نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 6-12-2014
السنة الثامنة
العدد: 2654
حوار مع مولانا النفّرى (109)
من موقف المحضر والحرف
وقال مولانا النفرى فى موقف “المحضر والحرف”:
وقال لى:
الحرف حجاب والحجاب حرف
فقلت لمولانا:
لم أستطع حتى الآن، ولا استطيع، وغالبا لن أستطيع أن أحدد معالم “الحرف”، كما تريد أن توصلها لنا “تحديدا” نقلا عن ما قاله لك استلهاما، أنا أعرف أن كلمة “تحديدا” ليست من أبجديتك، لكننى أحاول، فما وصلنى منك حتى الآن جعلنى لا أحبه (الحرف) ولا استغنى عنه، أحذر منه وأستعمله،
أحترم أحيانا ما وصلك يا مولانا عن ضرورته وأخشى أن تبرر الضرورة لنا بعض الزيف ونحن نفعل ذلك.
أقرأ مؤخرا – يا مولانا – مبحثا ضخما قام به عالم مجتهد فاضل عن “الإيمان بالله في عصر العلم” (1) وراح، بكل إخلاص يستعمل كلمتين شهيرتين حسنتى السمعة هما “العقل” و”العلم”، قرأت هذا الكتاب وأنا بصدد عمل نقدى يحاول تصحيح مفاهيم شاعت عن شيخنا نجيب محفوظ، وبالذات عن علاقته بهذين المصطلحين، وإذا بى أكتشف بعد طول صبر وتردد أن هذا الباحث الجليل هو ابعد ما يكون عن ما يريد، برغم صدقه وموسوعيته وأمانته وطيبته واجتهاده، وقد عزوت التقصير إلى نفسى يا مولانا واعتذرت له – رحمه الله – وحين حاولت أن أزيح هذين المصطلحين من اجتهاداته المخلصة فى هذه الأطروحة التى يريد بها أن يقربنا إلى ربنا كما يعرفه، لم يتبق عندى من مبحثه شيئا!!.
وأنا أحاول اليوم قراءة ما وصلك فى هذه الكلمات الأربعة “الحرف حجاب”، و”الحجاب حرف” انتبهت إلى طبيعة خبرتى فى هذه المرحلة الصعبة، وانتبهت تحديدا إلى احتمال أن هذين الحرفين “العلم” و”العقل” قد حجبا عنى كثيرا مما أراده الباحث جادا مجتهدا، إذن ماذا أفعل؟ وماذا كان يمكن لهذا العالم الأستاذ الجليل أن يفعل وهو بكل هذه الصفات الطيبة.
طبعا أنا لا أرفض، ولا وصلنى منك أنك تشجعنى أن أرفض: أيا من “العلم” أو “العقل”، لكن حين يحل صنم العلم محل كل العلم والعلوم والإدراك والمعرفة والوقفة، وحين يحل صنم “العقل” محل كل العقل والعقول والوعى والوجدان والشهادة، فعلىّ أن أنتبه جدا لما يحجب “المعرفة عنا” بقدر انتباهى لما “يمكن أن يضىء الطريق إليه”،
وصلنى منك أيضا يا مولانا أن ثمة “حروف داخل الحروف” يمكن أن تضيئها حتى تكون حروفا أخرى لا تنغلق على شكلها وإنما تتناغم مع غيرها منها ومن غيرها.
الحرف “العلم” سَرَقَه غير أهله وألَّهوه وقَدَّسُوه فراح يعكس ضوءًا باهرا يُعْشى برغم سطوعه فصار حجابا لا يضىء إلا نفسه.
والحرف “العقل” رفعه غير أهله ايضا ونصبوه آمرا ناهيا لكل ما عدَاه، حتى انفصل عن جذوره واصوله، فأصبح حاجزا بين الأصل والمطلق بعد أن صيّروه سقفا مغلقا بدلا من أن يقيموه مظلة حامية تظِلُّ كل محبيه ومحبى المعرفة، فانقلب حجابا أيضا يحجب ما عَداه.
ما العمل؟
ألم يقل لك يا مولانا فى موقف”الدلالة”
عرِّفنى إلى من يعرفنى، يرانى عندك، فيسمع منى.
ولا تعــّرفنى إلى من لا يعرفنى يراك، ولا يرانى.
اقرأ حاليا يا مولانا – أيضا – كتابا آخر باسم “الاقتراب من الله” (2) وكان اسمه الأصلى “عقل الرب” لكن المترجم الفاضل خشى أن يُفهم خطأ عند قرائه بالعربية فقلب العنوان إلى “الاقتراب من الله” فتجنب بذلك استعمال كلمه “عقل الرب” فهو أدرى بثقافتنا، فعلها بذكاء ومسئولية ولم يشوه الترجمة كثيرا.
سألت نفسى وأنا أقرأ الأطروحة الأولى للمجتهد العالم الأكاديمى المسلم سألتها: يا ترى لمن يوجه هذا المؤلف خطابه (حروفه) هل يا ترى هو يوجهه لمن “يعرفه” أم لمن “لا يعرفه”، ثم سألت نفس السؤال عن المجتهد الثانى (ولم أتم قراءة كتابه بعد) يا ترى لمن يوجه خطابه هو أيضا.
وجدت أن الأول يوجه خطابه إلى من لا يعرفه برغم أنه وصلنى أنه هو شخصيا (المؤلف) يكاد يعرفه، وللأسف، حين تقمصت من لا يعرفه من قرائه خيل إلىّ أنه لن يصله إلا هذين الحرفين “العلم” و”العقل” بعد أن أُفْرِغَا من تاريخهما ومستقبلهما أيضا، بقدر ما ورد فى البحث وعلى أحسين الفروض سوف يرى المؤلف دون أن يراه كما جاء فى ما وصلنا من النفرى حالا.
فى المقابل وجدت أن الكاتب الثانى يوجه خطابه إلى “من يعرفه” رغم أنه وصلنى – حتى الآن ومن مقدمته ومقدمة المترجم – أنه هو شخصيا (المؤلف) يعرفه ايضا مع أنه يعلن أنه لا يعرفه.
وبعد
هذا بعض ما وصلنى كيف يكون الحرف حجابا.
أما أن يكون الحجاب حرفا فهذا أمر أكثر تحييرا وإرباكا، لكننى اجتهدت هكذا:
كل ما يحول بيننا وبينه، أو يعطل مسيرتنا إليه، مهما كانت لغته أو نيته أو منهجه هو حجاب دونه، بما فى ذلك بعض من يتصورون أنهم يدعون إليه، أنا آسف يا مولانا ولكن إليك ما يلى:
الذى يحجبه حتى بظاهر تدينه إنما يقلب الدين إلى حرف إذ يصبح هذا الدين المغلق حجابا دونه،
والذى يحجبه بما عرف من علوم يتصور أنها تثبته إنما يستعمل علومه هذه حجابا دونه، ليس لها وظيفة إلا حجبه.
وبعد
حتى نتخلص من أكبر قدر مما يمكن أن يبعدنا عن الطريق إليه لا ينبغى أن يقتصر اجتهادنا على التخلص من الحروف، ولا على رفع الأحجبة ما أمكن ذلك، وإنما علينا أن نستعمل الحروف دون أن ننغلق فيها، وأن نشيد الأحجبة لنتجاوزها،
تتجلى المعرفة فى الحروف حين تشق الحروف طريقا إليه لا دليلا عليه،
وتتشكل العلوم حروفا حين تكشف عن طريق ولا تكون هى نهاية الحق بشروطها ومقاييسها.
للأمانة ظهرت يا مولانا بعدك بأكثر من ألف عام علوم تكاد لا تكون حروفا أو لعلها الحروف التى تعيد ملء نفسها بحروف متجددة أبدا يقال لها علوم المعرفة وغير ذلك (3)
ولهذا حديث آخر
[1] – “الإيمان بالله في عصر العلم” أ.د. محمد عبد الهادى أبو ريده – مجلة عالم الفكر – العدد (1) عام 1970.
[2] – (“الاقتراب من الله” بحث فى أصل الكون وكيف بدأ) تأليف: بول ديفيز، ترجمة: منير شريف، مراجعة: عبد الرحمن الشيخ – المركز القومى للترجمة – العدد: 1482- سنة 2010، وهذه ترجمة كتاب: The Mind of God – 1992.
[3] – أمثلة: العلم المعرفى الحديث والعلم المعرفى الأحدث، العلوم الكموية وعلوم الشواش والتركيبية وعلوم الوعى الكوانتى، وعلم النفس الكوانتى، والطب النفسى الكوانتى، وبعض علوم التطور.