“يومياً” الإنسان والتطور
8-9-2008
السنة الثانية
العدد: 374
يوم إبداعى الشخصى
الرواية المسرحية (1 من 2)
لا أذكر من الذى صكّ هذا المصطلح “مسرواية” ليدمج المسرحية بالرواية، هل هو توفيق الحكيم أم نجيب محفوظ،؟ الأرجح أنه الأول، فى “بنك القلق” على ما أذكر، لكن نجيب محفوظ ربما فعلها دون أن يسميها كذلك.
صدرت لى هذا الأسبوع الطبعة الثانية من الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط”، وهو باسم “مدرسة العراة”، وبهذا تكتمل الثلاثية فى متناول من يريد (وهى فى نفس الوقت موجودة باجزائها الثلاثة فى الموقع)، تكتمل، وإن اختلف الناشر:(1)
بهذه المناسبة رأيت أن أقتطف حوارا محدودا من “مدرسة العراة”، قد يبين لى – لنا – الجانب المسرحى فى الرواية.
قبل ذلك أذكر أن الذى نبهنى إلى طبيعة هذا الجزء الثانى من الرواية، وكيف أن الحوار الحركى يغلب فيه على الحكى، هو شيخى الجليل “نجيب محفوظ”. حين تعرفت عليه شخصيا فى أوائل التسعينات لم أكن أعرف أنه قرأها، لكنه بكل تواضع أخبرنى بذلك، ونبهنى إلى هذا الكم الهائل من الحوار التى شَمِلَتهْ، فتنبهت، وبالمناسبة أبلغنى أحد حوارييه أنه حين سئل فى أحد لقاءاته الإذاعية أن يكوِّن فريقا من الكتاب أو المثقفين، لست متأكدا، اختارنى حارس مرمى الفريق، وقد سألته فى ذلك لأتأكد، فأقر قول الصديق، طبعا فرحت فرحا شديدا أنه اختارنى معه قبل أن يعرفنى شخصيا، ربما أكثر من فرحتى بحصول الجزأين الأول والثانى من هذه الثلاثية على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية 1980، وحين سألته لماذا اختارنى – وهو الهدّاف الكروى الرائع – حارسا للمرمى؟، وأنا لا أعرف الأوت من “الأوفسايد”! ابتسم ولم يجب، وكثيرا ما كانت ابتسامته أبلغ إجابة، سألته مرة عن معنى المسرح عنده، فاستفسر: عن لماذا أسأل، فحكيت له ما قاله لى د. مصطفى محمود ذات مرة، حين وصف كتابى “حكمة المجانين” أنه أقرب إلى المسرح، مع أنه فقرات متلاحقة (ألفَ فقرة وفقرة) تتراوح الفقرة فيها بين نصف سطر وبضعة سطور، فاعتذر شيخى أنه لم يقرأ الكتاب، وتعجب، أو تصورت ذلك، من أن تكون فقرات كالحكمة هى أقرب إلى المسرح، وطلب تفصيلاً.
حكيت له أن هذا قد حدث أثناء مقابلة عابرة مع د. مصطفى حين زرته فى معبده/ مرصده (2)، كنا كمن يعرف بعضنا البعض عبر سنين، وذكرته بفنه الروائى الذى هجره، وأننى كنت مبهورا به شابا، وأنا أتابعه فى روز اليوسف وصباح الخير، وأنه كان يمكن أن يضيف من خلال إبداعاته المتنوعة إلى قضية الإيمان التى تشغله وتشغلنا بكتاباته الرائعة تلك أكثر مما يفعل الآن بتفسيراته المتعسفة، فضحك وداعبنى كعادته فى الهاتف، منبها إياى أنه “واحدة واحدة علينا يا شيخ يحيى”، ثم أردف ضاحكا: “أدعُ لى يا شيخ يحيى”، فاستمرأت الطلب وأخبرته (بما أكرره كثيرا هنا وهناك)، “إطمئن، فالله سبحانه سوف يدخلك جناته بالرغم مما تقوم به، وليس بسببه”، فيقهقه د. مصطفى عاليا، وحين عرجنا إلى الحديث عن كتابى “حكمة المجانين” سألنى د. مصطفى: “أنت كتبت كل أنواع الكتابة، فلماذا لم تكتب مسرحا؟”، ثم أشار إلى كتاب حكمة المجانين قائلاً: “…. هذا العمل كله مسرح”، حاولت أن أستوضحه فلم يوضح. أكملت لشيخى محفوظ: حتى الآن، كلما تصفحت هذا الكتاب ولم أجد فيه حوارا واحدا، أتذكر قول هذا المبدع الرائع، وأقول لنفسى: يوما ما، سوف أدرك ما كان يعنى، وسألت شيخى تُرى ماذا كان يعنى، قال: لا أدرى بالضبط، لقد كان حرفوشا جميلا، ثم جرى له ما جرى، ثم يطأطىء رأسه بطيبة الأب الحانى، ويكمل: “وجرى أيضا لنا ما جرى”.
