-06-02