الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الثلاثاء الحرّ : إلى كلٍّ على قدر بصيرته، ومن كلٌّ على قدر همته!!

الثلاثاء الحرّ : إلى كلٍّ على قدر بصيرته، ومن كلٌّ على قدر همته!!

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 7-7-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2867

الثلاثاء الحرّ :

إلى كلٍّ على قدر بصيرته، ومن كلٌّ على قدر همته!!(1)

خذ عندك ما يجرى فينا وحولنا الآن بعد أن انفتح الباب على مصراعيه للإغارة الإعلامية على وعى الناس بكل لون ولغة وحركات وتكنولوجيا وتواصل: ثم تعالوْا ننظر كيف نتلقى – مختلفين- نفس الحدث، أو الخبر، أو البيان، أو الانتفاضة، أو الثورة، أو المليونية، أو الرأى؟

 حاولت شخصيا أن أنظر فى نفسى، وأن أقرا بعض مـَنْ حولى، وأن أتابع بعض ما يصلنى، وإذا بى أضبط نفسى أتلقى نفس الخبر على مستويات مختلفة طول الوقت، دعونا نأخذ أقرب الأمثلة وأعمها هذا الذى يسمى “ثورات الربيع العربى”، ذلك الربيع الذى امتد حتى أوصلنا إلى مليونيات واعتصامات الخريف العشوائى، الذى تفسخ هنا وهناك لينقلب إلى حروب أهلية ممتدة، أو مجازر سلطوية غاشمة، نتابعها جميعا ويدنا فى النار، ويتابعها الأبعد وأيديهم فى الماء، وقد راح هذا الربيع الخريفى يتمادى، ويتلون، ويتشكل، ويعلو ويهبط، وتصل آثاره السلبية قبل الإيجابية إلى كل فرد دون استثناء.

لن أقوم بتفسير أى من هذه الأحداث بوجه خاص، فالمسألة شبعت تفسيرا وآراء واجتهادات وفتاوى، سوف أعدد ما خطر لى من احتمالات تعدد المستويات لنفس الحدث حسب تنوع التلقى، ودرجة حمل المسئولية.

المستوى الأول: شخصى جدا بأنانية مطلقة

قد يصل الأمر بأحدنا، ولا أستثنى نفسى، أن يتلقى خبر مليونية من المليونيات لا من خلال عنوانها، ولا من خلال أهميتها أو هدفها، ولا من خلال آثارها السلبية والإيجابية، وإنما يصبح (أو من البداية يكون) كل ما يهمه هى أنها سوف تسد عليه الطريق للذهاب إلى عيادته، أو لقاء صديقته، أو تناول العشاء فى مطعم بذاته، أو تأجيل سفر ثانوى، أو الحيلولة دون أن تذهب ابنته للتدريب فى الكنسرفاتوار، وقد يعلن ذلك وقد يخفيه، وقد يعلن عكسه، لكنه احتمال وارد على مستوى من مستويات الشعور الظاهر أو الباطن بشكل أو بآخر. لا اعتراض على هذا المستوى من حيث المبدأ، فإيقاع الحياة اليومية اللاهث، والسعى لأكل العيش الذى لا يحتمل التأجيل، والنزوع لنيل أكبر قضمة من اللذة قبل أن تنتهى سوق اللذة، يبرر مثل ذلك. قد يستبعد البعض أن يكون هذا هو نهاية المطاف لهذا الأنانى الملتذ، وبصراحة، هو نادرا ما يكون كذلك، فالرعب الزاحف سرعان ما ينسيه نفسه ليستغرق فى نفسه فيخسر نفسه: بطريقة أخرى!!

ثانيا: المستوى الشخصى النفعى الأسرى حتى الفئوى ..

 قد يسمع نفس النبأ شخص آخر فيقفز إلى سطح وعيه تخوُّف على أهله، أو ناسه الأقربين، أو تأثر فئته، بالسلب أوالإيجاب فهو يقيس أى حدث، أو نبأ أو بيان، بمقياس نفعى فئوى مباشر، بحساب المكسب والخسارة لجماعته دون غيرها،  والأمثلة بلا حصر مثل الاقتصار على التفكير على كساد حركة سلعة بذاتها لفئة معينة من المتاجرين فيها، أو مثل رواج بيع أعلام وطنية، أو مشروبات للمتظاهرين، أو ضياع فرص صفقات معينة فى البورصة إلى غير ذلك مما هو طبيعى ومقبول، لا مانع، لكن أيضا إذا اقتصر التلقى فالتفسير على ذلك، فالأمر يحتاج إلى النظر!

ثالثا: المستوى الوطنى المشارك:

 قد يتلقى ثالثٌ النبأ بمسئولية واضحة تتعلق بتأثير هذا النبأ أو القرار أو الحدث (المظاهرة أو الاعتصام أو البيان) على الوطن كله، على نهضته واقتصاده وتطوره وإبداعاته وتحديثه فيستقبل المتلقى الأحداث وإذا به يحمل شخصيا هم الجارى كله وكأنه المسئول عن حدوثه مباشرة، وأيضا باعتباره المسئول عن المشاركة فى توجيه أو تصحيح مساره أو الإقلال من المضاعفات المحتملة منه، هذا المستوى لا يختص به المشتغلون بالسياسة، لكنه يصبغ تصرفات ومشاعر كل من يحمل الهم العام لناسه، بغض النظر عن وجوده فى موقع مسئولية عامة مهما صغـُرَت، ولا يتوقف أثر هذا التلقى على التفسير والتأويل بما يصل أحيانا إلى موقف الفرجة وإصدار الحكم، لكننى أعنى به المستوى الذى يظهر فى سلوك مثل هذا المتلقى فيؤثر على أدائه، وعلاقاته، وأحيانا معتقداته، وعادة يصاحب هذا المستوى درجة من التفسير المحلى والمراجعة، مثل لوم هذا الحاكم، واتهام هذا الفاسد، والشماتة فى هذا الطاغى، والفرحة لنصرة هذا المظلوم …إلخ، لكن معظم تفسيرات  هذا المستوى لا تتجاوز المحلية، وهى تصطبغ بصبغة أخلاقية ، أو تحيزات سياسية لا تتعدى الواقع المحلى، وربما الواقع القومى، وأحيانا التفسير الدينى، أو العنصرى العرقى.

رابعا: المستوى العالمى الحالى

 وهنا يستقبل الشخص الحدث أو الخبر أو البيان المحلى الوطنى أو القومى غير منفصل عن ما يجرى فى العالم من تنافسات وتربيطات ومؤامرات تحتية مالية أساسا، ويمارس هذا المستوى المتتبع للحركات العالمية المالية التى تدير العالم لصالح فئات جشعة بشعة بذاتها، ويـُتـَّهم المتلقى على هذا المستوى بما يسمى التفكير التآمرى، ومع أن هذا المستوى هو الأقرب للواقع حاليا، إلا أن المـُبـَالغ فى  تضخيم قدرات هذه القوى المتوحشة المسئولة، قد يوصل –دون قصد- رسالة تعجيز بشكل أو بآخر، ومن ثم استسلام باكر بحجة “عدم التكافؤ”، ودمتم.

خامسا: المستوى الحيوى البقائى التطورى

 وهو أكثر المستويات عمقا، وفى نفس الوقت هو أخطر المستويات مهربا، وأنا أعترف أننى كثيرا ما أجد نفسى فيه غير مختار، حتى أننى أستقبل أصغر الأحداث (مثل ثمن دواء، أو بحث علمى ملتبس)، من خلاله، ناهيك عن الأحداث السياسية والهزات الاقتصادية والحروب الصغيرة والكبيرة، فأقيسها بمقياس التطور والانقراض، وأنا أعرف احتمال شطحى أو هروبى، مع أنه ثبت أنه مستوى عملى واقعى يومى طول الوقت، ومع ذلك اللهم اكفنا شر المثالية والتنظير .

سادسا: مستوى المسئولية أمام حضور الله فى الوعى إلى المطلق:

يمثل هذا المستوى قمة هيراركية حمل الأمانة، لأن كل المستويات السابقة، يمكن أن تبرَّر بما لها وما عليها بالكلمات والحجج، أما هذا المستوى فيستحيل تزييفه على رب العالمين، ولا على الإنسان الذى على نفسه بصيرة. المتلقى على هذا المستوى يستقبل كل حدث، وكل دقيقة، وكل ثانية، وكل معرفة، وكل حركة، وكل سكون، باعتبارها أمانة هو مسئول عن حملها شخصيا أمام رب اسمه “العدل” سبحانه وتعالى، وهو لا يستثنى شيئا مهما صغـُر، من أول إلقاء لقمة على الأرض إلى محاولة تغيير العالم كله بدعم منظومات قيم موضوعية نافعة  تليق بتاريخ الإنسان وعلاقته بالكون الممتد إلى وجهه تعالى بلا حدود، وبالتالى حمل مسئولية كل الناس بما فى ذلك من يختلف عن دينك، وعنصرك، وأيديولوجيتك، ووطنك، فى ترتيب تصاعدى يمنعك من الهرب فى هذا المستوى بعيدا عن مسئوليتك اليومية.

ما رأيك؟ ويا ترى على أى مستوى يتلقى المصريون الأحداث هذه الأيام من أول أى مشارك فى توك شو إلى المجلس العسكرى، مرورا بشباب الثورة، والسلفيين الكرام، والإخوان المسلمين، والإخوان غير المسلمين، … ..إلخ

وبعد

30 يونيو 2015:

(لاحظ التاريخ من فضلك !!)

انتهى المقال الأصلى، ومرت سنوات، فهل استطعت أن تحدد أين يقع مستوى تفاعلك مع الأحداث؟

وهل لاحظت أى انتقال من مستوى إلى آخر، هبوطا أو صعودا خلال هذه السنوات؟

 وهل زادت المسئولية أم تنوعت أساليب التبرير الهرب؟

“وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً” !!!!

[1] – نشر هذا المقال فى جريدة التحرير بعنوان “مستويات قراءة الأحداث، وحمل أمانة التلقـِّى”، بتاريخ: 8-10-2011 ، أى بعد 25 يناير بحوالى ثمانية أشهر وبضعة أيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *