نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 29-4-2013
السنة السادسة
العدد: 2068
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (24)
مقتطفات من فقه العلاقات البشرية (2)
مقدمة:
أتابع ما سبق أن بدأته أمس بتردد شديد، لما فيه من تكرار لعله مفيد، كما أننا نشرنا أمس – استطرادا – جزءا من لعبة لم ترد فى كتاب “فقه العلاقات البشرية” تدعيما لأحد المقتطفات، فبدا مقبولا وله دلاله مما قد يشجعنى على نشر عينات من الألعاب كلما لزم الأمر، وهى ألعاب ابتدعناها من واقع ثقافتنا، نشير إلى بعضها بين الحين والحين كلما لزم الأمر، دون انتظار كتاب “الألعاب فى العلاج الجمعى“.
أو: أنتم وما ترون.
المتقطف الرابع:
فى العلاج الجمعى بالذات قد تخدع آليه “العقلنة” كلا من المعالجين والمرضى على حد سواء، وقد يطمئن صاحب هذه الرؤية إلى انبهار الآخرين بقدرته على الغوص ليس فقط فى داخله، وإنما فى داخلهم، بشكل عميق ومخترق أيضا، وفى هذه الحالة قد يكون الاستمرار فى التصفيق (بمعنى فرط القبول بإعجاب وحماس) لهذه الرؤية هو ضد مسيرة العلاج النمائى بشكل أو بآخر، ثم إن بعض من هم هكذا قد يفخر بأنه يرى حجم سلبياته وطبيعة ميكانزماته التى عرّاها لدرجة تصور له أنه –بذلك – قد كفَّر عنها، مع أن واقع وقفته منظِّرا تقول إنه لم يخطُ بعد ذلك (بعد الرؤية والبصيرة المعقلنة) أية خطوة فى محاولة تغييرها، وكأنه يعلن سلبياته ليثبتها لا ليتخلص منها.
وحين ينتبه صاحب هذه البصيرة، المعقلنة جزئيا، إلى لعبة العقلنة والتفكير دون تغيير، قد يحاول أن يخفى بعض رؤيته هذه عن المعالج، وربما عن الآخرين، وأحيانا عن نفسه، لكنه عادة لا ينجح:
“الناسِ بتْحَاوِلْ تِخْفِى الِكْذب، إٍنما صاحْبِتْنا بِتِخْفِى الصِّدْق”.
والكذب حْبالُه طويلَهْ، والصدق مصيبته تقيله،
هذا ما حدث مع صاحبة هذه اللوحة – تقمصا منى- حتى تصورت أن محاولتها أخذت تتمادى فى كل اتجاه دون أن تتعلّم أنها تدور حول نفسها، فطغت الحلول المثالية، والأحلام المؤجلة على كل ما يمكن أن يترتب على إدراك هذا الواقع العارى من حركة نمائية مسؤولة، وبرغم ذلك يتواصل استمرار الرؤية المعقلنة، وكانت هذه السيدة تتخفى طول الوقت من الجميع ومن نفسها بكثرة النقلات بين التفاعلات والانفعالات المتنوعة الصادقة أيضا:
خُدْ عندكْ: حتة كدْب، على نبضة صدقْ، على رسمة حبْ، على صرخة همْْْ، على سكتة غمْ، وتلخبط كل حاَجاتْها، على كل حاجاتْها، بالقصْدْ!!.
فى العلاج النفسى – الجمعى خاصة – حين يحدث مثل ذلك لا يكون عادة دليلا على خوض مأزق التغير بقدرْ ما يكون ربكة تعطل صاحبها وتخدع المعالج أو المجموعة بالتالى، ومن ثَمَّ لا يترتب على هذا الموقف أى تحفيز نحو التقدم للخطوة التالية.
صاحبتنا كانت تبدو أنها تلجأ إلى هذه الخلطة المقصودة المتنقلة بسرعة من حال إلى حال فلا تسمح لأحد بالاقتراب، لأنها تخشى أنه حين يقترب الآخر أكثر أن يفاجأ بنقلة إلى موقع آخر، أو مشاعر أخرى، أو موقف آخر دون توقع فينسحب، وتطمئن هى إلى ثبات موقفها وموقعها محتفظة بمسافة من الأمان الدفاعى الحامى.
فى مثل هذه الأحوال تنجح الحالة أن تحافظ على تلك المسافة ثابتة بينها وبين “الآخر” (الموضوع)، أو على الأقل تتحرك فى دائرة مغلقة، أى أنها برغم ظاهر الاقتراب والابتعاد لا يتغير وضعها فى النهاية. وتزداد مقاومتها مع استمرار انسحابها أمام أى اقتراب، برغم حاجتها إلى الآخر “الموضوع”، بشكل متزايد.
وانْ جَهْ وَاحِد وْشاوِرْ عقله يقرّبْْ: تحرَن وترفَّصْ، تضرب تْتِملـَّصْ وتعاند زى العيَّل لما يزق البزْ، مع إٍنه جعانْ.
يتضاعف الموقف باللجوء إلى درجة من الاستعلاء حين تعلن لنفسها ولغيرها أنها تفهم أكثر، وترى أعمق، وتحس أصدق، وتفكر ألمع، وكل هذا يكون صحيحا من حيث القدرة على الفهم والوصف والتنظير، لكنه يكون غالبا بعيدا عن اختبار الواقع، فتهرب أكثر فأكثر فى المثالية التى نبهنا إلى سلبيتها فى أكثر من لوحة تشكيلية فى هذا العمل، ويظل الزعم بالمثالية هو المطروح والمسؤول عن إطلاق الشعارات، والتعامل مع أحلام اليقظة الشاردة كأنها واقع محتمل:
وتقول أنا مخِّى مافيش زيُّـه، وتدوَّر عاللى مافيش زيُّه: وتلاقى: “يسقُط شر الناس، ويعيش الحب” وخلاص.
- إزاى؟
- مِشْ شغلى.
المفروض أن مرارة الرؤية، وشوك المسيرة، هما الناتج الطبيعى – المرحلى- لصدق الرؤية، وهما الدافع لحركية النمو، أمّا المثاليه المزركشه فهى عكس ذلك، إذْ ترسم الأهداف جميلة جذابة، لكنها تلحق ذلك بتعرية صعوبة الطرق الموصلة إليها بطريقة مبالغ فيها تجعل الوصول إلى هذه الأهداف يكاد يكون مستحيلا، فتُحِل ذلك النكوص الطفلى ومزيد من المثالية، محل التوجه الهادف المسئول، دون التخفيف حتى من آلام كل ذلك،
وبحور المّر بْتِرْوِى الشوك ِالصبرْ. والبحر بعيدْ، ومالوش شطآنْ. ولا فيش مقداف ولا دفّهْْ، ولا ريّـِسْ، ولا بمبوطِى.
كان من أكثر الأمور إيلاما لى ما واجهنى حين كنت أتابع صاحبة هذه اللوحة وهى تتمزق بين ما تراه من تناقض ظاهر بين أمومتها الطيبة، وبين طموحها المثالى النظرى، وكانت تحاول أن تحل المشكلة بحل وسط، أقرب إلى التسوية المثالية المعقلنة الساكنة منه إلى حركية النمو الجدلية الواقعية المسئولة الأصعب:
بصراحة، ومن خلال خبرتى، فى العلاج النفسى، لاحظت أن المريض الذى يصل إلى هذه الدرجة من الرؤية المخترقة المعقلنة معا، وفى نفس الوقت يتوقف عند هذه التسوية المثالية الساكنة، لا يحاول أن يهرب من رؤية داخله مها بدا شائها أو متمزقا أو مؤلما، وهو قد ينجح أن يخفيه فقط عن الآخرين، بعض الوقت، حسب مقتضى الحال لا أكثر.
…….
وكثيرا ما تختلط أجزاء رؤية الحقيقة مع محاولات إخفائها عن الآخرين بشكل مشوش مما يزيد الموقف غموضا، وقد يكون ذلك مقصوداً من عمق آخر، وبالتالى تتوقف مسيرة النمو بحل سلبى مختار نسبيا، فى هذه الحالة لا ينفع العلاج النفسى التقليدى عادة، لأن مثل هذه الحالة قد تعرف وتفسر كل ميكانزماتها أدق وأعمق من المعالج نفسه، أما العلاج النفسى المكثف المخترق فهو يقابل من صاحبة هذه الرؤية بعناد وتحد بلا هواده، وكأنها مبارزة تحدٍّ مستمر، وتصبح كل طاقة المريض موجهة إلى تملك ناصية الوعى والإرادة يستعملهما ضد أية محاولة تغيير أو اقتراب من الخارج. وبرغم هذا العناد القوى، إلا أنه لا يؤدى إلى أى حل حقيقى مهما نجح ظاهريا، فهو موقف تتصاعد مرارته باستمرار نتيجة اصطدام حدة الرؤية، مع عناد الجمود، مع الخوف من الاستسلام والاعتماد على آخر، مع العجز عن النسيان والعمى، أو حتى التعامى، ولا يأتى الغد الموعود أبدا.
وقد يخفف من وطأة هذا الموقف بعض الوقت -تكرار ظهور تلك الأحلام الوردية ولو فى أفق بعيد، إلا أنه بالنسبة لهذا التشكيل، كانت هذه الأحلام دائما مضروبة بحقيقة الرؤية ومرارتها، وبرغم وضوح عناد التوقف، وأوهام المثالية، وقوة المقاومة، إلى أننى لم أستطع أبدا أن أستلسلم لأى حكم سلبى على صاحبة هذا التشكيل، وانتهت اللوحة وأنا بين التصديق والتكذيب، بين اليأس أو أن يتفتح أمامى باب احتمال آخر لا أعرف ما وراءه، فأتركه مفتوحا، آمِلاً منتظرا إلى ما لا نهاية.
كثيرا ما يصلنى – شخصيا – من هذه النهاية المفتوحة خلاصة تقول:
إذا لم يتمكن الآخر (بما فى ذلك المريض) ان ينجح فى هذه الرحلة، فليكملها الطبيب او المعالج لنفسه، بنفسه، وهكذا يظل الباب مفتوحا باستمرار لكل من يحاول، بما فى ذلك المعالج الذى سوف يعود اضطراد نموه بالفائدة على عدد أكبر من المرضى الأصعب مع صقل الخبرة وتزايد الفرص باستمرار.
وبعد
بعد قراءتى للتجربة (البروفة) الأخيرة لهذه النشرة قررت أن أتوقف عن مواصلة عرض هذه المقتطفات برغم يقينى بدلالتها وفائدتها، إلا أنه يبدو أن الأفضل قراءتها فى الأصل مع المتن وبقية التفاصيل لكل حالة مكتملة.
وأيضا سوف أتجاوز عن ثالثا (مؤقتا) وهو البند الخاص بالملاحظات عن التدريب على العلاج الجمعى، اللهم إلا فى عرض بعض الألعاب العينات وكيف شارك فيها المتدربون مع المدرب مع المرضى بشجاعة كاشفة، وكيف قرّب ذلك بينهم وبين المدرب من ناحية – وبينهم وبين المرضى من ناحية أخرى – وأرجو ألا يعطلنا ذلك عن الانتقال بسرعة إلى البند رابعاً وهو:
الإشارة إلى بعض أبحاث أجريت تحت إشرافى فى العلاج الجمعى.