نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 1-11-2015
السنة التاسعة
العدد: 2984
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة (4)
الفرق بين “الزمن” و”الوقت” (2)
بُعْد “الزمن” وفن الطب
دروس من أبقراط
أنهيت فى نشرة أمس بما يلى:
“…..حيث حركية الزمن تكاد تكون واحدة فى هذه الخبرات الثلاث (إبداع الحلم، والإبداع الفائق، والإبداع المـُجـْهض = الجنون) مع اختلاف الناتج والمآل”.
حين راجعت هذه الجملة أشفقت على زملائى الأصغر، مع أننى أصبحت أعتبر هذا الذى انهيت به نشرة أمس من البديهيات التى يتحتم على أى ممارس يتصدى لمعايشة حركية الوعى فى المرض إلى الصحة أن يلم بها.
ليس معنى أن أفصل “بُعْد الوقت” عن “بُعْد الزمن” أن ألغى أهمية قياس وفحص ما هو “وقت” وخاصة فى توظيفه للعلاقة بالواقع، والعلاقة بالآخر، وهما عمودان أساسيان فى إرساء دعائم الصحة النفسية والحياة السوية، وحين نصل إلى وصف الاضطرابات سوف نجد أن رصد وتحديد اضطرابات الوقت: عند المرضى أسهل وأوضح وربما أكثر فائدة فى النهوض بهم من وهدة المرض، أما اضطرابات الزمن فأتوقع أن أواجه صعوبة فى عرض الاضطرابات المتعلقة بها وأن تلقى صعوبة أكثر عند محاولة وصفها تحديدا لرصدها ثم التعامل معها.
ماهية الزمن وحركية الوعى:
نظراً لأن ما وصلنى عن الزمن كان أقرب إلى حركية الوعى بمستوياته المختلفة سواء فى زخم الإبداع، أم توليف الأحلام، أم تناثر الجنون، وذلك من واقع خبرتى الإكلينيكية ونشاطى النقدى المتوازى فى نقد النص الأدبى مع نقد النص البشرى ، فقد وجدت أن أقدم مفهومى عن الزمن من مقتطفات من النقد الأدبى أولا: لأنها أكثر وضوحا ومباشرة، لعلها تتيح فهما موازيا ولو بالقياس لما أعنيه بنقد النص البشرى الذى هو مفتاح التعرّف على حركية الوعى فى المرض خاصة.
وبالرغم من احتمال التكرار أرجو أن يكون فيما اخترت من مقتطفات من نصوص نقدية سبيلا إلى تقديم مفهوم الزمن كحركية نابضة، وأيضا فى تسهيل تصوره مكانا متغيّرا متنقلا، أعتقد أن الإلمام بطبيعته يعطى للممارس المعالج مجالا للمشاركة فى إعادة التشكيل حيث أننى أفترض ابتداء أنه إذا استطاع الطبيب أن يستوعب من خلال الممارسة أولا (متضمنة الإشراف والتدريب) حركية الزمن، كما أحاول أن أقدمها وهى فى هذا المفترق بين هذه الظاهرات الثلاث، فإنه من خلال فن النقد العلاجى (متضمنا تنشيط حركية الوعى البينشخصى، والوعى الجمعى) يصبح أقدر على استيعاب احتمال الانتقال من إجهاض الإبداع إلى تشكيل الحلم، ومن السماح بتشكيل الحلم تلقائيا، إلى إبداع الذات فى نقلة نوعية محتملة.
الطب فن أكثر منه علما منذ أبو الطب: أبقراط
وقبل أن نواصل عرض المقتطفات دعونا نستمع لأبى الطب “أبقراط” وهو يصنف الطب فنا، ويحذر من البدء أو الاستسلام للتنظير قبل الممارسة، أو أن يكون وصيا عليها، وهو أيضا ينبهنا إلى معنى جديد لما هو الوقت، وفن التوقيت، ولا أعرف كيف نسى معظم الأطباء كل هذا الإبداع النقدى من أبى الطب، كله يقول أبقراط:
أولاً : “الوقت” هو حيث توجد الفرصة،
والفرصة تلوح حين لا يكون هناك وقت كاف،
(ثم يردف) وحين يتبين الطبيب ذلك عليه أن ينتبه ليس إلى النظريات الجاهزة المُحْكمة، وإنما إلى الخبرة متزاوجة مع المنطق السليم، ذلك لأن النظرية هى منظومة نتذكرها مما وصلنا عبر الإدراك الحسى أساسا”. (1)
فنلاحظ هنا أنه عرّف الوقت ليس بالساعة وإنما بعلاقته مع الفرصة المناسبة، كما أنه نبّه إلى عكس ما توصى به الإغارة الدوانية الأحدث وخاصة ما يسمى “الطب النفسى الترجمى” Translational Psychiatry الذى يفرض أن يكون البدء من المعمل إلى السرير أو من المكتب إلى السرير(2) مما يجعل الطب أداة تطبيقية لمعلومات جزئية متباعدة لم تتعدّ مرحلة الفروض على الأرجح .
كذلك نلاحظ كيف جعل أبقراط المنطق السليم الحالى (امبريقيا) هو الأكثر مصداقية عن النظريات التى تُفرض من خارج الممارسة ومن خارج ثقافة المريض قهرا.
ثانياً : يقول أبقراط أيضا:
“إن الاستنتاجات ليست سوى مقولات لفظية غير مثمرة، اللهم إلا تلك التى هى مبنية على حقائق ماثلة (الآن)، إن التأكيد بالكلام يحتمل التأويل والخداع، ولذلك علينا أن نتمسك بالحقائق فى ذاتها بصفة عامة، وأن نشغل أنفسنا بهذه الحقائق إذا كان هدفنا أن نكتسب العادة (المهارة) اليقينية المسماة ” فن الطب”(3)
فنلاحظ كيف أنه نبه إلى تواضع التواصل بالكلمات، وهامشية التأويل اللهم إذا كانت تفيد المعادل الموضوعى(4) للتعبير (التواصلى) وقد راجعت ما أدعو إليه من أن يكون البدء من الممارسة من واقع ثقافة المريض العامة والفرعية، وهذا هو أقرب ما وصلنى من استعمال أبقراط تعبير “الحقائق”.
وأخيراً فإن حذق “فن الطب” (وليس تطبيقات معلومات العلوم الوصية على الطب) ليس إلا بشحذ مهارة الطبيب بالاشراف والمتابعة وتنمية الخبرة الإكلينيكية ليمارس ما أسماه أبقراط دون تردد “فن الطب”.
ثالثاً: وليس أخيرا، يقول أبقراط أيضا:
“الحياة قصيرة، والفن ممتد، والفرصة هرابة، والحكم على الأمور صعب، والخبرة مخاطرة مراوِغة”.(5)
وهذا القول هو ما صدَّرت به موقعى الالكترونى المتواضع منذ ظهوره، وأنا لم أستعره من أبقراط مباشرة، بل التقطته من كتاب عن الغدد الصماء ألفه استاذنا بول غليونجى، وكنت أدرس منه وأنا أحضّر لتخصص دبلوم الأمراض الباطنية، وظللت أسترشد به فى معظم ممارستى بعد أن تخصصت فى “فن الطب النفسى”، وكلما تقدم بى العمر شعرت أكثر كم هى قصيرة “الحياة”، وكم هى هرّابة الفُرَص، برغم حرصى على ألا تفوتنى فرصة واحدة حتى أحقق قوله السابق أن “الوقت هو حيث توجد الفرصة”، وأيضا أتبين أكثر فأكثر أننى كلما ازددت معرفة خجلت من إصدار حكما على غيرى،
وأخيرا أفرح أننى أمارس فنّا إبداعيا كل لحظة مع مرضاى كما وصفه أبو مهنتى منذ أكثر من عشرين قرنا.
وبعد
انتهت منى نشرة اليوم حين حلّ أبقراط ضيفا يؤكد لنا طبيعة هذا الذى نمارسه إبداعا ونقدا، وهو “فن الطب”، فشعرت أنه يدعم موقفى ومصادرى، وأنه يؤيد أن أقتطف من اجتهاداتى فى نقد النص الأدبى ما يعيننى على نقد النص البشرى لعل صعوبة الإحاطة بما هو “زمن” تخف قليلا.
وهذا ما سنواصله الأسبوع القادم.
[1] – Time is that wherein there is opportunity, and opportunity is that wherein there is no great time. Healing is a matter of time, but it is sometimes also a matter of opportunity. However, knowing this, one must attend to medical practice not primarily to plausible theories, but to experience combined with reason. For a theory is a composite memory of things apprehended with sense perception.
[2] – From desk to bed-side.
[3] – Conclusions which are merely verbal cannot bear fruit, only those do which are based on demonstrated fact. For affirmation and talk are deceptive and treacherous. Wherefore one must hold fast to facts in generalizations also, and occupy oneself with facts persistently, if one is to acquire that ready and infallible habit which we call “the art of medicine.”
[4] – استعرت هذا المصطلح “المعادل الموضوعى” من النقد الأدبى حيث يفيد أن يحتوى النص ما يريد توصيله بأكبر قدر من البلاغة الموضوعية.
[5] – Life is short, and Art long; the crisis fleeting; experience perilous) deceitful (, and decision difficult.