الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (45) الإدراك (6) الحوار يتواصل حول الإدراك (3) ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (45) الإدراك (6) الحوار يتواصل حول الإدراك (3) ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

نشرة “الإنسان والتطور”

 31-1-2012

السنة الخامسة

 العدد:  1614

 25-1-2012

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (45)

الإدراك (6)

الحوار يتواصل حول الإدراك (3)

ورقة مقدمة من: د. محمد يحيى الرخاوى

 

*****

عزيزى محمد

سوف أبدأ بالرد على ما اخترته من ورقتك الأسبوع الماضى، دون الرجوع إلى غيره، ثم أعود إلى استكمال عرض ومناقشة فروضى، أو استكمال الرد على ما فاتنى من ورقتك أو ما تراه من ملاحظات جديدة أنت أو الأصدقاء، ورجائى أن تنبهنى إلى ما فاتنى مع الشكر، لأننى سوف أرد اليوم على اقتطافاتى أولا قبل بقية الورقة.

****

د. محمد يحيى:

(1) … التعريف الذى أتصور أنه التعريف الأشهر للإدراك هو “إعطاء معنى للمنبه الحسى” (وليس للعلامات)

د. يحيى:

توقفت عند كلمة “إعطاء” ثم “المنبه الحسى”، وتعجبت كيف لم يصلك ما أردت، (لكن تبين لى بعد قراءة بقية الورقة أنه قد وصلك)، فمن ناحية الإدراك هو عملية جدلية بين المتلقى وما يتلقاه، فلماذا اخترت كلمة “الإعطاء” التى أبعدتنى حركية الجدل مع التلقى للمثير، أو المنبه، كما تشاء

 تبدأ عملية الجدل التى هى جماع ما نتوصل إليه من عمليتى التلقى والإعطاء، فلا هى فى الأساس “إعطاء”، ولا هى مجرد “تلقى” و”ترجمة”

أما أن نضمِّن حتى الآن الإدراك صفة  “الحسى” للمنبه فهذا ضد ما تصورت أنه قد وصلك، حيث هو قضيتى الأساسية فى هذه الأطروحة، وهى:

محاولة مساواة دور المنبه الحسى الخارجى  فى عملية الإدراك مع المنبه الحسى الداخلى (باستعمالى الخاص للحسى، وهو يقترب رويدا رويدا مما هو علم وليس فقط “بارا علم”)، وأنا متمسك بأولوية توضيح هذه النقطة، لأنها أفادتنى إفادة بالغة فى ممارستى مهنتى عمليا بشكل يتزايد طول الوقت (وسيأتى ذكر  ذلك لاحقا عندما نأتى إلى الفروض)

وصلنى  فيما بعد – من ورقتك أيضا– احتمال  عدم تمسكك بصفة “الحسى” استبعادا لما هو غير حسى، مثلا من حكاية إدراك معنى الوجود، أو وجود الله سبحانه، ولكن ليس  بما يفيد الاعتراف بالحواس الداخلية.

أرجع إلى تحفظك على استعمال كلمة “علامات”، فربما أنا استعملتها امتدادا لكتاب أوّل كتبته مع المرحوم أ.د. عبد العزيز عسكر، ثم أ.د. عمر شاهين بالإنجليزية، وكنا نفرق فى مجال الإدراك بين ما هو علامة،  signal وما هو رمز symbol، كان ذلك فى منتصف الستينات، وكان الكتاب مقررا على السنة الثانية كلية الطب، وحين حاولت تحديثه رفضت أن أعيد كتابته بالإنجليزية، وكنت قد كتبت كتاب “دليل الطالب الذكى فى علم النفس” بالعربية، وهو الكتاب الذى تسبب فى إيقافى عن التدريس للسنة الثانية(1)، كلية طب قصر العينى، رحم الله الجميع، وقد قمت بتحديث الرسم القديم لتوضيح اختلاف إدراك ما هو “نار”، كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاما، فجاء هذا الرسم الذى لم ينشر والذى قد لا تحبه غالبا!! لعله يوضح ما عنيُته أنا بـ “علامة” حتى الآن.

31-1-2012

(ولعلك تلاحظ يا محمد فى الشكل أننى استعملت كلا من الألفاظ: “مثيرات”، و”علامة”، و”رمز” و”شفرة” و”معلومات” بشكل فضفاض دون تعريف (جامع مانع) لأى منها.

(عودة إلى ورقة محمد)

د. محمد يحيى:

 (2) … (تكرار، ربما دليل الإصرار) يصبح تعريف الإدراك بهذا الشكل: إعطاء معنى للبادى من البيئة المعرفية.

د. يحيى:

ننتقل إلى “البادى”، لماذا حددتَ “البادى” بالذات وأنت الصديق الصدوق لمولانا النفرى الذى يصالحنا على “غير البادى”، بما اعتبرتـُه المدخل الموضوعى لإدراك الغيب يقينا (يؤمنون بالغيب)،

 ثم إنى لم أفهم تماما ما تقصده “بالبيئة المعرفية”، فمن ناحية أنا أدرجت كلمة المعرفة للبحث عن علاقتها بكلمة “الإدراك” و”الفهم” و”الوعى” و”الشعور” و”التفكير” كما ذكرت، والأرجح أننى لن أستمر فى هذا المبحث  معجميا لأنه لن يوصلنى لما أريد هنا والآن أصلا، فأنا لا أبحث عن الكلمة الأصلح بقدر ما أبحث عن الوظيفة الأنفع لتحديد أبعاد الممارسة بفصل الخلط، ومنع تأثير التلوث اللغوى على مصلحة مريضى، ثم إننى عادة لا أستعمل كلمة “البيئة”، لأنها عادة تشير إلى البيئة الخارجية، وانت تعرف حكاية أصدقاء البيئة، والدفاع عن البيئة، وجماعات الخضر ..الخ، يا محمد تخصصى قد نقل بؤرة اهتمامى إلى البيئة الداخلية  لأننى وجدتها الأوْلى بالرعاية،(إذا استعملنا التعبير السياسى الاقتصادى) تاركا مسئولية الأخرى للآخرين، هذه البيئة الداخلية، (“الواقع الداخلى”)، ليست مرادفة للاشعور الفرويدى، ولا هى ذكريات كما تستعمل فى مفردات الذاكرة، هى واقع ماثل، لا أعرف علاقته بما أسميته أنت “البيئة المعرفية”، لأننى أتعامل مع هذا الواقع فى الداخل والخارج ككيانات قائمة، سواء كانت معرفية أو غير ذلك، لست متأكدا.

استدراك:  يتعلق بكلمة “البادى”:

هل تتابع يا محمد محاولاتى وأنا أتحسس المنهج الذى أتبعه ، أو أحاول تخليقه، أثناء قراءتى لتدريبات نجيب محفوظ، وأننى استعملت تعبير “قمة جبل الوعى” أصف به ما يطفو من تحريك الوعى عند محفوظ دون أى قصد إلا تدريب يده، فظهر لى ما خطر لى وما استدرجنى إلى ما لاح لى أو بحثت عنه، يا ترى هل تقصد بـ “البادى” قمة منظومة جُماع عملية الإدراك أو شىء من هذا القبيل، جعلنى هذا الاستعمال أتراجع عن التشبيه لما خط شيخى فى تدريباته بجبل الوعى لما توحيه كلمة جبل من ثبات، فى حين أن الإدراك هو حركية نشطة، ربما يكون مثل جبل الوعى بالمعنى الشكلى فقط قياسا على جبل الجليد الذى لا تظهر منه إلا قمته على سطح البحر، وأرى أننى سوف أتراجع عن هذا التشبيه، وقد أفضل عليه استعمال: “سحابة الوعى” التى تمطر علينا هذا الرذاذ المتناثر بجمال فى شكل تدريبات الأستاذ.

 د. محمد يحيى:

 (3) … يشير الإعطاء إلى متضمنات كالوهب والإضافة……. وربما يشير أيضاً إلى تكوين وبناء المعنى، بما أنه ليس مجرد اكتشاف لشىء أصيل

د. يحيى:

أوافقك تماما على تعبير “تكوين وبناء المعنى”، ونفى اكتشاف الموجود، لكننى أتحفظ على تعبير “شىء أصيل”، ربما لعلاقتى الخاصة بكلمات “أصيل” و”أصالة” فيما يتعلق بالجدة والإبداع، على أنى فرحت حين بدأت تتكلم عن “تكوين وبناء”، دع كلمة “المعنى” جانبا الآن، ودعنى أستعمل تعبير تكوين وبناء المـُدرك، إلى أن نتفق على ما هو المعنى، تماما مثلما احتجنا أن نفتش فيما تقصده بـ “البيئة المعرفية”، وإن كنت لم أتمكن من جمع “الوهب، والإضافة” كما وصلانى لأول وهلة، مع “التكوين والبناء” إلا بصعوبة لأننى اضطررت أن أتقبل التكوين أنه وهب، مع أنه يبدو لأول وهلة أبعد ما يكون عن ذلك، أذكر أننى استعملت فى كتابى العربى السالف الذكر (دليل الطالب الذكى: تعريف يقول “الإدراك هو العملية التى تعطى للمثير معنى”، ثم فضلت عليه تعريفا اشمل يقول “الإدراك هو العملية التى بها يتعرف الكائن الحى على المحيط”، وهذا التعريف الأخير هو الذى هدانى إلى أهمية كلمة “يتعرف” ومن ثم “المعرفة”، وأيضا هو الذى هدانى أن أمدّ تعريف الإدراك إلى ما قبل الإنسان دون الالتزام الحرفى بأى تعريف مفهومى أو أكاديمى .

ولعل هذا يرجعنا مرة ثانية إلى مناقشة تعبير البيئة المعرفية، فكما قلت لك حالا، أنا أتعامل مع الواقع الداخلى المتاح للمعرفة من خلال كل مستويات الإدراك عبر الحواس الظاهرة، وعبر الحواس الداخلية (دع جانبا الآن الكلمات الشائعة عن الحدْس، والحاسة السادسة، والسابعة ..إلخ) هذه البيئة الداخلية أصبحت عندى، بفضل مرضاى وصبرهم على، وتصديقى لهم، واقعا ماثلا ملموسا مثل مفاتيح حروف لوحة الحاسوب التى أدق عليها الآن، وحين نتكلم عنها كمعلومات، حتى فى سياق الحديث عن اعتمال المعلومات الذى سأرجع إليه حتما، أحس أنه  (الواقع الداخلى) ينزلق من تحت أصابعى ليصبح أقرب إلى الكلمات التى تخرج من أصابعى إلى لوحة الحاسوب، آمل  أن تسامحنى يا محمد، فأنا أسمح لنفسى أن أشطح معك بما عندى دون خوف من شجبٍ مبدئى أو الإسراع بإعلان عدم الفهم، فرُحتُ يا محمد – من واقع الخبرة- أتعامل مع المعلومات قياسا على الجهاز الهضمى، والتمثيل الغذائى بما نتعاطاه طعاما نمسكه بأيدينا ونحن نأكل، فالطعام حين يدخل الفم فالمرىء فالمعدة…الخ، هو كيان عيانى، وليس “مفهوما معقلنا”، وحين تجتر الحيوانات المجترة طعامها لإكمال طحنه فتسهيل هضمه، فتمثيله، نحن نفعل مثلها بالمعلومات أثناء الأحلام كما تعلم، وهو ما طورتـُه فى نظريتى عن الأحلام، وتظل المعلومات متاحة ككيانات متصلة منفصلة، قريبة بعيدة، لكنها قائمة وواقعية، نحوّل بعضها إلى مفاهيم وذكريات وأخيلة، وتتداخل بعضها متمثلة فى كيانات النمو والإبداع، ويظل كثير منها متاح للحلم والجنون والإبداع التالى، وهكذا. نعم أشعر أننى أصبحت أكثر غموضا، فسامحنى.

فأين أضع ما أسميته “البيئة المعرفية” بين كل هذا؟ مع الشكر.

د. محمد يحيى:

 (4) … بغض النظر عن صحة الإدراك ومطابقته للحقيقة.

د. يحيى:

أنا لم أتكلم أصلا عن صحة الإدراك ومطابقته للحقيقة من عدمه، الإدراك يقول حقيقته هو لا أكثر ولا أقل، وهو يقترب ويبتعد عن الواقع (الذى يسمى الحقيقة أحيانا) بقدر كفاءته فى تكوين مدرك ناتج  من جدل ما وصله وما تفاعل معه ( أو ما “أعطاه” بلغتك)، حيث لا توجد حقيقة خارج العملية ذاتها مع المبالغة (ربما تصل المبالغة إلى المبالغة المثالية التى تدعى أننا لا ندرك إلا نتاج ما نريد أن ندركه).

د. محمد يحيى:

 (5) .. التركيز على أن طبيعة الإدراك إنما هى طبيعة عملياتية “تبنى” أو “تكون” إدراكنا

د. يحيى:

هذا هو، هذا هو، فأين الاختلاف إذن ما دمنا بدأنا نتكلم عن طبيعة الإدراك بلغة العملياتية؟ و”تبنى” و “تكوّن”، وهى لغة أقرب إلى فهمى من حكاية الإعطاء” و”البادى” و”البيئة المعرفية”.

د. محمد يحيى:

 (6) السؤال “ما المعنى؟” أصعب سؤال يتعلق بالإدراك، بل ربما كانت الإجابة هى الغاية من وراء كل دراسة للإدراك.

د. يحيى:

طبعا أصعب سؤال ونصف، فهو يدخل بنا إلى أبجدية التعامل مع جوهر عملية الإدراك، وهل يكون للإدراك معنى (أو وظيفة أو فائدة) إذا لم يتحقق به ما هو معنى، عن طريق أية قناة توصيل، أو عمليات تمثيل، أو حركية جدل، أو مقارنات ذاكرة؟ هل تذكر يا محمد نظريتى عن تطور العواطف والانفعال والتى أسميتها “تطور الوجدان من التهيج البروتوبلازمى العام إلى المعنى”، وكيف أنها طرحت فكرة أن يكون “المعنى” هو أعلى مراتب الوجدان؟ لا أريد أن يجرنا هذا قبل أوانه إلى العروج إلى وظيفة الوجدان المعرفية ولا إلى وظيفة الجسم فى الإدراك (ناهيك عن وظيفته فى التفكير والإبداع)، وإن كنت أرى أننا سوف نصل إليها حتما، فلا مهرب إن أردنا مواصلة السعى.

 كنت أدرّس يوم الخميس قبل الماضى فى قصر العينى كما تعلم، وكانت الحالة مهمة، وصعبة على بناتى بشكل أو بآخر، ووصلت فى شرحى إلى إظهار كيف أن كل ما يحتاج هذا المريض (الذى كنا نتدارس حالته، وهى ذهانية صريحة) هو أن تصله رسالة، مهما قصرت، بأن للكلمة “معنى”، وظهر ذلك أثناء الحوار المسجل صوتا وصورة فى لحظة بذاتها رآها الجميع،  ثم انتقلنا إلى تفضيل استعمال تعبير أن يثق المريض فى “العلاقة ذات المعنى”  المطروحة فى العلاج بدلا من وصفنا لها “بالعلاقة الحقيقية” ، وطبعا بدلا من “الحب الحقيقى”، فى مقابل العلاقة الزائفة، أو المغتربة.

 فى نظريتى عن العواطف وصلت فى تصوير قمة النضح العاطفى أنه يتحقق حين يحتوى اللفظ معناه بالضبط، فلا يحتاج إلى تعبير إضافى يعبر به عن حمولته الوجدانية بأية وسيلة أخرى أى لا يحتاج إلى شرح بكلمات أخرى، أو إلى تعبير بالوجه، أو بالجسد، ناهيك عن القَسَم) فى هذا المستوى الأنضج النادر يصبح “الحكيم” أقرب فى تعبيراته الانفعالية إلى المتبلد ظاهرا، وهو فى الحقيقة يكون قد وصل إلى أعمق وأنضج تجليات الوجدان ذى المعنى الذى لا يحتاج إلى غيره.

 ما علينا هذا استدراك فيه تزيّد لأنه ليس موضوعنا، ماذا تريد أن تقول يا محمد بشأن المعنى ؟    

د. محمد يحيى:

(7) (… أرى المصطلح مستوعباً لمعان قد تتراوح بين إدراك أن هذا الذى أراه أمامى هو “كوب” نشرب فيه، أو هو “قلم” نكتب به، أى بساطة إدراك أن هذا الذى أراه أمامى هو “كوب” أو هو “قلم”، وبين جسامة إدراك أن للكون معنى أو أن الله موجود)

د. يحيى:

الله الله ! يا خبر!! هكذا أدخلتنا يا محمد إلى المنطقة الصعبة، أو قل الحرجة، نبدأ من قبل الآخر. “إدراك أن للكون معنى”، أهكذا تلقى بنا يا محمد قبل الأوان فيما لا بد مما ليس منه بد؟

 أما أن للكون معنى، فهذا مرتبط فى ثقافتنا بإدراك أن الله موجود، فهل تسمح لى أن نؤجل هذا الحديث إلى الغد، ويا ترى؟ !!

إلى الغد يا محمد إن كان ما زال عندك قدر من الاحتمال أنت وأصدقاء لا أعرف أغلبهم.

[1] – لأنه كان فى صورة حوار بن طالب وأستاذ، اتهمت بسببه أنى جعلت الطالب يتطاول على الأستاذ بأسئلته!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *