كل يوم: “الإنسان والتطور”
2-9-2007
…. أعلَى جبال الخوفِ لا تُـنْجِى الجبانَ من الغرقْ
هل عندك خبر أن الإنسان – مثله مثل سائرالأحياء الآن، وعبر التاريخ – معرّض فعلا للانقراض، ربما بدرجة أكبر من أى كأئن حى آخر؟ هذا ليس تهديدا لك سيدى، ولا هو محاولة لأن تعيش خائفا أكثر مما أنت الآن؟ ألا يكفيك النعيب اليومى على تلوث البيئة، وثقب الأوزون؟ ثم على المستوى المحلى: عن تمادى التصحر ونقص مياه النيل أو غرق الدلتا إلخ؟ ألا يكفيك الخوف من بطش السلطات العمياء التى لا هم لها إلا أن تزيد من ثقل وسخف وجودها المغترب بقتل كل من هو “ليس منها”، (وليس خادما لأغراضها)؟ أنا شخصيا لا أرحب بمثل هذا النعيب المتجدد، لا إنكارا للحقائق، وإنما لأنه لا يضيف شيئا إلى فعلى اليومى الممكن. ولكن دعنا نرجع للبداية:
يوم بدأنا المحاولة، قررنا أن يكون اسم الجمعية التى تصدر المجلة (مجلة الإنسان والتطور حيث هذه الكلمات امتداد لها)، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى، لماذا أضفنا “العمل الجماعى”؟ لأننا تصورنا أن الباب ينبغى أن يكون مفتوحا لكل من يعمل معنا لنفس الهدف الذى هو: “الإسهام فى تطور الإنسان”، والذى اكتشفت مؤخرا أن الأولى أن يكون “الحيلولة دون انقراض الجنس البشرى”. نبهنا الأديب الناقد الجميل علاء الديب إلى خيبة هذا الطموح المفتوح، ونشرنا تنبيهه فى العدد الثانى مباشرة، وكان عنده حق، لكن ذلك لم يحل دون استمرارنا فى محاولة ما يبدو مستحيلا لأكثر من عشرين عاما. عاودتنى هذه الخواطر فى موقف يحتاج بعض التفصيل:
حين أهدانى الصديق الدكتور مصطفى فهمى إبراهيم ترجمته لكتاب “الانقراض: صدفة أم حظ سيئ؟”، وقرأت فيه أن عدد الأحياء التى انقرضت هى 99.9 % من سائر الأحياء، لم أكد أصدق، وحين تأكدت من المكتوب لم يثننى ذلك عن أن أراجعه شخصيا عن حقيقة الرقم كلما التقينا، فيبتسم – لا أعرف لماذا، ربما من جهلى أو خوفى أو طفولتى- ويؤكد لى أن المتبقى من الأحياء هو فعلا واحد فى الألف. المصيبة أن الكائن البشرى هو الكائن الوحيد – فى حدود ما نعرف- مكّنته أدوات المعرفة والبحث والعلم والتسجيل أن يكتب مثل هذا الكتاب. كل الأحياء التى أفلتت من الانقراض نجحت أن تبقى دون أن تنتبه إلى مثل هذا التهديد بهذا الوضوح الصارخ (وبالتالى: لم تكتبه فى كتاب يصل إلى أفراد نوعها تحذيرا !!).
إذن: ما فائدة أن نعرف مثل هذه المعلومة؟ كم من الأحياء البشر يمكن أن يقف أمام هذا الرقم ويسمح لوعيه أن يتأمله بالقدر الكافى؟ ما فائدة أن نقرأ هذا الرقم، (وهذا الكتاب) ثم يظل الحال على ما هو عليه أفرادا وجماعات؟ بل الأغرب من ذلك: يزداد سعينا الحثيث نحو الإسراع بالانقراض فعلا، بفضل السكوت على تمادى أفعال من امتلكوا أدوات الانقراض مع سبق الإصرار والترصد (حتى لو كان ذلك لا شعوريا)، وكأنهم قد انسلخوا عن جنسهم، فأصبحوا، بمجرد امتلاك أدوات القتل وفرص الاستهلاك (فى العراق وأفغانستان وأمريكا والسعودية وإسرائيل إلخ…): جنسا مختلف يعتقد أنه الأرقى والأبقى لمجرد أنه القادر على إبادة الباقين ممن هم ليسوا من فئته الفرعية.
الإشاعة التى شاعت عن داروين، وهو غير مسئول عنها وحده، ولا تماما، التى تزعم ان “البقاء للأقوى” يثبت خطؤها كل يوم أكثر فأكثر، فإذا ثبت خطؤها فعلا، وعندى أنه ثابت، فعلينا أن نجدد التساؤل: إذن، البقاء لمن؟
ظهرت فروض كثيرة بديلة، منها مثلا: أن “البقاء للأصلح”، ولكن أصلح لمن؟ أصلح كيف؟ ثم قيل إن “البقاء للأقدر تكافلا“، فقفز تساؤل يقول: التكافل مع من؟ مع أفراد نوعه؟ أم مع سائر الأنواع؟أم مع البيئة المحيطة المعروفة؟ أم مع البيئة الأقرب فالممتدة إلى الكون إلى المطلق فوجه الله تعالى؟ قيل أيضا أن “البقاء للأنفع”، فلاحقتنا التساؤلات أيضا: أنفع لمن؟ وما هى المحكات التى نقيس بها النفع من عدمه؟ ولأى مدة زمنية؟ ولأى فئة؟ وعلى حساب من؟ هذه ليست أسئلة علمية أكاديمية منفصلة عن الفعل اليومى، وإن كانت منفصلة فعلا عن مجموع الظاهر من الوعى العام.
السؤال الذى يحضرنى مجددا ولا أجد له إجابة واضحة أو وافية حتى الآن يقول:
ما دمتُ بشرا قد وصلتنى هذه المعلومات وأمثالها، فما هو الموقف المناسب الذى ينبغى أن أتخذه إذا كان لمثل هذه المعلومات أدنى فائدة؟ بمعنى: هل يغير إلمامى بهذه المعلومة وأمثالها من موقفى الشخصى، ونوع حياتى، وأولويات اهتماماتى؟ فى الفعل اليومى خاصة؟
من فرط غيظى وحيرتى قررت أن أطرح على القارئ بعض التساؤلات التى خطرت لى عن احتمالات موقفه (موقفى) إذا ما وصلته هذه المعلومة (ومثلها) كما وصلتنى:
- هل تشك فى هذه المعلومات، وتعتبرها خطأ مطبعيا أو علميا أو ترجميا؟ (كما فعلت أنا لفترة ليست قصيرة)؟
- هل تنساها بأسرع ما تستطيع – شعوريا أو لا شعوريا – لتتجنب المواجهة؟
- هل تتمنى أن تتخلى عن الوعى الذى يميزك بشرا، ربما تستطيع – مع سائر أفراد نوعك (نوعنا)- أن تواصل المسيرة، دون حساب أو كتابة أو تخطيط أو وقاية (النمل ما زال من الواحد فى الألف الذى بقى من الأحياء، والأرجح أنه لا يعرف هذه المعلومات، ولا يؤلف كتبا مثل الكتاب السالف الذكر)؟
- هل تعتبر أن من يهتم بمثل هذه المعلومات أكثر من اللازم يضيع وقته أو هو يبرر ضياعه(أو الاثنان معا)؟
- هل عليك –إذن- أن تركز على حياتك الخاصة جدا، والمحملة – غالبا- بمشاكل عاجلة وواقعية وعملية أولى بها أن تشغلك عن مثل هذه الفذلكة الجانبية؟
- هل تركز على التمتع لذيَا بأقصى ما تستطيع بأى فرصة ممكنة، و”ما قُـدِّر يكون“؟ (على حساب أى شىء وأى أحد؟)
- هل تركز على الحياة الآخرة، التى هى خير وأبقى، وليس فيها أى احتمال للانقراض أو التهديد به، وتنسى أو تتناسى أن الله سبحانه سيسألك عن الأمانة التى حملتَها ظلوما جهولا، وعن مدى إسهامكفى الحفاظ على نوعك، وتعمير أرضه، وتكريمه – سبحانه – إياك؟
- هل سوف تروح متباهيا متمنظرا تردد هذه المعلومة – وأمثالها من المخاطر المحيطة بالبشر وبالبشرية وبالبيئة وبالمجتمع (الدولى والبشرى وكلام من هذا) وكأنك تتباهى بمعرفتها، وتلوّح بها – تخويفا (وخوفا!!)- فى وجه من يجرؤ ويتمتع أو يفكر أو يفعل؟
- هل تلعن كاتب هذه الكلمات لأنه ذكّـرك بما كان ينبغى ألا تعرفه أصلا حتى تستطيع أن تواصل حياتك بهمومها ومتعها كيفما اتفق؟
- هل تزداد بها همومك؟ وهل أنت ناقص؟
الأرجح عندى، أنه إذا صح أن أكثر مايميز الكائن البشرى هو الوعى والمسئولية: فى تفاعله مع نوعه (الآخر) ومع المحيط (الدنيا) والحياة (الزمن) فأنت مسئول أمام نفسك وأمام الله – كلٌّ بطريقته – عن نوع ومدى إسهامك فى مواجهة مصيرك ومصير نوعك بشكل أو بآخر.
أغلب تبريرات الخوف فالهرب صحيحة، وهى أقرب إلى التفسير منها إلى التبرير، لكنها لا تعفينى من مسئوليتى، على الأقل أمام الله.
قبل أن أختم كلمتى اليوم، انتبهتُ إلى أن كثيرا منا، إن لم نكن أغلبنا، يطيب له بدلا من كل هذه الاحتمالات المزعجة، والتعرية السخيفة، أن يمضى يائسا لاعنا متآمرا (وهذا كله من حقوق الإنسان غير المكتوبة) وخلاص!!!
ثم قفزت لى نهاية قصيدة من بضعة أسطر جاءت قرب نهاية ديوانى “سر اللعبة” (1972) بعنوان “رسالة إلى ابن نوح” تقول:
…. قل لى بربك كيف ينمو اليأس من نبض الألم؟
قل لى بربك كيف تطفئ ذا البريق؟
كيف تطمس ذا الطريق؟
قل لى بربك كيف ينتصر العدم؟
****
لا يا بنـىّ:
ما أسهل الأحكام تـُلقَى فى نزقْ،
ما أسخف الألفاظ فى حضن الورقْ،
والقمة السوداء تغرى بالنجاة من القلقْ،
لكن بنـىّ:
أعلَى جبال الخوفِ لا تُـنْجِى الجبانَ من الغرقْ