الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الثلاثاء الحرّ : جدلية الاستبداد والاستضعاف (1 من 2)

الثلاثاء الحرّ : جدلية الاستبداد والاستضعاف (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 25-8-2015

السنة الثامنة

العدد: 2916

 

الثلاثاء الحرّ :

جدلية الاستبداد والاستضعاف (1 من 2)(1)

الاستبداد فى الحب غير الاستبداد فى الحكم، والاستبداد فى الرأى غير الاستبداد فى الفعل، الأرجح أن الخطر الحقيقى لا يكمن فى الاستبداد نفسه بقدر ما يتمثل فى مناورات إخفائه لتمييع مواجهته، وكذلك فى العجز عن التفرقة بين ضرورته المبدئية، ومضاعفاته الخطيرة.

الشائع المتواتر عن “الاستبداد/القهر” هو أنه يتم بفعل فاعل من جانب واحد، لأننا نهمل النظر إلى الجانب الآخر “المفعول به” مع أنه لا تقل مسئوليته عن الجانب الفاعل فى ظهور الظاهرة وتماديها، مع أنه يدفع ثمنها أفدح وأصعب.

إن المستبدّ، والمستَبَدّ به، شريكان فى ظهور واستمرار الظاهرة بالرغم من اختلاف مسئولية كل منهما، وأيضا برغم اختلاف مضاعفات الظاهرة لدى كلٍّ،المستبَدُّ به يدفع الثمن غاليا: قهرا واستهانة وتهميشا حتى الإلغاء، والمستبـِِدُّ يدفع الثمن وِحدةً واغترابا وانقساما وتفريغا من الداخل، ثم ضياعا لاإنسانيا فى نهاية المطاف.

 هذا بالنسبة للشائع عن مضمون لفظ الاستبداد حاليا كما يستعمل فى مجالات السياسة، والحكم، والمعارضة، والتحريض، أما عن أصل الاستبداد فى جذور الطبيعة البشرية، فلعل اللغة العربية – قبل العلوم النفسية – قد استطاعت أن تلتقط وتستوعب هذه الجذور لتضمّنها هذا اللفظ، حين نستقرئ اللغة دون تحيز سابق، ودون غلبة ما شاع عن اللفظ أخيرا، نفاجأ بأن أصل لفظ الاستبداد فى ذاته بريء مما احتواه لاحقا من مضامين. نحن نقصر استعماله حالا على ما هو قهر وظلم وغطرسة واستعلاء، فى حين أنه أصلا يشير إلى الانفراد والغلبة. فى أساس البلاغة: (استبد بالرأى انفرد به)، وفى “تاج العروس” (استبد فلان به أى “تفرّد به دون غيره”، وفى لسان العرب “واستبد برأيه انفرد به”. فإذا انتقلنا من الرأى والشخص إلى الأمر والفعل، فإن المعنى يتحرك إلى ما نسميه الآن: “حكم الفرد” أو “الحكم الشمولى”، ففى حديث على رضى الله عنه (أشار إليه ابن منظور وذكر نصه الزبيدي)…”كنا نرى أن لنا فى هذا الأمر حقا فاستبددتم به”. ثم إنه كما يستبد الشخص بالأمر يستبد الأمر بالشخص “استبد الأمر بفلان إذا غلبه فلم يقدر على ضبطه”، حتى أن الاستبداد يكون إيجابيا حين يكون حـَزْمًا مطلوبًا،… “إذا عزم على أمر أمضاه ولم يثنه عنه شيء” (أساس البلاغة).

يمكن أن نحدد منطلقاتنا فى الحديث عن الاستبداد على محاور عدة:

أولا: تطور مراحل الاستبداد.

 ثانيا: المسئولية المشتركة فى عملية الاستبداد.

ثالثا: تجليات الاستبداد.

 وأخيرا: جدلية الاستبداد والاستضعاف.

تطور مراحل الاستبداد:

أن تستبد برأيك بدء ولادته حتى لو كان ذلك فى عمق اللاوعي، هذا أمر وارد، بل هو مطلوب، وإنكار ذلك مخالف للطبيعة البشرية، ومضيّع لفرص الحوار الحقيقي، لا أحد يبدأ – داخل نفسه – إلا من موقع متفرد محدد جدا، وبذلك يمكنه أن يكون متيقنا من نقطة انطلاقه، مستبعدا غيرها، حتى إذا لم يكن هذا الموقف المحدد باديا فى ظاهر الشعور، فإنه يظل حاضرا فى عمق الوعي، حتى لو تخفّى وراء ظلالة من ميوعة الغموض وادّعاء قبول الآخر، وزعم الحرية دون شروط، فإذا ظهر هذا الموقف المستبدّ (المتفرّد) على سطح الوعي، فهو الرأى البدء القابل للحركة والجدل والتحريك والمواجهة، ذلك أنه بعد ذلك – بعد ظهوره – يصبح فى متناول وعى الآخر، كما يدخل اختبار واقع ملموس، فإذا استمر – برغم ذلك – كما هو بنفس التفرّد والصلابة، لا يهتم برأى الآخر، ولا يتطور إلى ما يطوّره من واقع الواقع، فهو الاستبداد بالرأى (وليس الاستبداد البدء) وهنا يمكن أن يوصف بالتعصب والعمى والتحيز والجمود.

فإذا كان صاحب هذا الرأى المستبد ذا سلطة محدودة (والد أو مدرس مثلا) فقد انتقلنا إلى احتمال الاستبداد “بالأمر” أو “بالفعل” حين يفرض هذا الرأى – تنفيذا- على غيره من الأضعف والأحوج. أما إذا كانت سلطته شاملة تمتلك أسلحة الإغارة على الوعى (الإعلام) وعلى الفعل (الاستغلال والاستعمال بالمال والسلطة) فهو الاستبداد الشمولى، والدكتاتورية، وما هو مثل ذلك.

نحن لا يمكن أن ننكر أن فى هذه النظم المسمّاة استبدادية – خصوصا فى بداية انطلاقها – ما يشير إلى إيجابية ما (لعلها تتوازى مع بعض ما لاحظناه من استقراء اللغة) لكن المصيبة الكبرى تتحقق من خلال آليتى “التمادى” و”التعميم”. إن قائد مجموعة من الثوار حين يستبد برأيه فى اجتماع سرى محدود أثناء فترة الإعداد، قد يكون على حق وهو يمارس اختراقات التردد ليتغلب على بلبلة التخوفات، أو ميوعة الأغلبية، لكن  هذا القائد نفسه حين يستبد برأيه بعد أن يتولى السلطة، ويملك ناصية الفعل والفرض بشكل شامل، يصبح استبداده برأيه مجلبة لمصائب ليس لها علاقة لا بالثورة ولا بإيجابيات التفرّد. هنا ننتبه إلى أن العيب ليس فى فكرة الانفراد ذاتها، لكنه فى الخلط بين الحاجة إلى بداية تحتاج إلى الحسم الجسور، وبين التمادى فى فرض الرأى على الجميع من موقع السلطة:

تطور المسئولية المشتركة:

لا أحد يولد فرعونا، حتى لو كان ابن فرعون، إن التفرعن ينشأ من الاحتياج إليه، ثم إنه يتمادى بفضل من يسمح به، ويزكّيه وينمّيه. يبدو أن هذا هو بعض ما نمى إلى وعى الشعب المصرى وهو يطلق مثله الشهير “قالوا لفرعون إيش فرعنك، قال: ما لقيتش حد يردنى”.

من حيث المبدأ يكاد يستحيل تصور أن ظاهرة بهذا التعقيد، وهذا التمادى يمكن أن تظهر وتستمر إلا فى مناخ يسمح بها، وأحيانا يباركها، المستبَدُّ به يشارك فى إرساء قواعد الاستبداد بالضعف، والاستسلام، والاعتمادية والتخلى عن حقوقه. لا عيب فى الضعف باعتباره مشروع القوة القادمة، لكن العيب فى الاستضعاف.

لقد فرّق القرآن الكريم بشكل حاسم بين الضعف والاستضعاف. احترم الضعف وغمر أصحابه بالرحمة والعفو (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)،  (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)  لكنه نبّه إلى خطورة ومسئولية المستضعفين، وأنهم ظالمو أنفسهم (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)- ومع الاختلاف حول معنى “أرض الله” ومعنى “الهجرة” فإن الآية الكريمة صريحة فى التنبيه على رفض التسليم، من حيث أن قبول الظلم هو إسهام فى تحقيقه وتماديه.

الخطر:

الخطر الحقيقى – هو فى التمادى بعد مرحلة الاستبداد بالرأى إلى الاستبداد بالفعل. يتم ذلك ليس فقط من خلال غطرسة وقهر المستبد المتزايدة، ولكن أيضا باستمرار المستضعف فى الاستسلام الفعلي، حتى لو جَأَرَ بالشكوى. إن آلية الاستبداد وآلية الاستضعاف تغذى بعضها بعضا.

يبدأ المستبد باختبار مجال سلطته بقرون استشعار ترصد نوع تلقى استبداده، فإذا وجد تراجعا تقدم، ثم يتواصل تمادى الاستبداد وانتشاره مع تمادى الاستضعاف والاستسلام والتراجع، وهنا يصل المستبد إلى الخدعة الكبرى، فبدلا من أن ينتبه إلى الخطر الذى يحيق به قبل ضحاياه، إذا به ينخدع فيتصور أن هذا النجاح الزائف هو نتيجة صفاته المتفردة، فهو يستشعر آنذاك فى نفسه قوة غير حقيقية، ويغيب عنه أنها ليست سوى محصلة عماه الذى تضاعف مع تهاوى المقاومة التى كان يمكن أن تفيقه.

مسلسل التمادى:

تقول الآية الكريمة فى فرعون موسى: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ”، يصلنى من هذه الآية أيضا صحة عكس الاتجاه، بمعنى يفيد أن القوم حين أطاعوا الفرعون، استخفهم، ثم إنه استخفهم أكثر فأطاعوه أكثر. هكذا نفهم كم أن التمادى المغلق الدائرة المتفاقم التصعيد، هو سر دوامية الاستبداد وتعاظم مضاعفاته.

إن غياب المقاومة الحقيقية بكل صورها، من أول فاعلية أحزاب المعارضة التى لا بد وأن تَعِد (أو تهدد) بتداول السلطة، حتى ضغط الرأى العام بكل الصور المشروعة، والمهددة باختراق الشرعية، غياب كل ذلك هو الذى يشجع الحكام المستبدين على الاستخفاف بالمستضعفين، ومن ثم التهميش، حتى الإلغاء تماما.

وغدًا نكمل عن تجليات الاستبداد وتبادل الأدوار (2 من 2).

[1] – نشرت فى مجلة العربى الكويتية، عدد أبريل-2004 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *