نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 19-7-2015
السنة الثامنة
العدد: 2879
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (23)
عن طبيعة الأحلام واضطراباتها
مقدمة
إذا كنا عجزنا – بعمق الأمانة العلمية والتاريخية – عن التعرف على طبيعة ما يسمى الوعى، وكان النوم هو أحد تشكيلات الوعى فى دوراته الإيقاعحيوية، ثم إن داخل هذا الوعى إيقاع وعى آخر هو إيقاع الحلم، فكيف بالله عليكم نتكلم عن الحلم بهذه الوثقانية التفسيرية الوصية ؟؟؟
ابتداءً يستحسن –كما ذكرنا سالفا– التحفظ على تفسير الحلم بكل تشكيلاته الشعبية، والتاريخية، والتحليلنفسية، والدينية خصوصا السطحية البشرية منها، حتى إذا سميت بأسماء علمية، أو فقهية.
إذن ماذا؟
هل نقفل هذا الباب من حيث المبدأ؟
وماذا نعمل للمرضى ومع المرضى (وغير المرضى) الذين تكون معظم شكواهم مرتبطة بالأحلام بشكل أو بآخر؟
الرأى عندى هو أن نحترم مثل هذه الشكاوى مثلما نحترم أى شكوى أخرى، وأن نبحث فى آثارها، وربما فى معناها، أكثر من بحثنا فى محتواها ومغزاها، ناهيك عن أن نتابع – مع العلاج أو بدونه – تغير الشكوى إلى ما كانت عليه الحال قبل الاستشارة أو المرض، وتأثير ذلك على الأداء والتكيف وما يسمى الصحة النفسية.
الفروض عندى – وقد ألمحتُ إليها سابقا- كثيرة ومنظمة ومتماسكة ومدعـَّمة بما تيسر من فروض أخرى ، وأيضا بما تيسر من ملاحظات وقياس.
هذا، علما بأن أهم قياس هدانى إلى محاولة فهم طبيعة “عملية الحلم”، وبعض وظيفته، هو القياس على عملية الإبداع، وأيضا على عملية الجنون، أقول “عملية”، ولم اشــِرْ لا إلى محتوى الإبداع ولا إلى ناتجه فى أى مجال، وأيضا لم أعرُج إلى محتوى الجنون ولا مآله بأى صورة، وإنما تركيز القياس والمقارنة هو على العمليات (العملية) التى تفرز الثلاثة مع اختلاف المسار والمآل.
ابتداءً سوف أورد ملامح هذا الفرض الذى كتبته مفصلا فى دراستى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” وبدرجة أقل فى “جدلية الجنون والإبداع”.
قدمت الأطروحة الأولى (الإيقاع الحيوى) بموجز هذا نصّه (مع تعديل لبضع كلمات):
“ تقدم هذه المداخلة فرضا يقول بأن الحلم هو نشاط معرفى، يقوم بوظيفة تنظيمية أقرب إلى الإبداع، سواء تم ذلك مع إعلان تأليف حلم يرويه الحالم عند استيقاظه، أم ظهرت نتائجه المعرفية والتنظيمية تؤكد كفاءة أدائه لهذا النشاط المنتظم المعاود، كجزء من الإيقاع الحيوى الشامل.
يستتبع ذلك إعادة النظر فى مستويات الحلم من أعمق حركية التنشيط البيولوجى الإيقاعى الراتب، حتى التقاط بعض آثار هذا التنشيط من معلومات هى مادة صياغة الحلم المحكى قبيل اليقظة (هذا إذا حكاه الحالم أصلا)، وما بين هذا وذاك تقع مستويات وُسطى: من التنشيط العشوائى غير المعلن إلى إعادة التنظيم الإبداعى، مع احتمال تزييف بديلٍ بخيالٍ مصنوع (غير مقصود)، يحل محل إبداعية الحلم فى صورة الحلم المحكمى على مستويات متعددة بين التأليفوالزييف والإبداع.
كما تتناول المداخلة مقارنة قياسية بين مراحل إبداع الحلم، ومراحل إبداع الشعر خاصة، مع إشارة للإبداع القصصى (والروائى)، كذلك تمتد المقارنة لموازاة قراءة الحلم بالنقد الإبداعى، بدلا من تفسيره الملتزم بقواعد من خارجه، تماما مثل التذكرة برفض محاولة تقييم النص الأدبى بعـلْـمَنَةٍ نقدية تقيسه بمقاييس جامدة، مهما بدت مُحْكمة.
ولم تتعرض المداخلة كثيرا إلى القياس المقارن الثالث وهو “عملية الجنون”، وإن كنت قد تناولتها بدرجات متفاوتة عند الحديث عن “الاضطراب الجوهرى للتفكير” وبدرجة أقل فى ملف الإدراك (نشرة 3-7-2012) و(نشرة 4-7-2012)(كما سيرد هنا فيما بعد).
ثم جاء أيضا فى نفس الأطروحة:
منذ انتشر استعمال رسام المخ الكهربائى وماهية الأحلام تتضح فسيولوجيا. إمكانية تحديد ظهور النشاط الحالم بإيقاع حتمى منظم (20 دقيقة كل 90 دقيقة أثناء النوم) برصدها تخطيطا أحدثت أثر الصدمة على المفسرين والمحللين(1). إن من أهم ما أثبته هذا الكشف هو إقرار أن الحلم يحدث حتما، سواء تذكرناه وحكيناه، أم لا، وأن الحلم ليس -أساسا- حارسا للنوم كما قال فرويد (2)، بل لعل النوم هو خادم الحلم، أى أننا لا نحلم لنحافظ على استمرار نومنا، وإنما الأصح أننا ننام لنحلم أساسا، وبانتظام راتب، وأننا إن لم ننم، فلن نحلم، ولن نعيد تنظيم معلوماتنا. لقد تأكد من خلال تجارب الحرمان من النوم، ثم من تجارب الحرمان من الحلم (من النوم الحالم) أن وظيفة الحلم هى وظيفة تنظيمية، تعزيزية تعليمية(3) أساسا، الحلم ليس مجرد تنفيث أو تفريغ أو تحقيق رغبة، كما أنه ليس مجرد حارس للنوم، وقد أدت هذه الصدمة المعرفية إلى التقليلٍ من التركيز على محتوى الحلم لحساب الاهتمام أكثر فأكثر بدوره فى تحقيق التوازن النفسى والتنظيم التركيبى فى الصحة والمرض.
لا مفر من التسليم بالمعطيات الفسيولوجية للنشاط الحالم، ولا بديل عن الإقرار، فى الوقت نفسه، بخبرة الناس، والمبدعين، والمفسرين، فيما يتعلق بالمحتوى، وبالتالى: فلابد من حل يخرجنا من هذا المأزق. هذا بعض ما تحاوله هذه الدراسة، وبيان ذلك:
المأزق:
إن ظاهرة الحلم المسجلة، فسيولوجيا، هى النشاط الحالم الحيوى المتناوب مع نشاط اليقظة من ناحية، ومع طور بقية النوم (غير الحالم أساسا، وليس تماما) من ناحية أخرى. هذا النشاط الحالم يقوم بتحريك الكيانات (المعلومات) الداخلية، أى أنه يقوم بقلقلة المعلومات التى لم تـُتمثل تماما، أى: بتفكيك البنية القائمة نسبيا بهدف إعادة تنسيقها لحقيق درجة أكبر من التوازن والتكامل والتمثل والاستيعاب، يتكرر هذا النشاط إيقاعيا، فى محاولة دائبة لاستكمال مهمة التوازن والنمو البيولوجى (إبداع الذات المستمر المتناوب).
الفرض (فيما يتعلق بالحلم أساسا):
من خلال ما تابعته فى الممارسة الإكلينيكية، وأيضا من الخبرة الشخصية تبين لى أنه حين يستيقظ النائم - أو يوقظ – فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى المسمى النوم الحالم (أو النوم النقيضى: أنظر بعد) فإنه يواجَـه – “وهو يستيقـظ”- بكم غامر من مفردات (معلومات) تم تحريكها أثناء هذا النشاط (الحالم). وهو حين يحكى الحلم إنما يؤلف بين بعض هذه المعلومات بطريقة لفظية مَرْوِيّة حتى يمكن للغة الحكى أن تستوعبها، بدرجة ما، ومن ثَـم يمكن أن تنقلها إلى آخر، أو أن يتذكرها الحالم أو يسجلها لنفسه، ويتم التأليف (قبل التسجيل) – فى جزء من ثانية- بطريقة غير طريقة التفكير والتأليف فى أثناء اليقظة، ليكون الناتج هو هذه الصورة المكثفة المتداخلة، بما تحمل من سرعة نقل، وتدوير للزمن، أو عكسه، أو تقطيعه.(أنظر بعد).
انطلاقا من هذه المقدمة، التى هى جزء لا يتجزأ من الفرض يمكن أن يصاغ الفرض الأساسى لهذه المداخلة على الوجه التالى:
1- ثَمَّ نشاط بيونفسى(4) يسمى الحلم، وهو نشاط يشير إلى العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى الذى يمكن تسجيله برسام المخ، فيما يسمى نوم حركة العين السريعةREM . وهذا النشاط يشمل عمليات: القلقلة والتفكيك فإعادة الترتيب والصقل.
2- إن هذا النشاط الأساسى ليس هو الحلم الذى نحكية (فيفسره لنا ابن سيرين، أو فرويد أو غيرهما ) ولكنه المصدر الحركى للحلم المحكى، وهو معمل أبجديته.
3 – تمثل المعلومات المُقَلْقلَة المُفكَكة المادة الخام (الأبجدية) التى ننسج منها الحلم المحكى.
4- يتم تأليف الحلم أثناء (لحظات) عملية الاستيقاظ، لا قبلها.
5- إن تذكر الحلم أو حكيه أو تسجيله هىعمليات لاحقة لما تم تشكيله من هذه المعلومات المُقَلْقَلة، بتأليف تال فى زمن آخر، يسمح بالحكى أو التسجيل
6- إن الحلم المحكى ـ بناء على ذلك ـ هو نتاج عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى جزء من الثانية، أو فى بضع ثوان، فى حالة بـينية من الوعى، لا هى وعى الحلم، ولا هى وعى اليقظة.
من أهم مايساعد فى فهم ما ترمى إليه هذه الدراسة هو تصور الوحدة الزمنية الأصغر وقدرتها على احتواء تأليف مكثف، يبدو ممتدا عند روايته. ولتوضيح ذلك أورد ملاحظتين: الأولى حلم اقتطفه فرويد(حلم مورى 1878) (تفسير الأحلام ص64، 65) “.. كان مريضا يلزم الفراش وإلى جواره أمه، فرأى فيما يرى النائم أن الوقت هو حكم الإرهاب فى عهد الثورة (الفرنسية)، وجعل يشهد بعض مناظر الموت المروعة، ثم دعى للمثول أمام المحكمة، وهناك رأى روبسبير، ومارا، وفوكييه-تانفيل وسائر الأبطال المفجعين لهذا العهد الرهيب، وسأله هؤلاء الحساب. ثم بعد عدة من التفاصيل لم يعد يذكرها، أدين وسيق إلى ساحة الإعدام، يحيط به جمهور لا حصر له. وصعد مورى على المنصة وشده الجلاد إلى العارضة، وانقلبت هذه، وهوى نصل المقصلة، وأحس مورى برأسه ينفصل من جذعه، فاستيقظ فى رعب، فإذا هو يتبين أن رأس السرير قد سقط، فأصاب عموده الفقرى عند العنق، مثلما يفعل نصل المقصلة .
أوردت هذا الحلم لسبب غير السبب الذى أورده فرويد وهو يحاول الربط بين الحدث الخارجى ومحتوى الحلم. إن هذا الحلم يظهر مدى التناسب الظاهرى بين الحدث المسئول عن محتوى الحلم وبين القصة الممتدة كل هذا الزمن، بمعـنى أن سقوط رأس السرير لم يستغرق سوى ثانية، أو بضع ثوان فى حين أن الحلم كما حكى، استغرق كل ذلك الزمن، بما يدعم فكرة تناهى صغر زمن الحلم، وعدم ارتباطه بالزمن المحكى فى محتوى الحلم، فضلا عن ترجيح ما سيأتى به الفرض من أن الحلم قد تأليفه كله مع لحظة الاستيقاظ بسبب سقوط رأس السرير.
الملاحظة الثانية من خبرات شخصية أورد إحداها كمثال:
كنت أقود سيارتى ليلا فى طريق مصر اسكندرية -الزراعى-، وقبل كوبرى قليوب العلوى بعشرات الأمتار رأيـتنى وأنا أخطب فى جمع من الناس، وأنادى أخا لى، وأتوعد بعض المارقين، وأسمع أغنية سخيفة ثم أستيقظ فزعا- لأنى كنت مازلت أقود السيارة - وأجد السيارة لاتزال تسير مستقيمة وبسرعة، وأنظر إلى جارى الممتلئ يقظة فلا أجده قد لاحظ شيئا، فأعلم أنى حلمت كل هذه الأحداث فى جزء من الثانية، أو أقل أو أكثر قليلا، فأحكى الحلم لجارى فلا يكاد يصدق. أوردت هذا المثال الشخصى لتأكيد زمن الحلم المتناهى فى الصغر من ناحية، وللإشارة إلى عدم ضرورة علاقة محتوى الحلم بالأحداث الخارجية من جهة أخرى. ويمكن ربط هذه الفكرة المزعجة (تناهى صغر لحظة الحلم/ الإبداع) بمفاهيم كثيرة شائعة وصعبة الاستيعاب، مثل مفهوم الميكروجينى (الذى اقتطفه أريتى من فرنر)، و”لحظة” الإلهام عند المبدعين، وربما أصل به لمفهوم “الوثبة” فى إبداع الشعر… إلخ. مما لا مجال لتفصيله هنا.
فى عمل لاحق لى “ترحالات” (مزيج من أدب الرحلات والسيرة الذاتية) مررت بتجربة مشابهة أتيتها فى هذا العمل الجزء الثالث من الترحالات (الجزء الثالث: ذكر ما لا ينقال) القاهرة 2000 ، فتأكدت أن الخبرة الأولى فى الطريق الزراعى لم تكن مجرد مصادفة أو تصورا من جانبى.
وبعد
وغدا نتكلم عن مستويات الحلم ومراحلة تمهيدا للتقدم إلى المقابلة بينها وبين الإبداع والجنون بقدر ما تتيح الفرصة الفرصة.
[1] – فكرة علاقة الأحلام بالدورة البيولوجية قديمة قبل اكتشاف رسام المخ أصلا، وقد نبه إليها فرويد حين ذكر أن فيلسوفا شابا هو “هـ. سفوبودا” حاول أن يستخدم فكرة الدورة البيولوجية التى اكتشفها فليس Fliess (صديق فرويد).. وقال بأن المادة التى يتألف منها الحلم ينبغى تعليلها باجتماع جميع الذكريات التى تختتم إحدى”الدورات البيولوجية”.وبرغم بساطة الاقتراح فالفكرة لابد أن تعطى حق السبق لقائلها بعد الاكتشافات الحديثة التى ثبتت برسام المخ الهربائى ورصده ما يسمى “حركة العين السريعة” أثناء النوم النقيضى الذى هو النوم الحالم. وقد استهان فرويد بهذه الفكرة فى حينها، بل خاف منها على الأحلام وعلى نظريته حيث قال “… ولو صحت آراؤه (فرويد يقصد آراء الفيلسوف سفوبودا) لنفقـت أهمية الأحلام سريعا”، بل إن فرويد قد فرح حين تراجع سفوبودا عن فكرته فقال: إنه (الفيلسوف) قد أرسل يعلنه فيها أنه لم يعد يأخذ نظريته هذه مأخذ الجد (تفسير الأحلام فرويد، الترجمة ص 125). على أن مخاوف فرويد وتراجع سفوبودا لا تلزمنا بالتراجع معهما، ذلك أننا بمراجعة النظريات الأقدم التى أوردها فرويد وفندها يمكن أن نجد كثيرا منها قد عاد إلى الظهور بشكل يحفظ له – بالرغم منه – حق السبق، مثل ما أورده فرويد عن: نظرية اليقظة الجزئية، أو الاستيقاظ الفارقى (تفسير الأحلام ص 109-110). ويهمنا هنا أن ننبه على مبدأ عام: يسمح باستقبال أفضل لما يضيفه المبدعون، حتى لو تراجع صاحب النظرية التى لا تملك وسائل إثباتها فى حينها، فإن ذلك قد لاينفى صحة النظرية التى أعلنت دون دليل آنذاك، وإنما قد يعنى دعوة لبحث متواصل لعلنا نجد لاحقا أدوات ومناهج إثباتها، وهذا ماثبت فى كثير من الأحيان حتى فيما يتعلق بأول عمل لفرويد The project الذى تنكر له فرويد شخصيا ورفض نشره باسمه حتى أنه لم ينشر إلا بعد وفاته، وهو ما يسمى “المشروع” The Project، وهو ما ثبت صحة كثير من أفكاره بعد امتلاك وسائل البحث النيوروفسيولوجية الأحدث وخاصة التصوير المقطعى التشريحى والوظيفي C.T. , SPECT & PECT.. etc.
[2] – يقصد فرويد بتعبير أن الحلم حارس للنوم: أن الحلم يحدث ليستوعب المؤثر القادم من البيئة الخارجية مباشرة، والذى يهدد النائم بالاستيقاظ، فيتخلق الحلم فورا ليحتوى المنبه فى أقصوصة أو رؤية فلا يستيقظ النائم بفضل أنه يحلم، وهذا قد يحدث فعلا، ولكنا نتحفظ على التفسير الفرويدى، بمعنى أن حالة النشاط الحالم هى سابقة ولاحقة للمؤثر الخارجى الذى قد يثير ترابطات خاصة متعلقة بنوعه، وكذلك بمعنى أن تأليف الحلم أثناء الاستيقاظ فى وجود هذا المؤثر يحمل فرصة أن يحتويه لا أن يكون نتيجة له (انظر بعد).
[3]- Foulkes, D. (1978)، A Grammar of Dreams, New York Basic Books, Inc. (P3-18)
انظر أيضا يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجي” خاصة ص637، 638.
[4] – Psychobiological