الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من نقدى للنص الأدبى) نبض المكان فى الوعى البشرى وبالعكس بين “لحس العتب” و “قنديل أم هاشم”

إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من نقدى للنص الأدبى) نبض المكان فى الوعى البشرى وبالعكس بين “لحس العتب” و “قنديل أم هاشم”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 4-6-2018

السنة الحادية عشرة

العدد: 3929

إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من نقدى للنص الأدبى)

نبض المكان فى الوعى البشرى وبالعكس

بين “لحس العتب” و”قنديل أم هاشم” (1)

مقدمة:

مازالت إشكالية التعرف على ماهية الوعى تمثل تحديا على كل المستويات، وقد أشرت إلى ذلك مرارا، وإلى الصعوبات التى عايشتها حتى  بعد محاولة قراءة رأى “هنرى إى” وأيضا بعض كتابات الوعى عند هيجل مروراً بكل ما يعـّن لى من فروض واحتمالات وتنظير ونظريات حتى انتهيت إلى فهم أوسع من خلال تعدد مستويات الوعى بعدد تعدد أنواع العقول “دانيال دينيت” (2) ولكن ظل الجدل بين هذه العقول والتباديل والتوافيق بالطول والعرض تبعدنى عن إرواء عطشى لمعرفة ماهيته تحديدا.

وأنا أعيد الآن قراءة هذا النص الذى كتبته نقدا منذ عقد من الزمان، اكتشفت أن النص الأدبى ألهمنى لمحات من الربط بين المكان والوعى بقدر لم يخطر لى من قبل فى تنظيرى العلمى مثلما سبق أن خطر لى الربط بين الزمن والوعى.

أنهيت نشره أمس بتساؤل  يقول:

 “هل يحرك هذا الوصف الوارد فى النقد تلقائيا بعض ما يمكن أن تعنيه “هنا” كما نركز عليها فى العلاج الجمعى فى: “هنا والآن”؟

 وإذا بى أجدنى قد رددت على هذا التساؤل ضمنا حين تناولت العلاقة بين المكان والوعى، وبين الوعى والمكان فى هذا العمل النقدىّ كما يلى:

 المقتطف (2)

 حضور المكان فى الوعى (من نص النقد)

….. لست متأكدا إن كنا نعرف حقيقة معنى: “استحالة وجودنا إلا فى مكان ما” ؟، إن أى شىء حى، أو غير حى، لا يوجد منفصلا عن المكان الذى هو فيه، لكن  الإنسان يتميز، بالإضافة، بقدرته على الوعى بالمكان ظاهرياً، بدرجات مختلفة. من ضمن خداعنا لأنفسنا رحنا نتصور أننا نعرف ما هو المكان، وأننا نعايش علاقتنا به بوضوح أكثر من الزمن، وبالتالى حاولنا أن نفهم إشكالة الزمن من منطلق المكان، فقد تصورنا أننا كما يمكننا أن نتجول  فى المكان ذهابا وجيئة، شرقا وغربا، يمكننا أن نتجول فى الزمن بنفس الطريقة، وبهذا نكسر سجن الزمن التتبعى، الذى لكى ندركه، علينا أن ننفصل عنه لنتبعه أو نقيس خطواتنا به. المكان ليس بهذه البساطة التى تصورناها لنفهم الزمن من خلاله.  المكان ليس مساحة للتجوال ولا هو تعيين للزمن، المكان هو الذى يموضغ العلاقات بيننا وبعضنا، وبين الأشياء وبعضها، وبيننا وبين الأشياء. العلاقة بالموضوع، هى “علاقة بالآخر فى مكانه”، العلاقة بالموضوع تشمل: العلاقة بالأشياء فى حضورها وغيابها وتغيّرها، فى جدلها المتجدد بوعى يـَتـَشـَكـّل، فى حركية إيقاع حيوى نامٍ ينطلق من كل  ذلك إلى الممكن المجهول: إذ يتنوع باستمرار مع حركية الجدل المتصاعد عبر دورات الإيقاع الحيوى.

إن تغير المسافة باستمرار فيما بيننا وبين الموضوع هو أمر جوهرى بالنسبة للوعى عامة والوعى بالمكان أيضا، يختلف الوعى بالمكان بحسب درجة إدراك العلاقات، أو إدراك الحركية، وكيفية تغير المسافات.

حين حضرنى المكان هكذا فى رواية “لحس العتب” (لخيرى شلبى) بالإضافة إلى حضور تشكيلات التطبيب الشعبى، الإيجابية والسلبية، تصورت أن قراءة مقارنة مع “قنديل أم هاشم” (ليحيى حقى) قد تكشف الاثنين أجمل وأبدع.

 فى رواية “لحس العتب” كان وصف المكان من خلال العلاقات السلوكية والرمزية والموضوعاتية هو الحاضر غالبا، فى حين أنه فى قنديل أم هاشم كان التناول يتم من خلال امتدادات المكان والناس فى الوعى، وبالعكس، طول الوقت، فضلا عن الامتداد فى المكان: “الغيب” “المابعد”

المكان عند كل من شلبى وحقى فى هذين العملين كان حاضرا طول الوقت بكل التفاصيل، سواء ضاق عند شلبى حتى كاد ينزوى تحت الترابيزة، أو حولها، أو اتسع عند حقى حتى تخطى مقام السيدة وميدانها إلى المطلق اللامتناهى. أين المكان هنا وهناك من الوعى البشرى، وما العلاقة بينهما؟

 (ثم كتبت فى نفس النقد)

….فى مرحلة سابقة كنت أشبّه الوعى بالوساد اللازم لكى تنزرع فيه سائر الوظائف النفسية الأخرى، وكأنه الأرضية الضرورية لأشكال حادثة، ثم تبينت أن هذه التفرقة بها من التعسف والاختزال ما يخل بتقديم الوعى الإنسانى بحضوره الجوهرى فى كل الحياة العقلية والنفسية، فى كل الوجود. الوعى عندى الآن هو عمق أى سلوك  يتبدى لنا، هو البعد المشتمل لما يصلنا ظاهرا، وهو متعدد بعدد الظواهر، أو حتى بعدد جزيئات الظواهر، بقدر ما هو مشتمل لها جميعا على مستويات مختلفة، من هنا لم يعد يصلح أن نختزل الوعى إلى ما يشبه “السطح  الجاهز لما يحتويه”، كما يوحى لفظ “الوساد” أو “الأرضية”، (كما تصوّرت ونظـّرت سابقا) الوعى البشرى هو الأقدر على أن يكون المقابل الحيوى داخلنا للمكان الخارجى. العلاقة بين حركية الوعى كمكان حيوى داخلى، وحركية المكان كحضور موضوعى خارجى، هى علاقة جدلية مستمرة. (ما زلنا فى نفس النقد)

فى “لحس العتب” نتابع حضور الترابيزة فى الوعى بما حولها من مندرة وما جاورها من “خزنة”، وما ملأها من حركة ناس وأزمنة، يحتلون هذا الحيز من الأرض، يدخلون ويخرجون على فترات، لكن يبقى المكان هو الأصل، هو الكيان الحى المحيط والترابيزة فى مركزه.

 يقع هذا المكان فى دار متآكلة فى قرية من قرى بندر دسوق،  لكنه يقع أكثر فى “الذاكرة الوعى”، وليس الذاكرة شريط التسجيل “..هناك هناك فى أبعد ركن من ذاكرتى أرانى طفلا فى حوالى الثالثة من العمر أرتع زحفا على سطح هذه الترابيزة رائحا غاديا” (ص 9) الذاكرة هنا مكان يُزار، لا معلومة تُستعاد، والترابيزة هى مجال محيط، وليست أداة تُستعمل. حجم الترابيزة (أكثر من مترين فى متر ونصف)، وموقعها (ترابيزة الوسط) يدلان على أنها مجال محورى أكثر منها شيئا للاستعمال. المتابع لزحف الأحياء والأشياء (وقد صيّرها الراوى أحياء) فوق، وتحت الترابيزة، وحولها، لا بد أن يشعر أنها أصبحت وكأنها الأرض الكروية، وأحيانا المجموعة الشمسية. أرجل الترابيزة النحاسية تقول أيضا إنها كائن حى“… شغل يدوى، بأرجل مخروطية عليها نقوش وانبعاجات وتكورات تنتهى فوق الأرض بأقدام على شكل حوافر من النحاس إن تأملتها قليلا تبينت أنها على شكل سباع كثيفة الشعر غليظة الظافر…”(ص 8). ها هى الترابيزة تعلن عن رسوخها من جهة، وأصل قوتها وتوحشها وسيطرتها من جهة أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك كيف كان الناس والأطفال خاصة يحسبون أن هذه الأرجل النحاسية هى من الذهب، شعرنا كم كانت هذه الترابيزة “قيمة ” فى ذاتها من أكثر من ناحية.

قيمة الترابيزة المعلنة كانت فى اتجاه آخر: إنها دليل على العز والأصل، وبالتالى لا يمكن  الاستغناء عنها مهما كان الثمن، بدا التنازل عنها لأى سبب وبأى مقابل بمثابة تسليم لواقع مرفوض، يتمنى المصاب به، رب الدار (وأهل الدار)، أن يكون واقعا مؤقتا، وإن كان الأب يعرف من داخل داخله، ومن همس وتصريح مَنْ حوله، أن ذلك محال، وأن ما آل إليه الحال من حاجة وحرمان هو واقع دائم راسخ لا حل له، لكن ظلت الترابيزة تمثل قيمة أهم فى موقعها المحورى الذى تدور حوله الحياة وتتشكل الأحداث، دون أن تنفصل عنه.

وبعد

ننتقل الأسبوع القادم إلى ما يقابل ذلك فى “قنديل أم هاشم” عند يحيى حقى، لكن دعونا نثبت البداية (بداية نشرة السبت) لعلنا نحفز المواصلة.

المكان “يمتد” فى قنديل أم هاشم

فى المقابل: تتمحور أحداث رواية قنديل أم هاشم  حول  مكان محورى أيضا له حضوره ودلالاته، هو مقام السيدة زينب، بما حوله وما يدور بهم ويدوّرونه، الميدان والناس كتلة واحدة. المكان، هنا، بما فيه من ناس وأحوال، هو جاهز للمقابلة  بالغرب بكل ما يعنيه ذلك “..هل فى أوربا كلها ميدان كالسيدة زينب؟ ………. “……. مكان الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل وإنهاء النهار يروّحون بها عن أنفسهم كما يروحون عنها بالسينما والتياترو” (ص 113). الراوى أو إسماعيل أوالكاتب (فى قنديل أم هاشم) سرعان ما يستدرك (مثلما فعل كثيرا طول الرواية قائلاً): “..ولكن . لا. لا …. من يستطيع أن ينكر حضارة أوربا وتقدمها وذل الشرق وجهله ومرضه”.

………….

(ونكمل الأسبوع القادم لمن يستطيع معنا صبرا)

[1] – نشرت فى مجلة وجهات نظر – عدد فبراير (2006)

– وصدرت رواية لحس العتب فى طبعتها  الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005

[2] – Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness  Daniel C. Dennet 1996

الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” ترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، نشر بعنوان “تطور العقول!!” “نحو محاولة  لفهم الوعى”  – القاهرة  2003

النشرة التالية 1النشرة السابقة 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *