الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الأولى)

الكتاب الثانى: “جدلية الجنون والإبداع” (الحلقة الأولى)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت3-8-2019

السنة الثانية عشرة

العدد: 4354

‏  الكتاب الثانى:

 “جدلية الجنون والإبداع” (1) (الحلقة الأولى)

 مقدمة:

تقدم‏ ‏هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏مستويين‏ ‏من‏ ‏الجدل‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالإبداع، الأول‏: الجدل بين‏ ‏المعرفة‏ ‏البدائية‏ ‏والمعرفة‏ ‏المفاهيمية‏، والثانى: الجدل ‏بين‏ ‏المراحل‏ ‏الأولى (‏وفى ‏النادر‏: ‏التالية‏) ‏من‏ ‏الإبداع‏، ‏والجنون، ويستعمل لفظ “الجنون” عند معظم الذين يكتبون فى النقد أو الإبداع استعمالا فضفاضا لا يجوز، وخاصة  بعد تعدد تصنيفات الذهان (الجنون Psychosis) إلى عشرات الأنواع، لذلك أحدد من ناحيتى أن الجنون العضوى التشريحى المباشر مستبعد فى هذه الدراسة (مثل  الخرف أو الجنون الناتج عن أورام فى الدماغ..إلخ). إن ما أعتبره الجنون الأم أو الجنون الأصل (إن صح هذا التعبير) الذى يرد فى هذا العمل هو الفصام بكل مراحله، وبالذات فى شكله التفسخى Disorganized وأحيانا التدهورى Deteriorated  مضافا إليه – أحيانا– بعض أنواع الجنون الأخرى التى ليست سوى محاولة بديلة للحيلولة دون التمادى فى التفسخ والتدهور بأشكال أقل إمراضية (وإن كانت أخطر أحيانا) من العملية الفصامية (2) وتحديد‏ ‏الجنون‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏الحالى ‏بأنه‏ “‏الجنون‏ ‏النشط‏” ‏يشير‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏الجنون‏ ‏ذى ‏الأعراض‏ ‏الإيجابية‏ ‏مثل:‏ ‏الهلاوس‏ ‏والضلالات‏ ‏والتفسخ‏ ‏النشط‏، ‏والهياج‏، ‏فى ‏مقابل‏ ‏الجنون‏ ‏المندمل‏ ‏أو‏ ‏السلبى ‏الذى ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الانسحاب‏ ‏والهمود‏ ‏والتبلد‏ ‏والتخثر‏، ‏أو‏ ‏لتقريب‏ ‏الأمر‏ ‏للقارئ: ‏ ‏فإن‏ ‏الجنون‏ ‏النشط‏ ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏إضرام‏ ‏الحريق‏، ‏أما‏ ‏الجنون‏ ‏المندمل‏ ‏فهو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الرماد‏ ‏المتخلف‏ ‏بعد‏ ‏الحريق ، كما أن العملية الذهانية المؤدية إلى التفسخ الفصامى هى المراد بها الجنون أساسا، وهى العملية التى تصل فى نهايتها الأخطر إلى نوع من التدهور السلبى الذهانى أيضا، لكنه أبعد ما يكون عما يراد به حين نستعمل لفظ الجنون فى هذه الدراسة بوجه خاص.

وهذه الدراسة ‏تقدم‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏ ‏بوصفهما‏ ‏حالتين‏ ‏من‏ “‏حالات‏ ‏الوجود”‏، ‏فى ‏مقابل‏ “‏حالة‏ ‏العادية‏”، ‏وجميعها هى حالات متناوبة من خلال الايقاع الحيوى لكل فرد، بدرجات وتجليات مختلفة لتحل محل تقسيم الناس إلى مبدع، وعادى، ومجنون وتختلف العلاقة بين‏ ‏الإبداع‏ ‏والجنون‏: ‏من‏ ‏التشابه‏ ‏المتطابق‏ (‏قبل‏ ‏التميز‏ ‏إلى ‏أيهما‏) ‏إلى ‏السلب‏ ‏أو‏ ‏الإبعاد‏ ‏أو‏ ‏التناقض‏‏،‏ ‏ثم إن‏ ‏تفرقة‏ ‏واجبة‏ ‏الإيضاح‏ ‏بين‏ ‏حالة‏ ‏الإبداع‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الإبداع‏ ‏الحيوى‏= ‏تطور‏ ‏الحياة‏ ‏ونمو‏ ‏الإنسان‏ ‏نوعيا‏)، ‏وناتج‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏أعمال‏ ‏خارجة‏ ‏عن‏ ‏ذات‏ ‏المبدع‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏تشكيلات‏ ‏مسجلة‏ ‏خارجه.‏

وتنتهى ‏المداخلة‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الإبداع‏ ‏وتشوهاته‏، ‏حيث‏ ‏بينت‏ ‏الفروق‏‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏، ‏والإبداع‏ ‏البديل‏، ‏والإبداع‏ ‏الناقص (المجهض)‏، ‏والإبداع‏ ‏المحبط‏ (‏اللا‏‏إبداع=المجمد‏)‏، ‏مع‏ ‏ما‏ ‏يقابلها‏ ‏من‏ ‏مستويات‏‏، الاضطراب‏ ‏‏العقلى. ‏

وأخيرا: فلا مفر من التطرق‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏مجالات‏ ‏التطبيق‏ ‏فى التعامل مع الجنون إحاطة وجدلا‏، ‏وتطور‏ ‏اللغة‏، ‏ومشكلة‏ ‏الحداثة‏ ‏فى ‏الشعر خاصة‏، ‏والإبداع‏ ‏الذاتى فى التصوف مثلا، وكل ما يمكن أن نستدرج إليه فى هذه المنطقة الحساسة.

  – بدءا من البداية

مازالت‏ ‏قضية‏ ‏علاقة‏ ‏الجنون‏ ‏بالإبداع‏ ‏تمثل‏ ‏تحديا‏ ‏للوعى ‏البشرى (وليس فقط للبحث والمعرفة) . ‏وقد‏ ‏بلغ‏ ‏الأمر‏ ‏من‏ ‏الخلط‏ ‏والتساؤل‏ ‏ما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مواجهة‏ ‏صعبة‏، ‏تعيد‏ ‏ترتيب‏ ‏المداخل‏ ‏والمراحل‏ ‏حتى ‏تتضح‏ ‏المعالم‏، ‏سواء‏ ‏بالنسبة‏ ‏لاحتمالات‏ ‏التشابه‏ ‏والخلاف‏، ‏أو‏ ‏بالنسبة‏ ‏لنوعية‏ ‏التفاعل‏، ‏أو‏ ‏بالنسبة‏ ‏لمخاطر‏ ‏الخلط‏ ‏والتداخل‏.‏

هذا‏ هو ‏بعض‏ ‏هدف‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏:

منذ أصيب الكائن البشرى بمحنة غلبة “الوعى المعقلن” (3) ومسئوليته‏، ‏تصور‏ ‏أنه‏ ‏امتلك‏ ‏وسائل‏ ‏تخطيط‏ ‏مستقبله‏، ‏فراح‏ ‏يتدخل‏ ‏فى ‏مسيرة‏ ‏حياته‏، ‏فمصير‏ ‏نوعه‏، ‏تدخلا‏ ‏منحازا‏ ‏غير‏ ‏منتظم‏. ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏تزايد‏ ‏ترجيحه‏، ‏وبخطى ‏عملاقة‏، ‏لذلك‏ ‏الجانب‏ ‏الكمى “‏الإنتاجي‏” ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏على ‏نحو‏ ‏نتج‏ ‏عنه‏ ‏تضخم‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏سطحية‏ ‏من‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏دون‏ ‏سائر‏ ‏كليتها‏، ‏تضخما‏ ‏يكاد‏ ‏يهدد‏ ‏بالانقراض (4). ‏وقد‏ ‏ترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏محاولته‏ ‏لتحقيق‏ ‏التوازن‏ ‏بترجيح‏ “‏الجانب‏ ‏الآخر‏” ‏من‏ ‏الوجود‏، ‏ليكتمل‏، ‏أصبح‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتجاوز‏ ‏هذه‏ ‏الوصاية‏ ‏ليخترق‏ ‏ما‏ ‏فرضته‏ ‏من‏ ‏قيود‏ (‏كمية‏، ‏ومغتربة‏) ‏على ‏باقى ‏مستويات‏ ‏وجوده،‏ ‏وهو‏ ‏إذ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏يكتشف‏ ‏أن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يصارعها (الوصاية) ‏ ‏صراعا‏ ‏مهدَّدا‏ ‏بالإخفاق‏، ‏الذى ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يتجلى ‏فى ‏شكل‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏اضطراب‏ ‏نفسى قد ‏يصل‏‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏ مايسمى “الجنون‏”. ‏

نحن‏ ‏لا نعرف‏ ‏تحديدا‏ ‏كيف‏ ‏حل‏ ‏تاريخ‏ ‏التطورالحيوى ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏ ‏المتحدية‏، ‏ولكننا‏ ‏نرجح‏ ‏أن‏ ‏افتقاد‏ ‏ما‏ ‏قبل‏ ‏الإنسان‏ ‏لهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏المتدخـِّـل‏، ‏قد‏ ‏أتاح‏ ‏الفرصة‏ ‏أن‏ ‏تعمل‏ ‏قوانين‏ ‏الحياة‏ ‏بشكل‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏الكلى، ‏على ‏نحو‏ ‏ضيَّـق‏ ‏الهوة‏ ‏الواجب‏ ‏اجتيازها‏ ‏عند‏ ‏كل‏ ‏طفرة‏ ‏نوعية، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الإخفاق‏ ‏فى ‏طفرات‏ ‏تاريخ‏ ‏التطور‏ ‏الحيوى ‏كان‏ ‏يعلن‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏بالانقراض‏ ‏أساسا‏ (‏أو‏ ‏بالتوقف‏ ‏عند‏ ‏نوع‏ ‏بذاته‏)، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏النجاح‏ ‏كان‏ ‏يتمثل‏ ‏فى ‏اطراد‏ ‏النقلات‏ ‏الكيفية‏ ‏على ‏مسار‏ ‏تطور‏ ‏الحياة‏. ‏لكن‏ ‏الإنسان‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اكتسب‏ ‏الوعى (‏هذا‏ ‏الوعى‏) ‏راح‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يستطلع‏ ‏المسيرة‏ ‏ليحدد‏ ‏معالمها‏ ‏وهو‏ ‏يرجح‏ ‏احتمالات‏ ‏نجاحها،‏ ‏وفى ‏محاولاته‏ ‏تلك:‏ ‏كان‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتجادل‏ ‏مع‏ ‏تاريخه‏ ‏الآنى ‏وهو‏ ‏الذى ‏يتمثل‏ ‏فى ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏الأقدم‏ ‏التى ‏يحتويها‏ ‏تركيبه‏ ‏حالا‏، ‏وكانت‏ ‏بعض‏ ‏تجليات‏ ‏هذا‏ ‏الجدل‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الإبداع‏ (‏كما‏ ‏نعرفه‏-‏غالبا‏: ‏ناتجا‏ ‏رمزيا‏ ‏تشكيليا‏ ‏مسجلا‏) ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏ينجح‏ ‏على ‏طول‏ ‏الخط‏، ‏فظهرت‏ ‏أشكال‏ ‏فشله‏ ‏فى ‏التوقف‏ ‏أو‏ ‏الجمود‏ ‏أو‏ ‏التناثر‏ ‏حتى ‏الجنون‏.‏

هذا‏، ‏ومع‏ ‏تقدم‏ ما يسمى بالعلوم ‏ ‏المُحكمة(5) على  ‏حساب‏ ‏الإبداع‏ ‏المشتمل، ‏ ‏زادت‏ ‏الفجوة‏ ‏بين‏ ‏الجزء‏ ‏الكمى ‏الظاهر‏ ‏الطاغى ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏وبين‏ ‏سائر‏ ‏المستويات‏ ‏الأخرى‏- ‏مستويات‏ ‏الوعى ‏الكامنة‏ ‏فى ‏منظومات‏ ‏الدماغ‏ ‏الهيراركية (6)‏، ‏فأصبحت‏ ‏النقلة‏ ‏من طغيان‏ ‏الوعى ‏المعقلن‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏التكامل‏ ‏محفوفة‏ ‏بمخاطر‏ ‏متزايدة‏، ‏وبالتالى ‏أصبح‏ ‏تحقيق‏ ‏الإبداع‏ ‏النمائى الطبيعى ‏مرتبطا‏ ‏ارتباطا‏ ‏تاما‏ ‏بتهديد‏ ‏الجنون‏.

الامتحان المواجِه لإنسان اليوم هو امتحان عبوره – واعيا مشاركا -‏ ‏أزمة‏ ‏تطوره‏ ‏. احتد الوعى ‏بشكل غير مسبوق حتى تجسدت‏ ‏القضية‏ ‏الحيوية‏ ‏لحركية‏ ‏الحياة وانتقلت‏ ‏‏ ‏من‏: “‏إما‏ ‏أن‏ ‏نتطور‏ ‏أو‏ ‏ننقرض‏”، ‏إلى “‏إما‏ ‏أن‏ ‏نبدع‏ ‏أو‏ ‏نُجن‏”.‏

كان‏ ‏من‏ ‏البديهى ‏أن‏ ‏تنشأ‏ ‏حركة‏ ‏مواجهة‏ ‏نافرة‏ ‏تحتج‏ ‏على ‏غلبة‏ ‏هذا‏ “‏الوعى ‏المعقلن‏”، ‏فظهرت‏ ‏أطروحات‏ ‏مضادة‏ ‏منذ‏ ‏نهاية‏ ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الأولى ‏وقد‏ ‏بلغت‏ ‏ذروتها‏ ‏فى ‏الأربعينيات‏ ‏إلى ‏السبعينيات‏، ‏وذلك‏ ‏مثل‏ ‏الحركة‏ ‏المناهضة‏ ‏للطب ‏النفسى (7) (‏والمبرِّرة‏ ‏للجنون‏ ‏ضمنا‏)، ‏ومثل‏ ‏بعض‏ ‏أشكال‏ ‏الأوتوماتية‏ ‏فى ‏الشعر (8)، ‏مارين‏ ‏ببعض‏ ‏التجمعات‏ ‏السياسية‏ ‏المتناثرة‏، ‏والصرخات‏ ‏الاجتماعية‏ ‏الطفلية‏ ‏والنكوصية‏ ‏المجهَضة‏. ‏وقد‏ ‏أخفقت‏ ‏أغلب‏ ‏هذه‏ ‏الحركات‏ ‏المضادة‏ ‏من خلال ‏اختبار‏ ‏الزمن‏، (بدأ إعلان الإخفاق من أواخر السبعينات ثم الثمانينيات وهو ما زال يزداد فى معظم المجالات..) . كاد‏ ‏هذا‏ ‏الإخفاق‏ ‏يصبح‏ ‏مبررا‏ ‏لتمادى ‏اغتراب‏ ‏الإنسان اندفاعا إلى الجانب الآخر، على حساب جدل تطوره ونوعية وجوده‏.‏

‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏أخرى ‏تواترت‏ ‏أشكال‏ ‏الإبداع‏ ‏التفريغى ‏التطهيري‏!! (‏التسكيني‏)، ‏والإبداع‏ ‏الجمالى (‏والتجميلي‏)، ‏وماشابه‏، ‏على ‏نحو‏ ‏أدى ‏وظيفة‏ ‏توازنية‏ ‏تهديئية‏، ‏لكنها‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏كافية‏ ‏لكبح‏ ‏طغيان‏ ‏الوعى ‏المعقلن‏، ‏بل‏ ‏لعلها‏ ‏أجلت‏ ‏المواجهة، بل‏‏ ‏كادت‏ ‏تعطل‏ ‏المسيرة‏.‏

كذلك‏ ‏شاعت‏ فى الحياة اليومية  ‏قيم‏ “‏التكمية‏ ‏الاغترابية‏” (9) ‏بدءآ‏ ‏من‏ ‏الرفاهية‏ ‏كهدف‏ ‏نهائى، ‏مرورا‏ ‏بالمبالغة‏ ‏فى ‏الاقتصار‏ ‏على ‏تحريك‏ ‏الوعى ‏أو‏ ‏تخميده‏ ‏بعوامل‏ ‏كيميائية‏ ‏خارجية‏ ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏عقاقير‏ ‏حديثة‏ ‏يروجها‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الميكانيكى، ‏أم‏ ‏كانت‏ ‏مخدرات‏ ‏ومنشطات‏ ‏مسئولة‏ ‏عن‏ ‏تمادى ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏، أم كانت تفسيرات سطحية لنصوص مقدسة رائعة، المفروض أنها ملهِمَة أكثر منها وصية مجمِّدة.

هكذا‏ ‏أصبحت‏ ‏الحاجة‏ ‏ماسة‏ ‏إلى ‏أطروحة‏ ‏محيطة‏ (‏لا‏ ‏عكسية‏ ‏ولا‏ ‏بديلة‏) ‏تستوعب‏ ‏النقيضين‏ ‏لتحقق‏ ‏التوازن‏ ‏الحركى ‏الجدلى ‏الدافع‏ ‏لاستمرار‏ ‏المسيرة‏  ‏واضطراد‏ ‏التطور‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أسميناه‏ ‏ـ‏ ‏هنا‏ ‏-‏ ‏الإبداع‏ ‏الفائق‏ (‏أنظر بعد)، ‏الذى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحتوى ‏المكاسب‏ ‏البشرية‏ ‏الكمية‏ ‏المتحدية‏ ‏بوصفها‏ ‏أدوات‏، ‏ليخدم‏ ‏بها‏ ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏من‏ ‏أجل‏ ‏استمرار‏ ‏حركته‏ ‏المتنامية نوعيا‏.

‏غير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏، ‏مع‏ ‏وجود‏ ‏هذه‏ ‏الفجوة‏ ‏الناتجة‏ ‏عن‏ ‏فرط‏ ‏الاغتراب‏، ‏قد‏ ‏بدا‏ ‏نوعا‏ ‏أكثر‏ ‏خطرا‏، ‏وأشد‏ ‏صعوبة‏، ‏وأزعج‏ ‏إرعابا‏،، ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏يتطلب‏ ‏المخاطرة‏ ‏بتنشيط‏ ‏منظومات‏ ‏الوعى: ‏الأثرى، ‏والطفلى، ‏والفج‏، ‏والبدائى، ‏دون‏ ‏أى ‏ضمان‏ ‏لعدم‏ ‏غلبته‏ ‏أو‏ ‏التوقف‏ ‏عنده‏، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لكى ‏يكون‏ ‏الإبداع‏ ‏إبداعا‏ ‏على ‏هذا‏ ‏المستوى‏، ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يخترق‏ ‏مرحلة‏ ‏الجنون‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏. ‏وقد‏ ‏ترتب‏ ‏على ‏ذلك‏، ‏وعلى ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏ذلك‏، ‏أن‏ ‏ظهرت‏ ‏أشكال‏ ‏مجهضة‏ ‏ومختلطة‏، ‏من‏ ‏الإبداعات‏ ‏المختلفة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏بعضها‏ ‏أصيلا‏ ‏جزئيا‏، ‏أو‏ ‏بدايةً‏، ‏مما‏ ‏زاد‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏مواكبة‏ ‏نقد‏ ‏مسئول‏ ‏مبدع‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏.‏

[1] –  هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986  ص( 30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”  الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.

[2]-  يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” منشورات جمعبة الطبنفسى التطورى سنة  1979

[3] – ‏ تستعمل‏ ‏كلمة‏ “‏الوعي‏” ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏بمعان‏ ‏مختلفة‏ ‏لايظهرها‏ ‏إلا‏ ‏السياق‏، ‏وقد‏ ‏أضفت‏ ‏صفة‏ “‏المعقلن‏” ‏فى ‏هذه‏ ‏المراجعة‏ ‏لتفيد‏ ‏أمرين‏: ‏الأول‏: ‏أن‏ ‏تحدد‏ ‏مستوى هذا ‏الوعى المعنِى ‏هنا‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏ ‏والمرادف‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏المستوى ‏الظاهر‏ ‏للمعرفة‏ ‏الشعورية حيث يطلق‏ ‏عليه‏ ‏أحيانا‏: ‏الشعور‏، ‏والثانى: ‏أن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏تضخم‏ ‏دور‏ ‏المخ‏ ‏الحسابى ‏الرمزى ‏الممثل‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏نشاط‏ ‏نصف‏ ‏الدماغ‏ ‏الكروى ‏الطاغى: ‏الأيسر‏ ‏فى ‏الشخص‏ ‏الأيمن‏.‏

‏ لكنى أستعمل‏ ‏كلمة‏ ‏الوعى ‏هنا‏ ‏ـ‏ ‏مبدئيا‏ ‏ـ‏ ‏بمعنى ‏تركيبى ‏محدد‏; ‏فهى ‏تعنى أية: “‏منظومة‏ ‏بنيوية‏ ‏، ‏متناغمة‏ ‏فى ‏مستوى ‏بذاته‏، ‏تصبغ‏ ‏كل‏ ‏نشاط‏ ‏المخ‏ ‏وحركية‏ ‏محتوياته‏ ‏بصبغتها‏ ‏وقوانينها‏ ‏على ‏كل‏ المستويات ، كل فى موقعه من تطور ودورات‏ ‏النشاط‏‏، ‏وتبادل‏ ‏التنظيم‏”، ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فكلمة‏ ‏الوعى ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏تشير‏ ‏بالضرورة‏ ‏إلى ‏إدراك‏ ‏معرفى ‏أو‏ ‏حسى ‏فى ‏حالة‏ ‏اليقظة‏، ‏فثمّ‏ “‏وعى ‏النوم‏” ‏و‏ “‏وعى ‏الحلم‏” ‏و‏”‏وعى ‏اليقظة‏”. من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏أنبه‏ ‏إلى ‏رفضى ‏للاستعمال‏ ‏الشائع‏ ‏لكلمات‏ ‏مثل‏ ‏اللاوعى، ‏واللاشعور‏، ‏هذا‏ ‏وقد‏ ‏تطور‏ ‏عندى ‏مفهوم‏ ‏الوعى ‏بعد‏ ‏ذلك حتى عدلت عن الاكتفاء بأن يكون الوعى بمثابة وساد للوظائف الأخرى، ذلك أنه ليس أرضية لمحتوى غيره، بقدر ماهو هو متداخل فاعل طول الوقت على مستويات متعددة متداخلة ومتبادلة ومتجالة معا.

[4] – ‏برغم‏ ‏مرور‏ ‏الفكر‏ ‏التطورى (‏الدارونى ‏بوجه‏ ‏خاص‏) ‏بهزة‏ ‏نابعة‏ ‏من‏ ‏سطحية‏ ‏المنهج‏ ‏الذى ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏أدلة‏ ‏مباشرة‏، ‏وحلقات‏ ‏مفقودة‏، ‏فإن‏ ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏، ‏والقياس‏ ‏الموازى، ‏وعلم‏ ‏التشريح‏ ‏المقارن‏، ‏وعلم‏ ‏الأجنة‏ ‏المقارن‏، ‏كلها‏ ‏تحذر‏ ‏من‏ ‏التمادى ‏فى ‏الاستسلام‏ ‏لآثار‏ ‏هذه‏ ‏النكسة‏‏ ‏الجديرة‏ ‏بأن‏ ‏تعوق‏ ‏الفكر‏ ‏البشرى ‏وهى ‏تظلم‏ ‏بصيرته‏ ‏كلما‏ ‏أظلم‏ ‏ضيق‏ ‏المنهج‏ ‏وتهافتت‏ ‏سطحيته‏ ‏يبدو ذلك مثلما‏ ‏حدث‏ ‏سابقا‏ ‏حين‏ ‏شوه‏ ‏مندل‏ ‏ووايزمان‏ ‏فكرة‏ ‏وراثة‏ ‏العادات‏ ‏المكتسبة‏. ‏الدراسة‏ ‏الحالية‏ ‏مازالت‏ ‏تستند‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى ‏الفكر‏ ‏التطورى ‏الحيوى ‏على ‏مستوى ‏النوع‏، ‏وعلى ‏مستوى ‏الفرد‏، ‏وعلى ‏مستوى ‏الدورة‏ ‏اليومية‏، ‏ثم‏ ‏على ‏مستوى ‏المسار‏ ‏الإبداعى (‏انظر‏ ‏أيضا‏: ‏الكتاب الأول: “الإيقاع‏ ‏الحيوى ونبض الإبداع”‏).‏

[5] – exact sciences

[6] – والنوعية‏ ‏المنحّاة جانبا حتى كمُنَـت

[7] –   Antipsychiatry‏أعطت‏ ‏الحركة‏ ‏المناهضة‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏قيمة‏ ‏إيجابية‏ ‏مبالغا‏ ‏فيها‏ ‏لما‏ ‏هو‏ “‏جنون‏”. ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏تحمل‏ ‏فكرا‏ ‏مهما‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏عدم‏ ‏تحديد‏ ‏مرحلة‏ ‏الجنون‏ ‏التى ‏تدافع‏ ‏عنها‏ (‏حتى ‏لايتمادى ‏الجنون‏) ‏وهجومها‏ ‏غير‏ ‏المنظم‏ ‏على “‏كل‏” ‏الوسائل‏ ‏الفيزيائية‏، ‏والكيميائية‏ ‏اللازمة‏ ‏لضبط‏ ‏فرط‏ ‏جرعة‏ ‏التنشيط‏ ‏الداخلى ‏العشوائي‏-‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏قد‏ ‏أديا‏ ‏إلى ‏إخفاق‏ ‏نتائجها‏ ‏العملية‏ ‏إخفاقا‏ ‏كاد‏ ‏يهز‏ ‏حتى ‏الأفكار‏ ‏الصحيحة‏ ‏التى ‏أسست‏ ‏عليها‏ ‏توجهها‏. ‏وقد‏ ‏يلاحظ‏ ‏القاريء‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏ماهو‏ ‏دفاع‏ ‏عن‏ ‏الجنون‏، ‏لكنه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكتشف‏ ‏التأكيد‏ ‏المتكرر‏ ‏على ‏أن‏ ‏الدفاع‏ ‏إنما‏ ‏ينصب‏ ‏على ‏بدايات‏ ‏الجنون‏ ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بإمكانية‏ ‏تحويل‏ ‏المسار إلى الإبداع، وليس على ترجيح مزايا خاصة للجنون المستتب‏.‏

[8]- ‏أقصد‏ ‏هنا‏ ‏بالأوتوماتية‏ ‏المعنى ‏الذى ‏يقول‏ “.. ‏فلا‏ ‏يكون‏ ‏ثمة‏ ‏انتباه‏ ‏أثناء‏ ‏الكتابة‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏دفق‏ ‏الكلمات‏ ‏النابع‏ ‏عن‏ ‏اللاوعى ..” كذلك هى: “.. ‏لم‏ ‏تكترث‏ ‏بأن‏ ‏تحقق‏ ‏توازنا‏ ‏بين‏ ‏الأوتوماتية‏ ‏وصفاء‏ ‏الذهن‏، ‏أو‏ ‏بعبارة‏ ‏أخرى ‏لم‏ ‏توفـِّق‏ ‏بين‏ ‏نتائج‏ ‏العقل‏ ‏الباطن‏ ‏وتحكم‏ ‏العقل‏ ‏الواعي‏”، ‏انظر‏: ‏نعيم‏ ‏عطية: “الأوتوماتية‏ ‏فى ‏الشعر‏ ‏السيريالي”‏ ص 155-161 ‏ ‏المجلد‏ ‏الأول‏- ‏العدد‏ ‏الرابع‏ (1981) مجلة فصول. ‏

[9] – أعنى بالتكمية الاغترابية alienated quantification أن يصبح معيار التقدم هو الوفرة فى الكم أساسا أو  تماما (-بما فى ذلك اغتراب الرفاهية وقهر الاستهلاك).

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *