نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 8-7-2015
السنة الثامنة
العدد: 2868
هل انفصل المال تماما عن صاحبه، ففصله عن الناس؟(1)
هل يحق لواحد مثلى لايفهم فى الاقتصاد، ولا يعرف الفرق بين الدخل القومى ومعدل النمو، ولا بين التضخم ومتوسط دخل الفرد، هل يحق له أن يتكلم فى الاقتصاد؟ قال لك: لا، لا يصح، فأزحت الرد جانبا وقررت أن أمارس حقى كمواطن جاهل، يضار، أو له علاقة بمن يضار من الناس، من أثر أية مصيبة اقتصادية والعياذ بالله، هذا المواطن امتحنه الله بعقلٍ ناقدٍ، ليستعمله ما أمكن ذلك، فقال:
الأرجح أن التعامل بالنقود ظهر مؤخراً فى تاريخ تطور البشر، وأن التعامل بالشيكات (النقود البنكية) تم بعد ذلك بكثير، ثم ظهرت البطاقات الائتمانية (الفيزا وما إليها) لتضاعف المسافة بين وعى صاحب النقود وقيمتها الموضوعية الفعلية فى حياته، لتتحول علاقته بالنقود إلى علاقة بالأرقام والرموز على أوراق غامضة (بالنسبة لى على الأقل). أظن أن كل هذا كان لازما لإمكان تبادل المنافع والسلع والمصالح.
لكن يبدو مؤخرا أن النقود بكل تجلياتها (فى شيكات أو بطاقات أو خلافه) قد استقلت بذاتها عن أصلها كوسيلة لاختزال وتسهيل التعامل، وأيضا كوسيلة لتحقيق الغرض مما هى له !!.
النقود ظهرت لخدمة الإنسان، بالمعنى الحقيقى لما هو إنسان، بدءًا بتأنيس صاحبها بشرا سويا، الأمر لم يعد بعدُ كذلك، فقد أصبح الإنسان (بدءًا بصاحب النقود نفسه) هو الذى فى خدمة النقود، وأصبحت النقود، فى خدمة النقود، فراحت تخلّق لنفسها وسائلها – بالنقود أيضا- من حروب وقتل ومناورات كذب وتجارة داعرة، وألعاب استغلال معولمة، وتخليق لغرائز استهلاكية مصنوعة. هكذا اكتسبت النقود آليات متوحشة بذاتها لذاتها، حتى صارت مثل الروبوت الذى استقل عن صانعه واستدار يتحكم فيه!! اشتعل سعار النقود فى لهيب النقود بتوليد ذاتى مثل النار التى “تضرى إذا ضَرّيْتموها فتضرمِ”.
بأسلوب آخر: المفروض أن المال – مهما بلغ– ليس له قيمة فى ذاته لذاته، وأنه وسيلة عصرية حديثة لتحقيق أهداف الإنسان الفرد، والجماعة، فى التواصل والتعاون والعدل، واستعمال الفرص، وحقه فى إتاحة المساحة والأدوات لإبداع ما يعينه على مسيرة تطوره، هكذا كان الأمر عبر مراحل التاريخ الإيجابية بالنسبة لمعظم إنجازات الإنسان من وسائل ابتدعها فارتقى بها، لكن يبدو أن الأمر لم يمض فى الاتجاه الطبيعى طول الوقت خاصة بالنسبة للنقود: الذى حدث أن الناس، فرادى وجماعات، أساؤوا استعمال هذه الوسيلة فلم تعد تؤدى الهدف منها لصالحهم شخصيا، أو لصالح (النوع) الناس، فظهرت نظم جديدة تنزع من الأفراد وتجمعاتهم هذا الحق فى استعمالهم لما عندهم من نقود، مادامو قد بلغوا هذا القدر من السفاهة، وتصور البعض أن الدولة أقدر على حمل المسئولية فتسلمت الدولة حافظة النقود نيابةً عن الأفراد، لكن الدولة هى ناس أيضا، ناس بهم نفس نقص الانسان المعاصر أفرادا، فحل سوء استخدام السلطة (بما فيها سلطة المال) من قبل الدولة محل سوء استخدام الأفراد لنقودهم، فاتسعت الهوة بين تطبيق النظام الاقتصادى الإصلاحى الجديد وبين القيم التى نشأ لتحقيقها (العدل والابداع، فالتطور) فانهار المالك الجديد للنقود والسلطة معا، ليس لأن النظام خطأ فى ذاته، ولكن لاتساع الهوة بينه وبين أغراضه الرائعة حين فشل التطبيق.
ارتدت النقود إلى الأفراد، ففرحوا وهللوا وأغلقوا أبواب التاريخ عليهم بزعم أنها “النهاية”، وتفرغوا لمهمة أن يعدّوها عدَّا، ربما مثل “عم دهب” (ميكى) دون خفة ظله وصداقته لتوتو وسوسو ولولو، وإذا بالنقود تزيد منها لذاتها بذاتها، كما يبدو أن نفس هذه الغريزة المصنوعة هى التى استغلها نصابوا توظيف الأموال لاصطياد السذج من الطماعين! الذين راحوا يعدّون رصيدهم على النت بنفس طريقة عم دهب وهو يعدّ النقود ليلمعها بطوط فى خزنته.
ومضى روبوت المال العالمى المعولم ينتهز فرصة الظلام والتفرد بالساحة، لينطلق غشوما يصنع أى شئ، وكل شئ، بغض النظر عن وظيفته الأصلية، فاشتعلت الحروب أكثر شراسة وأبشع قتلاً، وامتد الإجرام والدمار والإبادة إلى كل الأضعف من أفراد النوع، ثم ارتد إلى أصحاب المال أنفسهم يتعسهم ويشوه وجودهم البشرى بشتى أنواع الدعة والاغتراب، حدث ذلك حين استقلت الشركات العملاقة عن الأوطان، بل وربما استقلت النقود عن الشركات!!! (لا أعرف كيف)، فاتسعت الهوة من جديد بين النقود وأصحابها، وظهرت انذارات تصدع النظام الاقتصادى الجديد فى الوقت بدل الضائع بعد النهاية المزعومه للتاريخ (!!) ليعلـَن بذلك احتمال تصدع التاريخ الإنسانى كله، حتى حاضِره الملتاث، ويلوح شبح الانقراض ما لم يلحق البشر أنفسهم، ليس بضخ النقود فى البنوك، ولكن بضخ إعادة تنظيم الأمور لتصبح الغاية غاية، والوسيلة وسيلة، وألا يقاس نظام اقتصادى بمدى لمعان منطقه على الورق، أو فشل نقيضه الذى هو وجهه الآخر، ولكن يقاس بقدرته على تحقيق أهدافه (أو ما يزعم أنها أهدافه) لصالح البشر فى المرحلة الراهنة وما بعدها، على أرض الواقع.
أقرأ “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ” (فى سورة التكاثر) بمعنى “التراكم”، وأرى وجوه الملتاعين من الصدمات المالية المتلاحقة، وقد رأوا جهنم “عين اليقين”، وأخشى أن أُسأل معهم – شخصيا- “يومئذ عن النعيم”، فأستعد للإجابة.
… مثل ذلك جاء فى كل الاديان والفلسفات الصحيحة.
[1] – ظهر هذا المقال بعنوان: “حين ينفصل المال عن صاحبه وعن الناس”، فى جريدة الدستور بتاريخ22-10-2008، وتم تحديث بضع كلمات، وخاصة فيما يتعلق بتوظيف الأموال.