نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 24-8-2015
السنة الثامنة
العدد: 2915
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (34)
تعرفتُ على الحلم من النقد (1 من ؟)
(من أفيال فتحى غانم إلى مائة عام من العزلة مرورا بتجليات الغيطانى)
مقدمة:
بمواجهتى بما جاء فى نشرة أمس، وما بها من اعترافى بصعوبة الموقف الدائرى الذى يضطرنا أن نستمد المعرفة من منظومات لا يربطها ببعضها إلا فروض يكاد لا يمكن إثباتها، قلت أنظر فى مسيرتى المعرفية بشكل تاريخى لعلى أعثر على بعض معالم مسيرتى مما قد يساعد فى بعض الإيضاح: كيف نبدأ من حيث نستطيع.
انتهت نشرة أمس بتلويح غامض بدعوة للبداية من الفروض والنقد، وحين كتبت هذه الدعوة لم أكن أعرف كيف ذلك، وهأنذا أحاول:
يبدو أن تعرفى على ماهية الحلم بدأ من اجتهاداتى النقدية أكثر من خبرتى المهنية، طبعا فضلا عن خبراتى الشخصية التى لم توصلنى إلى ما توصلت إليه عبر النقد والممارسة.
بمراجعتى لتاريخ طرقى سبل متاهة الأحلام اكتشفت أننى كتبت نقدى لرواية “الأفيال” لفتحى غانم سنة1983(1) ولم أكن بعد قد توصلت إلى فروضى عن الإيقاع الحيوى وعلاقته بكل من نبض الإبداع ونوابية الحلم فى آن، ذلك أننى نشرت أطروحتى عن هذه العلاقة فى مجلة “فصول” بعد ذلك بعامين (1985)(2)، من نقدى لأفيال فتحى غانم:
فى هذه الدراسة للأفيال بيّنتُ كيف أننى رأيت فيها: “.. عملا شديد التكثيف، كثير التداخل، مفرطا فى الاستطراد” وقدرت أن هذا “القبر/الرحم” إنما يقع فى الطبقة الأعمق من “الوعى الفردى” و “الوعى الجمعى” على حد سواء، حيث يُسْقُطُ الزمان (بمعنى التتابع المسلسل)، ويُسْقُطُ المكان (بمعنى الحدود والمسافات)، فلا تبقى إلا كيانات متقابلة دائرية مغلقة، تبحث فى سرية عن نقطة تفجر جديدة. وقد ردد الكاتب فى أكثر من موقع أن الأحداث تقع بين الصحو والنوم: فالكاتب يعلن فى مباشرة محمودة نوع هذه الرواية، وأنه: “نوع من الرؤيا التى تفتح أبواب الخبرة الفردية المختزنة، وتعيد التأليف بينها فى بنية جديدة.
غير أننى انتبهت فى نفس الوقت كيف استّدْرجت الحَبْكةُ الكاتبَ المبدع حتى كادت تبعدنى عن مستوى الحلم الأعمق فأضفت:
ها هو يوسف (بطل الرواية) فى الأفيال يعلن مباشرة قائلا:
”الخطر الحقيقى أنى مازلت أفكر. لقد جئت إلى هذا المكان لأتحرر من هذه الأفكار التى تتربص بى”،
إنه هرب من التفكير العادى إلى تفكير “آخر”.
فأضفت: غير أن هذه الرواية التى تواصلت بكل المقاييس المعروفة للحلم، وبخاصة من حيث “التكثيف” و”تجاوز الزمن الراتب حتى تلاشيه” و “دائرية الحركة”، كانت فائقة الحبكة. حقيقة كانت خيوطها كثيرة ومتداخلة، لكنها خيوط متينة ومتصلة، بل شديدة الطول والتعقيد المنظم، وهى بهذا الوصف الأخير تبتعد قليلا بل كثيرا عن مستوى الحلم الأعمق، حيث إن الكاتب خفف جرعة ما هو حلم بنسج روايته فى نسج منمنم متين، حبك به التناثر، وسلسل الأحداث حتى كادت معالم الحلم تختفى.
أكتشفت الآن (2015) كيف ظهرت مستويات الحلم، واحتمال نقله من مستوى إلى مستوى أسطح، فى نقدى الذى لم أتبين حقيقة أبعاده إلا بعد ثلث قرن، فرجحت أن هذه المستويات كانت حاضرة فى وعيى ناقدا قبل تبلور الفروض التى فصّلتْ ذلك تفصيلا.
ثم إنى عثرت على عمل نقدى آخر، بدا لى أكثر دلالة برغم أنه لى لم ينشر بعد حتى الآن، وهو بعنوان: “تكثفات الوالدية ووصاية المعتقد فى تجليات الغيطانى” وهأنذا أسمح لتفسى – برغم أنه لم ينشر – بأن أقتطف منه ما يلى:
“… هو عمل بين الرواية والسيرة الذاتية والشعر”، يضعنا مباشرة فى جو الحلم، حيث “النائم يرى مالا يراه اليقظان وحيث التفكيك والانسلاخ يعلنان صراحة كما نقرأ فى هذه المقتطفات(3):
”…ففصل رأسى عن جسدى” فصرت أنظر إلى جثة نفسى…”
”أصبح لى ظلان بعد أن كان لى ظل واحد…، لكن بدت ذراعى غريبة عنى، خاصة يدى”
”وأنا رأسى مقطوع بلا جسد، لكننى رأيت جسدى يمضى أمامى، أمام أبى.. يتصل برأس ليس هو رأسى… وحن رأسى إلى جذعى، ورقت هامتى لجذرى..”.
فجاءت قراءتى لهذه المقتطفات كالتالى:
“هنا نرى قدرة التحمل الإبداعى لمواجهة تفكيك فعلى لصورة الجسد (بل للجسد إذ هو كيان داخلى)، مما لا يحدث إلا فى المراحل الأولى المقابلة لتنشيط الحلم. لكن المبدع الذى يتحمل مواجهة هذه المرحلة المبكرة، فيستطيع أن يحتويها فى نسيج أكبر، هو غير من يسارع بضمها، أو رتقها بخيال مفكر أكثر منه مبدعا. على أن التجزئ كان أحد صور التفكيك المكررة، لكن ثمة إعلان لنوع آخر من التفكيك حيث تتباعد الكيانات مستقلة. حين قال:
“كأنى قسمت إلى عدة أشخاص يحركهم عقل واحد…”.
وهكذا ميزت عند الغيطانى أيضا مستويين للإبداع، مستوى اسميته التكثيف الحلمى، والآخر رفضت غلبة المعتقد على المبدع، حين أضفتُّ:
“ويستمر التكثيف الحلمى. وتستمر معالم الحلم وتشكيلاته طوال التجليات، اللهم إلا حين يقترب الكاتب فى حماسة عالية الصوت من تحيزاته العقائدية، فتغلب الخطابة، ويتوارى الحلم كثيرا أو قليلا.
كما كان الزمن، طوال أغلب التجليات، هو الزمن المتجاور، ”فكيف الحال فى التجليات حيث تتجاور، وتتضفر البدايات والنهايات…”.
”..عرفت وأنا أدنو من أبوابها أن الليل لايلج النهار هنا، وأن الأوقات لاتتغير كما عهدت، وإنما تتجاور متتالية…”
وأحيانا يعلن الغيطانى دوران الزمن مباشرة:
”تدور الأيام فى الأسابيع، والأسابيع فى الشهور…” (لاحظ حرف “فى”)
وتصبح الأماكن فى متناول المتجلى معا:
”فرحلت إلى عدة أماكن فى وقت واحد”
ثم أنتقل إلى عمل عالمى أشهر هو “مائة عام من العزلة” (جابرييل جارثيا ماركيز)(4)
حيث قدم فيه جارثيا المبدع مزيجا متوازنا من قوانين الحلم وقوانين اليقظة، يتمثل ذلك مثلا فى حضور الموتى، وإحيائهم، فى مقابل وقائع الحرب والزواج المحددة، كما يتمثل فيما أسماه س. سيجر: الزمن الحسابى فى مقابل: زمن الذاكرة(5) وهذا مايقابل ماسبق أن أشرت إليه تحت اسمى “الزمن التتابعى” فى مقابل “الزمن الترابطى (المتداخل)”.
