نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 29-6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4319
حركية الوجود وتجليات الإبداع (1)
الكتاب الأول:”الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (5 من ؟)
……….
علاقة الإبداع، فى الشعر خاصة، بظاهرة الحلم
بدءا من هذه المرحلة فى تسلسل العرض، سوف أقصر حديثى على نوعين محددين من الإبداع الأدبى، هما: “الشعر” و”فن القص”، وسوف يختلف تناولى، لكل منهما بما يتفق مع الغرض من هذه الدراسة.
تمتد الرواية زمانيا، بما يتيح أن تستعمل الحلم فى السياق الروائى، أو أن تكون هى نفسها، بعضها أو كلها، حلما فائقا (موجها بقدر من الإرادة والوعى بما لايخل بتشكيله الأساسى). ومن ثم يكون المدخل من باب الرواية بالنظر فى بعض مايرد فيها من أحلام من ناحية، ثم بعض ماتشترك فيه مع الأحلام، هو مدخل متواضع لايخدم مباشرة الغرض الأساسى من هذه الدراسة، ولكنه قد يوضح بعض ماهية الحلم من منطلق أدبى.
أما فيما يخص الشعر، فالأمر يختلف؛ ذلك أن الشعر هو الأقرب إلى الحلم، فهو الإبداع الأدبى المكثف، والمركز، لا بنفس درجة تكثيف الحلم، وتركيزه، وإنما بدرجة كافية للمقارنة، مع اختلاف حضور وعى المبدع إراديا بشكل أو بآخر. فمدخلى من باب الشعر سوف يكون لتصنيفه على نفس نهج ما صنفتُ به الحلم، موازيا له، وشارحا إياه بالقدر المتاح.
نبدأ بالشعر:
المأزق والمخرج (الموقف الدائرى)
الموقف دائرى حرج، حيث أننى أحاول أن أتعرف على ماهية الشعر، وأبعاده، ومستوياته، من خلال فروض غامضة حول ماهية الحلم، وأبعاده، ومستوياته، نتذكر ابتداءً أن الأول “الشعر!! كناتج متاحً: هو أقرب تناولا، وأكثر تحديدا من الثانى “الحلم” بدرجة تسمح بالدراسة والفحص، بل إنه لو صح الفرض القائل: ” إن ظاهرة الشعر - بوصفه فعل الإبداع المكثف فى أعمق مستوياته- هى تشكيل التجليات الأرقى لظاهرة الحلم فى وعى فائق” (2)، فإن التعرف على الشعر هو الذى قد يعلمنا ماهية الحلم، وليس العكس .
وهكذا يمكن أن تصيغ كيف تسلسل الفرض كالتالى:
*إن حركية الحلم هى القادرة على أن تفسر عملية إبداع الشعر ===>
ثم :
*إن عملية تشكيل الشعر يمكن أن تشرح الكامن من حركية إبداع الحلم!
واجهتُ واعيا هذا المأزق بشدة لأننى خبرت هذا الاحتمال شخصيا من حيث أننى أجتهد أحيانا فى “فعل الشعر” (3)، كما أجرّب كثيرا فى حدس الحلم، (فضلا عن مواكبتى المستمرة لتجارب الجنون). لقد حاولت فى تقديمى للحلم أن ألتزم معظم الوقت بما هو حلم مباشرة، أى أن أجتهد فى حدود ظاهرة الحلم فى ذاتها (دون أن أعرج إلى محتواه) ما أمكن ذلك، غير أنى لا أستبعد أن أكون طول الوقت، كنت متأثرا بظاهرة الشعر، والعكس صحيح، فهل لهذا المأزق من مخرج؟
أتصور أن الأفضل ألا نخرج منه، وأن نأمل أن يكون هذا التداخل فى ذاته، من عوامل مشروعية القياس، ولتكن معرفتنا لما هو شعر، تعميقا لفروضنا عن ما هو حلم. وليكن العكس صحيحا أيضا، حتى لا يُختزل الموقف إلى مالا يحتمِل.
العلاقة بين الشعر والحلم
لا أحسب أنه من المفيد أن نناقش، بداية، حدود تعريف ماهو شعر، إذ يبدو أن بعض مانهدف إليه هنا، هو أن نصل إلى ذلك، أو إلى ماهو قريب منه. إذن: لنا أن نتصور أن كل ماقيل عنه إنه شعر فهو شعر، حتى نرى.
ومع تذكر تحفظنا المبدئى تجاه الموقف الدائرى الذى ورد فى الفقرة السابقة، دعونا نتذكر ما ذهبنا إليه فيما هو حلم لنرى ما المشترك معه فيما هو شعر، بصفة عامة:
*الحلم إيقاع منتظم (فسيولوجيا).. والشعر (الموزون) كذلك (بخاصة العمودى منه).
*الحلم جرعة مكثفة… والشعر الجيد كذلك.
*الحلم تنشيط محرِّك…وكذلك الشعر.
*الحلم لغة: عيانية/مفهومية تشكيلية: “معا”.. وبعض الشعر كذلك.
*والشعر - كالحلم عند يونج على الأقل- هو اقتحام ثورىبديل لواقع داخلى وخارجى يتحدى باستقراره وجموده.
*والشعر- كالحلم- يخترق واقع الذات قبل (ومع) مصارعة واقع الخارج، إذ “يتحرك بوصفه فاعلية إبداعية فى مدار التجاوز”، إلا أن اختراق الشعر لواقع الذات (ابتداء) يتفوق على اختراق الحلم لهذا الواقع؛ لأنه يتم بإرادة مقتحِمة، وفى وعىٍ فائق، يستحث التفكيك، ويتحمل مسئوليته، ومن ثم: الفرصة لاحتواء الواقع المخترق بعد ضربه-لتخليق التصعيد، اللامّ، والمتفجر، معا. ومِنْ ثمَّ: تخليق الواقع الإبداعى.
*أما الحلم، فهو ينتهز الفرصة لتوليف إبداعه من تفكيك جاهز (من واقع حتم إيقاعية التناوب بين النشاط الحالم، والنوم واليقظة)، دون التوقف عند محتواه، بل بالتوصية – حسب فروضنا الحالية – بتجاوز محتواه.
*الحلم يستعمل لغته الخاصة فى داخل عباءة النوم، “بمناسبة” التراجع المؤقت والدورى المنتظم للغة المفهومية الراسخة القبـْـلية (اللغة بمعناها الأوسع)، فهو يجدد فى اللغة، بل يبتدع لغته فى غياب اللغة، أو على حساب اللغة الجاهزة السائدة.
*والشعر الشعر، هو يجدد اللغة بأكثر الخطوات شجاعة، واقتحام، ومخاطرة، فالشعر بذلك هو الذى يجدد الشاعر أيضا.
………….
-2-
تدقُّ بابى الكلمة
أصدّها.
تُغافل الوعى القديم،
أنتفضْ.
أحاولُ الهربْ،
تلحقنُى.
أكونُها،
فأنسلخْْ.
…..
قصيدة: ياليت شعرى ..، لستُ شاعرا
ديوان: “شظايا المرايا”
* لغة الحلم لغة مصورة وهى لا تستلزم بالضرورة -كما ذكرنا- أن تترجم إلى لغة لفظية، أو مفهومية؛ إذ أن الصورة - بذاتها- تؤدى، وتحتوى، وتحتمل، مالا يقدر عليه اللفظ، برغم استعمالها الألفاظ ألوانا وتشكيلات أكثر منها رموزا وتجريدا وهذا من طبيعة عملية إبداع الحلم، فى زمن بالغ القصر، إذ لا يمكنه البحث عن اللفظ المناسب، لاحتواء المادة المستثارة، دون تشويه لأصالة التركيب الأولى.
*ولغة الشعر لغة مصورة أيضا، لكنها ترسم الصورة بنفس الأبجدية الأم، فالشعر يستعمل اللفظ ليتجاوزه، ويحطم حدوده، ويعيد شحنه حين يشكل بما حوله، به، سياقا يبعث فيه من المضامين والمعانى، مايحتمل توسيع دائرته وفعله حتى يشكل قائله كما يشكله قائله.
تحديد مستويات الشعر(قياسا بالحلم)
استـدرَجَنا فعل الحلم ومستوياته – قياسا- حتى وصلنا إلى “أقصى الشعر” الذى يتشكل بأقل درجة من فرط وصاية التفكير العادى (تفكير اليقظة) على شكل الشعر ومحتواه.
بصفة عامة يمكن أن نتعرف على جوهر طبيعته من خلال فهم عملياته الأساسية باعتبار أنه:
فى الشعر تستوعب العملية الإبداعية الطاقة الخلاقة فى فعل تنشيط، وتحريك فتفكيك فتنظيم مستويات الوعى ومفردات المعلومات، فى نمط يتميز بالإيقاع، والتصوير، و إعادة تخليق البنية الأساسية (بها جميعا)، حيث الأداة الغالبة هى التشكيل بالأبجدية اللفظية الحاضرة أساسا (وليس تماما)، وهو يتم بدرجة من الإرادة والتوجه فى وعى فائق، تشيكلا لصور نابضة لا تعنى إلا ما ينبعث منها.
…………..
-1-
أدرتُُُ زرَّ النَّسْمة العليلهْ،
روَّضت ليثَ العاَصفهْ،
أغفيتُ فى مراكزِ الدوائر.
-2-
بحثتُُُ عن شوقٍٍٍ قديمٍٍٍ غامضٍ،
عنَ بـَـغتَة المواجهة ،
عن حفْزِ صَدِّ القَدَرِ،
عنَ ثَوْرِة الجُلوِد والمشاعرْ،
فغاصتْْ الأناملْ
فى خدْر لهفةٍ مـُهـَلـْهـَلـَة
وذابتْْ القلَوُبُ فى رخاوِة القناعهْ.
-3-
………
-4-
………..
-5-
……….
-6-
يلوح فى سمائىَ القديمهْ،
وجهٌ مضئ بالبراءة الجريئة،
وضحكةٌ لثدىِ أمٍِّّّ مُرضعهْ،
وفرحة المجون والبسالهْ.
-7-
تخبو الملامح الحريفة،
تدبُّ فى رتابهْ.
يتوه وجه الشمس خلف المدفأهْْ.
من قصيدة: لدائنُ اللذاتِ .. والشبع (4)
ديوان: “شظايا المرايا”
مستويات الشعر الذى لم يُقل
ثمة شعر لم يُقل أصلا، وهذا مايقابل التنشيط المبدئى للداخل فالخارج، هو لم يُقَلْ إذ يمر سريعا بمراحله الإبداعية الطبيعية، من تفكيك، وتحريك، فَوُلَاف داخلى، دون أن يتمكن الشاعر من اللحاق به، للإمساك بمادته، وتسجيلها، وتطويرها فى صياغة معلنة. هذا المستوى هو ما يمكن أن يسمى: “القصيدة بالقوة”، أى: الشعر الذى لم يقل (أصلا). ويمكن أن نفترض أن كل قصيدة معلنة قد نبعت من هذا المستوى الذى سيظل مستوى فرضيا أبدا، لأن مجرد قول الشعر فى شكل معلن، أو مسجل، ينقله إلى مستوى آخر، سوف نسمى هذا المستوى: ”القصيدة بالفعل” التى لا تتطابق بالضرورة مع “القصيدة بالقوة”؛ وإن كانت تحاول احتواءها . كثيرا ما يجد المبدع نفسه فى حالة حصار مبعثه عدم التطابق بين القصيدة بالقوة والقصيدة بالفعل، أى بين مايراد قوله، ومايقال (5) .
ثـَـمَّ تحفظ على أن القصيدة بالقوة هى مايراد قوله (بالمعنى الظاهر)، لأنها:
هى التنشيط فالتوليف الضاغط الذى ينبغى قوله، أو الذى يُلِحّ ليقال، وهو الذى لا يمكن قوله هو هو. إنه يضغط ليفرض نفسه، إذ يتوجه “بالإرادة – فى- الأداة” إلى الكشف الممكن، لكنه عادة (ربما دائما) لا يتمكن من ذلك، لأن مايقال-فعلا- ليس إلا نتاج المحاولة اللاهثة الناقصة، لإرادة مايـَضغط، ليصاغ، فيعلن، ولا يعلن بما هو!.
وبقدر الفرق بين سرعة إيقاع بناء “القصيدة بالقوة” وسرعة إيقاع إخراجها، يكون الفرق بين المستويين، بما يصاحبه من ألم وقلق هما الدافع عادة للاستمرار فى محاولات لا تنتهى من الإبداع. لعل بعض هذا هو ماعبر عنه ت. س. إليوت، بقوله:
“لم يتعلم المرء إلا انتقاء خير الكلام للشئ الذى لم تعد ثمة ضرورة لقوله،
وبالطريقة التى لم يعد ميالا لقوله بها” (6)
وعلى ذلك ، مرة أخرى، فإن مايقوله الشاعر- أخيرا- ليس هو ما كان يلحّ حتى يقال، أو ما كان يجدر بالشاعر أن يقوله، فهو على الرغم من أنه نابع مما لم يقله، مما لم يستطع أن يصيغه، إلا أنه ليس هو هو! إن هذا المستوى الأعمق غير المعلن قد يقابل مستوى “الحلم بالقوة” الذى لا يمكن إظهاره كما هو، والذى نستنتج بعضه، أو أقله، من نتاج وفاعلية ”الحلم بالفعل”، أو من تشكيل الحلم المحكى الذى رواه الحالم كما استطاع، لا كما حدث. حين أقول “يقابل” فإننى لا أعنى تطابقا بحال من الأحوال، لأن القصيدة بالقوة – لكى تسمى كذلك- لابد أن تكون قصيدة بشروط الإبداع (على الرغم من أنها لم تـُـقـَـل)، إذ لابد أن:
تهز، وتُرعب، وتُفكك، وتُغامـر، وتَحتوى، وتَتَآلف، وتَتَناقض، فتجتمع، لتهرب، ثم تجتمع لتصعد، ثم تجتمع، لـتـلـُم، ثم تتفكك، فتتصارع، فتتواجه، فتعلو مشتملة (دون الالتزام بهذا الترتيب)، ثم تقال أو لا تقال،
أعنى أنه لكى يكون الشعر شعرا
(1) لابد أن يرجـّـحُ جانب البناء فى النهاية
(2) كما لابد من درجة من القصد (والقصدية لا تشترط الوعى الكامل).
(3) ولابد أيضا أن يغلب جانب الولاف على جانب التعتعة بما نستنتج معه حتمية احتواء أكثر من مستوى من مستويات الوعى.
أما الحلم بالقوة، فهو نشاط إيقاعى حتمى، يحدث بالتبادل مع مستويات الوعى الأخرى؛ ويكون نتاجه إيجابيا فى حالة السواء، لكن ذلك لايصل -عادة- إلى درجة الولاف الأعلى المعلن سلوكا أو تغيرا نوعيا فى الوعى (إبداعا) إلا فى فترات قفزات النمو النوعى للشخصية دون وعى كامل أيضا، وفى هذه المرحلة قد يحق لبعض الأحلام أن تُعد أبيات قصيدٍة بالقوة، حين تتجلى نتائجها فى صورة ما يشبه الطفرة النمائية، أى الخطوة من نبضة الفرد ذاته على مسار نموه، حين يصحو الواحد منا جديدا جدة نوعية لا يعرف لها سببا، وكأنه ولد من جديد أو بُـعِثَ بعد موت.
ولعل كثيرا من حقائق الوجود التى نعجز أصلا عن قولها هى من باب هذا الشعر الأصل:
فالموت-الموت- شعر لايقال (بالنظر إلى الجانب البنائى فيه لا مجرد مظهر التحلل العدمى)، يقول أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور:
“…ففى لحظة الشعر، خصوصا لحظة الموت، ذلك الشعر الآخر” (7). بل إن “الله سبحانه” - من منظور تصوفى معين- يمكن أن يدرَكْ شمولا، وهو الذى ليس كمثله شئ، من منطلق هذا الذى هو” شعر لايقال”.
…………..
-1-
قطعوا حبالى بُعْثرت أوصالى،
وفُطمت من قبل الرضَـاعْ.
فقبعتُ فى ركــنٍ قصىٍّ مظلمِ،
وحبوتُ جذعى للجدارِ تمايلـتْ أعطافـُهُ،
فلَـزمتُ صمْـِتى.
-2-3-4-
……………
-5-
وتسـَرَّبتْ خطواتنا بين الشقوقِ الجائعةْ.
ياربـــَّـنا ياقَـدرَى ،
جفـَّـتْ مَـنَـابـِعى ،
خُـذْنى كَـفَـى ،
خُـذْنى كـفـى .
…………..
…………..
فأضاء وعيى بالمـُـنـى،
تمتد بعد المنتهى.
يــا فرحتى: لستُ أنــا.
هى فرحة الطير الذى تطايرت خميلـَتـُهْ،
ثم الْـتَـقَـى بأمّه
حَـمَـلـَتْـهُ تحت جِـناحِـهـا، وأوْدعْـته فى الَـفـنَـنْ،
هى فَـرْحة السـَّمَـك الذى رجع المياه،
من بعد ما ذاق الجفافَ الموتَ فى قر الرمال الساخنهْ.
-7-
ورضعتُ من مجرى عيون لا تغيض:
ورأيتُـهُ يسرى بأوراقِ الشجرْ،
وشربتُـهُ قطرا بهيجا فى النَّـدى.
وطعمتُـهُ شهدا رحيقا فى الثمرْ،
وسمعتـُه فى صمـت طائرٍ شـَدَا،
صاحبتُـه صمتاً رصيناً فى الحجرْ
من قصيدة: “ورأيته يسرى بأوراق الشجر!”
ديوان: “ضفائر الظلام واللهب”
على مسار التطور الفردى النابض لا يتم النمو فى زيادة كَـمية بقدر ما يعلن فى نقلات نوعية تبدو مفاجئة، وهى ليست إلا ابيات متالية فى قصيدة النمو البشرى، فهى نتاج تراكمات جدلية متصاعدة، ولا يحدث هذا فى حالة من الوعى اليقظ معظم الوقت، بل إن هذه النقلات إنما تتم أثناء النوم أكثر، بما يجرى فيه من دوام حركية الإيقاع والجدل والإبداع الذاتى (8)
أقصى الشعر
يلى هذا المستوى (القصيدة بالقوة التى لم تظهر) ما يمكن أن أطلق عليه مرحليا “الشعر-الشعر”، أو “أقصى الشعر”، وهو الذى يبدو -لأول وهلة- فجا متناثرا، إذ يمثل أول خطوة ممكنة تعلن نجاح محاولات عبور الموت/التحلل/الجنون؛ فهو الشعر الذى ينجح فى أن يلتقط عمق التفكك وبدايات الـَّلم فى آن. ثم هو يقدر أن يعلنها فى مسئولية إرادية هائلة، حيث القصيدة لم تزل فى عنفوان المفاجأة والتكثيف، فى محاولة احتواء الهجوم على حواجز اللغة والزمان، وحيث يطل الموت كتنظيم بديل ليس له معالم، فيواجهه الشعر ليبعث فيه، ومِـنه، حياة مجهولة ومستكشِفة، لم تتخلق تماما كما أنها لا يكتمل تخليقها إلا فى وعى القارئ (المتلقى: شاعرا).
يقول البياتى “..إن الثورة والإبداع كلاهما عبور من خلال الموت.. حيث الإنسان يموت بقدر مايولد، ويولد بقدر ما يموت” (9)
هذا المستوى يحتاج إلى قدر هائل من الإرادة والمغامرة معا، لأنه يتناول عمقا غائرا من عملية التفكيك فالتركيب، ذلك أنه بدلا من أن يستسلم للتسجيل والرصد بأقل قدر من الإرادة الواعية المسئولة عن استمرار فعل الإبداع، وهو ما يحدث فى الحلم فى مستوياته الأعمق، فإن الشعر يتحمل هذا التنشيط التفكيكى ويتجاوزه به… ويغامر فـ “يقول”.
وبألفاظ أخرى: إن الشاعر لا يكتفى بتسجيل ماتنشط (ونشط) من صور وكيانات الداخل، إذ هو مازال محتفظا بوعى اليقظة الراصد المتحمِّل، بل إنه يتواجد فيه اقتحاما، ثم يستسلم له ليسيطر عليه، ويخاف منه متقدما إليه، غير مضطر إلى الإسراع بترجمته أو بتقريبه إلى أقرب “واحد صحيح” كما تعودنا نحن الحالمين دون شعر يقال.
ثم إن الشاعر يواصل حمل أمانة الوجود الخالق ليحتويه فيه فيقوله: ليس كما هو، وإنما كما تخلّق من المادة المفككة، و بالاقتحام المسئول.
هذا المستوى من الشعر الشعر، هو أقرب المستويات إلى الحلم الحلم، فى مراحل البداية، وفى الوقت نفسه هو أعمق مستويات الشعر إنتاجا وقراءة (إنشاءً، ونقدا) فى مرحلة الاكتمال.
سلبيات التمادى:
لابد أن نلاقى مستويات سلبية مختلفة على أقصى مدرج “التفكك - التخليق” وأعنى بها مستويات: “التناثر – التزييف”، فمثلا نجد على أقصى طرف التناثر ما يسمى بالإملاء الفج (نوع سئ من الأتوماتية) حيث أقصى التراخى واللامسئولية (مما أشك فى حسابه على الشعر أصلا) فى حين نجد على أقصى الجانب الآخر الرَّجز، وربما الزجل وهما ليسا شعرا رغم القافية والوزن.
و يتدرج الشعر نضجا وولافا حتى يصل إلى قمته فيما يسمى “قصيدة النثر” (مع تحفظى على الاسم) التى تمثل أصعب وأخطر مرحلة من الإبداع الغائى المتحدى المسئول.
وبين هذا وذاك قد نلتقى صورا مختلفة من التفكيك والتعيين والرسم.
وكل من القارئ والناقد عليه مهمة عسيرة فى التلقى والربط والولاف، على أنه من الصعب أن نفترض إلقاء مهمة إبداع القصيدة على القارئ أكثر منها على الشاعر، وكأنها مهمة المعالِج منفردا فى مواجهة التناثر الفصامى دون تفاعل المريض الإيجابى (انظر بعد).
[1] – يحيى الرخاوى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”[جدلية الحلم والشعر والجنون] المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2007- القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2]- أدونيس: “زمن الشعر” ص 312- الطبعة الثانية (1978)- دار العودة – بيروت.
[3]- بدءًا من هنا قد استشهد ببعض إبداعى الشعرى مضطرا بعد أن شعرت بصعوبة بالغة فى توصيل ما تضمنه هذا الفرض الجديد الصعب، وقد تعجبت – أثناء مراجعتى – لأصول الطبعة الحالية من استعمالى تعبيرات لم أشرحها فى حينها لكن يبدو أننى عشتها لاحقا أثناء محاولاتى فيما اسميته “فعل الشعر”
[4] – بعد اضطرارى إلى الاستجابة لتركيب جهاز تكييف، ربما سنة 1984
[5]- محمد فتوح أحمد: “توظيف المقدمة فى القصيدة الحديثة” ص 45، المجلد الأول، العدد الرابع مجلة فصول (1981).
[6]- ت.س. إليوت فى م.ل. روزنتال: “شعراء المدرسة الحديثة” ص 20، ترجمة جميل الحسينى، بيروت (مقتطف من محمد فتوح).
[7]- أدونيس “مكان لمسرح الكآبة” ص 211، المجلد الثانى، العدد الأول- مجلة فصول (1981).
[8]- إن رصد “جدل النمو” (بالقوة) ربما يقع فى منطقة تنتظر مرحلة ما بعد تسجيل الجينوم البشرى والتشريح الجينى، لتُحدثنا عن طبيعة ابداع النقلات التطورية لما هو بشر.
[9]-.. مفهوم الشعر، عبد الوهاب البياتى، تجربتى الشعرية، منشورات نزار قبانى، بيروت، ص30، 31 اقتطفه: عز الدين اسماعيل: مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المعاصرين، فصول، المجلد الأول، العدد الرابع، يوليو 1981.