نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 14-12-2015
السنة التاسعة
العدد: 3027
حالات وأحوال (15)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(11)
الإيقاع الحيوى: ونبضات النمو والإبداع
(من لا يتفكك لا يتخلق)
“… لم يكن التعامل مع محمد فى العلاج الجمعى مهما كان نشطا وناجحا هو نهاية المطاف بداهة، والمتابع لنا على الورق (دون مشاهدة أومشاركة) قد يخيل إليه أنه يتعامل مع حالة من حالات تعدد الشخصية Multiple personalities أو ازدواج الشخصية Double Personality التى يشاهدها أحيانا فى المسلسلات أو السينما (الأقدم) مع فقد الذاكرة وكلام من هذا، حالة محمد غير ذلك تماما، بل إننا نقدمها لنقول العكس تقريبا، فكل محمد من المحمدين (محمد طربقها – محمد فركشنى – محمد طربقها الجديد – محمد الصغيّر – محمد عبد الله – محمد نفسية) هو هو، وفى حضور الآخرين، دون تعدد بالمعنى الانشقاقى السالف الذكر، ودون تبادل بمعنى استبعاد كل من يوجد فى الخلفية، ودون صراع دينامى ومثل ذلك بالمعنى الغالب فيما يسمى التحليل النفسى.
يبدو أن قبول مبدأ التعدد بكل تشكيلاته ومستوياته هو أساس الإحاطة بماهية الطبيعة البشرية التى لا يمكن إدراك مسارها ومصيرها إلا من خلال مواكبة حركية تواجد هذا التعدد امتدادا للتطور الذى بدأ منذ ملايين السنين وانطلاقا إلى الغيب الواعد الحاضر الغامض الإبداعى مفتوح النهاية.
الوجود البشرى ممثـِّلا للوجود الحيوى، بل ربما امتدادا أيضا للوجود غير الحيوى، هو كيان دائم التفكيك للتخليق، والإيقاع الحيوى على كل المستويات وفى كل الأوقات هو الوسيلة الأساسية فى ذلك.
برغم أننى بدأت عرض الحالة أمِلاً أن نفتح ملف “حالات وأحوال” لأقدم بعض خبرتى من واقع عرض الأعراض النفسمراضية وفن تلاقى الوعى البينشخصى والجمعى وهو مجال نقد النصين البشريين (المريض والمعالج) إلا أننى مع استمرار تقديم هذه الحالة واحدة واحدة، اكتشفت أننا نواجه ما يدعم تطبيقا عمليا للنظرية الإيقاعية التطورية بدءًا من أسسها الجذرية.
بالصدفة البحتة، انشغلتُ هذا الأسبوع فى كتابة أطروحتى السنوية التى أنشرها فى دورية نجيب محفوظ النقدية وكان عنوانها: “حركية الوعى بين الحلم والإبداع (الشعر) والجنون”: دروس من “أحلام فترة النقاهة” وقد وجدت وأنا أجمع المعلومات اللازمة لدعم رأيى الذى تقدمه هذه الأطروحة أننى تناولت هذا الموضوع بإفاضة فى نشرات الإنسان والتطور وخاصة فى ملفات الوعى والحلم والإدراك بل والتفكير، وقد حضرتنى حالة محمد عبد الله أثناء إعدادى أطروحة نقد أحلام النقاهة لمحفوظ بشكل مهم ودال ومفيد، وهذا هو ما جعلنى أتوقف الآن لأبين ما وصلنا إليه من خطوط عامة عريضة أرجو أن تتدعم حين نعود إلى مواصلة تقديم الحالة.
برغم ما سوف يبدو من تكرار محتمل فى الموجز الذى سوف أقدمه حالا إلا أننى أرجو أن يكون فيه تجميع لما ذكرنا لكى نواصل بعد ذلك عرض الحالة وشرحها (وغيرها) وقد ارتبطت المعارف ببعضها بما قد ينير طريقنا أكثر، ويهدينا إلى الخطوات التالية لتحقيق الفائدة المرجوة.
(1) يبدو أن الأصل فى مسيرة النفس البشرية (بل الأحياء جميعا) هو عمليات متواصلة من التفكيك والتخليق طول الوقت.
(2) إن من لا يَتَفَّكك لا يتخلق، بمعنى أنه لابد من أن يكون البدء هو تعتعة أو حلحلة(1)الواحد الصحيح حتى يتمكن من إعادة تشكيله.
(3) إن الله سبحانه قد منح البشر (وغيرهم غالبا، لكننى سوف أقصر حديثى على البشر)، فرصة التفكيك فالتخليق من خلال أهم برنامج فى حركية التطور والنمو وهو “الإيقاع الحيوى”.
(4) إننا نتفكك كل ليلة بانتظام فسيولوجى حتمى، أولا بالنوم، ثم بما يجرى داخل النوم من حركية الأحلام الدورية النابضة المنتظمة وخاصة نوم الريم REM (راجع أيضا حواراتى مع النفرى انطلاقا من موقف الليل وغيره)
(5) إن الذى يسمح باستمرار الإيقاع التفكيكى التخليقى الطبيعى هو النوم الناجح، والحلم المنظِّم بعد الحلحلة القادر على إعادة التنميط Repatterning ثم الصحو القادر على استيعاب ما تم أثناء النوم والحلم، وبهذا تكتمل فاعلية الدورة اليوماوية Circadian كل يوم ولية.
(6) كما أشرنا ابتداء إن “من لا يتفكك لا يتخّلق”، والتفكيك لا يقتصر على مجرد ضمان انتظام حركة الإيقاع الحيوى لكنه يتطلب تنقلات منتظمة غائية بين المكِّونات المُفَكَّكَة مهما تواضعت درجة تفككها حتى لا يتوقف النبض فى حلقه داخل دائرة مكررة منتظمة، وتنقلب حركية الدفع إلى “حركة فى المحل” تعيد نفسها طول الوقت.
(7) إن هذه العملية الطبيعية التى تجرى لكل البشر كل يوم وليلة لا تسمى عادة إبداعا مع أنها كذلك، ولا يُرصد بها نُمّو مع أنها أساس ذلك، فهى تبدو عملية روتينية لا نعطى لها قيمة إلا بما تحتويه من حكى (مثل حكى الأحلام) وأفعال (مثل السعى فى الأرض وأكل العيش) وبالتالى يتضاءل تركيزنا على جدوى ومغزى حركيتها الأساسية فى النبض والنمو والإبداع.
(8) إنه أذ تم التفكيك فى وقت غير وقته، ومحيط غير محيطه، كأن يتم التفكيك الحُلمْى فى وعى اليقظة فإن الحسابات تختلف والاحتمالات تتنوع من أقصى السلبية إلى أقصة الإيجابية (من أقصى الجنون إلى أقصى الإبداع)
(9) إذا لم نعٍ ضرورة وطبيعة استيعاب التفكيك خارج النوم والحلم فسوف نبرمج أساليب التعامل مع أى تفكيك بالخوف فالرفض فالقهر، وإما أن تتجمد حركية الوجود فى اغتراب انحرافى دائم، وإما أن ينغلق نبض الإيقاع داخل الدائرة المغلقة السالفة الذكر.
(10) إذا تم العمل على توفير محيط ومناخ يستوعب درجة معينة من التفكيك فى وعى اليقظة، فإننا نكون على أبواب أزمة نمو واعدة، أو احتمال تخليق إبداع متميز، فهو التخليق بعد التفكيك (وهو ما نواكبه فى حالة محمد عبد الله كمثال).
(11) إذا زادت جرعة التفكيك ابتداءً أو تضاعفت بسوء التناول بالقمع الخائب أو الأعمى، فإنها قد تتمادى إلى التناثر: فهو الجنون لأن التفكيك ينقلب إلى تفسخ أو تناثر، ثم إلى اندمال هامد إذا غلب المآل السلبى.
(12) قد تنشط دفاعات جسيمة حتى المرض فى محاولات لمنع التمادى فى التناثر مثلما يتم “تنكيس” مبنى على وشك الانهيار، أو عمل “قميص مسلح” حول حائط متشقق، وبالرغم من أنها قد تنجح مؤقتا أو دائما إلا أنه لا التنكيس ولا القميص المسلح يعتبران ضمن علاجات التصدع لأى مبنى، تماما كما أن هذه الدفاعات قد تصبح صوراً أخرى من أمراض أخرى لها أسماء أخرى مناسبة لنوع وكم الدفاعات التى ظهرت.
(13) إذا تمادى الخوف من التفكيك ابتداء أو بفعل فاعل (حتى لو كان هذا الفاعل معالجا) توقف التفكيك أو تراجع فامتنع التخليق تبعا لذلك، وحتى إذا نجح الخوف فى تدعيم دفاعات معقولة لا تصل إلى درجة تسمى أمراضا بعينها، فإن المآل البديل هو توقف النمو الطبيعى، ومن ثم يتجمد الشخص عند ما يسمى “اضطرابات الشخصية”.
(14) إنه لكى تتم هذه العمليات فى اتجاهها الطبيعى بدرجة مأمونة، فإنها تحتاج إلى المشاركة من أكثر من فرد يسيرون نفس المسيرة فى الاتجاه النمائى معا، وهذا وحده يقلل من المخاوف من التفكيك ويعطى الفرصة لتخليق وعى ثنائى ثم جمعى داعم، وهذا ما نأمله فى أن يكون ذلك هو دور العلاج الجماعى أو علاج الوسط فى حدود المهنة، كما أنه هو هو ما يمكن أن يكون وراء نجاح ونماء المجتمعات البشرية التى تسلك مسار النمو والإبداع والحضارة، وغالبا هو أيضا ما يجرى على محور التطور الإيجابى، ذلك أن السبيل على المدى الطويل فى الإسهام فى نجاح برامج البقاء الإيجابية التى تحافظ على النوع وسط غابة الأحياء ضد الاغتراب والجشع وفى نفس التوجه.
(15) تدور كل هذه العمليات فى الاتجاه الصحيح ليس بغرض تحقيق إبداع بذاته أو مفهوم صحة نفسية بعينها (نوعية الحياة!!)، وإنما هى أصلُ فى الطبيعة البشرية التى تدعم بكل إيجابيات الإبداع والإيمان والحضارة، والتى تتجلى فى السعى نحو الواحدية المتناغمة مع دوائر الوعى الكونى المتوالية الاتساع إلى المطلق/الغيب/الإبداع: المفتوح النهاية.
(16) يبدو أن قبول التعدد فى حركية المسار، وقبول التفكيك كخطوة ضرورية نحو تحقيق التخليق، يبدو أن هذا وذاك يتدعمان بمزيد مضطرد من التنسيق بين كل مستويات الوعى نحو واحدية قادرة نامية ممتدة.
(17) الواحدية Oneness وهى بعض ما ظهرت ملامحه فى الوجود المحتمل الذى يمثله “محمد دلوقتى” أكثر من أى محمد آخر، وهى مقولة لا تتحقق الآن أبدا لكنها تبدأ الآن حتما، ليصبح السعى إليها نبضا سليما متناوبا بين التفكيك والتخليق: هو تحقيقها الممكن باستمرار.
(18) لا يوجد فى حدود ما نعرف عن الصفات البشرية واحدية ثابتة أو دائمة، وإلا استغنينا عن النوم (وهو ستار التفكك المشروع) وعن الحلم (وهو التفكيك الفسيولوجى النابض الراتب)، وبما أننا مازلنا بشرا ننام ونصحو، نحلم ونحسب، فالله سبحانه “وحده” هو الذى لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الواحد الأحد، هذا ما وصلنى من دينى (ومن كل الأديان غالبا من عمق بذاته)، وعلى ذلك فإن الرحلة من التفكيك إلى التخليق ليست قاصرة على “محمد فركشنى” إلى “محمد دلوقتى” مرورا “بمحمد نفسية” أو احتجاجا على “محمد طربقها”، وإنما هى الإيقاع البشرى النابض لكل البشر، طول الوقت.
(19) نحن ننام لنتفكك (بالأصول الفسيولوجية عبر الإيقاع الحيوى) وقد يقترب هذا التفكك من وعى الصحو فنصنع من بعضه حلما، والمفروض أنه من خلال وظيفة النوم بما فيه من نشاط الحلم: يعاد تنظيم ما تفكك لنصحو أكثر طزاجة وأجهز إبداعا، ومن لا يتفكك ولو فى النوم، لا تتاح له فرصة التخلق ولو تصور نفسه فنانا (لم يحدث: ما حصلشى!!).
(20) مرة أخرى: ذلك أنه أثناء النوم يتحرك فينا ما هو “نحن”، بما فى ذلك مما انطبع فينا، ليس فقط أثناء الصحو فى اليوم السابق أو العمر السابق وإنما فى تاريخ الحياة كلها، ثم نحن نصحو لنبدأ من جديد بما أعيد تنظيمه فى تركيبنا…الخ، (راجع كل ما قيل فى ملف الأحلام ، وأيضا فى الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع ، وأخيرا فى نقدى لأحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ).
وبعد
الآن يمكن القول أنه بالنسبة لمحمد “طربقها” إلى “محمد فركشنى” إلى “محمد دلوقتى” – وكلنا هذا المحمد – كل ما علينا هو أن نقبل هذه المسيرة النابضة اليوماوية من التفكيك إلى التخليق، ونقرّ بها ما أمكن ذلك، ونهيئ لها ما يدعمها فى محيط وعى اليقظة وهو أظهر المجالات الممكن العمل من خلالها، وأن نوفر لها ما لا يجعلها تختفى منا هربا إلى “كما كنت” فنخدع فى الرجوع إلى “المحمد واحداً جامدا” (“محمد طربقها” المغترب) وليس نحو الواحدية النامية المفتوحة النهاية.
هذا علما بأن وحدات التغيير ووحدات الزمن، مع أنها عملية يوماوية دائمة قد لا نستشعرها عادة فى وعينا الظاهر بأى درجة من التميز الفارق، لأنها بالغة الدقة من أجزاء الثوانى إلى أجزاء الذرات.
خاتمة ووعد مغامر
للأمانة، أشعر أننى كنت على وشك الدخول إلى فرض من وحى حوارى مع مولانا النفرى لأتحدث عن علاقة الواحدية بما هو “لا إله إلا الله”، وأن التركيز فى أجزاء الثوانى والاعتراف بأهميتها القصوى قد يفسر لنا كثيرا من مأزق وشطحات من يسلكون الطريق.
لست متأكدا إن كنت سوف أرجع إلى ذلك أم لا، دعوا “محمدا” يهدينا إلى ما يمكن.
[1] – استعمل كلمة تعتعه منذ بدأت الكتابة فى المجلات والصحف للشخص العادى، وقد استعرت هذا التعبير من “الحسن بن هانى” (أبى نواس) حين قال “وما الغرْم إلا أن ترانِىَ صاحيا * وما الغنمُ إلا أن تُتَعْتنى الخمر”، فقلت على منواله: “وما الغرّم إلا أن ترانىِ ساكنا * وما الغنُم إلا أن يتعتنى الرأى”،وحين بحثت الآن عن أصل كلمة “تعتعة“: وجدت بها شيئًا من العنف: تعتع الباب: حرّكةُ بعنف وشده، تعتع الشئ: قلقله وحركه بعنف، وحين حضرتنى كلمة “حلحلة” دون قصد، وبحثت عنها وجدت بها درجة أخف من التعتعة، حلحل: حلحل الشئ أزاله من موقعه: حرّكه، ومع أننى ارتحت لها أكثر، إلا اننى سوف استمر فى تفضيل استعمال كلمة “تعتعة”، فحالنا لم تعد تحتاج لطفا فى التحريك.