الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ‏ الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الثانية)

‏ الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الثانية)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد4-8-2019

السنة الثانية عشرة

العدد: 4355

‏  الكتاب الثانى:

 “جدلية الجنون والإبداع” (1)  (الحلقة الثانية)

……….

……….

‏- ‏تحديد‏ ‏مفاهيم‏:‏

على‏ ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الجنون‏ ‏والإبداع‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏الشيوع‏ ‏بحيث‏ ‏يبدو‏ ‏كأنه‏ ‏لايحتاج‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏أصلا‏، ‏فإنه تلزمنا مناقشة‏ ‏مضمون‏ ‏هذه‏ ‏المفـاهيم‏ ‏حتى ‏تتحدد‏ ‏معالم‏ ‏ما‏ ‏نشير‏ ‏إليه‏ هنا ‏بدقة‏ ‏مناسبة‏،‏ لذلك سـوف نحاول‏ -‏ ‏ابتداء‏ ‏-‏ ‏تحديد‏ ما نعنيه بكلٍّ‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏، وذلك بصورة مبدئية، مع‏ ‏الوضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحديد‏ ‏المبدئى ‏ليس‏ ‏ملزما‏ ‏حتى ‏نهاية‏ ‏المداخلة‏، ‏فهو‏ ‏قابل‏ ‏للتعديل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تطور‏ ‏التناول‏ ‏وإعادة‏ ‏النظر‏ ‏طول‏ ‏الوقت.

لم‏ ‏يستقر‏ ‏الأطباء‏ ‏المختصون‏ ‏أنفسهم‏ ‏على ‏وصف‏ ‏الجنون‏ ‏أو‏ ‏تحديده‏ ‏أو‏ ‏تقسيمه‏ ‏إلى ‏فئات‏ ‏متفق‏ ‏عليها‏ ‏اتفاقا‏ ‏تاما‏ ‏حتى‏الآن‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏عجزهم‏ ‏عن‏ ‏تحديد‏ ‏أسبابه‏ ‏أو‏ ‏أبعاده‏ ‏أو‏ ‏معانيه‏ ‏أو‏ ‏غاياته‏، ‏فكيف‏ ‏يكون‏ ‏الحال‏ ‏عند‏ ‏الأديب‏ ‏والناقد‏، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏المثقف‏ ‏العام‏، ‏لاسيما‏ ‏أن‏ ‏لفظ‏ “الجنون”  ‏يستعمل‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المجالات‏ ‏استعمالا‏ ‏متواترا؟ إن‏ ‏المـُراجع‏ ‏لاستعمال‏ ‏الأطباء‏ ‏المختصين‏ ‏للفظ‏ ‏الجنون‏، ‏سوف‏ ‏يكتشف‏ ‏أنهم‏ ‏يستعملون – الآن خاصة – ‏ ‏ألفاظا‏ ‏بديلة‏، ‏كما‏ ‏سوف‏ ‏يتبين‏ ‏أنهم‏ ‏لم‏ ‏يتفقوا‏ ‏لا‏ ‏على ‏مضمون‏ ‏اللفظ‏ ‏ولا‏ ‏على ‏مضمون‏ ‏ما‏ ‏اقترحوا‏ ‏من‏ ‏مترادفات‏ للفظ‏ ‏الجنون‏‏. فى الإنجليزية. مثلا: نجد أن لفظ ‏ Madness ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مستعملا‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العلمية‏ ‏الطبية‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أحلوا‏ ‏محله‏ ‏ألفاظ‏ ‏مثل‏ ‏الذهان‏ Psychosis، ‏والخرف‏ Dementia ‏وما‏ ‏شابه‏. والترجمة إلى العربية – وهى السائدة بين الأطباء العرب للأسف- تسير على نفس النهج الغامض غير الجامع وغير المانع.  ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فما‏ ‏زال‏ ‏الاستعمال‏ (‏الطبي‏) ‏الشائع‏ للفظ الجنون ‏يشمل‏ ‏معانى: ‏الاختلاف‏ ‏الشديد‏، ‏والغربة الشاذة جدا‏، ‏والاغتراب المتمادى‏، ‏والانسحاب‏ ‏الشامل‏ ‏من‏ ‏الواقع‏، ‏والتفجر‏ ‏الخطر‏، ‏والتناثر‏، ‏وبقايا‏ ‏المحاولة‏ (‏التطورية‏ ‏المخفـِقـَـةْ‏)، ‏والموت‏ ‏النفسى، ‏والنشوز‏ ‏السلوكى ‏الخطر،‏ ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏لأحد‏ ‏أن‏ ‏يتبين‏ ‏أيا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المعانى ‏هو‏ ‏المراد‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏متكامل‏ ‏أو‏ ‏بعد‏ ‏تحـديد‏ ‏إجرائى ‏معلن‏.‏

أما عند العامة فإننا ‏ ‏نجد‏ ‏نوعا آخر من‏ ‏‏الخلط‏ ‏والتداخل‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ ‏الجنون‏ ‏فى مختلف المجالات. ‏فـفى ‏مجال‏ ‏الأخلاق‏ ‏يـستعمل‏ ‏لفظ‏ ‏الجنون‏ ‏ليشمل‏ ‏معانى ‏متعددة‏، ‏مثل‏: ‏العدوان‏ ‏الفج‏، ‏والتبلد‏، ‏والحمق‏، ‏والجسارة‏ ‏الجسيمة‏، ‏والقحة‏، ‏وغيرها‏. ‏وفى ‏مجال‏ ‏الأدب‏ ‏لانجد‏ ‏للفظ‏ ‏نفسه‏ ‏حظا‏ ‏أوفر‏ ‏تحديدا‏. ‏وقد‏ ‏يصل‏ ‏الاختلاف‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏التضاد، ‏فثمَّ‏ ‏الجنون‏/ ‏التجاوز‏، ‏والجنون‏/الحلم‏، ‏والجنون‏/‏الوله‏، ‏والجنون‏/‏البله‏، ‏والجنون‏/‏السبْق‏، ‏وخرق‏ ‏العادة‏ (2)، ‏والجنون ‏/‏الجمال‏، ‏والجنون‏/‏القفزة‏، ‏والجنون‏/ ‏التناقض‏… ‏إلخ‏.‏ ولا تسعفنا المعاجم بما يفيد إلا تجذيرا وتأريخا لأصل اللفظ وتنوع وروده فى التراث أساسا،  دون مراجعة مضمونه الحركى الحالى.

يكاد‏ ‏يسرى ‏على ‏لفظ‏ ‏الإبداع‏ ‏ما‏ ‏يسرى ‏على ‏لفظ‏ ‏الجنون‏. ‏ولكن‏ ‏لحسن‏ ‏الحظ‏ ‏أنه‏ ‏مازال‏ ‏أقل‏ ‏تداولا‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏أكثر‏ ‏تواضعا‏ (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏فى ‏حقيقته‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏). ‏يحدث‏ ‏الخلط‏ ‏والتداخل‏ مع استعمال الأبجدية المرتبطة بـ”الإبداع” ‏عند‏ ‏المثقف‏ ‏العام‏، ‏كما‏ ‏يحدث‏ ‏عند‏ ‏بعض‏ ‏المختصين‏ ‏سواء‏ ‏بسواء‏، ‏خصوصا‏ ‏عندما‏ ‏تُـستعمل‏ ‏ألفاظ ‏مثل‏ ‏الأصالة‏، ‏والتلقائية‏، ‏والخيال‏ (‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏ألفاظ‏ ‏الفن‏، ‏والموهبة‏). كثيرا ما تستعمل هذه الألفاظ باعتبارها ‏مترادفات‏ ‏للإبداع‏، ‏علما‏ ‏بأنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏جديد‏ ‏إبداعا‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سرى‏” ‏منطلقا‏” ‏على ‏غير‏ ‏توقع‏ ‏إبداعا‏. ‏وأخيرا‏ ‏فليس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏غلبت‏ ‏عليه‏ ‏صور‏ ‏الخيال‏ ‏إبداعا‏، ‏فقد‏ ‏يكون‏ ‏بعض‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏كله‏ ‏من‏ ‏مقومات‏ ‏الإبداع‏، ‏أو‏ ‏أدواته‏، ‏لكنه‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الإبداع‏، ‏فالإبداع‏ ‏ ‏‏”‏فعل‏”‏أشمل‏، ‏وأعقد‏، ‏وأخطر‏، هو “‏التخليق فالخلْق” مما نؤجل تفصيله حالا. ‏

لكل‏ ‏هذا علينا أن نتفق، بصفة مبدئية على الأقل، على تحديد‏ ‏مناسب‏ ‏لهذين‏ ‏اللفظين‏ ‏كما‏ ‏سنستعملها‏ ‏فى ‏حديثنا‏ ‏عن‏ ‏الجدلية‏ ‏المحتملة‏ ‏فيما‏ ‏بينهما‏، ثم نرى.‏

الجنون‏ ‏-هنا‏- ‏قد‏ ‏يعنى ‏معنيين‏ ‏أساسين‏ ‏مختلفين‏، ‏بحيث‏ ‏تختلف‏ ‏علاقة‏ ‏الجنون‏ ‏بالإبداع‏ ‏باختلاف‏ ‏استعمال‏ ‏كل‏ ‏منهما‏: أولاً: العملية‏ ‏التى ‏يتفكك‏ ‏بها‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى‏، ‏تركيبا‏ ‏وسلوكا‏ ‏بلا‏ ‏اتجاه‏ ‏واع‏ ‏بداية‏ – ‏يتفكك‏ ‏إلى ‏وحداته‏ ‏الأولية‏ (‏وما دونها‏)، ‏إذ‏ ‏تنشط‏ ‏صراحة‏ – ‏وفى ‏وساد‏ ‏الوعى ‏القائم‏ ‏نفسه‏ ‏-‏ ‏بعض‏ ‏مستويات‏ ‏الوجود‏ ‏الكامنة‏، ‏ومحتوياتها‏، تظهر ‏منافسةً‏، ‏ومعارضة‏، ‏ومباعِدة‏ ‏للمستوى ‏الغالب‏ ‏ظاهرا‏ ‏فى ‏السلوك‏ ‏اليومى ‏المعتاد‏.

كما‏ ‏يعنى ‏الجنون‏: ثانياً: ‏الناتج‏ ‏الانهزامى ‏المتهدم‏، ‏أو‏ ‏الساكن‏، ‏أو‏ ‏المنسحب‏، ‏لهذه‏ ‏العملية‏ ‏بعد‏ ‏إخفاقها‏، ‏على ‏نحو‏ ‏تترتب‏ ‏عليه‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏التفسخ‏ ‏المستقر‏، ‏أو‏ ‏الإعاقة‏ ‏البالغة‏، ‏أو‏ ‏الانسحاب‏ ‏المنغلق‏، ‏أو‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏.‏

إن هذا‏ ‏الوصف‏ لهذين‏ ‏المستويين‏ ‏إنما‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏جنون‏ ‏الفصام‏ ‏على ‏وجه‏ ‏خاص‏، ‏حيث‏ ‏عدَّت‏ ‏أغلب‏ ‏أنواع‏ ‏الجنون‏ ‏الأخرى ‏تنويعات‏ ‏مرحلية‏ ‏بديلة (هذا ما ينتمى إليه الكاتب على الأقل). إن أغلب – إن لم يكن كل – الأمراض النفسية وخاصة تنويعات الجنون ‏إنما‏ ‏تظهر‏ ‏للحد‏ ‏من‏ ‏تمادى ‏مشروع‏ (‏عملية‏) ‏الفصام‏ ‏حتى ‏غايته‏ ‏القصوى، ‏ألا‏ ‏وهى: ‏النكوص‏ ‏الخامد‏، ‏أو‏ ‏الموت‏ ‏النفسى. على ذلك: فإن كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دون‏ ‏الفصام‏- فيما‏ ‏عدا‏‏‏ ‏الأمراض‏ ‏العضوية‏ ‏مثل‏ ‏الخَرَف-‏ ‏‏هو‏ ‏مرحلة‏ ‏وسطى ‏فى ‏محاولة‏ ‏وقف‏ ‏المسيرة‏ ‏التدهورية‏ ‏الأخطر المتوجهة إلى الموت النفسى‏.‏

لكل‏ ‏هذا‏ ‏سوف‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ – ‏الفصام‏- خصوصا ‏فى ‏تناثره‏ ‏الحركى ‏هو‏ ‏المقصود‏ ‏بلفظ‏ ‏الجنون‏ ‏أغلب‏ ‏مراحل‏ ‏الدراسة‏ (3)‏ مع التنبيه مكررا ، مثلما كان الحال فى الفصل الأول، إلى أن الجنون العضوى التشريحى، (4) الناتج عن ضمور عضوى (خرف الشيخوخة أو ألزهايمر)  أو تلف تشريحى (ورم بالدماغ مثلا) أو التهاب أو ما أشبه، هو مستبعد ابتداء من هذه الدراسة وبشكل حاسم.

على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏، ‏نرى أن‏ ‏لمفهوم‏ ‏الإبداع‏ ‏معنيين‏ (‏أو‏ ‏مستويين‏) ‏يقابلان‏ ‏مستويا‏ ‏الجنون‏:‏

المستوى الأول يشير إلى أن‏: ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏تتتعتع‏ ‏فيها‏ ‏المفاهيم‏ ‏والكيانات‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏ثابتة‏ ‏ساكنة‏ ‏نسبيا‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏التركيب‏ ‏الحيوى ‏للفرد‏، ‏بحيث‏ ‏تستعيد‏ ‏وحداتها‏ ‏الأولية‏ ‏ومستوياتها‏ ‏الكامنة‏ (‏ومادونهما‏) ‏المرونة‏، ‏إذ‏ ‏تكتسب‏ ‏الشحن‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بما‏ ‏يمكنها‏ ‏من‏ ‏حركية‏ ‏التوجه‏ ‏إلى ‏التأليف‏ ‏الواعد‏ ‏بخلق‏ ‏كلٍّ‏ ‏أكبر‏، ‏مختلف‏ ‏نوعيا‏ ‏ومجاوز‏ ‏دائما‏، وتحمل هذه العملية من الإيجابيات الواعدة ما يكفى.

فى حين يشير المستوى الثانى إلى‏: “الإبداع هو ‏ذلك‏ ‏الناتج‏ ‏الولافى ‏لهذه‏ ‏العملية‏ ‏بعد‏ ‏نجاحها‏، ذلك الناتج  ‏الذى ‏يتمثل‏ ‏أساسا فى تطور ذاتى‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏ظهور‏ ‏شكل‏ ‏رمزى، ‏أو‏ ‏وجود‏ ‏نوعى، ‏يعلن‏ ‏ولادة‏ ‏تنظيم‏ ‏أرقى، ‏يحمل‏ ‏قدرة‏ ‏الاستمرار‏ ‏بدرجة‏ ‏من‏ ‏الاستقرار‏ ‏المرحليين‏، ‏حتى ‏تأتى ‏اندفاعة‏ ‏جديدة‏، ‏تَعِدُ‏ ‏بنقلة‏ ‏نوعية‏ ‏جديدة‏، ‏وهكذا‏.‏

موضوع‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏يتزايد‏ ‏تعلقه‏ ‏بالمعنيين‏ ‏الأول‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏مفهومى ‏الجنون‏ ‏والإبداع‏، ‏أى ‏أننا‏ ‏سنهتم‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الوقت‏ ‏بالجنون “كعملية” وليس كناتج تدهورى، وبالإبداع كعملية قبل أن تكون إنجازا تشكيليا جديدا متميزا، ‏وذلك‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالعلاقة‏ ‏الجدلية، ‏إذ‏ ‏هى ‏حركية‏ ‏بالضرورة‏، ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏ما‏ ‏هو‏: ‏تفكك‏، ‏وتحريك‏، ‏وتوجّه‏، ‏وتنشيط‏، ‏وتجاوز‏، ‏وتوليف‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏يجرى ‏فى ‏اتجاه‏ ‏ضام‏ ‏طفرى (إبداع) ، ‏معرض‏ ‏للفشل بالضرورة (جنون)‏.‏

‏الوحدات‏ ‏الأولية:

الوحدات‏ ‏الأولية‏ (‏مادة‏ ‏الإبداع‏/ شظايا‏ ‏الجنون‏) ‏هى ‏الأبجدية‏ ‏الأساسية‏ ‏التى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتقنها‏ ‏ونحن‏ ‏نحاول‏ ‏تكوين‏ ‏جملة‏ ‏مفيدة‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏الجنون‏ ‏والإبداع‏، ‏وخاصة‏ ‏بما‏ ‏هما‏ ‏عمليتان‏ ‏تتحرك‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏متنوع،‏ ‏ثم‏ ‏قد‏ ‏يتحركان‏ ‏معا‏ ‏فى ‏جدل‏ ‏محتمل‏، ‏وسوف‏ ‏يكون‏ ‏مدخلنا‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الوحدات‏ ‏الأولية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏محاولة‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏معرفة‏ ‏بشرية‏، ‏متجنبين‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏استعمال‏ ‏لغة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى الكلاسى (الفرويدى) ، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏مدخلنا‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏هو‏ ‏مدخل‏ “‏معرفى (غائى نسبيا)، ‏يهتم‏ ‏أساسا‏ ‏بمستويات‏ ‏المعرفة‏ ‏البشرية‏ ‏المختلفة‏ ‏وأشكالها‏. ‏كذلك‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏الشائع‏ ‏الأعم‏ ‏فى ‏دراسات‏ ‏التفكير‏ ‏والذاكرة‏ ‏وما‏ ‏إليهما‏ ‏هو‏ ‏دراسة‏ ‏المستوى ‏المفاهيمى (5) ‏المنطقى ‏العادى ‏دون‏ ‏غيره‏، ‏وهذا‏ ‏مسخر‏ ‏أساسا‏ ‏لخدمة‏ ‏نوع‏ ‏الوجود‏ ‏الكمى ‏السائد‏، ‏وهو‏ ‏الوجود‏ ‏المغترب‏ ‏الذى ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏منذ‏ ‏قليل‏. ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏ ‏هو‏ ‏محاولة‏ ‏لنقض‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الوجود‏، ‏أملا‏ ‏فى ‏استعادة‏ ‏توازن‏ ‏ما‏، ‏كان‏ ‏لزاما‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ننظر‏ ‏فى ‏الوسائل‏ ‏والمستويات‏ ‏المعرفية‏ ‏الأخرى، ‏الغالبة‏ ‏فى ‏حركية‏ ‏الإبداع‏ ‏مخترقا‏ ‏الجنون‏. ‏ومن‏ ‏هنا‏ ‏نعود‏ ‏فنقول‏ ‏بصفة‏ ‏مبدئية‏:

 ‏إن‏ ‏الإبداع‏ – ‏مخترقا‏ ‏الجنون‏- ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏(معرفية‏/‏وجدانية‏) ‏فائقة، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏كشف‏ ‏لمكنون‏، ‏وبسط‏ ‏لكامن‏، ‏وتخليق‏ ‏لتركيب‏، ‏وتوليف‏ ‏لبنية‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تنشيط‏ ‏مستويات‏ ‏وعى ‏متعددة‏ ‏وتفاعلها‏ ‏معا،‏ ‏ولا‏ ‏يكون‏ ‏الإبداع‏ ‏إبداعا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏أداته‏ ‏بداية‏ ‏ونهاية‏ ‏هى ‏المستوى ‏الظاهر‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏الغالب‏ (‏المعرفة‏ ‏المصقولة‏)، ‏إنما‏ ‏يكون‏ ‏كذلك‏ ‏بالتكامل‏ ‏مع‏ ‏مستويات‏ ‏المعرفة‏ (‏الوعى‏) ‏الأخرى‏.

فما‏ ‏هى ‏المستويات‏ ‏المعرفية‏ ‏الأخرى ‏التى ‏طال‏ ‏إهمالها‏ ‏حتى ‏بدا‏ ‏وكأنه‏ ‏من‏ ‏المستطاع‏ ‏الاستغناء‏ ‏عنها‏، ‏أو ‏أنه‏ ‏من‏ ‏الأفضل‏ ‏العمل‏ ‏على ‏كبتها‏؟

يطلق‏ ‏على ‏تلك‏ ‏المعرفة‏ ‏الأخرى ‏أسماء‏ ‏عدة‏ ‏مثل‏: ‏المعرفة‏ ‏البدائية‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏الناضجة‏، ‏أو‏ ‏المُـغْـفلة‏، ‏أو‏ ‏القديمة‏، ‏أو‏ ‏اللامتميزة‏، ‏أو‏ ‏العيانية‏، ‏أو‏ ‏الأسطورية‏، ‏إلى ‏غير‏ ‏ذلك‏. ‏كما‏ ‏يسميها‏ ‏فرويد‏ ‏العمليات‏ ‏الأولية‏ ‏وهى ‏التى ‏تعد‏ ‏مميزة‏ ‏للأحلام‏، ‏وغالبة‏ ‏فى ‏الفصام‏، ‏وموجودة‏ ‏فى ‏المجتمعات‏ ‏البدائية‏، ‏وفى ‏الطفولة‏ ‏المبكرة‏. ‏وقد‏ ‏أشار‏ ‏فرويد‏ ‏كذلك‏ ‏إلى ‏أهميتها‏ ‏فى ‏عمليات‏ ‏الإبداع‏، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يغال‏ ‏فى ‏إمكانية‏ ‏قيامها‏ ‏مستقلة‏ ‏بعملية‏ ‏الإبداع‏ ‏حتى ‏تمامها‏، ‏كما‏ ‏فعل‏ ‏بعض‏ ‏تابعيه‏. ‏وقد‏ ‏انتبه‏ ‏أغلب‏ ‏الباحثين‏ ‏إلى ‏معارضة‏ ‏ذلك‏ ‏الاتجاه‏ ‏الذى ‏يعلى ‏من‏ ‏قيمة‏ ‏اللاشعور‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الإبداع‏، ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ ‏العملية‏ ‏الإبداعية‏ ‏هى ‏الولاف‏ ‏الأعلى ‏لكل‏ ‏من‏ ‏العمليات‏ ‏الأولية‏، ‏والعمليات‏ ‏الثانوية‏. ‏وقد‏ ‏اقترح‏ ‏سيلفانو‏ ‏أريتى ‏اسما‏ ‏لهذا‏ ‏الولاف‏ ‏الأعلى ‏الذى ‏يشمل‏ ‏العمليتين‏ ‏معا‏، ‏أطلق‏ ‏عليه‏ ‏اسم‏ ‏العمليات‏ ‏الثالثوية (6)، ‏مؤكدا‏، ‏مع‏ ‏غيره‏، ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتصف‏ ‏بالإحاطة‏، ‏والتكيف‏، ‏واحتواء‏ ‏الواقع‏، ‏والحوار‏ ‏معه‏، ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏الأصالة‏ ‏والمرونة‏ ‏والطلاقة‏ ‏حتى ‏يتحقق‏ ‏فى ‏درجة‏ ‏فائقة‏ ‏من‏ ‏التكامل‏.‏

‏الجدلية‏ ‏التى ‏نتاجها‏ ‏الإبداع‏، هى ‏جدلية‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏بدائى (‏كلى، ‏أولى، ‏مدغم‏…) ‏وماهو‏ ‏منطقى ‏(‏تسلسلى‏، ‏مفاهيمى‏، ‏ثانوى‏…) ‏فهل‏ ‏ثمَّ‏ ‏مستوى ‏جدلى ‏آخر‏ ‏بين‏ ‏ناتج‏ ‏هذه‏ ‏الجدلية‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏إبداع‏ ‏فى ‏أى ‏مرحلة‏ ‏من‏ ‏المراحل‏، ‏وناتج‏ ‏تحلُّل نكوصى‏ ‏مقابل‏ (‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏غائيته‏) ‏وهو‏ ‏الجنون‏ ‏؟‏ ‏

يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نؤجل‏ ‏الإجابة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏لاحقة‏ ‏من‏ ‏الدراسة، ‏ولنتقدم‏ ‏خطوة‏ ‏أبعد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المستوى ‏الأول‏، ‏لنتدارسه‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏معرفى ‏مشتمِـل‏ (‏أى ‏يشمل‏ ‏الوعى ‏والوجدان أيضا‏)‏، ‏ذلك‏ ‏المستوى ‏المعرفى ‏الأوّلى ‏الأساسى ‏اللازم‏ ‏للمشاركة ‏- ‏المباشرة‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏المباشرة‏ – ‏فى ‏مسار‏ ‏العملية‏ ‏الإبداعية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مراحلها‏. ‏

سوف‏ ‏نستند‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏أساسا‏ (‏وليس‏ ‏نهائيا‏) ‏إلى ‏فكر‏ (‏سيلفانو‏ ‏أريتي‏)، ‏لما‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏باع‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الفصام (7) ‏والنمو‏ ‏النفسى ‏والتطور (8)، ‏ثم‏ ‏بما‏ ‏أسهم‏ ‏به‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏تنظير‏ ‏لطبيعة‏ ‏الإبداع ‏:‏

يقدم‏ ‏أريتى ‏رؤيته‏ ‏لعملية‏ ‏الإبداع‏ ‏بوصفها‏ ‏تعبيرا‏ ‏ولافيا‏ ‏فائقا‏ ‏عن‏ ‏تشكيلات‏ ‏معرفية‏ ‏مضفورة‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ من‏ ‏مصدر‏ ‏ومستوى ‏للمعرفة‏. ‏وهو‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏يؤكد‏ ‏أهمية‏ ‏المرحلة‏ ‏الأولية‏ ‏للمعرفة‏، ‏وبخاصة‏ ‏مرحلة‏ “‏الصورة‏ “Image، ‏ومرحلة‏ “‏الإندوسبت‏” (9)  ‏فهو‏ ‏يرى ‏أن‏ ‏إطلاق‏ ‏سراح‏ “‏الصورة‏” ‏لكى ‏تتحرك‏ ‏فى ‏حرية‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏أولى ‏الخطوات‏ ‏الدالة‏ ‏على ‏إحياء‏ ‏مستوى ‏المعرفة‏ ‏الأقدم‏، ‏كما‏ ‏يرى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الإندوسبت‏ = ‏المَكَدْ‏  ‏هو‏ ‏أساس‏ ‏المرحلة‏ ‏المعرفية‏ ‏التالية‏ ‏لمرحلة‏ ‏الصورة‏، ‏الذى ‏يرى “‏أريتى” ‏أنه‏ ‏بنشاطه‏ ‏الضاغط‏ ‏هو‏ ‏المحور‏ ‏الجوهرى ‏لعملية‏ ‏الإبداع‏. ‏

الصورة‏ ‏تتحرك‏ ‏فى ‏الحلم‏، ‏و‏ ‏هى “‏تقول‏” بما هى، وليس بالضرورة بترجمتها إلى رمز كلامى، ‏فتؤدى ‏وظيفتها‏ ‏التنظيمية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏، ‏لكن‏ ‏الحلم‏ ‏لا‏ ‏يستوعب‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يحركه‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏من‏ ‏صور‏، ‏فيحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏مسارات‏ ‏بديلة‏: ‏فالصورة  ‏إما‏ ‏أن‏ ‏تضغط‏ ‏فتظهر‏ ‏فى ‏الوساد‏ ‏الشعورى ‏العادى (وعى اليقظة)  ‏بلا‏ ‏احتواء‏ ‏ولا‏ ‏تطوير‏، ‏فهى ‏عندئذ‏ ‏الهلوسة‏ (‏المرضية‏ ‏فى ‏العادة‏). ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏تحفز‏ ‏المستويات‏ ‏الأرقى ‏لاحتوائها‏، ‏فهى ‏عندئذ‏ جزء من أبجدية  ‏الإبداع‏.‏

حين‏ ‏تكون‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعى ‏يقدر‏ ‏على ‏استعمال‏ ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏العقلى، ‏إذ‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينتقل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏جيئة‏ ‏وذهابا‏ ‏من‏ ‏أعلى ‏المستويات‏ ‏إلى ‏أدناها، ‏يتحقق‏ ‏الإبداع‏. ‏أريتى ‏لا‏ ‏يبالغ‏ ‏فى ‏قيمة‏ “‏مجرد‏ ‏حضور‏” ‏الصورة‏ ‏فى ‏إتمام‏ ‏العملية‏ ‏الإبداعية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏التقاط‏ ‏تحريك‏ ‏الصورة‏، ‏وما‏ ‏قبلها‏ ‏وبعدها‏، ‏فى ‏مرونة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏التشكيل‏، ‏وأيضا‏ توظيف ‏القدرة على ‏الحوار‏ ‏والتوليف‏ ‏مع‏ ‏مثيرات‏ ‏ومعلومات‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى، ‏هذا وذاك هما اللذان‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏خلالهما‏ ‏الإبداع‏.‏

إن‏ ‏الجانب‏ ‏الأهم‏ ‏فى ‏العملية‏ ‏الإبداعية‏ ‏هو‏ ‏ضغط‏ ‏المعرفة‏ ‏الأخرى، ‏التى ‏أسماها‏ ‏أريتى: ‏المعرفة‏ ‏الهشة‏ Amorphous Cognition  (‏غير‏ ‏المتبلورة‏)، ‏التى ‏نفضل‏ ‏أن‏ ‏نسميها‏ ‏المعرفة‏ “‏الضبابية‏ (أو ‏المدُغمة‏)”. هى ‏تضغط‏ ‏لكى ‏تظهر‏، ‏أو‏ ‏تضغط‏ ‏على ‏أمل‏ ‏أن‏ ‏تظهر‏، ‏من‏ ‏خلال‏ -‏ومع‏- ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏المعارف‏ ‏الأحدث‏ ‏والأقدر‏ ‏على ‏الحركة‏ ‏الخارجية‏ ‏والتعبير‏ ‏والتواصل‏. ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏طبيعة‏ ‏المعرفة‏ ‏الضبابية‏ ‏المدغمة‏ ‏هذه‏ ‏أن‏ ‏تظهر‏ ‏بنفسها‏، ‏فهى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏، ‏يتمثل‏ ‏فى ‏الداخل‏ ‏بلا‏ ‏تفسير‏ ‏مباشر‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الخارج‏، ‏فى ‏شكل‏ ‏فكرة‏، ‏أو‏ ‏صورة‏، ‏أو‏ ‏لفظ‏، ‏أو‏ ‏مفهوم‏. ‏وهى ‏تتكون‏ ‏أساسا‏ ‏مما‏ ‏أسميناه‏ “‏المكد‏”، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏المكد‏ ‏هو‏ ‏تنظيم‏ ‏كلى ‏أولى ‏لخبرة‏ ‏سابقة‏ ‏من‏ ‏المدركات‏، ‏ومن‏ ‏آثار‏ ‏الذاكرة‏، ‏وصور‏ ‏الأشياء‏، ‏والحركات‏، ‏فهو‏ ‏خبرة‏ ‏كلية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تقسيمها‏ ‏إلى ‏أجزاء‏، ‏أو‏ ‏إحلالها‏ ‏فى ‏ألفاظ‏ (‏كما‏ ‏هى‏)، ‏فهو‏ (المكد) ‏كلٌّ‏ ‏مدغم‏ ‏من: ‏ ‏فكر‏، ‏وتهيؤ‏، ‏وانفعال‏، ‏وحفز‏، ‏وفعل‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فهو‏ ‏فى ‏شوق‏ ‏دائم‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏بصورة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏المكد‏ ‏هو‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏غير‏ ‏المحكى (الأقرب إلى الحلم بالقوة، وبعض الحلم الحركى- الكتاب الأول) ، ‏يصدق ذلك‏ خاصة ‏فـى ‏حالة‏ ‏الأحلام‏ ‏الشمولية‏ ‏المصورة‏ ‏العصّية‏ ‏على‏ ‏الاسترجاع‏، ‏وقد‏ ‏يجد‏ ‏المكد‏ ‏طريقة‏ ‏إلى ‏التشكل‏ ‏فى ‏حلم‏ ‏محكى ‏على ‏مختلف‏ ‏المستويات‏ (‏أنظر‏ ‏الكتاب‏ ‏الأول‏)، ‏وقد‏ ‏يعجز‏ ‏الحلم‏ ‏عن‏ ‏احتواء‏ ‏حركية‏ ‏المكد‏، ‏فيصبح‏ ‏الأخير‏ ‏طاقة‏ ‏ضاغطة‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏تجد‏ ‏طريقها‏ ‏إلى ‏التعبير‏، ‏مع‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏تسلك‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إبداع‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏تيسرت وسائله وأتيحت فرصه‏.‏

يعترف‏ ‏أريتى ‏أنه‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏معلوماتنا‏ ‏الحالية‏ ‏لايمكن‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏دليل‏ ‏يمكن‏ ‏عن‏ ‏طريقه‏ ‏إثبات‏ ‏وجود‏ ‏ماهو‏”‏مكد‏”. ‏لذلك‏ ‏فهو‏ ‏يقر‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ ‏سوف‏ ‏يظل‏ ‏إلى ‏أمد‏ ‏طويل‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏مجال‏ ‏التناول‏ ‏العلمى ‏بالمنهج‏ ‏التقليدى، ‏ولكن‏ ‏أريتى ‏يشير‏ ‏إلى ‏دلالات‏ ‏غير‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏وجود‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏المكدى ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏فيما‏ ‏نصفه‏ ‏أحيانا‏ ‏بألفاظ‏ ‏مثل‏ “‏الجو‏ ‏العام‏”، ‏أو‏ “‏التوجه‏”، ‏أو‏”‏الخبرة‏ ‏الكلية‏”، ‏أو‏ ‏ما‏ ‏أطلق‏ ‏عليه‏ ‏فرويد‏ ‏تعبير‏ “‏الشعور‏ ‏المحيطى‏” (10). ‏ويذهب‏ ‏أريتى ‏إلى ‏أن‏ ‏جزءا‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏حياتنا‏ ‏المفاهيمية‏ ‏إنما‏ ‏يلتحم‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بأخر‏ ‏بمقابلاته‏ ‏المكدية‏، ‏أو‏ ‏يتحور‏ ‏إلى ‏أشكال‏ ‏مكدية‏ ‏غائرة‏. ‏ثم‏ ‏يستطرد‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتدرج‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏لنقول‏: ‏إن‏ ‏الشيء‏ ‏نفسة‏ ‏قد‏ ‏يصح‏ ‏بالنسبة‏ ‏لكثير‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى ‏الجاهزِ لكى “‏ينبسط‏” (11)‏فيما‏ ‏هو‏ ‏إبداع‏.

‏ ‏ليس صحيحا‏ ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏مظاهر‏ ‏حياتنا‏ ‏المفاهيمية‏ ‏التى ‏ترتد‏ ‏إلى ‏المستوى ‏المكدى، أ‏و تتراجع‏ ‏نحوه‏، ‏إنما‏ ‏تفعل‏ ‏ذلك‏ ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏تهرب‏ ‏من‏ ‏القلق‏ ‏أو‏ ‏العصاب‏ ‏أو‏ ‏الخطر‏، ‏فالشخص‏ ‏المبدع‏ ‏يحتاج‏ ‏أيضا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏النظم‏ ‏الثابتة‏ ‏والصحيحة‏ ‏والجامدة‏، ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏سابقة‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏المعرفة‏ ‏الضبابية‏ ‏المدغمة‏، ‏أى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الوعاء‏ ‏الكبير‏ ‏المضيف الرحب‏، ‏الذى ‏يغلب‏ ‏فيه‏ “‏تعليق‏ ‏الحكم‏”، ‏وعدم‏ ‏التحديد‏، ‏وتوحد‏ ‏الزمن‏ ‏مع‏ ‏محتواه‏، ‏وتوقع‏ ‏حدوث‏ ‏التحورات‏ ‏غير‏ ‏المتوقعة‏، يفعل ذلك كخطوة نحو اقتحامٍ ضامَ أعلى وجديدْ.

ذكرنا أن‏ ‏تنشيط‏ “‏مستوى ‏الصورة‏” ‏قد‏ ‏يطلقها‏ ‏فى ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏أو‏ ‏يجعلها‏ ‏تقتحم‏ ‏وعى ‏اليقظة‏ ‏فى ‏نوبة‏ ‏جنون‏، ‏أو‏ هو قد ‏يسمح‏ ‏لها‏ ‏أن‏ ‏تُـحرك‏ ‏وعى ‏الإبداع‏ ‏فى ‏توليف‏ ‏جديد‏، ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏تنشيط‏ ‏المستوى ‏المكدى ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏الحلم‏، ‏أو‏ ‏يكون‏ ‏أساسا‏ ‏للإبداع‏ (‏انظر‏ ‏بعد‏) ‏أو‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏عرضا‏ ‏مرضيا‏ ‏فى ‏الجنون‏ ‏يظهر‏ ‏بعض‏ ‏تجلياته‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏التفكير‏ ‏العِهْنى (12) ‏أو‏ ‏فيما‏ ‏يعرف‏ ‏أحيانا‏ ‏بفرط‏ ‏التضمين‏ (13) ‏.

‏‏

[1] –  هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986  ص( 30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”  الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.

[2] – خالدة‏ ‏سعيد‏ “‏حركية‏ ‏الإبداع”‏. ص 62-92 – ‏دار‏ ‏العودة‏ ‏بيروت: والأمثلة‏ ‏‏تفوق‏ ‏الحصر‏، ‏سواء‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ ‏الجنون‏ ‏فى ‏نص‏ ‏العمل‏ ‏الأدبي‏-‏الروائى ‏بصفة‏ ‏خاصة‏، ‏أو‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏ ‏للمبدع‏ (‏كمثال‏: ‏وصف‏ ‏شعر‏ ‏أنسى ‏الحاج‏: “‏بالجنون‏ ‏ينتصر‏ ‏التمرد‏”، ‏أو‏ ‏فى النقد‏ “. ‏بهذا‏ ‏المعنى ‏يكون‏ ‏الجنون‏ ‏هو‏: ‏السبق‏، ‏ونقض‏ ‏المصطلحات‏ ‏وخرق‏ ‏العادة‏، ‏وتجاوز‏ ‏دائرة‏ ‏المعقول‏”)

[3] – ذكرت‏ ‏فى ‏الكتاب الأول: “…‏إن‏ ‏الجنون‏ ‏الدورى ‏هو‏ ‏أساس‏ ‏عندى ‏لكل‏ ‏الأنواع‏ ‏الأخرى”. ‏ثم‏ ‏أعود‏ ‏فأذكر‏ ‏هنا‏ ‏أنى ‏أرى ‏أن‏ ‏جنون‏ ‏الفصام‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏، ‏وأن‏ ‏أغلب‏ ‏أنواع‏ ‏الجنون‏ ‏الأخرى ‏هى ‏تنويعات‏ ‏مرحلية‏…‏إلخ‏”. ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏إيضاح‏ ‏لما‏ ‏يبدو‏ ‏تناقضا‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الزعم‏ ‏وذاك‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏: ‏فالجنون‏ ‏الدورى ‏هو‏ ‏أساس‏ ‏كل‏ ‏الأنواع‏ ‏الأخرى ‏من‏ ‏منظور‏ “‏الإيقاع‏ ‏الحيوي‏” ‏الذى ‏كان‏ ‏موضوع‏ ‏الدراسة‏ ‏الأولى، و‏فى نفس الوقت فإن ‏الفصام‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏،‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏غائية‏ ‏التدهور‏ ‏وحركية‏  ‏التناثر‏(التحللية)  ‏فى ‏اتجاه‏ ‏الانقراض‏. ‏وقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏وضعت‏ ‏الفصام‏ ‏فى مراحل فشله المتمادى فى ‏هذه‏ ‏المرتبة‏ ‏القصوى ‏المتدنية‏ ‏تدهوريا‏، ‏فى ‏مقابلته‏ ‏للمستوى ‏الخالقى ‏للصحة‏ ‏النفسية‏- ‏انظر‏:  ‏يحيى ‏الرخاوى: ‏مستويات‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏على ‏طريق‏ ‏التطور‏ ‏الفردى، ‏فى: ‏حيرة‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى، (1972) ‏دار‏ ‏الغد‏ ‏للثقافة‏ ‏والنشر‏، ‏القاهرة‏.‏

[4] – تحديد هذا النوع بصفة “تشريحى” سواء التشريح الجسيم أو التشريح الدقيق (الهستولوجيا) هو لبيان أن كلمة عضوى وحدها لا تكفى للاستبعاد، لأن كل أنواع الجنون التى يقال إنها وظيفية هى عضوية بمعنى التغير الكيميائى والتنظيمى البيولوجى المصاحب. أما استبعاد هذا النوع فلأن له “إمراضية” (كيفية تكون الأعراض The how of symptom formation = Psychopathology=) مختلفة اختلافا جذريا إذ يحدث هذا النوع  بلا غائية محددة، اللهم إلا فى التعويض بعد الإصابة المبدئية، إن كان ثَمَّ تعويض وظيفى محتمل.

[5] – أصــر‏ ‏قصدا‏ ‏أن‏ ‏أنسب‏ ‏للجمع‏ ‏فأقول‏ “‏مفاهيمي‏” ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏مفهومى، ‏متى ‏ساقنى ‏السياق‏ ‏إلى ‏ذلك‏. ‏وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏لتجاوز‏ ‏هذا‏ ‏المحظور‏ ‏إذا‏ ‏ماكانت‏ ‏النسبة‏ ‏إلى ‏الجمع‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تـضـمّـن‏ ‏اللفظ‏ ‏معنى ‏خاصا‏ ‏متميزا‏. ‏وقد‏ ‏أردت‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لهذه‏ ‏الصيغة‏ ‏يإيقاعها‏ ‏الخاص‏ ‏المتميز‏ ‏مايضعني‏-‏والقارئ‏- ‏فى ‏موقع‏ ‏يسمح‏ ‏بتخصيصها‏ ‏لما‏ ‏يعنى ‏مرحلة‏ ‏معرفية‏ ‏مصقولة‏ ‏ومسلسلة‏، ‏تستخدم‏ ‏المفاهيم‏ ‏الواضحة‏ ‏والراسخة‏ ‏كأبجدية‏ ‏مفيدة‏ ‏لسياق‏ ‏عام‏. ‏وقد‏ ‏أفضل‏ ‏هذه‏ ‏الصيغة‏ ‏على ‏صيغة‏ “‏مفهومي‏” ‏التى ‏قد‏ ‏تستعمل‏ ‏بصيغة‏ ‏المفعول‏ ‏أو‏ ‏ماشابه‏، ‏مما‏ ‏يضيق‏ ‏بما‏ ‏أردته‏.‏

[6] – سيلفانو‏ ‏أريتى: “الإبداعية‏: ‏الولاف‏ ‏السحرى” ‏(ص‏66)

‏ Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York.‏

[7] – سلفانو‏ ‏أريتى:

 Silvano Arieti (1974), Interpretation of Schizophrenia. Basic Books, New York.              

[8] – سلفانو‏ ‏أريتى: ‏النفس‏ ‏داخل‏ ‏الذات‏:

 Silvano Arieti (1967), The Intrapsychic Self: Feeling Cognition and Creativity in Health and Disease. Basic Books, New York

[9] – Endocept المَكَدْ‏ = ‏الُمدرك‏ ‏الكلّى ‏الداخِلى.‏

كنت‏ ‏قد‏ ‏أطلقت‏-‏مترددا‏ – ‏على ‏هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏المعرفية‏ ‏الأولية‏ ‏المسماه بالإنجليزية  endoceptقبل‏ ‏ذلك‏ (‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى 27، 123) ‏لفظ‏ “‏قبمدرك‏”، ‏على ‏أساس‏ ‏أنها‏ ‏تمثل‏ “… ‏مرحلة‏ ‏بدائية‏ ‏قبل‏ ‏الإدراك‏ ‏الشعورى ‏المحدد‏، ‏يختلط‏ ‏فيها‏ ‏الانفعال‏ ‏بالإدراك‏ ‏بالحدس‏…”، ‏ولكنى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ، ‏وبمراجعة‏ ‏وظيفة‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏المعرفى ‏النشط‏ ‏رجـحت‏ ‏أنها‏ ‏مرحلة‏ ‏إدراك‏ ‏آخر‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏شعوريا‏ ‏أو‏ ‏محددا‏، ‏إذ‏ ‏لايصح‏ ‏أن‏ ‏يحتكر‏ ‏الشعور‏ ‏مفهوم‏ ‏الإدراك‏، ‏فيحتكر‏ ‏ضمنا‏ ‏حق‏ ‏المعرفة‏. ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏واضحا‏ ‏لدىّ ‏منذ‏ ‏البداية‏- ‏قبل‏ ‏الرجوع‏ ‏إلى “‏أريتي‏”- ‏ما‏ ‏لهذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏علاقة‏ ‏بالإبداع‏، ‏حيث‏ ‏حددت‏ ‏فى ‏المرجع‏ ‏نفسه‏، (“‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثوجي‏” للكاتب 1979) ‏أن‏ “.. ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ (‏مرحلة‏ ‏القبمدرك‏) ‏يمر‏ ‏بها‏ (‏بما‏ ‏هى ‏حالة‏) ‏بعض‏ ‏المبدعين‏ ‏فيما‏ ‏يسمونه‏ ‏مخاض‏ ‏الفكرة‏.. ‏وقد‏ ‏بينت‏ ‏أيضا‏ ‏هناك‏ ‏أن‏ “‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏برغم‏ ‏مابها‏ ‏من‏ ‏بقية‏ ‏حدس‏ ‏عنيف‏، ‏هى ‏مرحلة‏ ‏بدائية‏، ‏تحمل‏ ‏مخاطر‏ ‏النكوص‏ ‏والتناثر‏ ‏لو‏ ‏استمرت‏ ‏دون‏ ‏استيعاب‏”. (‏نفس‏ ‏المرجع‏ ‏ص‏123).‏

ثم إنى وجدت أنه على أن أتراجع‏ ‏عن‏ ‏إنكار‏ ‏صفة‏ ‏الإدراك‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏الأولية‏ ‏فى ‏العمل‏ ‏نفسه‏ (‏ص‏415) ‏فخطر لى أن أسميها‏ “‏المدرك‏ ‏القبلفظي‏” ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏القبمدرك‏.‏

كما أنى ‏‏رجعت‏ ‏إلى ‏لفظ‏ ‏الأندوسبت‏ Endocept ‏الذى ‏استعمله‏ ‏أريتى ‏فلم‏ ‏أجد‏ ‏له‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏المعاجم‏ ‏الإنجليزية‏. ‏وقد‏ ‏أقر‏ “‏أريتي‏” ‏أنه‏ ‏نحته‏ ‏نحتا‏ ‏لتأكيد‏ ‏طبيعته‏ ‏الداخلية‏ “Endo”، ‏دون‏ ‏نفى ‏صفة‏ ‏الإدراك‏ ‏عنه‏. ‏وحين‏ ‏تبينت‏ ‏أبعاده‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أنه‏ “‏مدرك‏، ‏كلى، ‏داخلي‏” ‏فضلت‏ ‏أن‏ ‏أنحت‏ ‏له‏ ‏بدورى ‏لفظ‏ “‏مكد‏” ‏بالعربية‏. ‏وكنت‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏متناول‏ ‏معاجمى، ‏لكننى ‏حين‏ ‏عدت‏ ‏إلى ‏المعاجم‏ ‏أستشيرها‏، ‏وجدته‏ ‏لفظا‏ ‏عربيا‏ ‏أصيلا‏ ‏له‏ ‏أصل‏ ‏ومضمون‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏آخر‏، ‏لكننى ‏وجدته‏ ‏لفظا‏ ‏مهجورا‏ ‏تماما‏، ‏فكدت‏ ‏أعدل‏ ‏عنه‏، ‏ثم‏ ‏عدت‏ ‏فقدرت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاستعمال‏ ‏العلمى ‏الجديد‏ ‏خليق‏ ‏بأن‏ ‏يحيى ‏هذا‏ ‏اللفظ‏ ‏العربى ‏الأصيل‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏آخر‏، ‏لاسيما‏ ‏أن‏ ‏مضامينه‏ ‏الأصلية‏ ‏قد‏ ‏تشمل‏ ‏مفاهيم‏ ‏مشتركة‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏نحن‏ ‏بحاجة‏ ‏إلى ‏إيضاحه‏ ‏هنا‏، ‏فهى ‏تشمل‏ ‏معانى: ‏الدوام‏، ‏والغزارة‏، ‏واستمرار‏ ‏العطاء‏ (‏لاينقطع‏، ‏شاة‏ ‏غزيرة‏ ‏اللبن‏، ‏بئر‏ ‏ماكدة‏)-‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏المعانى ‏لاتشى ‏مباشرة‏ ‏بكون‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏مـكـد‏”، ‏هو‏ ‏داخلى، ‏إلا‏ ‏أننى ‏أمـلـت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مدلول‏ ‏غزارة‏ ‏لبن‏ ‏الشاة‏ ‏إنما‏ ‏يعنى ‏أنها‏ ‏تحلب‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏حـلبـت‏، ‏وليس‏ ‏أنها ‏تتدفق‏ ‏تلقائيا‏. ‏وكذلك‏ ‏البـئـر‏، “‏إنما‏ ‏تعطى ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏استسيقت‏ ‏من‏ ‏غائر‏ ‏مائها‏”، ‏وإزاء‏ ‏طمأنينتى ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏الإيحاءات‏ ‏لم‏ ‏أغير‏ ‏اللفظ‏ ‏داعيا‏ ‏إلى ‏بدء‏ ‏استعماله‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المعنى ‏الجديد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏الخاص‏.‏

[10] – Oceanic Feeling

[11] – To be Unfolded

[12] – Wooly Thinking

[13] – Over inclusion

admin-ajax (5)admin-ajax (4)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *