الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثالثة عشرة “الزير”

“فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثالثة عشرة “الزير”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 16-9-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5859

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثالث:

 “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)

اللوحة الثالثة عشرة:

الزير

‏هذه اللوحة مستوحاة من حالة استلهمها خيالى من حالة شخصية منى جدا، لم أسمح للخيال أن يقترب من حقيقتها الطيبة، إلا بعد أن أخفيت معالمها، فجاءت هذه اللوحة لتكمل بعض أبعاد إشكالة “فقه العلاقات البشرية”.

هو شخص‏ ‏ذو‏ ‏طبع‏ ‏صامت‏ ‏هادئ، يوحى بالطمأنينة لكل من يقترب منه، أو يسأله، أو يستنصحه، أو يستعين به، ‏كان من‏ البديهي ‏أن‏ ‏أشارك‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏لشدة‏ ‏حاجتي ‏للطمأنينة‏، والدعم، والتصديق، بل والاعتماد، ‏أحسست‏ ‏أن‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏ظلما‏ ‏له‏، ‏فمعنى ‏أن‏ ‏يطمئن‏ ‏الجميع له ‏بهذه‏ ‏الدرجة‏ ‏وبهذا‏ ‏الإجماع‏ ‏أنه‏ ‏لن يأخذ حقه بدوره فى مثل ذلك، وقد ينوء بحمله، أو تتعثر خطاه، المعنى الأصعب هو أن يستمد هو معنى وجوده من هذه الطمأنينة إليه، والاعتماد عليه، فتتوقف خطى نموه شخصيا.

فى ‏العلاج‏ ‏النفسى‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المعالج‏ ‏على ‏وعى ‏كامل‏ ‏باعتماده‏ ‏على ‏مرضاه، أو بتعبير أشمل وباعتماده على اعتماد مرضاه عليه.

وفى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى ‏خاصة‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ المغرى بالاعتماد عليه من الجميع، ‏فيقوم‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏ ‏المـُطـَمـْئـِن‏ طول الوقت (على العمال على البطال)، ‏فيعوق‏ مسيرة ‏اعتماد‏ ‏الآخرين‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏بشكل‏ ‏ما، ويستمد وجوده – على حساب نموه شخصيا – من ذلك الاعتماد الذى يلعب فيه بشكل غير مباشر دور المعالج Playing Psychiatry ‏.‏

نبدأ المتن قائلا:

(1)

وعيونه‏ ‏الرايقه‏ ‏الهاديه‏،‏

قال‏ ‏إيه‏‏؟‏! ‏بتطمن‏ ‏؟‏!!‏

بس‏ ‏أنا‏ ‏مش‏ ‏قادر‏ ‏اتطمن‏،

أصله‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏بعضه‏ ‏قوى!! ‏

‏ينبغى ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏بين‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏للفرد‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏بعضها‏، ‏من‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏متصارعة‏ ‏مع‏ ‏بعضها‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏متصادمة‏ ‏مع‏ ‏بعضها.

وعلى الجانب الآخر أن تكون: ‏متعاونة‏ ‏مع‏ ‏بعضها،‏ ‏أو متفقة ساكنة مع بعضها، أو ‏متكاملة‏ ‏فى ‏بعضها‏.‏

فى هذا التشكيل نحن أمام أول صفة: أن تكون بعيدة عن بعضها.

 وصلنى أن هذا البعد الذى بدا لى أكبر من تصور الجميع (ومن هنا ثقتهم واعتماديتهم) هو نتيجة لتنامى قشرة صلبة اضطر صاحبها لتقويتها بكل ما أوتى من صبر وعناد، وقد رجحتُ ‏أن‏ ‏ظروف الواقع طوليا قد اضطرته أن ينمى هذه القشرة لمواجهة العالم الخارجى القاسى المتحفز من البداية، هذا الاضطرار هو مشروع من حيث المبدأ، شريطة أن يكون مرحليا، أما إذا كان نهائيا وثابتا حتى تطغى هذه القشرة ‏على‏ ‏حاجاته‏ ‏الفطرية‏ ‏وحقه‏ ‏فى ‏الضعف‏ ‏والأخذ‏، ‏فإن الأمر يصبح تقزيما وإعاقة دائمة معجزة.

أن يبتعد بعضنا (مستوى من مستويات وجودنا) عن بعضنا (مستوى آخر) هو مقبول لو كان مرحلة ضرورية لها عمرها الافتراضى، ثم تنبعث الحركة وتتغير المسافات باستمرار.

فى العلاج النفسى كثيرا ما نواجَه بهذه القشرة القوية لدرجة تكاد تهدد باحتمال أن التوقف دائم وأنه لا سبيل إلى التعتعة للتقريب بين المتباعدين، وعلينا أن نحترم ذلك، ونعطى الفرصة الكافية من الزمن والإصرار، ونحن حريصون كل الحرص ألا ننخدع بحركة زائفة، أو عقلنة تعلن الحاجة إلى الحركة، لكنها لا تؤدى إلا إلى مظهر الحركة دون حركة، بمعنى الحركة الزائفة (أو المغلقة فى المحل) بشكل أو بآخر.

فى اضطراب الشخصية، وفى العصاب المزمن، وفى فرط العادية Hyper–normality نقابل هذا الابتعاد ويحتاج الأمر إلى ما ذكرنا.

فى المرض النفسى الجسيم العقلى-الجنونى، تتشقق هذه القشرة وتنفلت منها فقاعات طاقة عشوائية، أو تتكسر تماما، ويحدث التناثر.

وقد يتم التفاهم أو التعاون بالتناوب بين المستويين (أى مستويين أو أكثر) مما يتفق مع قانون جيد هو أساس جوهرى فى تفكيرى، ألا وهو الإيقاع الحيوى، ويحدث هذا التناوب عند كل الناس بطريقة منظمة أظهرها التناوب بين النوم واليقظة، وبين الحلم واللاحلم أثناء النوم، وكذلك التناوب‏ ‏بين‏ ‏العمل‏ ‏والراحة‏، ‏بين‏ ‏المنطق‏ ‏الأرسطى‏ ‏والانطلاق‏ ‏الخلاق‏، ولكن هذا التناوب يكون صحـِّـيا وصحيحا إذا لم يتم فى دائرة مغلقة‏، وهو يصبح ضابط إيقاع التكامل حين تنتهى كل دورة أعلى من موقعها بأى قدر حتى لو لم يكن النمو ملموسا حالا.

هذا هو ما نأمل أن نوضحه فى مسيرة كل من العلاج النفسى، والنمو، فما العلاج النفسى إلا موجز مهنى مبرمج يتوجه نحو إطلاق سراح الطبيعة فى نبضها النامى، المفروض أن العلاقة بين هذين المستويين تنقلب بفضل هذا النبض الحيوى إلى تناقض تأليفى حيوى نابض، ‏فيصبح‏ ‏عمل‏ ‏القشرة‏ ‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏إثراءا‏ ‏للجوهر‏ ‏الأعمق‏، ‏ويصبح الجوهر الأعمق هو الطاقة المختزنة القادرة على خلخلة جمود القشرة، ومن ثم تهيئة مسامية سامحة منضبطة فى نفس الوقت، ‏ولا‏ ‏يتم‏ ‏هذا‏ ‏التكامل‏ ‏إلا‏ ‏بحوار‏ ‏تطورى ‏يؤلف‏ ‏بين‏ ‏الأضداد‏ دون تسوية حلوسطية.

حاولت أن أرصد مثل هذا النبض بطريقة تطمئننى إليه مثل سائر المطمئنين، فعجزت، وكثيرا ما عزوت هذا العجز لطمعى فى تحريكه، ربما لنفسى، أكثر مما ينبغى، أو يستطيع.

‏‏البعد‏ ‏ ‏بين‏ ‏أجزاء‏ ‏صاحبنا‏ ‏(أصله بعيد عن بعضه قوى) لم يصلنى فى شكل الصراع أو التصادم، وإنما حضرتنى صيغة أكثر عدلا، فأسميته “‏تصالحٌ‏ ‏مؤجَّل“، وقد‏ ‏كان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أرصد‏ ‏محاولات‏ ‏اقتراب‏ ‏صاحبنا‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏بعضه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أسمح‏ ‏لنفسى ‏بالتفاؤل‏ ‏باستمرار‏ ‏مسيرة‏ ‏التكامل‏.

فى العلاج النفسى، لا بد من هذا الإصرار على رصد أية بارقة حركة مهما ضؤلت أو خفت صوتها، إن أى تراخ يبعد بنا عن صلابة التفاؤل من خلال احترامنا المطلق للطبيعة البشرية هو ضد ما هو علاج نمائى حقيقى، الأمر الذى أُصـِـرّ على ترادفه بأنه ضد “خلقة ربنا”. ‏(ربى كما خلقتنى).

شايف‏ ‏حاجـتـين‏ ‏بقليله‏:‏

إشـِى ‏جـُوَّهْ‏ ‏قـوى. . ‏قـوى ‏خـالـص‏،‏

واشى ‏بـره‏ ‏قوى .. ‏قوى ‏خـالـص‏،‏

والـِهـّـو‏ ‏بنـاتهـــم‏ ‏بيخوف‏.‏

‏(2)‏

نظراته‏ ‏تمــــــــــد‏.‏

وسْـــكاتــه‏ ‏يـخـض‏،‏

وحســــابـــه‏ ‏يـْعِـــد‏.‏

ويبقــلـل‏ ‏لما‏ ‏بيضحك‏،‏

وبيـضحك‏ ‏لما‏ ‏بـيـسكـت‏،‏

وبـيـسكت‏ ‏لـمــا‏ ‏بـيـحس‏.‏

راكن‏ ‏على ‏سور‏ ‏التراسينه‏،‏

كما‏ ‏زير‏ ‏فـخـار‏ ‏شـكـلـه‏ ‏مـزوق‏.‏

والعطشان‏ ‏مـنا‏ ‏يروح‏ ‏جنبه‏،‏

يمكن‏ ‏يشرب‏.‏

‏‏ولأن‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏بين‏ ‏أجزاء صاحبنا‏ ‏ليس‏ ‏صراعا‏ ‏أو‏ ‏تصادما‏، ‏فإنه‏ ‏كان‏ ‏كثير‏ ‏الصمت‏، ‏حاد‏ ‏الانتباه‏، ‏حاذق‏ ‏الحسابات، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏كان‏ ‏مدعاة‏ ‏لتساؤلي ‏وانتظارى ‏للمفاجآت‏.‏

‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الوجود‏ ‏الخاص‏ ‏المتباعد‏ عن بعضه ‏إلى هذه الدرجة – من وجهة نظرى – ‏يعلن العجز عن التعبير عن‏ ‏الخبرة‏ ‏الداخلية‏ أو ‏معايشتها إلا بتفجرات تكاد تصل إلى ما يشبه التشنج أحيانا، كانت أحيانا تفجرات ضاحكة، وأحيانا انقضاضات صاعقة، يتبادل ذلك مع صمت دفاعى ممتد، وكأنه قلب النبض الحيوى المتبادل إلى نبض آخر (فى المحل غالبا) بين طورين بديلين هما: الانقضاض الصارخ، والانسحاب الصامت. صمته هذا كان يصل إلى الأغلبية على أنه حكمة هادئة، فى حين أننى كنت أشعر وراءه بمزيج من خوفه الذى قد يصل إلى الجبن، واحتمال التأجيل الذى يدل على متانة الأمل فى الخطوة الواثقة التالية، فأطمئن إلى التفسير الأخير، لكن لا يستمر هذا الاطمئنان طويلا.

فى العلاج النفسى، لا ينبغى أن يسمح المعالج لنفسه بالاستقرار فى مرحلة معينة أكثر من اللازم، إن ما يصلنا من معلومات نبنى عليها رأينا فى مرحلة ما، هو مجرد فرض قابل للاختبار باستمرار على طول مسيرة العلاج المتغير أبدا.

(3)‏

وارجع‏ ‏وأشك‏ ‏ف‏ ‏تسهيمـْتـُــهْ‏:‏

‏ ‏ما‏ ‏يكونشى ‏الزير‏ ‏دا‏ ‏مـْنـَحـَّس‏؟

ولا‏ ‏هـَوَا‏ ‏يـلطـُشـُهُ‏ ‏ولا‏ ‏يـِبـْـرَد‏،‏

ولا‏ ‏بيطرّى ‏عالقـــلب‏.

الاقتراب من هذا التركيب المتباعد عن بعضه، الصلب القشرة، الواعد بتفاؤل هادئ عنيد، المهدد بتفجر صاخب خطر، ينبغى أن يتم بمنتهى الحذر حتى لا يتفجر منك بغير احتمال رأب الصدع، وهنا تصبح الحسبة مع مثل هذا التركيب من أصعب ما يمكن، لكن لا مفر من المحاولة، كنت كلما اقتربت منه بأمل أن يطمئن هذا الذى يطمئن إليه الجميع فيحرمونه من حقه فى الطمأنينة بدوره، كان يقابلنى بمقاومة لا حدود لها، تظهر فى اعتراضات غاضبة، أو انفجارات صاخبة، أو عشوائية، وكل ذلك لا يسمح بأى تمهيد للسبيل إلى تواصل مهما بدت المحاولات جادة من الجانبين.‏

مـَانـَا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏اجرّب‏ ‏أمّيـله‏ ‏حبّـه‏: ‏بـيـكَـْركـَرْ‏، ‏وْيـِبـَقـْـلِـلْ‏،‏

والميه‏ ‏لما‏ ‏بتنزل‏ – ‏إذا‏ ‏نزلت‏ – ‏بـتـْطـَرطـَـشْ‏،‏

وتغـَّرق‏ ‏وشى ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏تـوصـل‏ ‏زورى،‏

إذا‏ ‏وصـلـت‏ ‏خـالـص‏. ‏

فى العلاج الجمعى خاصة يكون الأمر شديد الصعوبة، وبالتالى فإن الحذر وضبط الجرعة هو من أهم أسلحة التعامل مع مثل هذا التركيب، وقد كنت‏ ‏أخشى ‏طول الوقت ‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الصمت‏ ‏والحكمة‏ ‏المبكرة‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏‏ الدفاع ‏الخادع الذى يبدو كأنه الحكمة، وهو ليس سوى الحذر من الاقتراب.

‏اقتحام هذا التركيب بالتلويح بالعطاء، والطمأنة، والاقتراب الواعد، يـُقابـَل عادة بالرفض، والتأجيل، والثقة بالقدرة على الاعتماد على النفس، دون حاجة لأى عون خارجى، وبـِرفضٍ عنيف لأى مبادرة بالعطاء مهما كانت جادة وأصيلة.

‏(4)‏

وأحاول‏ ‏أخـْـرُم‏ ‏حَــلـْـقُـهْ‏،‏

أو‏ ‏اصـنْـفـَـر‏ ‏جلده‏. ‏

وصاحبنا‏ ‏يـزرجن‏ ‏ويقوللى:‏

‏”‏أنا‏ ‏حا‏ ‏تصنفر‏ ‏من‏ ‏جوه‏”. ‏

ينفخ‏ ‏نـفـسه‏ ‏ويْـبـَعـْـجَـر‏،‏

وأخاف‏ ‏يـتـفـجر‏.‏

لا ينبغى أن تؤخذ هذه الدرجة من المقاومة على أنها علامة سلبية تحول دون استمرار العملية الآملة فى إزالة عرقلة حركية النمو، إن المبالغة فى الحرص على الاستقلال، وعلى تفضيل البدء من داخله دون اعتمادية ‏(‏أنا‏ ‏حا‏ ‏تصنفر‏ ‏من‏ ‏جوه‏)‏، قد تثبت فى النهاية أنها طريق أضمن تجنبا للتقليد أو الاعتمادية أو التبعية.

فى ‏العلاج‏ ‏النفسى الجمعى خاصة تصعب تماما التفرقة بين هذا العناد الاعتزازى الصريح الواعد بانطلاق مستقل منضم إلى التوجه المشترك المحيط، وبين العناد المغرور المعتز بذاته على حساب أى علاقة حقيقية فيها تهديد لما استقرت عليه صورة الذات بما يشمل الثقة المفرطة التى تصل إلى الغرور.

وما دمنا نتكلم عن “فقه العلاقات البشرية“، فدعونا نتعرف بأمانة على هذه الصعوبة الجديدة من شخص له كل هذا الحضور الواعد الإيجابى، ومع ذلك هو يمارس كل هذه المقاومة بكل هذا العناد الذى قد يتمادى حتى ‏يحمّل‏ ‏صاحبه‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏طاقة‏ ‏له‏ ‏به‏، مما قد يوقفه فى النهاية، هذا بعض ما حيرنى طول الوقت وأنا أصر على ترجيح إيجابية محاولته.

 (5)

وأبـَحـْلـَق‏ ‏جوا‏ ‏عنيه‏:‏

يتهيأ‏ ‏لى ‏الهِوْ‏ ‏بيصغر‏،‏

ويقـرب‏ ‏حـبـّه‏ ‏مـن‏ ‏نـفسـه

ويقـرب‏ ‏بعضـه‏ ‏عـلى ‏بـعـضه‏ ‏

واسمع‏ ‏لـك‏ ‏قـَرْش‏ ‏سـْنـَانُـهْ‏،‏

وعنيهْ ‏بتـطـَقّ‏ ‏شرار‏،‏

وصـْدَاغـُه‏ ‏بتنفخ‏ ‏نار‏.‏

‏ ‏ ‏المسار‏ ‏الصحيح‏ على طريق النمو هو‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏المسيرة‏ ‏صحبة‏ ‏إيجابية‏، ‏صحبة تسمح “بالانفراد” بقدر ما تمارس احترام المسافة والاختلاف، وفى نفس الوقت تكون حاضرة جاهزة لرفض الانسحاب مهما بلغ الخوف من الاعتماد والتبعية، لا أريد أن أكرر تعبير “أن تكون وحدك مع” To be alone with  [2]  بشكل يفقده أهميته، دعونا نبتدع تعبير “أن تكون نفسك معهم وبهم” بدلا من “أن تكون وحدك مع” ونترجمه بالمرة حتى لا يزعل أحد To be yourself along with = them ‏.

‏ ‏الإنسان‏ (‏مريضا‏ ‏أو‏ ‏متطورا‏) ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏رفيق‏ ‏سلاح، ‏ولا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏محفة‏ ‏نقل، ولا إلى مخبأ مصفحة، وهكذا، هكذا فقط يمكن أن تقترب أبعاضنا من بعضها، مهما بلغت المشقة وتضاعف الجهد.

 (6)‏

لا‏ ‏يا‏ ‏عمْ‏، ‏الطـيب‏ ‏أحـسـن‏.‏

مالناش‏ ‏غير‏ ‏إننا‏ ‏نمـشـى، ‏ونمـشـى، ‏ونمـشـي‏.‏

وما‏ ‏دام‏ ‏ما‏ ‏احناش‏ ‏حا‏ ‏نبطـل‏،‏

يبقى ‏لمْ‏ ‏بد‏ ‏حانوصل‏. ‏

يا‏ ‏حلاوة‏ ‏المشى ‏الجدْ

حتى ‏لو‏ ‏قال العنْد:

لأَّهْ، مش عايز حَدْ‏.!!

فى ‏النهاية‏ – ‏كما‏ ‏هو‏ ‏فى ‏البداية‏ – ‏فإن‏ ‏الضمان‏ ‏الأوحد‏ ‏على ‏طول‏ ‏الطريق‏ ‏مع اليقين بالمعْيه‏، هو الاستمرار بجدية الكدح المثابر، ‏أما‏ ‏تبادل‏ ‏الطمأنينة‏ مؤقتا ‏فهو‏ ‏دور‏ ‏محدود‏، وقد يكون مقبولا لفترة، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يقوم‏ ‏مقام‏ “جهاد‏ ‏البقاء‏” ‏وهو‏ ‏الجهاد‏ ‏الأكبر‏.‏

‏مواصلة‏ ‏السير‏، ‏مع‏ ‏الائتناس‏ ‏بأن‏ ‏هناك‏ ‏من‏ ‏يقوم‏ ‏بنفس‏ ‏المحاولة، ‏لنفس‏ ‏الهدف‏ ‏العام‏ ‏هو‏ ‏السبيل‏ ‏الوحيد‏ ‏للطمأنينة‏ ‏والأمان‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏النمو‏.‏

وهكذا تصبح كل صعوبة هى بعث لأمل واقعى جديد.

***

ثم نختم كالعادة بالقصيدة مجتمعة:

(1)

وعيونه‏ ‏الرايقه‏ ‏الهاديه‏،‏

قال‏ ‏إيه‏‏؟‏! ‏بتطمن‏؟‏!!‏

بس‏ ‏أنا‏ ‏مش‏ ‏قادر‏ ‏اتطمن‏،

أصله‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏بعضه‏ ‏قوى!! ‏

شايف‏ ‏حاجـتـين‏ ‏بقليله‏:‏

إشـِى ‏جـُوَّهْ‏ ‏قـوى .. ‏قـوى ‏خـالـص‏،‏

واشى ‏بـره‏ ‏قوى .. ‏قوى ‏خـالـص‏،‏

والـِهـّـو‏ ‏بنـاتهـــم‏ ‏بيخوف‏.‏

‏(2)‏

نظراته‏ ‏تمــــــــــد‏.‏

وسْـــكاتــه‏ ‏يـخـض‏،‏

وحســــابـــه‏ ‏يـْعِـــد‏.‏

ويبقــلـل‏ ‏لما‏ ‏بيضحك‏،‏

وبيـضحك‏ ‏لما‏ ‏بـيـسكـت‏،‏

وبـيـسكت‏ ‏لـمــا‏ ‏بـيـحس‏.‏

راكن‏ ‏على ‏سور‏ ‏التراسينه‏،‏

كما‏ ‏زير‏ ‏فـخـار‏ ‏شـكـلـه‏ ‏مـزوق‏.‏

والعطشان‏ ‏مـنا‏ ‏يروح‏ ‏جنبه‏،‏

يمكن‏ ‏يشرب‏.‏

(3)‏

وارجع‏ ‏وأشك‏ ‏ف‏ ‏تسهيمـْتـُــهْ‏:‏

‏ ‏ما‏ ‏يكونشى ‏الزير‏ ‏دا‏ ‏مـْنـَحـَّس‏؟

ولا‏ ‏هـَوَا‏ ‏يـلطـُشـُهُ‏ ‏ولا‏ ‏يـِبـْـرَد‏،‏

ولا‏ ‏بيطرّى ‏عالقـــلب‏.

مـَانـَا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏اجرّب‏ ‏أمّيـله‏ ‏حبّـه‏: ‏بـيـكَـْركـَرْ‏، ‏وْيـِبـَقـْـلِـلْ‏،‏

والميه‏ ‏لما‏ ‏بتنزل‏ – ‏إذا‏ ‏نزلت‏ – ‏بـتـْطـَرطـَـشْ‏،‏

وتغـَّرق‏ ‏وشى ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏تـوصـل‏ ‏زورى،‏

إذا‏ ‏وصـلـت‏ ‏خـالـص‏. ‏

‏(4)‏

وأحاول‏ ‏أخـْـرُم‏ ‏حَــلـْـقُـهْ‏،‏

أو‏ ‏اصـنْـفـَـر‏ ‏جلده‏. ‏

وصاحبنا‏ ‏يـزرجن‏ ‏ويقوللى:‏

‏”‏أنا‏ ‏حا‏ ‏تصنفر‏ ‏من‏ ‏جوه‏”. ‏

ينفخ‏ ‏نـفـسه‏ ‏ويْـبـَعـْـجَـر‏،‏

وأخاف‏ ‏يـتـفـجر‏.‏

 (5)

وأبـَحـْلـَق‏ ‏جوا‏ ‏عنيه‏:‏

يتهيأ‏ ‏لى ‏الهِوْ‏ ‏بيصغر‏،‏

ويقـرب‏ ‏حـبـّه‏ ‏مـن‏ ‏نـفسـه

ويقـرب‏ ‏بعضـه‏ ‏عـلى ‏بـعـضه‏ ‏

واسمع‏ ‏لـك‏ ‏قـَرْش‏ ‏سـْنـَانُـهْ‏،‏

وعنيهْ ‏بتـطـَقّ‏ ‏شرار‏،‏

وصـْدَاغـُه‏ ‏بتنفخ‏ ‏نار‏.‏

(6)‏

لا‏ ‏يا‏ ‏عمْ‏، ‏الطـيب‏ ‏أحـسـن‏.‏

مالناش‏ ‏غير‏ ‏إننا‏ ‏نمـشـى، ‏ونمـشـى، ‏ونمـشـي‏.‏

وما‏ ‏دام‏ ‏ما‏ ‏احناش‏ ‏حا‏ ‏نبطـل‏،‏

يبقى ‏لمْ‏ ‏بد‏ ‏حانوصل‏. ‏

يا‏ ‏حلاوة‏ ‏المشى ‏الجدْ

حتى ‏لو‏ ‏قال العنْد:

لأَّهْ، مش عايز حَدْ‏.!!

……………….

……………….

ونواصل السبت القادم لقراءة اللوحة الرابعة عشرة: “دراكيولا”

 ـــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – هذا مصطلح رائع استعرته من المحلل النفسى ” دونالد وينيكوت “

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *