نشرة”الإنسان والتطور”
16-12-2010
السنة الرابعة
العدد: 1203
الحلقة الرابعة والخمسون
الأحد: 30/4/1995
نوفوتيل سفينكس
فندق جديد والاستاذ فرحان
استقبال طيب، النزلاء قلة، الصالة فسيحة، الدنيا بخير، حضر الأستاذ وكنت فى استقباله، كما حضر محمد يحيى، فى نفس الوقت، د. سعاد، د. منال فى الانتظار، بدأت أرى فى د. منال شيئا مصريا طيبا، سمراء، لم يطغ أى من عقلها أو علمها على أنوثتها أو مصريتها، حضر مصطفى أبو النصر وزكى سالم، وكان نعيم صبرى هو الذى صحب الأستاذ حتى الفندق.
فجأة وجدنا أنفسنا فى حديث عن الإبداع وحتم وجود جرعة من الحرية تسمح بالجديد والصريح، ويُبدى مصطفى أبو النصر عدة ملاحظات أهمها أن روسيا لم تنتج أدبا ذا بال منذ قيام الثورة 1917 حتى انهيار الاتحاد السوفيتى، ولم يكن هناك غير شولوخوف الذى لم يفعل شيئا إلا تقليد تولستوى، وحكى أبو النصرقصة قصيرة لتولستوى، وقال إن المغزى هو كذا، وكيت، ثم حكى قصة أخرى وقال إنها بلا مغزى ولا تفيد شيئا، والأستاذ يهز رأسه، وهنا سألت الأستاذ هل يحق للناقد أن يتساءل عن مغزى عمل ما هكذا؟ إننى أحسب أن العمل ذا المغزى، أو على الأقل ذا المغزى الواضح، ليس عملا جيدا، وافقنى الأستاذ وكان قد سبق أن قال لى فى إحدى جلسات الحرافيش ونحن نتكلم عن الاقتباس وما إلى ذلك أن المسألة ليست فى الفكرة، وإنما فى تناول الفكرة، وأن كل الأفكار التى يمكن أن تدور حولها الأعمال الروائية مثلا هى بضعة أفكار محدودة، ثم يدورها ويشكلها الإبداع بأدواته وتنويعاة بما يجعله إبداعا، ثم إن النقاد يسيئون للعمل وللكاتب حين يركزون على المغزى، إن المسألة كلها فى كيفية التناول، كيف يقول الكاتب ما يقول وهو يتناول نفس الفكرة، فمثلا خذ عندك شكسبير: فى “عطيل”، ماذا يريد أن يقول، أو ماذا يمكن أن يقول، إنه يقول إن “الغيرة مهلكة”، وهل هذا يحتاج إلى كل هذا الشعر وهذه المسرحة حتى يقولها، إن أى بائع بطاطا او منادى سيارات إذا سئل عن الغيرة أو حتى دون أن يسأل يمكن أن يقولها ببساطة هكذا: إن الغيرة مهلكة، أما كيف قالها شكسبير، وكيف يقولها غيره: هذا هو الإبداع.
قلت للأستاذ إن الناقد أحيانا ما يبالغ فى البحث عن المغزى ليس فقط بالنسبة للعمل الواحد، قصة قصيرة مثلا أو رواية بذاتها، وإنما بالنسبة لأعمال الكاتب كلها، فزعم غالى شكرى مثلا أن مغزى أعمال نجيب محفوظ هو الانتماء لفكر بذاته، أو اتجاه سياسى أو أيديولوجى بذاته، هو الذى دفعه أن يكتب هذا الكتاب الذى أسماه “المنتمى”، ولقد تحفظت على هذا الكتاب بنفس القدر الذى تحفظت به على كتاب الرد عليه الذى كتبه د. محمد حسن عبد الله، أظن تحت إسم: الروحانية والإيمانية (أو الإسلامية)، لا أذكر، قال الأستاذ: عندك حق ولكن غالى شكرى كان يدافع عن كاتب ظن أن موقفه غير واضح وأنه من الأصلح له أن يتضح، فراح يثبت لنفسه، وللناس وللسلطة، أن هذا الشخص اشتراكى، وكأنه يسدى له جميلا، ثم أضاف الأستاذ: وهل هذه ميزة أن يكون الشخص اشتراكي؟ إن الاشتراكى اشتراكى سواء كتب أو لم يكتب، إن شخصا اشتراكيا أمضى فى السجن يوما واحد لهو أعظم وأهم (بمقياس اشتراكى) من كاتب كنت عشرة روايات اشتراكية وهو جالس يشرب الويسكى ويدخن سيجاره من التبغ الفاخر، إن مقياس الإبداع لابد أن يكون بما هو، وليس بمغزاه، قلت له: ولكنك بطبعك المجامل جعلت الناس يتصورون أنك موافق على هذا التصنيف الاشتراكى، ولما ظهر كتاب د. محمد حسن عبد الله كتب فى مقدمته أنك موافق أيضا على كل ما جاء فيه (لاحظ “كل” هذه)، وأنا أعرف أنك موافق على حسن النية وصدق الاجتهاد، أما أن تأتى موافقتك هكذا على الشيء ونقيضه فهذا ما يحتاج إلى شرح خاص للقاريء المتابع، ولمحبيك خاصة.
قال: إننى لا أوافق على تفاصيل المحتوى، ولكننى أوافق على تعدد وجهات النظر، فالأول كان نقدا متحيزا من وجهة نظر صاحبه، وهو لايلزم الكاتب، ولا يعلن القول الفصل فى أعماله، أما الثانى فهو يكاد يكون كتابا سياسيا أو عقائديا، يقدم فيه وجهة نظر محددة أيضا فى شخص الكاتب، ويدعمها بإنتاجه، قلت فى نفسي: “ولو”
ثم عرج الحديث إلى أولاد حارتنا من جديد، وقلت للأستاذ رأيى للمرة الكذا، وأننى بعد أن قرأت ثلثها.. مثلا، رحت أنتظر الأحداث هى هى كما أعرفها، اللهم إلا فى الجزء الأخير من الرواية، وهو الجزء الخاص بموقف “عرفة” حتى هذا الجزء لم يكن جديدا بالنسبة إلى.
قال الاستاذ: ربما، فهذه الرواية قد تعتبر من نوع الأليجورى الــ Allegoryوليست رمزا، ولو أنه تم نقاش موضوعى حولها، أو حتى لو أن مجمع البحوث الإسلامية أو دار الافتاء، أو أى جهة رسمية دينية ناقشتنى فيها، لكنت أوضحت الأمر من ناحية، واستفدت شخصيا من ناحية أخرى، لكنهم ضربوا لى موعدا، ولم يحضروا، قلت له: لقد سبق أن قلت أنك كنت منتظرا، قال: منتظرا ماذا، أنا كنت أعمل فى وزارة الأوقاف فى نفس المبنى، ولم يحضر أحد، قلت له: إنه قد تجاوز هذا اللأليجورى فى الحرافيش التى هى درة أعماله، ثم إنى لم أجد ترجمة جيدة لهذه. الكلمة Allgory قال عندك حق، إنهم يترجمونها إلى أمثولة، قلت له هذه اللفظة ثقيلة علىّ، وهى لاتبلغنى ما تلوّح به، ولا ترضينى، قال: ولا أنا.
وانتقل الحديث إلى بعض الأفلام وبعض الممثلين وأسامة الباز ونبيلة عبيد، وفيلم قامت بتمثيله، وفجأة اتجه الأستاذ إلىّ وقال: عارف حكاية “المغزى” التى تعتبرها نقصا فى النقد هكذا، لقد عملت أنا ومصطفى (أبو النصر) فى مصلحة كانت وظيفتنا فيها أن نبحث عن مغزى العمل، فإن لم نجد له مغزى، أو وجدنا له مغزى ليس هو، رفضنا، هذه كانت مهمتنا فى الرقابة، كنا ملزمين ببنود محددة لابد من استيفانها، وقد حوكم مصطفى وحكم عليه بالخصم خمسة عشر يوما لأنه أجاز عملا أو شارك فى إجازة عمل رغم عدم وفائه ببعض أو كل هذه الشروط، وحكى مصطفى أبو النصر حكاية المحاكمة، وقال الأستاذ إن هذه البنود هى كلمات وتوجيهات عامة… وأن الذى يحدد تطبيقها هو الجو العام وموقف الرقيب، خذ مثلا: “الحفاظ على القيم العامة”، عدم مهاجمة الأديان، كل ذلك يقاس بالسائد العام، عدم مهاجمة فئة مهنية بذاتها،… إلخ.
قلت له: إننى حين كنت فى لجنة التربية وعلم النفس فى المجلس الأعلى للثقافة قال لى أستاذ جامعى فى كلية التربية تعقيبا على حادثة الأستاذ، إن نجيب محفوظ تجاوز الحدود حتى فى الثلاثية، وحين سألته منزعجا وماذا فى الثلاثية؟ حتى الثلاثية!!؟ قال لا يصح لكاتب مسلم أن يهز صورة الوالد (السيد احمد عبد الجواد) ضحك الأستاذ دهشة وربما ألما (لست متأكدا)، وقال كنت أحسبه أنه سيعترض على “جليلة” العالمة أو “زنوبة”، وإذا به يعترض على الوالد شخصيا! ياخبر!!
وانتقل الحديث إلى أن الكتابة اليوم لاتتناول ما كانت تتناوله سابقا، ولم يعد أحد يمكن أن يظهر ضابط الشرطة مثلما ظهر فى بداية ونهاية مثلا، ولم يوافق أغلب الحضور على ذلك ومنهم توفيق صالح.
وقلت للأستاذ: تعقيبا على أن الجو العام، والموظف المتمثل له، هو الذى يتحكم فى ماذا ينشر وماذا يحـجب، وأن أخشى ما أخشاه – كما تناقشنا سابقا – أن الحكم المسمى بالإسلامى سوف يقطع الماء والنور عن المبدعين، أليس هذا هو جو “الحلال والحرام” بالمقاييس الجامدة التى يلتزم بها من يريدون أن يلوا أمرنا؟
قال الأستاذ: انها لا تعدو أن تكون أحدى موجات تهب على الإبداع بين الحين والحين، ولابد أنها ستنحسر، لا شيء يبقى على حال، والحركة مستمرة ما دامت الحياة، خذ عندك عمر بن الخطاب كان محكما (ناقدا) للشعر فى سوق عكاظ، فلما ولى الأمر فى الإسلام عاقب شاعرا لأنه قال كلاما لا يليق، وقال له ما معناه هذا كان زمان يا عم أنت، لكن الحركة لم تتوقف على مر السنين
مازال الأستاذ يتقدمنا شجاعة وإصرارا وثقة بكسب الجولة الأخيرة للحرية والإبداع، أو على الأقل الجولة التالية فالتالية بلا نهاية.
الثلاثاء: 2/5/1995
مررت على الأستاذ أولا بالمنزل، كان عنده زائرون، أ.د. فاطمة موسى (غالبا)، ومعها رئيس نادى القلم الألمانى، ومترجمة ( إبنة عبد العظيم أنيس على ما أذكر)، إلخ، قابلت محمد إبنى على الباب، كان الأستاذ مطمئنا أنهم سينصرفون فى تمام الساعة السادسة، حرصه على ميعاد الخروج المنتظم أكثر من حرصه على مقابلة كائنا من كائن، تأخروا كثيرا فى فتح الباب، هذه عادة تحتاج إلى وقفة، لن أقفها أبدا، هذا بيت كريم، وأسرة مصرية منضبطة طيبة، محافظة نسبيا، وهولم يأذن لى بغير ذلك، وهو يكفى وزيادة.
ثم هيا: إلى فرح بوت، بدأ الحديث حول الغيطانى ومقاله فى أخبار الأدب، وعن زياراته المتكررة إلى مراكش ثم مدينة السبع رجال(1)، وأشهرهم عندنا هو سيدى محمد بن سليمان الجزولى، صاحب النص الصوفى “دلائل الخيرات”، وأن سى جعفر الكنسوسى (خريج السوربون)، وحبيب سمرقندى (بجامعة تولوز)، ومحمد اليمانى أستاذ الكيمياء فى فرنسا، وعدد من شباب الحومة، بدأوا تنظيم نشاط ثقافى منتظم، (المناسبة: إحياء ذكرى العارف بالله أبو العباس السبتى عاش بين القرنين الخامس والساذس الهجرى)،
وقلت له إن الغيطانى قد أثار فى مقاله نقطة قد سبق أن تناقشنا فيها من قبل، وهى مدى إسهام التصوف فى حل الإشكال المعاصر من جهة، وفى تمييز هويتنا من جهة أخري؟، ولم يزد الأستاذ عما ذكره قبلا، وأضاف مزيدا من التحفظ على الحلول الفردية، لكننى كررت أن التصوف ليس حلا فرديا بالضرورة، قد يكون جهادا فرديا، وقد يبدأ من تنمية الوعى الفردى، لكن هذا وذاك لا بد أن يصب فى المجموع دون أى احتمال عزلة أو لغة خاصة، وصلنى وكأن قد قال: “يا ليت!!” ، هكذا سمعتها غصبا لأرضى نفسى، ولأكمل موجها كلامى إلى حسن ناصر: إننى أتصور أن التقاليد اليابانية المحكمة هى التى جعلت اليابان تجرؤ أن تأخذ كل إنجازات الغرب دون أن تتنازل عن هويتها، وهذه التقاليد هى منظومة من السلوك الأخلاقى، والموقف الداخلى الفردى فالعام، وهذين البعدين هما ما يميز ما أسميه بالتصوف الذى ليس بالضرورة أن يقترن بالدين هكذا كما ألفنا فى صياغته وتقديمه، ووافقنى حسن ناصر لا أدرى مجاملة أم حقيقة، وهنا قفز محمد يحيى مُشِهدَا الأستاذ والحضور كيف أستعمل أنا الألفاظ استعمالا خاصا، بل ومتغيرا ومتعددا، من أول لفظ الإسلام حتى التصوف مارا بالحرية، بما يجعل السامع فى حيرة لا يملك أن يمسك بلفظ بذاته له مضمون محدد ثابت يحاسبنى على أساسه ومن خلاله.
وأعود إلى مقال الغيطانى وكيف أنهم كانوا يتحدثون عنه (عن الغيطانى) بلقب: “مؤلف التجليات” وأن الشيخ محمد سلطين (محور الجلسة وركنها المضىء)..قد جاء فى اليوم الأخير محفوفا بمريديه وكان أحد بواعث خروجه رؤية صاحب “كتاب التجليات”،.. إلى أن قال: وقد وقع لدى من مهابته ونورانيته ما ملأنى أنسا ومسرة، وقد أمضيت ساعات جاثيا، ماثلا أمامه مصغيا إلى فيضه، وللأسف كان ما يقوله يذهب فى الهواء، لو سجلته، أو لزمته، لطفت حوله، كما فعل حفيد ذى النون الذى كان يدون ما يقوله جده، ومثل هذا هل ما أوصل إلينا كتاب المواقف والمخاطبات.
قلت للأستاذ إن تجليات الغيطانى عمل متميز، وقد بدأت دراسة نقدية عنها، وخاصة فى صور حضور “الأب” فيها من أولها لآخرها ذلك لأننى شعرت بأن جرعة “الأب” عند الغيطانى جرعة حاضرة طول الوقت، بل وجاثمة أحيانا، وهو يتنقل بين التقديس والاتباع والانبهار والانجذاب بشكل يحتاج إلى تقصى، ولكن جرعة ” الحاجة إلى الأب ” كما وصلتنى شطحت حتى فسدت فى قرب نهاية العمل، فقد كنت أحترم والد الغيطانى الحقيقى كما صوّره فى التجليات حتى لأسمع صوت قبقابه على بلاط الشارع وهو ذاهب لصلاة الفجر، ثم تحملت أبوة عبد الناصر على مضض، فمهما اختلفنا حوله، فقد قام بدور الأب بالقدر الذى سمحت به طفولتنا واعتماديتنا، بل إننى أعتقد أنه قام بدور الأب أكثر من السادات، فرغم أن السادات كان يردد مسألة ” أخلاق القرية”، ورب العائلة وما إلى ذلك، فإن رحرحته وطفولته كانتا بادية لدرجة أن الناس كانوا يضحكون معه، وقد يثقون فيه أكثر من اعتمادهم عليه وتقديسه، فى حين أن أبوة عبد الناصر كانت وصية ومانحة من فوق، ولا أنسى ما أثارته فىّ خطبة لعبد الناصر ألقاها فى بورسعيد على ما أذكر فى أوائل الستينات حين أخذ يمن علينا أنه: عايزين منى إيه، أنا عايز أوظفكم وأجوزكم وأسكنكم، مش كفاية؟، أما السادات فقد كان فلاحا يعرف حدود أبوته ومقدرته، وقد عذرت الغيطانى وهو يمجد الأب عبد الناصر، أما أن يصل الأمر إلى تمجيد قاتل السادات الإسلامبولى حتى يتراءى له بطلا مثل عبد الناصر، أو متداخلا مع عبد الناصر أو متبادلا مع حضوره فى التجليات، فهذا ما لم أستطع عليه صبرا، ومع ذلك فالتجليات عمل – فى نظرى – شديد التكثيف بالغ الإتقان، قال الأستاذ: إنه أعجبه جدا، وهنا نكشتَ زكى سالم وأنا أتابع تعبيرات وجهه المعترضة على مديح التجليات، وقلت للأستاذ إن زكى عنده ما يقول، يبدو أنه غير موافق، قال زكى: أنا لم أجد فيها هذا التكثيف الذى تقول عنه، بالعكس: أظن أن درجة الإطناب والسرد المتواصل المفصل ينفى حكاية التكثيف هذه، قلت له إن التكثيف الذى أعنيه لا يشير إلى الإيجاز، وإنما يصلنى التكثيف حين أعايش فى النص تيارات من الوعى متواكبة معا، أنا لا أعنى مسألة تيار الوعى الشائع فى النقد الأدبى حين يصفون عمل جيمس جويس مثلا، لا..، وإنما أعنى بتيارات الوعى الحضور المتعدد لمسارات متوازية أو متداخلة للحدث أو للحكى أو للشخص، قد يكون العمل شديد الإيجاز دون أى تكثيف، وقد يصل إلى آلاف الصفحات وكلها أنهار متدفقة على مستويات متعددة،
ويعقب الأستاذ على هذا النقاش قائلا لزكي: أنا أذكر أننا اختلفنا حول التجليات يازكى أيام ظهورها، أليس كذلك؟ فيقر زكى، فأسله فيم كان الاختلاف، فيقول إن الأستاذ كان معجبا بها، فى حين أن رأيى كان وما زال كما ذكرت ومثله.
من المهم أن أشعر وأعرف، مرارا وتكرارا، (علنى أتعلم) كيف يختلف الأستاذ – بسماحة هكذا- مع تلاميذه ومريديه
وأسأل الأستاذ هل ذو النون المصرى كتب أو أملى: مواقف ومخاطبات أم أن المواقف والمخاطبات خاصة بمولانا النفرى، فيؤكد الأستاذ أنها على حد علمه خاصة بالنفرى، فأقول هذا ما أعرفه، إلا أنها فى مقال الغيطانى وصلنى أن ذاكرته وعت مقابلته بشيخ تلك الطريقة حتى يسجل ما سمع مثلما كان يسجل حفيد ذى النون المواقف والمخاطبات، ثم أردفت: لعلها خطأ مطبعى أو سهوة ذاكرة، أو لعله جهلى أنا.
ويتحول الحديث إلى ضرورة الأب، وصورة الأب التى قدمها فرويد من خلال عقدة أوديب، فى مقابل الصور الأخرى التى سبق أن أشرت إليها فى هذه الخواطر وغيرها، وأهمها الصورة التى يمثلها كونفوشيوس من ناحية، والتى تشير إليها قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام – من وجهة نظرى – من ناحية أخرى، وقلت للأستاذ إن الإنسان ( الطفل والشاب) لا يتم نموه بالانتصار على الأب بعد التنافس معه كما تشير عقدة أوديب، وإنما يتم النمو من خلال التصالح مع الأب وتمثله حتى يذوب أغلبه فى الكيان النامى الجيد، وقلت إن التأكيد على فكرة التصالح مع الأب – والتى أكدها إريك بيرن تحديدا- لا تعنى نفى أو رفض الخلاف والاختلاف معه، ولا تحبذ فكرة حتمية الصراع، لكنها تؤكد علاقة متعددة المحاور تنتهى باضطراد إلى درجة من التفاهم والتمثل، وإن كنت قد أعليت من قيمة خضوع إسماعل لإبراهيم ليحقق حلمه ويذبحه، فإننى أتراجع الآن قليلا كى أؤكد أن هذا التسليم فى ما أسميته سابقا “جدل إسماعيل إبراهيم” هو مبكر جدا، ومطلق أيضا، وأن مسألة التصالح والتمثل والاستعياب ينبغى أن تأخذ وقتا كافيا، أما هذا التسليم الباكر هكذا، والذى يحله الفداء بكبش من السماء فإنه يقفز فوق فرص الحوار والاختلاف، وقد يكون للإبقاء على إسماعيل وفديه بذبح عظيم ما يشير إلى ضرورة التفاعل مع الآخر لاستمرار الجدل الهيجلى على الأقل ( جدل العبد والسيد) ، وبالتالى يكون تسليم إسماعيل ليس تسليما وإنما هو صيحة تهديد للأب أنه بتنفيذه حلمه والتخلص منه سوف يحرم نفسه من فرصة الجدل مع آخر، والبديل لذلك كما يقول رمز الفداء هو أن يتخلصا معا مما هو حيوانى عدوانى فج، وهو ليس تخلصا بمعنى المحو، وإنما بمعنى ذبح فاحتواء فهضم هذا الجزء ليصبح نسيجا من الوجود الإنسانى، وبالتالى ليس كيانا مهددا منفصلا عن الكل الإنسانى للأب والإبن على حد سواء.
ويحضر يوسف القعيد بأخباره وصوته وضحكاته وغلّه وقفشاته وطفولته، ويبدأ بالحديث عن مؤتمر الأدباء فى الإسكندرية، وكيف قام بتكريم كل من هب ودب، حتى كاد يكرم رجال الأمن المركزى وسعاة نوادى الأدب، جاء هذا الحديث بمناسبة فتح موضوع زيارة رئيس نادى القلم الألمانى للأستاذ قبل ساعة، ثم يحكى بعضهم حكايات مماثلة عن مسألة تدنى بعض الكتاب (أو الكتبة) سعيا إلى رضا هذا النادى أو هذا الرئيس أو هذه المنظمة، بغض النظر عن قيمة الراضى ودلالات التكريم، يسرى هذا على مؤسسات مثل نادى القلم كما يسرى على منظمات ودول مثل الدعوة التى وصلته من دول الكومنولث الذى حل محل الاتحاد السوفيتى، أو مثل الدعوة التى وصلته من أحمد قذاف الدم ذات يوم وذكر تفاصيل عن هوية الحاضرين والحاضرات مما لا داعى لذكره هنا.
ويَحْكى القعيد حكاية عن معركة بين عبد الفتاح رزق وأحمد الشيخ دارت فى حفل الإسكندرية حتى كادت تصل إلى التشابك أو إلى الجهات الإدارية أو ما شابه
ثم ينتقل – القعيد- فجأة إلى الحديث عن كتاب ابن خلدون الذى ظهر مؤخرا والذى كان حافلا بما هو سيرة ذاتية كتبها بشجاعة نادرة، وقال إننا نعرف ابن خلدون كاتبا ومؤرخا وعالما من علماء الاجتماع والتاريخ وغير ذلك، إلا أن ما كتبه فى سيرته الذاتية بخط يده يحتاج إلى وقفة، ومن ذلك علاقته بتيمورلنك، وكيف قبل أن يتصل به سرا، وكيف كتب له – حسب طلبه – وصفا دقيق فى ستين صفحة لبلاد المغرب، قال القعيد أن هذا يكاد يكون إذاعة أسرار تمهد للعدو غزو المغرب، ومضى القعيد يحكى كثيرا فى هذا الاتجاه، وينبهه الأستاذ إلى أن الأمر لا ينبغى أن يقاس بلغة اليوم، ذلك أن تيمورلنك حاكم مسلم، والمسألة ليست خيانه كما نتصورها الآن ونحن نقرأ قصص الجاسوسية بيننا وبين إسرائيل، ولكنها وجهات نظر فى حدود تبادل السلطات بالطرق التى كانت سائدة فى ذلك العصر، ويمضى القعيد فى الحكى وهو غير مقتنع ذاكرا كيف ذكر تيمورلنك لابن خلدون أنه سمع أن عنده بغلة متميزة، وأنه طلب شراءها، فأبى إبن خلدون إلا أن يهديها له دون مقابل، وأرسلها إليه فعلا، فأرسل رسولا يحمل صرة إليه، فرفض أن يستلمها إلا أمام تيمورلنك، وإذا بالرسول يعترف بأنه اختصر ربعها فى الطريق ويستعطفه ألا يفضحه أمام تيمورلنك، وقصة أخرى عن كيف استغاث إبن خلدون بحاكم المغرب أن يرسل له أسرته، وكيف أن المركب التى كانت كبيرة مثل قارة وصلت ميناء الإسكندرية، ثم وهى على بعد عشرات الكيلومترات تغرق دون أن يتمكن من إنقاذها أحد، وتغرق معها الأسرة بكامل أفرادها: الزوجة والإبن والبنات، ويقول إبن خلدون أنه بعد هذا الحادث “فقد الطموح” وزهد كل ما كان يعمل، ويتألم الأستاذ متعجبا، لكننى أقول له إن فقد الزوجة، وأحيانا الأسرة ليس دائما بهذاه الصورة الفاجعة، فمثلا، أنا أعرف أن كارل جوستاف يونج حين فقد زوجته وهو فى نهاية الخمسينيات من عمره شعر – وأعلن- أنه منذ ذلك الحين شعر أنه وجد نفسه وقد استقلّ من جديد فى هذه السن.
يالها من نصف ليلة دسمة بالتاريخ والنقد والاختلاف وشيخنا يدلى بدلوه فى كل هذا!! نصف ليلة لأننى اضطررت للذهاب للعيادة حين وصلنى أن الأستاذ يقرص أذنى، وكأنى طفل عليه أن يذهب للمدرسة فى صباح يوم بارد.
حاضر.
[1] – سبب تسميه مراكش باسم “مدينه السبع رجال” سماها الناس مدينة سبعة رجال، رجال سبعة تحمل أسمائهم أحياء مراكش وحوماتها، كلهم فقهاء،علماء، أنقياء، أولياء، رجال صالحون.
الرجال السبعة هم على التوالى :يوسف بن على الصنهاجي – عياض بن موسى اليحصبي – أبو العباس أحمد بن جعفر الخرجى السبتي – أبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي – عبد العزيز بن عبد الحق التباع – أبو محمد عبد الله بن عجال الغزواني – عبد الرحمن بن عبد الله السهيلى الضرير.