حتى الآن، لم أجد الجواب:
ما هو المسرح بالضبط؟
هل هو أقرب إلى الحلم أم إلى الشعر أم إلى التشكيل؟
تعرفت على المسرح أكثر فأكثر دون حاجة إلى تعريف من جلسات العلاج النفسى الممتدة أكثر من خمس وثلاثين سنة، مما قد يحتاج إلى رجعة تفصيلية.
أحيانا أجد أن ما يتبقى فى وعيى من رواية طويلة هو مشهد أو بضعة مشاهد، أكثر من الكلمات، وأكثر كثيرا من الرموز المُقْحَمة، خذ مثلا من “أولاد حارتنا”: “…. مشهد عرفة الساحر وهو يقتل خادم الجبلاوى”
- يحضرنى هذا المشهد عادة ممسرحا كلما تابعت ذلك الهجوم المسطح على أولاد حارتنا(3)، يحضرنى هذا المشهد ماثلاً قبل النهاية.
- يليه مشهد آخر، فأتعجب كيف أنه لا أحد من المسطحين المتعجلين توقف عند وصية الجبلاوى التى تركها لخادمته لتبلغها لعرفه.
“- جئتك لتنفيد الوصية
فرفع (عرفه) رأسه إليها مرتعشا، متسائلا:
– ماذا عندك؟ تكلمى.
فقالت بصوت هادئ كنور القمر
– قال لى قبل صعود السر الإلهى: “إذهبى إلى عرفه الساحر،
وأبلغيه عنى أن جده مات، وهو راضٍ عنه”
(الخط تحت الكلمات من عندى)
شيخى الجليل لا أحد انتبه إلى بقية الحوار والخادمة تنفى القتل، بل ومجرد احتماله.
“- ما قَتَل الجبلاوى أحدٌ، وما كان بوسع أحد أن يقتله”.
- مشهد ثالث أغفلوه استعجالا وعدوانا كان بين عرفه ومساعده حنش، كان عرفه يتساءل كيف يمكن التكفير عن هذه الجريمة؟ (جريمة قتل الخادم التى ربما مات الجبلاوى بعدها متأثراً)
“….. شىء واحد يكفى
هو أن يبلغ السحر الدرجة التى تمكنه من إعادة الحياة إلى الجبلاوى”
ثم
سأعمل يا حنش، لا تخف علينا، ….
وستكون ذروة العجائب أن تعود الحياة إلى الجبلاوى.
أقول: لو أن هؤلاء المسطحين المتشنجين قد عرفوا شيئا عن المسرح، أو الصوفية، أو السحر، أو العلم الجديد، أو الإيمان، أو الشعر، أو الحلم، وحضروا معى الرواية مسرحية فى مشاهد، الواحد تلو الآخر كما شاهدتها، لا كما قرأوها رموزاً خائبة، لاختلف الأمر، وربما لاهتدوا إلى رب العالمين الأقرب من حبل الوريد.
وبعد
اليوم، وأنا أتصفح الطبعة الثانية لمدرسة العراة، تذكرت كلا من حِوَارى مع نجيب محفوظ، ود.مصطفى محمود، شفاه الله وعافاه، كما حضرتنى حيرتى الممتدة، وفجأة قفز ماثلا أمامى مسرح أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، ثم التقاسيم التى ادندنها تشكيلاتٍ عليها، وتساءلت: وهل هذا إلا مسرح متحرك؟
يا ترى يا شيخى الجليل هل تقرأ تقاسيمى على أحلام فترة النقاهة؟
وما رأيك؟
هل أنت راضٍ عنها، وعنى؟
أحيانا أشعر أننى تجاوزت حدودى،
لكننى كثيرا ما أسمع صوتك تباركها، وأتذكر كيف رحل الجبلاوى وهو راض عن عرفة،
وأتأكد أنك راض عنى
وأحمد الله الذى جعلنا نرضى عنه وهو يرضى عنَّا
“رضى الله عنهم فرضوا عنه”
صدق الله العظيم
ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
ما هذا؟
دقات ثلاث؟
إذن سوف ترفع ستارة المسرح فوراً.
ليست هى،
إنها طلقات مدفع الإفطار
دعونا نؤجل الجزء الثانى إلى الغد.
رمضان كريم!
[1] – الطبعة الثانية للجزء الأول: الواقعة، الناشر “ميريت” القاهرة، الطبعة الثانية ، الجزء الثانى “مدرسة العراة” الناشر “الحضارة للنشر” القاهرة، الطبعة الأولى الجزء الثالث “ملحمة الرحيل والعود” الناشر “الهيئة العامة للكتاب” القاهرة.
[2] – كانت المرة الثانية والأخيرة. أنا لمَ التقه إلا مرتين فى حياتى، لكن الهاتف ظل بيننا مدة طويلة، فلزم التنويه خشية إدعاء صداقة وثيقة لم أشرُف بها.
[3] – أضعف روايات محفوظ من وجهة نظرى لأسباب غير التى يهاجمونها بها.