من ناحية أخرى: إن هذه الرواية لماركيز تؤكد معنى الواقعية كما حددناه هنا، مما أسميناه: الواقعية البيولوجية، يعلمنا ماركيز مثلا كيف: “أن الموتى (ملكيادس، أو برودينسو أجويلار) يظلون أحياء؛ فوجودهم بوصفهم معلومات فى المخ هو كيان قابل للتنشيط، فهو “حقيقة بيولوجية (وليست ذكرى تجريدية) تظهر فى الحلم” كما تظهر فى الإبداع الروائى بنفس الوضوح والمباشرة(6).
كذلك فإن تعامل ماركيز مع الأشياء باعتبارها عوالم حية، هو أيضا من القبيل نفسه، لكنى أقتطف هنا مقطعا هاما يعلن قدرة الكاتب على التعرف على المخ، من الداخل، بشكل عيانى مباشر؛ الأمر الذى يحدث فى عمق الحلم دون حكايته عادة. وقد أسقطه جارثيا، محتوى ووظيفة، إلى الخارج، مجسدا فى الواقع، وذلك حين أصاب القرية وباء الأرق، وماترتب عليه من مضاعفات فقدان الذاكرة، وتعليق لا فتات للتعرف… إلخ حتى رأيت جارثيا وكأنه يتجول فى كواليس المخ بما فيها من كيانات حية متحركة فى أنحاء البيت، إذْ يقول:
”وأخذوا يرون فى هذه الهلوسة، وضوح الرؤية المخيف للصور التى تكون أحلامهم… بل أخذ كل منهم يرى صور أحلام الآخرين حتى لكأن البيت امتلأ بالزوار….”.
وبعد:
أتوقف هنا قبل الدخول إلى نجيب محفوظ الذى اعتبرت مواكبتى لمسيرته الحلمية الإبداعية من أهم ما هدانى إلى طبيعة الحلم، والتى أعتقد أيضا أنها سوف تستغرق أكثر من نشرة،
فإلى الأسبوع القادم.
[1] – يحيى الرخاوى: قراءة فى أفيال فتحى غانم “الموت، الحلم، الرؤيا (القبر/الرحم) مجلة الإنسان والتطور- عدد يوليو 1983 – (ص108-136).
[2] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول (المجلد الخامس-العدد الثانى-1985)
[3] – جمال الغيطانى: “التجليات الاسفار الثلاثة” مجلة “فصول” – المجلد الثانى – العدد الثانى – 1982م
[4]- جابريل جارثيا مركيز “مائة عام من العزلة” ترجمة: سامى الجندى، إنعام الجندى.
دار الكلمة (1980) – بيروت. (دراسة نقدية لم تنشر).
[5] – سيزار سيجر: “استدارة الزمن عند جارثيا ماركيز” ترجمة: اعتدال عثمان “ص82” (المجلد الأول- العدد الثالث- أبريل 1981- مجلة فصول) وهذا الاصطلاح ينبغى مراجعته لأنى متحفظ على استعمال كلمة الذاكرة هنا. إن مدرسة “العلاقة بالموضوع” تفرق بين الذاكرة والموضوع الداخلي، وهى تفرقة ليس لها علاقة بالبيولوجى، حيث أن هذه المدرسة تهاجم حتى بيولوجية فرويد الغرائزية المتواضعة، ولكنى أستفيد من هذه التفرقة لأنبه على أن المسألة ليست ذكريات تتداخل، بل هى واقع موضوعات، ثم أختلف مع ميلانى كلاين ولو فى التسميات، فالموضوعات عندى كيان بيولوجى حى بالمعنى الأوسع لما هو بيولوجى.
[6] – يحيى الرخاوى: العزلة والخلود ودورات الزمن فى “مائة عام من العزلة” قراءة لم تنشر.