نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 8-11-2015
السنة التاسعة
العدد: 2991
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (6)
تابع: بُعْد الزمن (3)
مزيد من الرجوع إلى أصل الفروض
مقدمة:
انطلاقا من ممارستى مهنتى مع أصدقائى وأساتذتى المرضى الذين تجرأوا فكسروا جدار الوقت واندفعوا إلى رحابة الزمن، لكنهم تاهو عن المضىّ قـُدُمـًا أو العودة سالمين، بدأ بحثى استطلاعاً ومعايشة لما هو “زمن”، فتداخل ذلك مع ممارستى للنقد الأدبى، كذلك امتد إلى التنظير فى عملية الإبداع ذاتها، وعلاقاتها بحركية الزمن، وتحديات الحرية، وموازاة هذا وذاك بالحلم الأعمق، فرأيت أن أواصل فى هذه النشرة تقديم مزيد من مقتطفات من بعض ذلك(1):
أولاً:
فى دراسة باكرة عن “جدلية الجنون والإبداع” (1986)(2)ربطت بين الزمن والحرية واللحظة كما يلى:
“….إن الواحدية الحقيقية – فى حالة الصحة- لاتكون حاضرة حضورا يسمح بالحديث عن الاختيار إلا إذا ركزنا فعل الحرية فى لحظة بذاتها، فاللحظة هى التى تحدد الذات لتكون كيانا واحدا مفردا شاعرا فاعلا، وفى حالات الجنون والحلم والشعرنتأكد أن الزمن هو نفسه، اختيار: حين تحضر فى الوعى أزمنة كثيرة فى آن، ويمكن للمجنون أو الحالم أو الشاعر أن يتحرك بينها بشكل أو بآخر، يتحرك بعشوائية تامة فى الجنون، وبعشوائية مرحليه نسبية فى توليف الحلم، فى حين يتحرك بحرية منشِئة فى الإبداع.
وأعنى بالإبداع هنا ما هو معروف عنه، كما أعنى أيضا إبداع الذات سواء بإعادة الولادة كل ليلة(3) (نتيجة حيوية نشاط الحلم فى أطوار النوم المختلفة ( …الحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور)(4)، فنحن نتخلق بالزمن، وفى الزمن ومن الزمن، فنتجدد كدحا إلى وجهه فى النوم، أو نبدع بكل ما وهبنا من وعى وحركية وأدوات ومهارات فى اليقظة.
ثم استأذن الدكتور السامرائى أن يدعمى اليوم أيضا بأن يسمح باقتطاف من نفس قصيدته التى اقتطفت منها أمس، هذا البيت من الشعر:
“….الزمن قيد اخترعناه، وباب ولجناه، وخيال إستكناه وتناجد إصطنعناه، وهو طاقة مدوية سارية تعتمل فينا، وتأخذنا إلى حيث يتحقق سؤال النوايا والغايات، وليقينا فى ميادين تحرر الطاقات من الطاقات، وولادة الأحياء من الأحياء والأحياء من الأموات، ويمنعنا من وعى الآفات الكونية، التى لا تشبع من إفتراص الأكوان والتجليات!!”
وفى نقدى لأحلام نقاهة محفوظ اكتشفتُ كيف أن هذه المادة المتدفقة التى أتحفنا بها محفوظ فى هذا العمل، ظلت محتفظة بتلك الواحدية الضامة، وسط كل هذا التناثر الظاهرى، وهذا إعجاز أعتقد أنه خاص بهذا النوع من الإبداع فى النثر خاصة، (وهو وارد فى الشعر الأحدث بشكل أكثر تواتراً).
ثانياً:
ورد أيضا فى نفس أطروحتى عن “الإبداع والحرية” ما يلى:
“…حين تحدثنا عن الزمن خيل إلينا تحقيق قدر من استيعاب أبعاده من خلال كل من “النسبية”، والتعامل معه باعتباره “مكانا” يـُرتاد، …. وبما أننا بيّنا كيف أن: “الحرية هى إرادة “توجه حركية الوجود..” إلخ، فإن طبيعة المكان ومساحته وساحته وسماحه لابد أن تساهم فى تشكيل هذه الحركية، التى تجرى فى عملية الإبداع داخل الذات أساسا، دون الانفصال عن الواقع الخارجى أو إهماله، بل إن الذات المبدعة تصبح الساحة الممثِّلة لكل من هذا الواقع والذات فى آن.
……….
وحين ينقلب الزمن إلى مكان لا يتصف بصفات المكانية الجغرافية وإنما يصبح أقرب إلى الزمن حالة كونه حركية تشكل لنا مجالا أوسع فأوسع إلى ما لا نعرف، ويمكن أن نحاول أن نتعرف على بعض معالمه من اجتهادى السابق التالى:
ثالثاً:
الزمن حينئذاك (فى حالة الإبداع) يكون غالبا:
- مُحكما، وفى نفس الوقت ذا نفاذية كافية.
- مُمتدا وفى نفس الوقت محدودا فى لحظة بذاتها.
- مَرنا وفى نفس الوقت مستقل النبض منتظمه.
- حاويا لوفرة كافية من المعلومات والموضوعات والذوات والأزمنة، وفى نفس الوقت غير مزدحم.
- ذَا مسافات متغيرة متقاربة بين مفردات محتواه، وفى نفس الوقت غير متلاصقة.
- …. مشروعا متواصل التكوين: اتساعا وتنظيما وحركية وتبادلية.
برغم أننى فوجئت الآن وأنا أقرأ هذا التحديد اللا تحديد إلا أننى فرحت بما كتبتُ، ولم أجد عندى رغبة فى – ولا قدرة على – مزيد من الشرح، فأمِلْتُ أن أجد مع التمادى فى نشاطى النقدى فى نقد النص البشرى والنص الأدبى أن أجد ما يوضح الأمر أكثر:
خلال نقدى لأحلام نقاهة محفوظ حين عنونت دراستى بعنوان دال هو “حركية الزمن، وإحياء اللحظة فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ “، فى أحلام نقاهة نجيب محفوظ (5)، وجدت أننى استطعت أكثر أن أستبين مزيدا من معالم هذه اللحظة من خلال إعادة إبداع، هذا الإبداع الحلمى الشعرى المكثف: ناقدا، فأورد ما يلى عن برق حضور اللحظات فى أحلام النقاهة:
رابعاً:
1- هى اللحظة المنيرة بالانتباه (خذ فكرة هزيلة، واحصرها فى لحظة تجدها تنير كل الفكر).
2- هى اللحظة الفعل الآنى: الفعل الخاطف الحاضر، (ولا شيء يدوم سوى الكسل).
3- هى اللحظة المرهَفَة.
4- هى اللحظة البدء (حين يتحول الانتباه إلى قرار- حيث تتلاقى بداهة المفاجأة وفرحة الفعل)(6)
5- هى اللحظة الطرافة، حيث الجدّة آنية دائما.(7)
6- هى اللحظة الخلاّقة.
7- هى اللحظة الشجاعة.
8- هى اللحظة التى يختلف تسجيل الأحداث فيها على واقعنا البيولوجى باختلاف مستوى إدراكها دون تنافر”
ومع قبول حقيقة تعدد المستويات الكيانية للتركيب البشرى (والمخى على وجه الخصوص) فإننا نفترض تسجيل نفس الحدث على أكثر من مستوى، وبالتالى وجود أكثر من زمن واحد فى تجمع نشط متنوع يختلف مع سرعة الانتقال بين المستويات بشكل أو بآخر، دون التخلى عن ما انتقلنا منه إلى ما انتقلنا إليه، وفى لحظات الإبداع الفائق تجتمع الأزمنة فى واحديّة خلاقة.
وبعد
هل ينبغى علىّ أن أعتذر ؟
أم أن أفرح؟
لكن دعونى أختم هذه المراجعات السريعة بكلمة لعلها تجمع ما أردت فى حالة الإبداع موضوع الأطروحة، وأن أسمح لنفسى بالقياس وتطبيق كل ما ذكرت على الإبداع الذاتى لكل الناس من خلال حركية نبض الأحلام حيث افترضت أن كل ما ذهبت إليه ينطبق على إبداع الشخص العادى: فأعيد قولا سابقا أيضا كما يلى:
خامساً:
الزمن هو رحلة (إرادية/ واعية فى حالة الإبداع المعلن، وغير ذلك فى كل عمليات الإبداع) رحلة بين مستويات وعى أكثر منها رحلة بين أحداث، مستويات تُزار وتعاوَد مشاركة حيث هى (كما هى بمختلف التسميات)
إن إبطاء إيقاع هذه الرحلة بوعى جسور، يسمح بمعايشة عمق الخبرة فى تفاصيلها المتشكــلـة، وهذا هو أهم صفات الإبداع، حيث يتيح للمبدع أن يغوص فيما يسمى جزء من الثانية فأقل، بالسرعة التى يريدها، فيخرج منها – إن خرج (!) – بالصحوة التى يبلغها، ومن بعض ذلك أغلب أحلام “فترة النقاهة” لمحفوظ ، وأغلب قصيدة السامرائى.
[1] – مع تعديلات طفيفة جدا ثم تحديث لاحق ببنط آخر.
[2] – يحيى الرخاوى، مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع، يوليو، اغسطس، سبتمبر 1986 ص(30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، ونشرت فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” المجلس الأعلى للثقافة، 2007.
[3] – انظر ملف الأحلام.
[4] – يمكن الرجوع إلى تداعياتى على “موقف الليل” لمولانا النفرى نشرات: 5-9-2015 ، 12-9-2015، 19-9-2015 ، 26-9-2015
[5] – “حركية الزمن، “وإحياء اللحظة” فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ”، دورية نجيب محفوظ (التاريخ والزمن “قراءات فى الزمن”)، العدد الثالث – ديسمبر 2010، المجلس الأعلى للثقافة
[6] – (حتى خلايا الوراثة لا تحمل معها شيئا آخر غير بداية لإنجاز خلوى).
[7] – إن أهم القوى هى السذاجة.