الناس والطريق
يحيى الرخاوى
يخيل الى أنى قطعت نصف “الطريق”، طريق الكتابة – هنا – لا طريق السفر، ومازلت أكتب كأنى “أحاول” لأول مرة، ذلك أنى أخترق مقاومة تكاد تمنعنى من التمادى فى هذا النوع من الاستكشاف بالقلم : خوفا .. وخجلا، خوفا من أن أصل الى المنطقة فى نفسى التى لا أحب – ولا ينبغى – أن أعلن عنها، وخجلا من عرض مظان الرفاهية “الخاصة” على “عامة” الناس، ولسان حالهم، وحالى، يقول”نحن فى ماذا يا هذا؟، (أحنا ف ايه، ولا ف ايه؟)، وكأن الحوار بين القادر والمحروم لابد أن يستمر تكتما وسرقة، أو كذبا وادعاء فيمارس القادر الرفاهية فى السر، وهو يعلن الشعارات الراشية والمسكنة جهارا نهارا، ويذهب يبرر لنفسه التميز والتملك مشهرا فى وجه الناس كل القيم “الدينية” و “المذهبية” الواعدة بما لا يكون، ويظل التبرير والتأويل والادعاء يوسع المسافة ويطمس المسئولية، فأقول لى : أبدا، ليكن القلم صاحب الحق قبل الوصاية ورغم التخفى، فأزداد اقداما فى محاولة الاختراق المتواصل، فما عدت أجرؤ على التوقف أو حتى التلفت أو التردد، وذلك بعد ما هدد هذا السلوك : (التردد فالتراجع) بأن يصبح سمة من سمات نشاطى العقلى الحذر، بل ربما خطوات حياتى كافة، .. نعم، أصبحت أرعب من وفرة البدايات وندرة التمام، حتى قررت أن أعدل عن ذلك جذريا بأن أكمل أيا مما بين يدى، مهما كان، وعلى حساب أى بداية أخرى واعدة، وخاصة اذا كان هذا الذى بين يدى، قد سرى وتشكل فاصبحت له طاقته الذاتية، نعم .. هو التوريط الذاتى، وهذه العملية (التوريط الذاتى) – رغم سوء السمعة – هى من أقوى أشكال “الارادة الخفية”، فالناس تحب أن توهم نفسها بأنها تفعل ما تقرر، وأنها تقرر ما تريد، (يا سبحان الله!!)، مع أن من وهب قدرا، ولو ضئيلا، من البصيرة، لابد وأن أن يدرك بوضوح ما، أن المسألة لا تعدو أن تكون صراعا شديدا فى محاولة الخروج من ورطة فى “موحل“[1] الى ورطة فى “معبر“[2]، لكنها ورطة دائما، هنا وهناك، ولكن : اليست الحياة نفسها ورطة دائما، هنا وهناك، ولكن: أليست الحياة نفسها ورطة كبيرة، سماها سقراط “مرضا” نشفى مه بالموت العظيم، واعتبرها أبو العلاء بعض جناية أبيه، ورآها الخيام اقحاما له فيما لم يختر، اذن، فالشاطر من يدرك قواعد اللعبة ما أمكن، حتى يمكنه أن ينتقل من “الموحل” الى “المعبر” ثم الى حيث يدفعه الأمام، المهم ألا نستسلم لقدرية تضع اللوم على المجهول لتبرر الغوص فى الطين، أو أن نخدع بحرية وهمية تخفى عنا سخرة الخارج تحت غيامة مسخرة الداخل، وأغلبنا يصيح كالأبله “أنا حر” وهو يدور حول نفسه فى رقصة الدوخة الكبرى.
ورطة؟.. ورطة!، لتكن، وليكن الممكن هو الاستمرار حتى نكمل البدايات لعلنا نرى أكثر، فنصبح أوسع أفقا واقدر حرية، اذ مهما يكن من أمر فأنه شتان بين من وقع فى طين يضطرب فيه حتى يكاد يغرق الى أذنية، وبين من زنق نفسه على قنطرة فى اتجاه واحد، وقد اختارها من بين قناطر متعددة، آملا أن تؤدى الى معابر أكثر تنوعا، واذا كان لنا – من باب الغرور الانسانى – أن نستسلم لذلك الوهم الشائع المسمى بالحرية، فليكن ذلك بقدر ما نبذل من جهد لاختيار الورطة التى توحى بأننا قادرون عليها، من يدرى؟
نعم، ورطت نفسى فى هذه الكتابة مثلما ورطت نفسى فى أشياء كثيرة (منها – مثلا – هذه المجلة) – وكل أملى أن اكون الآن على معبر (بكسر الميم) لا فى موحل، وسبحان المنجى.
الأربعاء 29 أغسطس 1984
قمنا من الكوخ (البنجالور) فى نشاط لا نحسد عليه، وفى خلال ساعة وبضع ساعة، كان كل شئ قد أعد، حتى الوظائف العبادية والبيولوجية تؤدى بسرعة واتقان بحيث تتفق مع مراحل الرحلة وظروف الخدمات وفروق التوقيت(!!)، وسبحان الله الذى جعل ركعتى الفجر فى السفر لا تدخلان فى رخصة الجمع والقصر، والذى جعلهما (ربما: بالذات) خير من الدنيا، وما فيها، ولكنى أتصور أن ثمة مواصفات لهاتين الركعتين لازمة ليكونا كذلك (خير من الدنيا وما فيها): اذا لابد من تصالح من الخارج = الى الداخل، ولابد من أن نفهم الدنيا هنا بمعنى الأدنى، وليس فقط بمعنى الحياة الأولى (هذه الحياة)، والتصالح عندى لا يعنى الاستسلام والتحذير، وأنما يعنى حوار فاعل يعقد كل صباح (كل فجر) يجعلنا نقبل التحدى، مستعينين بالفوق والتحت الى الأمام، مهما بلغت لزوجة الموحل.
***
قمنا، وتصالحنا، وشفينا[3] وشربنا الشاى، وأعددنا شاى الرحلة وتوكلنا، والمرأة “المهرة” المسئولة عن المخيم تودعنا، وكأنها تستقبلنا، نفس الضحكة الرحبة، ولاصوت الدافئ الخشن فى أنوثة قوية خاصة، وتساءلت كم ألف بنى آدم يأتى، وكم يذهب، وهذه المرأة ترحب بهم قادمين وتودعهم ذاهبين، صعب أن أفترض أن هذه الضحكة تعنى ما أتصور من قوة، ودعوة، وأمن، وتشجيع، ورضاعة، وهدهدة،و…،و…، ولكن الأصعب أن اتصور أن هذه الضحكة ليست سوى قناع تلبسه لزوم الشغل فحسب.
انطلقنا حسب تعليمات المرأة المهرة فى خط مستقيم الى فينسيا، ثم لاحت لافتات “بادوفا”، وكان مرشدى فى هذه المرحلة من الرحلة هو أبنى الأكبر – على أبواب الجامعة حقيقة لا تقريبا – (الأكبر فى الرحلة فقط، لكنه أصغر ابنائى من ظهرى، فقد تركنا ابنى الأكبر “فعلا” مجندا فى الجيش “جدا”) – وأنا لم أتعرف على هذا البن (المرشد) بعد، فقد كا ن صغيرا: شديد الطفولة صارخها: رقصا وفرحة، ثم شب صبيا/ فاصبح شديد الابداع “المنزلى”: أثاثا وطهسا!! وفى نفس الوقت بالغ القوة العضلية: رفعا ونطرا!!، ثم صار يافعا (احذره دائما من أن بشتط فيتجاوز طوله طولى) شديد الجهامة والالتزام (الدينى خاصة) والصمت والحذر، وقد بدل لى أن كل هذه المراحل ليس لى فيها يد مباشرة، بالإضافة الى انى أحسست مؤخرا أن المسافة تتزايد بينى وبينه، فتركتها تفعل، وقنعت بتواصل حوار صامت لا أعلم تفاصيله وان كنت متأكدا من استمراره، واحسب أنه يدرك بعضه فى مستوى ما من وجوده – أما مصير كل ذلك، سواء بالنسبة له أو لسائر أولادى، فهذا ما لا أعلمه، وياليت الأهل يعرفون أنهم غير مطالبين بالتوجيه والارشاد، بقدر ما هم مطلوبين “للحضور” و”صدق المحالة”– وما أصعب المهمة، ومن هذا المنطلق كان دور ابنى هذا كمرشد فى أى فترة من فترات الرحلة صعب على تماما، حيث كنا نتبارز فى حدة يقظة مسنونة: أقول أو أسال، فيستجيب بانتباه مفرط، حتى اشعر بأشواك انتباهه تلكزنى فى جنبى، ليس انتباها هذا ولكنه وقفة استعداد، واتجاه الوعى على زناد الرد، هو يريد أن يثبت لى أنه لا يخطئ، وأن تعليماتى هى المسئولة عن أى أنحراف فى الطريق “كذا”، أو “كذا”، وانا أريد أن أثبت له أنه بهذا التحدى لا يحسن التلقى، فاذا أحسن التلقى فهو لا يحسن التصرف، وانه السبب، وتتصاعد حرارة الحوار الصامت حتى يتقد الجمر، وتكون النتيجة أن ننحرف عن الطريق السريع (الأوتوستراد) لنجد أنفسنا داخل “بادوفا” شخصيا، ونحن لم نكن ننوى أن نزورها طبعا، مدينة ككل المدن، ناس وبيوت وحاجات، هى هى
ونبدأ فى السؤال للخروج: ميلانو؟ أتوستراد؟ ولا مؤاخذة ميلانو؟… والنبى يا عم أوتوستراد؟ ونخترق البلدة من أقصاها الى اقصاها، فأفرح بالتعرف الاضطرارى عليها، وينفعنى ذلك عند العودة، لأننا بفضل صدفة (مختارة!) قضينا به ليلة ما كنت أحسب أنى سأفوز بها لولا هذه الغلطة، وقد سبق أن نبهت الى أنه ” لا توه فى سفر” حين يكون الحبل على الغارب بقصد الاستطلاع لا الوصول، لأن كل تيه هو معرفة مفاجئة حتما.
وما زلت أذكر تيها رائعا حدث لى فى جوار سان فرانسيسكو قبل عام واحد، وأنا فى رحلة اضطرارية – الى أمريكا، قبلتها بقدرة “ابن سبيل” مشوق دائما الى هذا السعى الملح وراء الشئ (نفس الشئ!! حتى لو خيل إليه أنه وجده، لكن أبدأ..) حيث قررت فى هذا البلد (سان فرانسيسكو) ذات الربيع الدائم ( ينقذنا من هجير صيف نيويورك وواشطن – وحتى بوسطن) – قررت أن استأجر سيارة، لارغبة منى فى ذلك، ولكن استسلاما لاغارة دعائية، ظلت تلاحقنى فى شكل اعلان يتحدانى فى كل مكان فى حجرة الفندق المتواضع الذى يؤوينى، فالورقة تلاحقنى على المنضدة الوسطى، وبجوار السرير، وتحت مرآة الوجه، وعلى “التسريحة” وداخل الصوان، حتى تصورت أنها مكتوبة على لفافات الورق اياما،و كلها تهمس لى: “أجر سيارة”،… “أجر سيارة”، “أجر سيارة”Rent a Car، ووقفنى لا يحتمل الاختيار، يومان ليس الا، ولكن من يسمع؟ “أجر سيارة”، كلها ستة عشر دولارا وخمسة وسبعون سنتا (هكذا يقول الاعلان)، ولم أملك الا أن أنهزم رغم خوفى من اختبار عنادى القيادى فى بلد لا أحبه، لأنه بلد شديد اللاتجانس واللاانتماء مما يثر فى داخلى كل نشاز، وأنا فى السيارة – عادة – أقترب من الأرض ورائحتها وحسها، فاسير فى فلكها عليها، فكيف أفعل وأنا مخاصمها؟، ومع ذلك انتصر الاعلان، وتوجست زوجتى خفية، وقد اتدت توجسها ثم رضاها الظاهرى حتى أصبح هذا “النص” (سكريبت) المواكب، جزءا لا يتجزأ من أرضية قراراتى، وذهبت الى العنوان المبين بالأعلان، وكان على بعد بضعة خطوات من الفندق، فوجدت شابا وحده يدير العملية (العمليات) كلها، يستلم ويسلم، ويكلم الجراج، ويكلمنى، ويكلم جارى، ويداعب – أو يرد – على أحد المارة احدى المارات، أمام باب المحل فى عجل، ويعود الينا، ولا يعود، ولم أكد أفتح فمى بكلمة “سيارة” حتى مد يده الى عدة أوراق وضعها أمامى وانصرف، فاخذت اقرأ، وانتظر، وأنتظر، واقرأ… والناس تدخل وتخرج، وهو لا يسأل فى صحتى، لأنى – فى زعمه – “حر”، وأخيرا قلت اتسلى، وكتبت اسمى أمام كلمة “اسم”، ورقم جوازى، وانتظرت حتى فرغ من كل الناس، فهم أن يتركنى ليكمل “سندوتشا” ظل ينتظر نصف ساعة وهو مقضوم منه قضمتين ومازال ينتظر أن يلحق بمصيره المحتوم، وقد كدت أرجو أن يكمل الساندوتش أولا حتى لا….، ولكن ما لى أنا؟ ومن أدرانى أن موجة أخرى من المؤجرين والعائدين لن تجتاحنى وأنا مازلت أتهته فوق الأوراق، وحل الشاب الأمن، فجأنى بنصف امتلاءة فم، ونصف لسان، ونصف انتباه، وقال بلهجة أمريكية أنه ” أوكى” ،” اوكى”، ما هو هذا الذى هو “أوكى”؟، وأنا لم أقل شيئا بعد، فتناول منى جواز السفر، وأكمل ما أراد، وأخرج نسخا، ووضع أوراقا، وطلب نقودا، فأخرجت له الستة عشر دولارا وخمسة وسبعين سنتا (الحق حق).
وهنا فقط وجدت أمامى انسانا فى كامل الانتباه، وبمتابعة لهجته الأمريكية بالكاد، استطعت أن أرد على تساؤله المتعجب المحتج من ضآلة المبلغ المدفوع، أن هذا هو المبلغ المثبت فى الاعلان الذى ظل يلاحقنى فى حجرة اللوكاندة الفلانية حتى كاد يظهر فى أحلامى، فقال نعم، ولكن هذا المبلغ هو للسيارة الفورد الكذا (لم ألتقط اسم الماركة الفرعية بالضبط، فأنا لا افهم فى هذه المسائل) – قلت فى فصاحة المصرى، من بلدنا، “عليك نور، وانا لا أريد الا هذه الفورد بالذات، واذا به يتأسف بأن هذا الـــ… “بالذات” مؤجر، وأن عنده ما هو أفخم وأحسن واسرع (لعب أمريكانى لجر رجلى اذن!!) – وظل يستعمل أفعل التفضيل حتى لم أعد ألاحقه، قلت :الأمر لله، وما الفرق بالدولار (وليس بالكيلو سرعة) قال بسيطة، 9 دولارات وخمسون سنتا (قال يعنى!!)، فأخرجت عشرة دولارات بالتمام فى حين انقبضت اسارير زوجتى الواقفة – مسكينة – تتابع الحديث وتبتهل الى الله – هكذا ظننت – أن يفسد الصفقة من أصلها، وملأ الرجل الأوراق، وقمت بالتوقيع، وتصورت أنه لم يعد أمامى الا استلام المفتاح، ولكنه مد يده الى أوراق أخرى ، من رف آخر، وجاء متبخترا وقد حلت “اللبانة” محل ىثار السندوتش، وجعل يسألنى اسئلة لم تخطر على بالى أصلا “هل تريد التأمين على السيارة؟ على نفسك؟ على زوجتك؟ لصالح من ؟ وعنوانهم؟.. و… و..؟” وأنا فى حياتى لم اؤمن على شئ، ولا على أحد، ولا لصالح أحد،(اللهم ألا بضعة جنيهات سنويا ضد أخطاء المهنة، ومثلها التأمين الاجبارى مع تجديد رخصة السيارة) – قلت فى نفسى “اللهم أخزك ياشيطان، يا عم قدم المشيئة” وهنا وكأنه سمع حديثى مع نفسى – تجلت الديمقراطية الامريكية فى أروع صورها، وقال “أنت حر”، قلت و “نعن” (بكسر النون)، لكنه راح يذكرنى أنه لو أصيبت السيارة باى شئ فسوف أدفع الشئ الفلانى، قلت لنفسى: من أين يا حسرة، ونحن فى بلاد الغربة، المهم.. كلمة من هنا وكلمة من هنا وكلمة من هنا دفعت ثمانية دولارات (يا بلاش: مقابل سيارة بأكملها فى حالة ماذا….)، وحسبت أنه سيهمد ولكنه لم يفعل، فعاد يهددنى (لن يمر هذا اليوم على خير!!) – فى لطف جم -: بالكسر،و العمى، والعجز، والشلل، وجميع أنواع الأمراض والاصابات حتى تصورت أنه لوح فى وجهى بأمراض السرطان والادمان وضمور الأطراف!! كل ذلك محتمل خلال الأربع والعشرين ساعة داخل سيارته الفخيمة!!، وحين تلكأت حاسبا أن كل مرض من هذه المصائب له تأمين بذاته، نظرت اليه فاذا به كأنه يعايرنى أنى أمنت على السيارة واستخسرت ذلك فى نفسى وزوجتى، وأنى – شخصيا – بذلك لا اساوى سيارة، فاندفعت أمحو الاهانة، ودفعت، ودفعت، ودفعت، هذين دولارين، وهذه أربعة، وهذا لزوجتى اللطيفة (هذا كلامه) خسارة شبابها!!، وحين ملأ البيانات، وعرف سنى، وسن زوجتى (مع أن الله أمر بالستر) قال لى أنهم سيرسلون “المبلغ” – بأذن الله – الى أولادى فور حدوث الحدث!!، فجعلت أتحسسنى من رقبتى حتى ساقى، وعلمت لماذا أنا لم اؤمن على حياتى قبل ذلك اصلا، فأنا لم أجد بعد تبريرا مقنعا ومنطقيا يبرر حق هؤلاء الأولاد فيما أملك، لا الآن، ولا بعد موتى، فكيف استسيغ أن يقبضوا ثمن حياتى شخصيا، وليس فقط ما أملك، وجعلت أتململ من عدم فهمى لكل الأنظمة التى لا أفهمها، وما أكثرها مهما كان مصدرها، خطر ببالى أن اسأله بالمرة عن كم سيقبضون، هؤلاء المنتفعين المرتزقة، اذا ما أكرمهم الله بحادث مريع (أو: رائع) خلال الأربعة والعشرين ساعة التالية، فذكر مبلغا كبيرا طمأننى على قيمتى وقيمة زوجتى، ياحلاوة، هل نحن نساوى كل هذا؟ وكدت أزهو بجهد والدنيا منذ أكثر من خمسين عاما حتى أنجبانا لنساوى كذا الف كذا بالأمريكانى، ولكنى سرعن ما تراجعت حين تبين لى أن هذه – هى قيمتى “ميتا” أما قيمتى حيا فهذا امر آخر لا أحسب أن أحدا يهتم به بنفس القدر، وحمدت الله أن أحدا من المنتفعين لم يكن معنا، والا لزادت احتمالات الحوادث، ربما بفعل فاعل، من يدرى؟ وقد فهمت ايضا لماذا سألنى هذا الشاب عن كل شئ الا عن مهارتى فى القيادة، بل انه لم يطلع على رخصة القيادة محل فخرى[4] فلربما هو يتمنى أن يجدد سياراته عن طريق سوء قيادة أمثالى،” وكله مكسب”، وحسبت مجموع المبالغ التى دفعتها فوصلت الى 52 دولارا (قارنها بالرقم المكتوب على الإعلان!!)، وحمدت الله أن جاءت على قدر هذا، ونويت ان أغيظه وأظل ألف بالسيارة طوال الأربعة والعشرين ساعة دون توقف حتى أنتقم من هذا المقلب.
استملت السيارة، وكان شرطى الوحيد ألا تكون “اتوماتيك”، فابتسم الرجل فى شفقة (فى الأغلب) قائلا، ولا يهمك، وحاولت أن أفهمه أنى أحب أن أستعمل قدمى اليسرى حتى أحقق توازنا لا يعرفه هو، وأن هذه القدم اليسرى – لرعونتها – سبق أن هجمت على الفرملة ذات مرة باعتبارها “دبرياج” فى سيارة اتوماتيك جدا فى الطريق بين دبى والشارقة، واذا بالسيارة المارسيدس جدا جدا (ليست ملكى بداهة) تقف مكانها تماما بلا قصد طبعا، وعينك لا ترى الا الزجاج الأمامى، واذنك لا تسمع الا أصوات الفرملة الخلفية، لكن الله ستر، لست ادرى كيف، ومن يومها وأنا أرعب من أى شئ يعمل أتوماتيكيا مادامت أطرافى سليمة والله الحمد، ولم يعبأ الرجل بكلامى، وهجم على يجلسنى على عجلة القيادة فى استظراف قبيح، وجعل يشير أنه “هذا: خلف، وذاك: هيا، مع السلامة”، وانصرف جريا، فخجلت أن أستوضح أو أتراجع، وركبت السيارة مرعوبا، فما حركت يدى أصلا، ربما ظنا منى أنها من فرط أوتوماتيكيتها ستدير محركها بنفسها بمجرد أن أنوى، الأمر لله، هكذا: هيا !! وسرعان ما تعودت ساقى اليسرى على الشلل الارادى حين هددتها أنى سأربطها فى المقعد اذا هى تحركت الا للنزول فحسب.
انطلقت السيارة – أتوماتيكيا فعلا – تجوب شوارع سان فرانسيسكو، آسف، لا تجوب، بل تصعد لتهبط فتعود تصعد وهكذا، فسان فرانسيسكو مدينة عجيبة مبنية على جبل غير طيب، يثور فى أوقات غير مناسبة، ومازال أهلها يتناقلون أخبار آخر بركان دون أن يغادروها، فلا أحد يستطيع هجرها، وقد أعود فى استطرادة أخرى أحكى عن أهلها، وأحيائها: الصينى، واليابانى، والمربع الروسى الذى ليس له علاقة بروسيا اطلاقا، وحى الشذوذ الجنسى حيث “بيوت الرجال”، والمقهى المصرى غير المناسب، ولكنى أحتفظ باتجاهى فى محاولة اثبات بعض أفضال “التوه” الاستكشافية لاثبات مقولة أنه “لا توه فى سفر”، حيث يصبح التوه هو مكسب سياحى يستكشف ما هو أهم من الخطة المرسومة.
أنطلقنا فى الصباح الباكر من سان فرانسيسكو متجهين لزيارة الغابات الحمراء Red Wood، احدى المعالم التى تمثلت أهميتها عندى باعتبارها نقطة انطلاق المرحوم القس جيم جونس[5]، صاحب أكبرمذبحة انتحارية جماعية فى العقد المنصرم، بدأت رحلته من كنيسة فى سان فرانسيسكو الى الغابات الحمراء هذه، وانتهت بالانتحار الجماعى فى غابات جوايانا، اتجهنا الى الغابات مهتدين بالخريطة، وما أن عبرنا كوبرى البوابة الذهبية Golden gate Bridge حتى وجدت نفسى فى محيط من الطرق تملؤه السيارات عابرة الولايات المتحدة، وكل العلامات تشير الى أن أقصى سرعة هى 55 ميلا، ولا يلتزم بها الاى، وكأنى الوحيد الذى يعرف القراءة حتى شككت أنى أخلط بين الميل والكيلو، ما علينا، ظللت أتبع اللافتات بالتى هى أحسن – هكذا تصورت – حتى اختفت (اللافتات)، بل واختفى الطريق الكبير، فنظرت الى زوجتى بجوارى، فابتسمت – بحكم العادة، لا الشماتة – “أحسن !!” وأخذت السيارة تسحبنا “أتوماتيكيا” من الأوسع الى الأضيق حتى وجدنا أنفسنا فى قرية جميلة لم نكلف خاطرنا أن نسأل عن اسمها، ولكنى عجبت حين وجدت فيها معبدا بوذيا غير بعيد من كنيسة ما، ورجحت – دون سؤال – أن ثمة جالية كبيرة من البوذيين هنا، أو أن عدوى شر قأصية خاصة أصابت بعض أهل القرية، وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد، وكل شئ – وكل دين – جائز فى الولايات المتحدة (ما دام بعيدا عن السلطة يا أبو على، خل الناس تتسلي)، وأنا علاقتى بالسيد بوذا علاقة وثيقة، وان كنت لا أفهم لماذا “كرشه” هكذا، رغم كل سعيه، وانارته، وأعتقد أن بينى وبينه (رغم كرشه) عمار لا يعلمه إلا الله، فهو يؤكد لدى أشياء كثيرة، ويطمئننى على أفكار كثيرة، ويحيى فى آمالا كثيرة، ويرجعنى عن تعصبات كثيرة، وان كان يسمح لى بشطحات غير قليلة، القيت على تمثاله الماثل السلام، كان اليوم أحدا، وكنت أتمنى أن يكون المعبد البوذى مفتوحا لأشاهد الصلاة البوذية، فأنا حريص كل الحرص على أن “أحضر” كل عبادة بكل لغة، وخاصة اللغات التى لا أفهمها، لعلى أجد فى هذا الحضور ما يقربنى مما لا أعرف، وأفضل هذا ” الحضور” عن مناقشات مغتربة لا تترجم الى احتكارات مضحكة، وحين ” الحضور” عن مناقشات مغتربة الى احتكارات مضحكة، وحين كنت فى باريس اسكن فى حى المونمارتر حيث كنيسة الساكركير، حضرت صلاة كالعرس الفخيم أكثر من” أحد”، ولكن لم يصلنى شئ ذو ابل، فقد غطت الخطب والتراتيل و”الزفاف” على ما ذهبت أبحث عنه، وفى مصر، حضرت صلاة محدودة فى دير وادى النطرون (الأب مقار) وجعلت ألف مع الطائفين القلائل، وأحدهم يمسك مبخرة أوفانوسا، ال أذكر، والأغانى غريبة وغير مفهومة، وظللت كلما لففت لفة، ابتعد أكثر عما جئت أتحسس تجاهه، لذلك فقد أسفت أن أجد هذا المعبد البوذى مغلقا، لأنى كنت سأعد مشاهدة الصلاة فيه من بعض أفضال التوه، الشوراع خالية، لكن المقهى الذى دخلناه لتناول افطارنا فيه كان مزحما صاخبا حتى ذكرنى بمقاهى باريس، ثم عاودنا السير وبدأنا فى السؤال عن الغابة الحمراء فاذا بصبيين يشيران اليانا اشارة ايقاف السيارات Auto stop، قلنا نأخذهما معنا نسترشد، ونأتنس، وننفع، ونرى، ثوقفنا فركبا دون تردد، وفرحت بهما لعلاقتى الدائمة بالأصغر (انظر قبل)، قالا أنهما ذاهبان الى شاطئ بريستون، وأنه على “الجانب الآخر” من الجبل (لم نكن قد لاحظنا جبلا محددا بعد)، وأنه ليس فى اتجاه الغابة الحمراء، وإن كان ثمة بضعة كيلو مترات مشتركة، وسوف ينزلان عند المفترق ويشيران لنا الى اتجاه الغابة الحمراء، فرصة!!، وأخذنا نتحدث، وكيف أن البلاجات قليلة رغم الشواطئ الهائلة حول سان فرانسيسكو، لأن المسألة ليست مجرد أرض تطل على البحر، ولكنها تحتاج الى حسابات انحدار الشاطئ، وجذب التيارات، واتجاه الموج، فوجدتهما – فى هذه السن – يعرفان ما ينبغى، وأكثر، وحين اقتربنا من مفترق الطرق سألتهما “كم ميلا بيننا وبين الشاطئ الذى يبغيان” فأجابا: ثمانية، فقلت فى نفسى “بسيطة”، فنظرت الى زوجتى، وقرأتنى، فوافقت، أو استسلمت لفكرة هى تعرفها بحكم العادة، وبدلا من أن أتركهما عند المفترق أدرت السيارة الى حيث يتوجهان، وما كدنا أن نمضى بضعة مئات من لأمتار حتى وجدت صدرى ضيقا حرجا، فقد كنا نصعد فى السماء، ونظرت الى زوجتى – هى عندى أحيانا “بارومترا” حساسا لتخلخلات الضغط، فوجدت وجهها يعلن، باصفراره، أننا فى حالة صعود حاد Take off، ويستمر الطريق فى الضيق حتى لا يعود سبيل الى الرجوع،(ألم أقل فى أول هذا الفصل أن حل الورطة الموحلة هو الطريق ذى اتجاه واحد؟) وجعلنا نمضى أبطا فأبطأ، لأننا نمضى أصعد فأصعد، فنصعد حتى تجاوزنا السحاب فعلا لا مجازا، كل هذا والعداد يعلن أننا لم نقطع سوى ثلاثة أميال، وأنا ملتزم بنهاية السرعة المبينة عند كل انحناءة، والعربات الخوجاتى تتجمع ورائى بشكل متزايد، أصوات الأبواق – على غير العادة – ترتفع، نفس الحكاية، لكنى هنا شعرت بالزهو وانا أغيظ الأمريكان بحكم القانون، فهأنذا أقود مسيرة “الحضارة الغربية”!! بنفس أدواتها، ولكن بالأصول،( واللى عاجبه!!)، وبعد ثلاثة أميال بالتمام بدا الهبوط الاضطرارى، اضطرارى من حيث أنه لا توجد وسيلة أخرى للعودة الى أى مكان فيه حياة مدنية الا بالهبوط!!، ولم يكن الهبوط اسرع من الصعود، كله بالقانون وليس للأمريكان حق الفيتو أمام أرقام اللافتات التى وضعتها حكومتهم السنية بنفسها، والقافلة تطول خلفى، ورأسى وألف سيف الا القانون بحذافيره، وكما كان مقياس درجة الصعود هو اصفرار وجه زوجتى، كان مقياس الهبوط هو حدة الصفير فى أذنيها، وهذا هو ثمن الاستكشاف فى الطبقات العليا، واخيرا وصلنا الى الشاطئ المعنى، الذى لولا التوه الأول لما رايناه اصلا، وما أن وقفت السيارة حتى انطلق الصبيان بعد انحناءة مغتصبة (هكذا خيل الى) الى الشاطئ جريا، وهممت أن أنادى عليهما أنى لست سائق والديهما، لا شكر ، ولا تعريف بالمكان، ولا سؤال لنا عما إذا كنا نريد شيئا، ولا ارشاد الى كيفية العودة وهم يعلمون أنا غرباء، وملأنى غيظ كاد يدفعنى أن أعدو وراءهما “استرجع” ما أحطتهما به من اعجاب، وما قدمت لهما من خدمات، بل .. وما عقدت عليهما من آمال، ولكن الطيب أحسن، أعمله وأرمه فى البحر، وهذا هو البحر يشرب منه كل من لا يعجبه، حتى أولئك الذين علمتهم قيادتى الأربية: آداب المرور واحترام القانون، وما كادت هذه الفكرة تخطر على بالى حتى وجدت سيارة تقف بجورانا فى موقف الشاطئ، فتطل من نافذتها سيدة شقراء، وسط فى كل شئ: العمر والجمال والأناقة، توقفت ونزلت واتجهت الى وكنت ما زلت على عجلة القيادة وشككت أنها تشبه على، وبعد أن حضرت أجابتى المعتادة أنى لست هنديا .. وما شابه ..، فوجئت بها تفتح النار بلا انذار، تحتح، وتصيح، وتشير بيديها فى غضب بالغ، ولم أفهم، فظلت تتمادى وتشير الى السيارة والطريق، حتى حسبت أنى صدمت عربتها صدمة سرية دون أن ألاحظ !! ورويدا رويدا بدات اتبين أنها كانت تحتج على قيادتى لقافلة الجبل،( بنت الأمريكانية!!) وهات يارد: أنها هى المخطئة لأنى أتبع القانون واللافتات، فأثرتها أكثر حتى تصورت أنه ا تقول ما فهمت منه “أن الطريق ليس ملك والدى” و” أنه أفضل لى أن أركب عربة معوقين” و” أنه ينبغى أن أتعلم القيادة قبل أن ا”طل الناس”، كل هذا وأنا لا أتمكن نم مجرد الدفاع إلا بنفس الكلمات “القانون” “اللافتات” وتذكرت موقف العرب فى أروقة الأمم المتحدة، ثم فى مجلس الأمن حيث القانون قد وضع للتطبيق علينا دونهم، بحق الفيتو، وعادت السيدة الشلقة باتريكا (لابد أن هذا هو اسمها “هكذا” الى عربتها، وانطلقت لا تلوى على شئ، أو لعلها تلوى على كثير، من أدرانى؟ أذن فهذه المرأة لم يعجبها أن يقود مثلى قافلة أمثالهم فانحرفت بالأصالة عن نفسها وبالنياية عن زملائها الخواجات لتعطيهم لى أربعة، أربعة، لكن القانون فى صفى، القانون يحمينى (كما يقول فؤاد المهندس فى أنا وهو وهى) ثم ان القانون ليس فيه هذه المرأة الشلقة، ليس فيه لا باتريكا ولا زينب، القانون قانون الناس بلا اسماء ولا نسب، ثم أن هذه المرأة بالذات هى “بين البينين” فى كل شئ الا فى سلاطة اللسان، وقرأت زوجتى أفكارى فضحكت، وضحكت، ماذا يريد هؤلاء الناس؟ يسرعون فنسرع؟ يبطئون فنبطئ؟ هكذا حسب بورصة الأجناس والدولار والآلات (التوموتيكى).
نزلنا نتفرج على الشاطئ فاذا هو شاطئ شديد التواضع، قبيح الوجه، لا يشجع على البقاء اكثر من دقائق، والطبيان النذلان كفص ملح، ذابا فى البحر فزاداه ملوحة وقسوة.
أقول: لولا عصيان العربة (الأتوماتيكى) وما دفعتنا اليه من توهان لما عرفنا كل هذا، نم معنى أن الشاطئ “على الجانب الآخر” من الجبل، الى سلاطة لسان الأمريكية وغرورها الى نذالة الصبيين ولما عرفنا تواضع شواطئهم التى ينبغى أن تخجل بجوار شواطئنا الرائعة، وتصورت أنه اذا كانت مصر هى هبة النيل قديما، فهة يمكن أن تكون هبة البحر حديثا، نعم، وستعلمون نبأه بعد حين.
ذكرت كل ذلك لأغرض نوعا جيدا من” التوه المبدع” أن صح التعبير، ذلك أنه لا اكتشاف بغير مغامرة الضياع، بل أنى أتصور أحيانا ان بعض معنى” الذين يؤمنون بالغيب” أنما يشير الى من يؤمنون بفضل “التوه” على “اليقين الجاهز”، وفضل “ما ليس كذلك” على ” ذلك نفسه”، أى فضل المعرفة المتولدة على المعرفة المستقرة.
***
وأعود الى ايطاليا، ومازلنا نسير حيث تهنا فى بادوفا، ثم رحنا نخترقها ببطء رائع حتى خرجنا منها الى الأوتوستراد، وهات ياجرى وهات يا نوم، وقد سبق أن تحدثت عن هذه الطرق السريعة المملة العملاقة القبيحة القاسية، وهذه المرة زادت صفة عليها حين رأيتها ملساء كوعى الملحد، وقارنتها بالطرق الوطنية المتثنية فى دلال، والمخترقة للبلاد الصغيرة محاطة بجنان الخضرة ولفحات نسيم الناس – نام الجميع لمدة مائتا كيلو وأكثر، وحين توقفنا عند محطة بنزين على مشارف ميلانو أحسست أن أغلبهم كاد يفقد معنى السفر، وكأن المسألة أصبحت – بعد ستة ايام لا أكثر – مجرد روتين، وكلما اصبحت المسألة كذلك أنتهى معنى السفر عندى، ليحل محله معنى ” الوصول” (كما ذكرت)، فزادت المسافة بينى وبينهم، حيث تصورت أنى لم أعد الا سائقا بلا أجر، وهم الركاب بلا غاية واضحة (لى)، واذا ما انقلبت علاقة الصحبة الى مثل هذا الكلام، تراخت اسلاك التواصل حتى لتتلامس بالصدفة، فاذا فعلت تكهرب الجو، وقد اتفقت الأغلبية على عدم دخول ميلانو، وفرحت رغم اسفى على رغبة الأقلية التى كانت “نفسها تشوفها”، وأن كنت قد رجحت أن أرى الأقلية هذا لم يكن استكشافيا بقدر ما كان من باب تعليق لافتة اسم مدينة “زيادة” على أسماء المدن التى مررنا بها، وميلانو هى عاصمة ايطاليا الشمالية الصناعية، والمرور حولها فى الطريق السريع يكاد يصل الى طول المسافة بين القاهرة وبنها، وشكلها – ومن الخارج – لا يوحى الا بمعنى الميكنة : فالهباب يغطى الجو، وسقوف المصانع متراصة بجوار بعضها كالمقابر العملاقة، ولابد أن بداخلها أناس يقاسون من عذاب هذا القبر الصناعى الحديث بطريقة سرية، حيث المكن المتحفز ليل نهار لا يكف عن مساءلة هؤلاء الناس عن ما جنوا حتى سخروهم – هكذا – (لحساب من؟)..، مجرد خيال ربما يعلن العجز أكثر مما يعلن السخط، لكنى أعترف أنى أمام الانتاج العملاق (مصانع فيات مثلا) الذى لا أعرف له صاحبا بالذات، له اسم ولقب (حيث لا أستطيع أن أكنيه بابى فلان)، أقول أمام هذا العملاق الحديث أقف مشدوها وكأنى طفل ضاع من أمه فى زحمة مولد ضخم يزوره لأول مرة، وأنا أرجع ذلك إلى الفلاح فى، فعندنا يقين بأن الأرض بلا صاحب، والرجل بلا ولد، والولد بلا خال، ليسوا بشئ، وربما لهذا أنا لا أحب، أو قل لا أعرف أصلا، هذه العلاقات الانتاجية المعقدة، ولا أرتاح فى هذه المدن الغول، وحين مررت بميلانو اثناء عودتى من فرنسا سنة 1969 ووقفت أما كاتدرائيتها الضخمة وناسها القساة، شعرت بأنى اريد أن أترك السيارة لأعدو على قدمى هاربا منها، وكأن العدو على الأقدام اسرع من الضغط على بدال البنزين فى السيارة، او كأنه يعلن رفض السيارات وما إليها اذا ما أصبحت وظيفتها هى أن تطحن الناس، لا تحملهم.
***
انحرفنا جنوبا تاركين ميلانو دون ان ندخلها، ومن جديد، هات يا جرى، وهات يا نوم، ولم يعد يعنينى أن يكون فى صحبتى م يظل يقظا الا المرشد او المرشدة، وتهل رياح الجنوب، ويقترح ابنى وابنتى وقد سبق لهما زيارة روما أنها “تستأهل”، وأنظر فى الخريطة فأعرف أن ما يقولانه هو المستحيل نفسه، فالعلامات تشير الى اتجاهين متباعدين جنوه فى ناحية، وبولونيا الى روما فى ناحية أخرى، ونحن متجهون الى جنوه دون بولونيا، رغم توصية مدرس البيانو لبنتاى أن تزورا بلده بجوار بولونيا، وهو رجل قد ناهز الثمانين، يعيش فى مصر وحيدا، واسمع حكاياته مع ابنتى فأحبه من بعيد، وخاصة حين ذكر لابنتى سبب استمرار أقامته فى مصر وحيدا فى هذه السن، فقد قال لها – مشترطا ألا تضحك عليه – انه انما يقيم فى مصر من أجل عيون قطة الأليف الذى ليس له (للقط) غيره، اذا لو سافر، فمن ذا الذى سيعتنى به من بعده؟، وعند مفترق الطرق ما بين الطرق الى بولونيا أو جنوه، نشير بأيدينا الى اتجاه بلده وكأننا ننفذ وصيته، أطال الله عمره وعمر قطه، ونعتذر له، ونمضى نحو جنوه (التى كنا نقرؤها فى البداية جانوفا حسب الحروف بالانجليزية لكننا نكتشف أن النطق بالايطالية أقرب الى اسمها العربى)، ونقرر من جديد ألا ندخلها، لكننا نضطر الى اختراقها حتى نغير اتجاهنا غربا على الشاطئ المسحور، ولا نمكث فيها الا أقل القليل، فلا أحبها ولا أكرها، ولكنى أعجب على طبعها التجارى “الرمادى”، ولا نطيل المكوث فننطلق فى اتجاه فرنسا الذى تحدده اللافتات باسم بلده بدت لى ثانوية على الخريطة “فنتميجليا”.
وسرعان ما أصبحنا نسير بحذاء شاطئ البحر المتوسط، أذن فهذه هى ما تسمى بالريفييرا الايطالية، وهذا هو شاطئ “الزير” (الكوت دازير) الشهير الممتد حتى فرنسا، ذلك الشاطئ الذى يعنى شيئا خاصا عند المصريين خاصة، يتباهى بزيارته البعض، ويتبرأ من الأقامة فيه البعض، ويعير به البعض بعضا ىخر، ذلك أنه كان مصيف الملك فاروق بدعارته وبدعه، ثم اصبح مصيفا سريا لرجال القوى الجديدة، ثم أصبح مصيفا رمزيا للطبقات الصاعدة فوق أكوام البنكنوت دون درجات الوعى أو مدارج الحضارة، ثم أصبح ما لست أدرى عنه شيئا، وآخر ما قرات حول هذا الشاطئ كان دفاع محمد حسنين هيكل عن نفسه من أنه لم يزره الا مؤخرا بسبب العمل!!، وتعجبت حتى نصورت ان عدم زيارة هذا الشاطئ هو فى ذاته علامة التقشف والاشتراكية الجديدة، وقلت فى نفسى ربنا يستر ونخرج منه كما دخلنا، وعلى الأقل حين نسمع من يتكلم عنه بترفع، أو يشجب زواره بحماس، نستطيع أن نهز راسنا هزة الذى هو “عارفه”، “عارفه”، وقد عايشت هذه الخبرة حين كانت لى بعض الاشتشارات مع المرحوم الدكتور محمد حلمى شاهين وكيل وزراة الصحة سابقا، وكنت ازوره فى منزله فى الدقى قبيل سفرى، وذكر لى أنه سيكون فى “كان” فى التاريخ من كذ الى كيت، فقلت له أنى سأكون فى “نيس” من كيت الى كذا (قال يعنى) حتى ظن أن نيس بالذات (التى لم ارها قبلا) هى مصيفى المفضل (!!)، فسألنى وابن تنزل، وزغت فى الكلام، حيث أنى لم أكن أعرف، وكدت أقول له – رحمة الله – أنا لا أنزل، أنا اطلع حيثما تلقى بى سيارتنا، أذن فأنا الآن فى الكوت دازير، وكم هو جميل، ولكنه مثل كل جميل فى بلدنا، وربما فى بلاد غيرنا، لكنه نظيف جدا، وهادئ جدا، ولكن ايش عرفنى وأنا داخل السيارة هكذا، ولماذا أسبق الأحداث؟
جعلت هذه الخواطر تسير جنبا الى جنب مع السيارة، وحين يكون الجبل على يسارك، والبحر على يمينك، ولا فرصة للحوار مع مرافقيك، فلابد من أن تصاحب أفكارك، وهكذا ظلت أفكارى تسبقنى كثيرا، وتحاذينى كثيرا، وتلحقنى قليلا، وانا لا أعرف أصلا كيف أرد بصرى عن بحر ممتد أمامى، فما بالك ببحر يسير بجوارى طول الوقت، بحر جديد قديم، جديد لأننا على شاطئه الآخر، وقديم لأنه هو هو، وقد اعتدت أن اسير بجواره هناك فى طريقى الى مرسى مطروح، كان هناك على يمينى وأنا على يساره، واقول: هذا بحر محظوظ، وربما أنا كذلك، وأكاد أفهم معنى أنه “متوسط” و” أبيض”، وِأكاد ألوح بيدى الى الناحية الأخرى وكأنى أرد على همس يقول ” لا تغب” وأرد على أرضى “أيوه جاى” وأنا أعرف همس الوطن، وهو لا ياتينى من شخص بذاته، ولمنه آت من الحياة كلها، ينطلق من حيث عرفتها (الحياة) أول مرة هناك، ومعنى الوطن عندى هو تاريخ نبض الحياة، تذوب فى حياتى فردا على أرض بذاتها، ففى كل مكان رمل وماء، ولكن اذا تكلمت حبة الرمل ففهمت لغتها، وتلطفت موجة البحر فنمت فى حضن هدهدتها يأتيك همسها الخاص وكأنه يخصك شخصيا وبالذات، فهناك الوطن، وأحسب أن هذا بالضبط هو معنى أغنية “الأرض بتتكلم عربى”، حيث يصبح للهواء طعم خاص، هو نفس الطعم التى عرفت به أنك” حى” لأول مرة، وقد كنت، وما زلت، أعيش تساؤلا يتحدى حبى الشديد جدا لوطنى الخاص الله”، لكل الطين وكل الرمل وكل الصخر وكل الهواء، وكل الناس، وكل الحياة/ ويبدو أن حركة النضج المتواصلة ليست سوى رحلة دائمة بين هذين النقيضين ظاهرا، الوطن والأرض، والوطن الناس الكون، ومن خلال هذه الحركة المغامرة المرنة تتضاءل لمسافة بعد كل جولة مبدعة.
ثم انتبه فجأة، فأفاجا أننا فى الأغلب فى مواجهة ليبيا أو الجزائر، وليس مصر، وأنا لا اشعر بالائتناس اصلا لهؤلاء الأهل العرب، ربما لنقص فى، أو لعدم هضمى هذا الجمع بين جفاء البداوة وشوك آثار الاستعمار والايطالى القبيحين، لست أدرى، لابد من زيارة، وأرض، وشعر، وثريد، وألم مشترك، قبل ان أحكم.
لم يكن هذت الطريق الساحلى الرائع طريقا مكشوفا طول الوقت، فقد كان يتقطع باستمرار بسلسلة من الأتفاق، لا نكاد ننتهى من أحدها الا لندخل فى الثانى، ويترواح طول النفق بين ما هو اقل من كيلو متر الى بضعة كيلو مترات، وقد بدأت سلسلة الأنفاق هذه قبيل وصولنا الى جنوه، ولم أكت معتادا القيادة فيها أصلا، فأنا لم أعبر من قبل مثل هذه الأنفاق، اللهم الا نفق “مونبلان” الشهير الذى يخترق سلسلة جبال الألب بين فرنسان وايطاليا عند فالورسين (التى اشرت اليها فى الفصل الأول)، ثم تلك الأنفاق القصيرة المتواضعة المحدودة فى جبال يوغسلافيا، أما هنا، فقد توالت سلسلة الأنفاق حتى حسبنا ان السير فى الطريق المكشوف هو الاستثناء،وكنت كلما دخلنا واحتوانا الظلام فجأة قبل أن نتبين لمبات النور الصناعى، كنت أنقبض دون خوف ظاهر، ثم يغمرنى شعور بالضياع وكأنى لن أخرج أبدا، ثم يبهرنى نور النهار فجأة وكأنه مفاجأة غير محسوبة، (ليست سارة بالضرورة)، وأخذت هذه النقلات تتكرر حتى ألفتها، ولكنى لم آلفها لدرجة أن أنساها، فقد اعتدت أن يفاجئنى المألوف دائما أبدا، فلم أستطيع فى كل دخلة وخرجة أن أطرد عن نفسى تجدد الشعور بالوهل (بتسكين الهاء) وأن اختلفت درجاته، ويستيقظ أحد صغيرى، ليقول لى بعد أن يتمطى ” هل تعلم كم نفقا عبرنا”؟ يقولها ليقرر ويتحدى، ولا ليسأل طلبا لاجابة، فأعجب للسؤال وللموقف، حيث أنى أرجح أنه كان نائما أغلب الوقت أن لم يكن طول الوقت، فأقول له” كم؟” فيقول بثقة مفرطة “هذا هو النفق لاسابع عشر”، فأعجب اكثر لثقته الزائدة فاراجعه..” والأنفاق التى عبرنا وأنت نائم؟” فينتبه، ولكن يبدو أنه لا يتراجع، فيضيف اثنتين ليصبح المجموع “تسعة عشر”، واشعر انه يجاملنى فى هذه الاضافة – ليس الا، اذ يبدو من لهجة صوته أنه يجارى منطقى “المعقول” مضطرا – وقد أكدت لى هذه الملاحظة احتمال صحة فرض أننا (البشر المعاصرين) نيام طول الوقت، واننا قد نفيق أحيانا فنلتقط بعض المعلومات، ونتصور – ثم نؤكد – أن هذه المعلومات هى ” كل الدنيا والدين” ثم نعود نغط فى نومنا الدائم – فاذا نبهنا أحدهم أن ثمة “موجودات” وآراء،و أحداثا، تجرى أثناء نومنا هذا، رفضنا أصلا، فليس هناك، ولا يحدث أصلا، الا ما نراه يقينا فى لحظات افاقاتنا العابرة، وقد نوافق على الراى الآخر (مثلما فعل صغيرى) مجاملة ظاهرية، ولكننا نصيغ العالم فى حدود لحظات اليقظة المحدودة ومجال الرؤية المتاح فيها، وهات يا تعصب، ويا مذاهب، ويا أديان ….. و …. ويا حروب!!
وأرجع الى ضخامة الأنفاق، ودقة الصناعة، وأحكام الخدمة، واسأل نفسى ماذا لو عملتها الكهرباء وأنطفأت مثل فصولها الباردة عندنا دائما أبدا؟ وأقول لنفسى: دولة عملت كل هذه الأنفاق والطرق، بكل هذه الدقة والأحكام: هى دولة عظيمة بكل المقاييس، تحترم ناسها وضيوفها على حد سواء، ثم ليختلف الناس بعد ذلك فى الاقتصاد والسياسة كما يشاؤون/ أنا لا أرعب الا من الاختلاف الذى يعوق ” البناء”.
***
مازلنا فى اتجاه فنتميجليا Ventimiglia، ولست أدرى لم أبتدأ السهم منذ ” جنوه” حقول “فتميجليا”، “فنتميجليا”، مع أن ثمة بلاد أكبر وأوضح على الخريطة: مثلا: سالفوناSalvona ، أمبرياImperia ، سان ريموSan Rimo أنما أبدا، ليس الا “فنتميجليا”.
فأنتبه الى ألا تغتر بحجم البلد على الخريطة، فقد يضع الخواجة سهمه مشيرا الى أصغر بلدانه لأسباب، لا أعرفها، لعها تتعلق بموقعها على الحدود أو قربها منها.
ثم تعودت على الأنفاق أكثر، حتى سمحت لنفسى وأنا فى داخلها أن أتذكر لعبة الاستغماية الأولية، ولا أعنى بها تلك اللعبة التى نغمض فيها عين أحدنا ثم نختبئ منه فيبحث عنا حتى يجدنا، وأنما أعنى بها تلك اللعبة التى تخفى فيها الأم وجهها عن طفلها بملاءة أو ما شابة، (وكأنها تسأله أين أنا؟)، فيتصور – بمجرد اختفاء وجهها – أن الدينا انتهت، ثم تكشف عن وجهها فجاة، فيطير الطفل فرحا وكأن أمه قد عادت من المستحيل، وهكذا، هذه اللعبية نفسها كنا نطورها صغار حين نختار ركنا من الشرفة أو من ملحق زواية منسية فى حجرة مهجورة فنأتى بالبطانية أو ما شابه ونحيطها بالشرفة أو ملحق الحجرة حتى تصبح ظلماء كحلا، ونعتبرها كهفا او مخبا أوبيتا أو لا نحتاج أن نسميها أصلا، ونفرح بعملية الدخول والخروج، من الظلمات الى النور وبالعكس، لا ليس ظلاما فنورا، ولكنه طور فطور، أتذكر كل هذا وأحزن على هذا الانسان الذى جعل حياته كلها باضاءة واحدة، على خط واحد، بفكر واحد، ولا قوة الا بالله، ولكنا هنا، بفضل الحكومة الايطالية، ندخل فنختفى، ونخرج فنوجد، ندخل فنهمس ونخرج فنرقص، ندخل فنرعب ونخرج فننبهر،… هذا هو.. يا سيدى صاحب الخط المستقيم دائما ابدا!!
ونصل الى فانتمجليا، واعرف أنها آخر بلد ايطالى، اذ بعدها منتونMenton الفرنسية (فى الأغلب) على الجانب الآخر من الحدود، ولا حدود، أى والله..، ظللنا نزحف بانساب لم نألفه بين اليونان ويوغسلافيا، ولا بين يوغسلافيا وايطاليا لم يوقفنا أحد، ولم يسألنا احد، رغم المكاتب والحراس والزى والجو الحدودى، فكلهم خواجات ظرفاء، يشيرون، باهمال طيب، أو بترحاب فاتر، الى عربتنا أن “مروا”، ونتلكأ خوف ألا نكون قد فهمنا، لكن الاشارة تأتى مؤكدة أن “ماشى”، ونكاد نقول لهم: خل بالك، الأرقام ما زالت لكنهم يصرون، فأحس أننا – بدون مناسبة – اهل للثقة، جدا، ولكن ما دنا كذلك، فلماذا بهدلونا فى سفارة بالذات، واحد وعشرون يوما من الانتظار والترقب، حتى أعطونا تأشيرة الدخول، وها نحن ندخل دون أن بتفضلوا ولو بنظرة على تاشيراتهم المبجلة، وبلغ غيظ أحد الأولاد الذين داخلوا فى حكاية التاشيرة ان أقترح أن نسألهم “لماذ يثقون بنا هكذا؟” بعد كل ذاك الشك والتاخير، ولكنا فضلنا اتباع المبدا الجوهرى فى الغربة خاصة، وهو:” ألا نسأل عن اشياء أن تبد لنا تسؤنا” فلم نسأل، ولم يسؤنا شئ، ودخلنا الى فرنسا ودون توقف اصلا، وكأننا عائدون من الهرم الى المنيل، بل عندك، فأحيانا ما يكون الاختناق بين محافظتى الجيزة والقاهرة عبر خطوط التماس اصعب من كل حدود دولية، وما كدنا نصير فى فرنسا – والشك مازال يداخلنا – حتى رجحنا انها قد تكون مونت كارلو، أو موناكو، ولست أدرى ايهما عاصمة الأخرى، أن كان ثمة دويلة لها عاصمة اصلا، فالأسهم تقول مونت كارلو، ثم نيس، والحكاية تلخبطت، ولكن؟ نحن مالنا؟، اختفت مظاهر الحدود، وها نحن فى فرنسا، وليس من المناسب أن نرجع لنقول لهم، يا عم والنبى تمسكنى أحسن اكون مزوغا، بل أننا مكثنا فى فرنسا أطول مدة فى الرحلة كلها، وخرجنا منها دون أن يسألنا أحد شيئا اصلا، وجوازاتنا لم تر الخاتم الفرنسى، لا فى الدخول، ولا فى الخروج، مما أكد لنا فى النهاية، أننا آخر تمام من حيث اهليتنا للأصدقاء الفرنسيين حيث تتماثل آراؤنا بالنسبة لمشكلتى الشرق الأوسط ولبنان ..(لست أدرى على وجه التحديد ما فائدة كل هذا التماثل فى وجهات النظر السياسية: بيننا وبينهم وبين المانيا الغربية ورومانيا؟!! ما علينا).
…… ……. ……
لم يبق على الغروب (بعد الثامنة مساء) الا ساعة وبضع الساعة وكنت اتمنى أن نصل الى هذا المكان فى وقت أكثر تبكيرا حتى أستطيع أن أترك الطريق السريع الى الطريق الوطنى مخترقا القرى، مؤتنسا بالناس، الا أن خشيتى من الظلام والمجهول جعلانى أرضى من الجمال بالبحر، وكنا قد نوينا – بناء على نصيحة زميل يعرف الحكاية!!- أن نقيم فى بلدة اصغر من نيس، وقبلها (فى اتجاه مونت كارلو) واسمها بوليوBeaulieu ومعناه المنطقة (المكان / البقعة) الجميلة، فاذا عرفت أن اسمها بالكامل هو Beaulieu Sur Mer ، أى المكان الجميل على البحر، فلابد وأن ينطلق خيالك – مثلى – الى احتمالات طروب، فما بالك اذا كانت ارخص – على زعم صديقنا – فحدث عن فرحة الأولاد وأيديهم على جيوبهم، قبل أن تكون عيونهم على البحر، ولست أدرى ما هى اصل علاقتى بحكاية الماء والناس، وأن كنت قد اشرت اليها قبل ذلك فى بداية حكايتى مع السباحة وحماماتها، ولكنى أعرف أن للأمر أبعادا وأبعادا لا تصل اليخا يقظة ادراكى بالدرجة التى تسمح لى أن أحكى عنها، لكنى اذكر تماما أن كل ما هو ماء … كان يجذبنى بمعنى أعمق من الشائع عن كلمة “يجذبنى” معنى يكمن فى داخل برادة الحديد وهى تنظم نفسها فى المجال المغناطيسى أكثر من المعنى الذى يشير الى التصاقها الميكانيكى بجوار المغناطيس الحديد نفسه، كان هذا هو الحال على شاطئ ترعة العطف فى بلدنا، ثم على شاطئ النيل فى زفتا، ثم على شاطئ المتوسط فى الاسكندرية، ثم على كل شاطئ، وما كان يمنعنى عن أن أناجى الترعة فى بلدنا الا أمران كانا يمثلان عندى – رغم الشوق والجذب – حاجزان طامسان، أولهما: حكايد الجنية التى تظهر على شكل “منديل جميل يغرى المار بالاقتراب منه لالتقاطه فيبتعد رويدا رويدا حتى تغوص قدماه فى الماء فلا يستطيع لهما خلاصا فتكشف الجنية عن وجهها وتسحبه اليها، الى اين؟ لست أدرى، والأمر الآخر هو أن ترعة العطف كانت تأتى بالدور (كل ستة أيام كل ثمانية عشر يوما على ما أذكر)، وكنت أعتبر ذلك خيانة لى وأنا صغير، رغم أنى بعد ذلك عرفت أن حياة كل شئ هى فى هذه الدورات الحتمية والانسان الحى هو الذى يواكبها لا يعاندها ولا يعارضها، وحين كبرت حتى حتى لم تعد تمنعنى عن محاورة الماء الجارى حكاية الجنية، وجدت نفسى فى زفتا، فخرج فى مركب بمجدافين كل خميس، وندفع قرشين فى الرحلة بحد أقصى شلنا لو كان الوقت غير محدود (باعتبار أننا سنتعب قبل انتهاء قيمة ما دفعنا)، وذات خميس خرجنا بالمركب وأردنا أن نستغل أكبر الوقت، بنفس المبالغ، وكنا خمسة، أكبرنا عنده 14 سنة وهو شقيق صديق أخى (12 سنة هو وأخى) ثم شخصى اقل سنتين واخت صديقى اصغر منا جميعا، وسرقتنا الطمع لنأخذ أكبر الوقت بنفس الثمن، حتى خيم علينا الليل ونحن فى اتجاه قناطر زفتا، مع احتمال الانحراف الى الرياح التوفيقى على ما أذكر، ولم يكن ثمة قمر، والغريب أننا لم ننزعج، حتى بعد أن نامت اصغرنا فى قاع القارب المبتل، وكلما زاد الليل حلكة اضطربت الآراء، وعلت الضحكات المختلطة بالخوف والتربص، حتى قاربت الساعة العاشرة – وكان الوقت شتاء – وبلغ منا اليأس أننا تصورنا أنه لم يعد ثمة شاطئ للنيل، لأننا كلما اتجهنا فى اتجاه ما بضعة أمتار بنية الوصول الى أى موقع على الشاطئ، رعبنا ظنا منا اننا نتجه خطا، فنعود فى الاتجاه العكسى وهكذا، وفى تلك اللحظة، أذكر أنى تصورت – يقينا – أن قوى خفية قد ألغت الشاطئ اصلا فلم يعد حولنا سوى ماء فى ماء الى ما لانهاية، واستسلمت لحظتها للمجهول وأنا شامت فى كل صحبتى، لأنهم أكبر منى، وعليهم أن يحلوا الأشكال، ولن يحلوه أبدا ما دامت الشواطئ قد اختفت نهائيا، فكلنا فى العجز سواء، وكأنى فرحت باللا حل المساوى لنا فى الخيبة، ولم يخطر على بالنا أن ثمة نهار قادم فقد توقف الزمن كما ثبت المكان، وحين سمعنا نداء باسم أكبرنا، تصورنا أن أمورنا قد انكشفت للعالم الآخر حتى جاء الجان يعرفوننا بالاسم، وهنا لم يصبح المجهول بالنسبة لى مجهولا، بل رعبا آخر ايقظ – فجاة – حكاية المنديل والجنية والسؤال بلا جواب: تخطفنا؟ نعم، ولكن الى أين؟ هذا هو المهم، وقبل أن اتمادى فى الرعب حتى الانزواء المرتعد المسحوق، تبينا أن الصوت الهاتف بنا هو والد صديقنا الذى أخذ مركبا يبحث عنا بعد ان تاخرنا، والعجيب أننا تبينا أننا كنا على بعد عشرات الأمتار من “المردة” (المينى ميناء!!) التى كنا نريدها، ولا رياح توفيقى، ولا قناطر، ولا يحزنون، ومن يومها وأنا أتصور كيف يمكن أن يلف الواحد منا ( والبلد منا) حول نفسه فى ظلام دامس رغم الحماس العظيم، وكيف أن علاقتى بالماء هى علاقتى بالمنبع الذى يحرك فى داخلى كل هذا الحنين وهى علاقتى بالمصير الأخير بشكل أو بآخر، فاذا كان الله سبحانه قد جعل من الماء كل شئ حى، فمن الممكن أن يجعل الى الماء كل شئ حى، ولعل جارثيا فى اقصوصة بحر الزمن المفقود كان يريد أن بقول مثل هذا حين اصرت بنزا (زوجة جاكوب) أن تدفن حية تحت التراب، فلا تلقى فى البحر.
وارجع الى” البقعة الجميلة على البحر” التى لم يبق عليها سوى بضعة كيلو مترات/ ونقرر أخيرا أن نترك الطريق السريع الى الطريق الوطنى، فى اتجاه “البقعة الجميلة”، وفجأة نحجد لافتة تشير اليها، وتنهد الجميع، واتجهنا فى اتجاه اللافتة واذا بنا نتدحرج فى شارع يتلوى، 180 درجة كل بضعة أمتار (وكأنه زعيم مخلص يحاول أن يحصل على الموافقة على قرار سرى بالاجماع فى مؤتمر قمة عربى) فأخذنا ننزل وننزل، ولا نكاد نسأل حتى ننزل، ونحن لم نطلع أصلا، فلماذا ننزل؟ ولم يكن هناك مجال للتفاهم أو التراجع، فالليل يقترب ونحن لا نعرف شيئا عن أى شئ، واخيرا، بعد سلسلة من الحركات البهلوانية تذكرنا بأصلنا الداروينى حتما حيث كانت السيارة تلف وتقفز فى رشاقة الشمبانزى الحامل (جدا)، لكنها مضطرة للحفاظ على نوعها فى سبيل تسلل التطور الى ما هو انسان،(وهذه هى النتيجة!!) أقول: اخيرا وصلنا الى مشارف هذه “البقعة الجميلة فوق البحر” (تذكر أن هذا هو اسمها وليس – فقط – وصفها) وتبينا بعد كل ما نزلنا أننا على الكورنيش الأسفل،لأن ثمة كورنيشا أوسط، وكورنيشا أعظم،( انظر بعد) – واذا بى اتعرف على كلمة “كورنيش” بمعنى حافة، وقد كنت أتصور أنها كلمة خاصة بالشواطئ فحسب، حتى أنى رفضت أن أطلق على حافة جبل المقطم حيث اسكن، أسم كورنيش المعروفة به، لدرجة أنهم حين أصروا على أنه كورنيش ذهبت انظر من أعلى المقطم من الكورنيش المزعوم باحثا عن النيل العظيم حتى وجدت بعض ما يشير إليه، فحسيت أنهم اسموا كورنيش المقطم بهذا الأسم، لأنه يمكن أن يرى النيل بشكل أو بىخر ناسيا أن اجمل أثواب نساء بلدنا كانت ذات الكرانيش المتداخلة، ثم هأنذا اتبين أن كورنيش الجبل هو الأصل، وأنى لا أحب الأنهار والبحار بقدر ما أحب هذا الموقع الذى يعلن التقاء الأرض بالماء، بل أن بعدا آخر قد أطل على ينبهنى الى أننى أعيش دائما على ” حافة” ما، لا أحب المراكز الوسطى ولا الزحام بلا حدود، دائما أتحرك لأجد مفسى على حرف كل شئ، وربما لهذا كنت أمتلئ غيظا حين اتصور ان الآية “ومن الناس من يعبد الله على حرف” يمكن أن تنطبق على، أبدا… فحرف الآية هو التردد والمساومة، وهذا الحرف هو حرف التاهب للتغيير، ورفض الرؤية الواحدة، أخشى أن أتحمس لغالبية الاتجاه فلا أعود اتعرف على اتجاه المسير، واخشى أن اتحمس لغالبية الاتجاه فأنسى احتمالات صواب الاتجاهات الأخرى، ولكنى أكتشف تناقضا دالا من منظور ىخر، فأنا لا آخذ ايا من أمور حياتى “على حرف” لا بمعنى المساومة، ولا بمعنى الأمان بامكان القفز الى الجانب الآخر، فأنا شديد الحماس حتى النخاع لكل ما أنتمى اليه فى لحظة بذاتها، او فترة بذاتها، او مرحلة بذاتها ،لا أتردد ولا أساوم، قد أؤجل وأتحين، ثم أندفع مقاتلا بكل ما أملك، رغم علمى التام فى مستوى أعمق أنى قابل – وقادر على – الانضمام للجانب الآخر، أو بالأحرى لجانب مغاير لما هو أنا، ولما هو خصمى، ولا يتم هذا إلا بفتح المسام، حتى أثناء القتال، فإذا تجمعت التغيرات حتى بلغت حد الإعلان والنقلة مما أنتمى إليه، إلى ما أنتمى إليه، عدت متسغرقا فيما صرته: حتى النخاع، وهكذا، وهذا ما يسميه من لا يعرفنى بالتقلب المخيف، وما أسميه أنا بالأمانة مع اللحظة، ومع الحركة، وليس من الخلق الثابت والعقيدة المكتملة،
سرنا على حرف كل شئ، حتى وصلنا إلى حرف / حافة البحر، ونحن بعد المغرب وقبل الليل، فنقرر مضطرين أن نبيت فى فندق هذه الليلة فقط، فنحن على سفر منذ أربع عشرة ساعة بالتمام، ولا وقت للبحث وحسابات التكاليف، ولا أمل فى العثور على مخيم فخيم مثل ذلك الذى تركناه وراءنا حول فينسيا، ونبدأ فى السؤال عن الفنادق ذات النجوم الأقل، ولا نجد إلا حجرة واحدة فى فندق ثقيل الظل، وقبل أن ندخل فندقا آخر يقابلنا على الباب زملاء طريق من المشاة الرحل، وحقيبة الظهر تنوء بما يحملون، فنقرأ أسعار الفندق على تقاسيم الوجه التى تنوء بخيبة أمل أثقل من حقيبة الظهر، ويعود الطريق يلتف بنا، فتطاوعه حافلتنا فرحة بالتجوال الحر بعد أن كادت أنفاسها تنقطع من استمرار السير، وألاعيب الأضواء فى الأنفاق، وتلافيف “الكرانيش”، وها هى ذى تتسكع فى نمط ودلال تحت دعوى البحث عن فندق، ونلمح فندقا يطل على ما يشبه ميناء لقوارب شراعية، وكأنها أسطول للصيد أو للسباق أو للحب الخاص، ولا نأمل فى حجرة، ولا يتصور الأولاد قدرة ميزانيتهم على مجرد الاقتراب من المبيت فى فندق، ولكننا نغامر فنرسل ابنى للسؤال، ويعود مترددا بين فرحته بالعثور على ثلاث حجرات، وبين خوفه من “هبش” الميزانية المحدودة، ويتهامس الأولاد والبنات دون تدخل منى، وأكاد ألمح استغناءهم عن عدد محسوب من الوجبات فى مقابل ليلة مريحة، وماء ساخن، وأشياء أخرى، فترجح كفة الفرح على كفة الحذر، ويذهب ابنى يغرينا بالتضحية، فالحجرة بمائتى فرنك فرنسى، ورغم أن الفندق ذا ثلاثة نجوم، إلا أنه يفوق فندق الرئيس (بريزيدانت President) فى جنيف – (حيث نزلنا ضيوفا فيه فى العالم السابق لعدة أيام).. – ونوافق فيذهب عدوا قبل أن يلطش أحدهم الحجرة، أو قبل أن أرجع فى كلامى (وما أسهل ذلك لو شممت رائحة استسهال منهم)، وقبل أن نعدل السيارة باحثين عن مركن، نجد ابنى قد عاد ثانية حزينا حزينا، فتتعثر خطواته فيما يشبه الأسف والاسى معا، واتعجب لهذه المشاعر الهائلة المرتبطة بهذه الأمور البسيطة (ما دام مقدور عليها) وكأنى نسيت كيف كان ضياع نصف أفرنك (بالمصرى) يمثل عندى – طفلا – مأتما ربما يفوق مأساوية موت عزيز أو إعلان حرب ضروس .. يا سبحان الله، وأشفق على ابنى وهو مطأطئ مهزوم، فأسارع بسؤاله، فيقول إنه آسف، إذ يبدو أنه – لفرط التعب واللهفة – قد سمع الثلائمائة على أنها مائتان (وهذا الخطأ محتمل بالنطق الفرنسى الذى يأكل أول الكلام ويؤكد أخره)، فألعن النقود والظروف وكيف تخترق نخاعنا هكذا، حتى الاختلاط بالدم والمشاعر، هذا من فائض الفائض، ومع رفاهية القادر من أمثالنا، فما بالك بالحرمان المانع للحق الأبسط، وتتضخم لدى معانى الحرمان الحقيقى، والقهر بالعجز، وهو يمارس ليل نهار على كل من لا يقدر على ما يريد، وعلى كل من يريد ما لا يكون، والألعن، ذلك القهر الداخلى الذى لا يسمح للأغلب أن “يريد” أصلا ما يراد، المهم أنى ردعت نفسى ردعا كان لازما منذ قررت – بعد هذا العمر – أن أبدأ فيما هو “ترحال” مثل هذا، لأنه لا معنى أن أشد الرحال لأمضغ الهم وأجتره، حقيقة يستحيل أن “أنسى” مع هذه “الرؤية الأعمق”، لكن مسئولية الرؤية ليست أن استمر نعابا مدعيا بهذا التباكى العاجز فى وقت غير مناسب وإنما الأبواب مفتوحة لمن يريد ان يساهم فى مسيرة العدل الممكن، وأطرد هذه الأفكار الدائرية واعدا نفسى بأداء الدين، وأعود إلى صحبتى المتلهفة فأقرر أن أتقدم “بدعم محدود” يمثل فرق السعر بين ما سمعه ابنى أولا، وما تيقن منه أخيرا، حتى يمكن أن ننام فى هدوء نسبى، فنتمتع بفضل الله، بالدرجة التى قد تعيننا على حمل أمانته إلى سائر خلقه (قال، يعنى!).
وفعلا كان الفندق (واسمه فريزيا، كنا نتذكره بعجول الفريزان المبرقشة) فخيما، استقبلنا فيه بمنتهى الذوق والأدب، ورغم منظرنا الأشعث، واحد بيه، يصلح – والله العظيم – سفيرا لهولندا فى اندانمرك، لا أقل، وراح يحترمنا احتراما شديدا يذكرنى حين كنا أطباء امتياز، وذهبنا إلى كازينو بأعلى المقطم (1957) وكان معنا أحد الزملاء الذى لم يدخل كازينو فى حياته، ولم يلبس رباط عنق أصلا، ولا يعرف حتى كيف يربطه، وحضر لنا “الجارسون” بسترته البيضاء، والبابيون، والسروال الأسود، فيقف زميلنا منتقضا يحييه، وكأنه يعتذر له أنه جلس قبله أو أنه جلس أصلا، ونقول له يا فلان، هذا جرسون، وهذه وظيفته، وهو يخدمنا ويحترمنا مقابل ما ندفع، ولكن رأسه وألف سيف أنه “لا يصح” و “هذا لا يجوز”، ونقول له ما هذا الذى لا يجوز؟ إنما هذا أكل عيشه .. الخ فيقتنع بالكاد، ولكن ما أن يحضر الجارسون حتى يقوم صديقنا فيمسكه جاره بالعافية … وهكذا، وما زلت أذكر هذا الصديق وقد رفض أن يختار تخصصا دقيقا يسمح له بالتعيين فى الجامعة، لأنه “لا يصح” أن يطمح إلى هذا، رغم أنه كان متفوقا علينا جميعا، فكان يبتسم ويقول لى: هل تعلم ماذا يعمل أبى؟ هو يتجول فى الأسواق يعرض الأقمشة على ظهر حمار، فأقول له “ولو …” هذا حقك، أنت أحسن منا بكل المقاييس، فيغيظنى حين ينهى الحديث باسما طيبا، ولكنه ينفذ ما فى يقينه، فيختار التخصص العام – مثل والده – الذى لا يتيح له فرصة التعيين فى الجامعة، وإنما يسمح له بخدمة أوسع لناسه الأبسط “هناك”، وأتذكر صديقى هذا الطيب كلما أقدم علينا هذا البيه الفندقى، فأكاد أقوم له من على المقعد احتراما لأنه فعلا “لا يصح”، وهكذا، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة فهمت ماذا كان يعنى صديقى بـ “هذا” الذى “لا يصح”، ياه !!
نستقر، ونترك الأولاد الساعة 9.30 مساء، وأنزل فورا مع زوجتى أتعرف على هذه “البقعة الجميلة” فنجد الشوارع كما توقعنا، والمحال مقفلة أبوابها، إلا من مقهى متواضع يلملم أشياءه، ولا تمضى بنا أرجلنا أكثر من ربع ساعة، لكنا نقنع به كنوع من “التوقيع فى دفتر التشريفات”، فقد أعتدنا، حتى فى مصر، ألا تكون نهاية السفر، مهما طال وشق: هى إغماءة النوم، أو غنج الإرهاق، كما اعتدنا أن نوقع هذا التوقيع الصامت على سيقان المدينة من شوارع، وشفاهها من مقاه، قبل أن يضمنا الفندق بكل ما يشعه من دفء الجنوب.
وقبل أن أصعد حجرتى أسأل “سعادة البيه” عن رقم تليفون فندق مارتيناز Martinazze فى “كان”، حيث كان لزاما على أن أتصل بهذا الزميل الأكبر الذى سبق أن أشرنا إليه، فيجعل يبحث عنه فى دفتر للتليفون مكتوبة حروفه بس إبرة، مما يضطره إلى إحضار عدسة مكبرة، ويعتذر فى كل مرة لا يجده حيث تصور وقدر، ثم يتلطف فيلتمس منى الصعود إلى حجرتى وأنه سيأتينى حتما بالرقم، وفعلا لا أكاد أستقر فى الحجرة حتى يدق جرس التليفون فأسمع صوته مهللا أنه “وجده”، ولا أعرف كيف أشكره داخل نفسى، بعد أن كنت قد نسيت مثل هذه المعاملة التى تضاءلت بفعل احتقار الفندقيين العجم للبتروليين العرب، ذلك الاحتقار الذى تراكم بفعل كثرة النقود، مع ضحالة الذوق، لكن يبدو أن هذا التدهور الفندقى لم يسر إلا على الفنادق الأغلى والأفخم، فأصبحت هى هى الأوقح والأسخف معاملة.
الخميس 30 أغسطس
أصبحنا وأصبح الملك الله، والحمد الله – والله زمان، الماء الساخن والصابون، والحمام الخاص والمرآة، وسبحان العاطى ..، وأهم من كل هذا أن الإفطار إجبارى دون زيادة فى الحساب، فنجلس فى مطعم شديد الأناقة، قال “ثلاثة نجوم”؟ قال؟، قل مائة، أو ألف نجمة ونجمة، وشمس وقمران!! نعم الأكل هو الاكل، فالإفطار الفرنسى ثابت كما برج إيفل، الاهلة (المشلتتة) (الكرواسون Crolsson) والقهوة باللبن، والزبد بالمربى، ولكن ليس هذا هو المهم، المهم هو ما يصحب ذلك من ترحيب دافئ واحترام حضارى، هو كل شئ، وأتأكد من تميز هذه المطاعم / الفنادق المتوسطة فى المدن المتوسطة، من أنهم لا ينظرون إلى كل من هو عربى باعتباره “زكيبة” أوراق مالية، يعلوها مخ ماسح يساوى بين كل شئ وكل شئ، إلا النقود والويسكى واللحوم، فجعلنا ننظر عبر الزجاج النظيف إلى المراكب الشرعية وغيرها، ونتمنى أن يطول الوقت رغم اليقين بحتم الرحيل، فبمجرد أن ينتهى الإفطار سوف نشد الرحال. ويا “عالم”!!
وفى مكتب الاستقبال، ونحن نتمم الحسابات تشجعنا فسألنا “سعادة البيه” عن مخيم فى هذه “البقعة الجميلة” فمط شفتيه فى أدب جم، (دون نفخ للهواء كما اعتدت من الفرنسيين) وحين هممنا بالانصراف إذا بشاب يقفز إلى وسط الحجرة دون أن نشعر كيف دخل وكأنه هبط من السقف، وكان مليئا بالفتوة والسعادة، ففرح به “سعادة البيه” حتى حسبناه ابنه عاد بعد طول غربة، ولكنه أشار لنا بحماس ان انتظروا وكنا نتراجع فى امتنان، ثم علمت أن فرحته كانت متعلقة بطلبنا حيث أنه أيقن أن عند هذا الشاب الخبر اليقين، وفعلا كان الشاب السعيد رحالة، لكنه يبدو فى حالة إقامة مؤقتة، فهو من “هنا”، وقد أجاب “سعادة البيه” – منتعشا – عن ما طلبنا بأن ثمة مخيم “هنا” “فعلا” على “الكورنيش الأعظم” قلنا خير، وانتعش الشاب أكثر من انتعاشته الأولى، وأمسك ورقة وقلما وهات يا خرائط، وخطوط، وأسهم، ولم ينقص الشرح إلا “مقياس الرسم”، وكل ما فهمته هو أنى سأظل ألف وأدور إلى أن “ألاقى إشارة”، وثمة “بتاع” أيس كريم: دكانته على ناصية حارة، إلى أن أصل إلى الكورنيش الكبير، وحين سألته إن كان مخيم الكورنيش هذا رخيصا: قال: جدا، فقلت له، وما ميزاته، قال منظر جميل!!، ثم أجاب فى بساطة أنه ما دامت بغيتى هى مخيم فى “بوليو”، فهذا هو المخيم الذى فى “بوليو” ..، ولم أتبين ما يعنى تماما إلا فيما بعد.
فرحنا، وتوكلنا.
وكما نزلنا متزحلقين صعدنا نتحسس الطريق من الكورنيش الأسفل إلى الكورنيش الأوسط، نفس طريق الأمس السرى، وكلما خلا الطريق من المارة والعربات، خيل إلينا أننا لابد قد تهنا، وكلما سألنا أحد المارة وأريناه خريطة الشاب المنتعش، نظر فى وجوهنا، ثم إلى السيارة، ثم أنى حمولتها الداخلية والخارجية، ورفع حاجبيه، وهز كتفيه، وقال بشكل أو بآخر، “الوصفة صحيحة .. ولكن”، ثم يمضى مهذبا دون أن يكمل، لكن ماذا .. يا هذا؟، وأخيرا حن عليا أحدهم وقال، ولكن “صعب” ثم تنهد وكرر “صعب جدا”، ويبدو أن الذين كانوا يتوقفون بعد “لكن ..” كانوا لا يريدون أن يتدخلوا فى “حريتنا”، حتى لو كانت حريتنا هذه هى جهلنا، أو كانت ستذهب بنا فى “ستين داهية” وابتدأ الفأر يلعب فىعب الصحبة المستسلمة، فقلت لهم هل سمع أحدكم من أى “مسئول” أن الطريق مسدود، أو مقطوع، أو ممنوع؟ قالوا: “لا” فقلت بعناد قديم – يعرفونه – إذن، “فلا صعب إلا التراجع”، وما زلت أتصور – كما أوضحت فى بداية هذا الفصل – أن هذا المبدأ هو الأساس الجوهرى الذى حدد خطوات حياتى، لذلك كانت انسحابات عبد الحكيم عامر وعبد الناصر، مهما زعمنا فى تبريرها، من أقسى ما عانيت فى تاريخ أمتى، ومضينا بإصرار الحياة، وجعل الطريق يصعد، يصاعد، ويضيق، ويضيق، ولم يكن مثل كل الطرق السابقة لأنه إذا اجتمع الضيق الشديد مع الإنحاناء حتى الدوارن مع الصعود حتى الوقوف، فسبحان منقذ المعاند من غباء عناده، وهكذا انقلب الطريق الأفقى رأسيا والسيارة تكاد تقف على قدميها الخلفيتيان، وكأنه لا يربطها بأرض الطريق إلا الجاذبية الأرضية، بقدر ما يربط رأس دبوس بسطح مغناطيس ضعيف لم يستطع أن يجذب طرف الدبوس الأبعد إلى التماس الملاصق، ولا أستطيع أن أنقل الفيتيس إلى على “الأول” .. وهات يا طلوع … ولم يعد الرجوع اختيارا مطروحا أصلا، فلا مكان للانحراف المتأنى ناهيك عن الاستدارة للخلف، ولو لم يستجب الترس الأول للصعود بكل الحمولة فسننهار لنرجع بظهرنا إلى حيث لا ندرى، واستعمال الفرامل محظور تماما فى مثل هذه المواقف يا بطل، وفجأة – فعلا: فجأة – ينطلق الغناء:
والنبى لاهشه يا العصفور
وانكش له عشه يا العصفور
ولا أجد مناسبة وأكاد أحتج فى سرى، هل هذا وقته؟، وأبحث عن أغنية أخرى تطلف التعارض فلا تأتينى إلا أغنية أبعد ظاهريا، فلا أنطق بها أصلا، ولكنها تدور فى ذهنى عنداً فى ما تقوله المجموعة:
حلفت ما ألبس حديدة
إلا ملاية جديدة
وأزور بيها سيدى إبراهيم
اللى بلاده بعيدة
ولكنى وأنا أكتب الآن، ولأول مرة، أتصور أن ثمة علاقة بعيدة كانت فى قاع الوعى، رغم إنكارهم وإنكارى أدنى علاقة أصلا، فلعل الأولاد – أعنى حدسهم – تصورا أننا فى صعود حتى نصل إلى عش عصفور “ما” هناك فى أعلى عليين، أو أننا بهذا الصعود المعاند نتحدى الاستقرار (العش) ونهش كل راسخ، ولعلنى بما خطر ببالى كنت أعنى – دون قصد – أنه لا “حديدة” تقيدنى أبدا، أو تثقل خطوى، لا حديدة الخوف، ولا سلاسل التقاليد، ولا خزائن الحسابات، وأنى مصر على أن أخلعها جميعا لأنطلق. فأتجدد دائما، لأزور بلادا بعيدة، بما يعينه سيدى إبراهيم أصل النبوة الأحدث أو أصل الوعى الأرحب …، ولكن هل يمكن أن نتصور أنه لا شئ بالصدفة، لا شئ!! حتى الأغنية غير المناسبة؟ لست متأكدا، لا .. لست متأكدا أبدا.
…… ……. …..
…… ……. …..
وحين ينظر الخواجات إلى هذا الأتوبيس ذى الأرقام العربية والحمولات التى تشبه قفف عمال التراحيل بلا انتظام ولا لزوم أحيانا، حين ينظر الخواجات إلى ذلك باستغراب وإشفاق، فعلينا أن نحدس أننا فى طريقنا إلى السر الأعظم الكامن فيما بعد أعلى الجبل، وفجأة يعتدل الطريق رغم استمرار ضيقه، فإذا بنا أمام لافتة مهملة، وإشارة مترددة أن هنا مخيم “كذا”، وننظر فى الورقة، فإذا هو الذى نبحث عنه، وإذا بنا أمام مجموعة من الخيم المتخاصمة، وأمامها تماثيل شمع متصلبة، بلا حركة، ولا صوت، ولا حياة، ولا شئ، مخيم هذا؟ أم منفى اختيارى؟، هؤلاء الناس التماثيل: ما الذى أتى بهم إلى هنا؟، ونسأل عن الأسعار والمواصلات، فنجد الأسعار زهيدة، لكن المواصلات هى مرتين فى اليوم، 6 صباحا، و7 مساء (على ما أذكر، أو بزيادة مرة ظهرا) ونحسب أننا سنسلك نفس الطريق، وهذا مستحيل، ويضع الجميع أيديهم على قلوبهم خشية نزوة موافقة من باب التحدى وإيذاء النفس، ويخيل إلى أن الأتوبيس قد استدار أثناء حديثنا متجها إلى طريق النزول، فأغمز له أن “حاضر، ولكن لا تعلنها الآن”، واطلب من المراة (لماذا دائما امرأة؟) المسئولة عن هذا المخيم والواقفة منزعجة كالبومة المهجورة (بناء على طلبها!!)، اطلب منها أن نشاهد الخدمات أو نتجول قليلا ما دمنا قد وصلنا حتى هنا، وتعرف بخبرتها وقراءة وجوهنا قرارنا الذى وصلنا إليها قبل أن نصل إليها، فتقول : تشاهدون ماذا أكثر من هذا؟ وكأنها تقول: أنتم لستم “وجه” ذلك، وفعلا، فأنا أتصور أن هؤلاء النزلاء هنا يمارسون بديلا اختياريا يقطعهم عن العالم، شيئا أشبه بالخلوة فى غار، أو على جبل يعصمهم من العامة، طيب حلال عليهم، ونحن، ما لنا؟ ولكنى أتذكر قسوة المجتمع المعاصر واغترابه وإغارته على الوعى الفردى، وعلى الإبداع، وعلى التلقائية، بل وعلى الثورات، فحتى الثورات لم تعد حقيقيا بقدر ما هى نقل للسلطة وإعادة التسميات، واحترام هذه “الهجرة” (فاعتزلوا الناس) – متذكرا الهجوم العنيف على ما سمى ظلما بجماعات التكفير والهجرة، وأتذكر “المر” الذى رمى جيم جونس إلى غابة جوايانا فوقع فى “الأمر منه” (عكس المثل الشائع)، واحترام كل مهاجر واع، ثم أرفضه تماما، نعم أرفضه حتى لو كانت هجرة المجتمع ستحميه من الجنون والإنتحار، فلأن يجن المتألم أو ينتحر وسط الناس، فهو يلقى بتحدى فشله وفشلهم معه فى وجوه الجميع، أما هذا الانسحاب فقد يقبل مثلما يقبل النوم الذى تعقبه يقظة، أما النوم الدائم كبديل عن آلام ومسئوليات اليقظة، فأبدا، أبدأ، ولكن الوجوه هنا فى هذا المخيم تبدو من بعد وكأنها مستسلمة للحظة، فيا ترى ماذا بعد هذا الاستسلام؟ عودة للكفاح واللغة العادية؟ أم مزيد من القوقعة والثقافة المتعالية؟ لست أدرى، حلال عليهم ما هم، ولكن مالنا نحن بكل هذا؟.
وانصرفت المرأة البومة (الباشجاويش) دون أن تنتظر نتيجة مداولاتنا، فقفلنا عائدين بعد أن أشاحت بيدها ونحن نسألها عن مخيم آخر، أشاحت بيدها ليس مثل رجل مخيم سان ماركو فى فينيسيا، بمعنى: اللى يدور يلاقى، ولكن هذه الإشاحة كانت بمعنى “وأنا مالى، اتفلقوا”، ولكن أحد الأولاد الذين يلتقطون الفرنسية أسرع قال إنها أشارت أن ثمة مخيمات على الجانب الآخر من “نيس” فى إتجاه البحر، ولكن “إيش جاب لجاب”، فمن يريد البحر ليس له فى الجبل والعكس صحيح، وكل فولة تبحث عن كيالها، وقد تبينا فيما بعد أن ما أوصلنا هنا هو فرط أمانة رجل الفندق (سعادة البيه) وصاحبه، إذ يبدو أن الخواجات يصدقون الكلمة حرفيا، فحين سألنا عن مخيم فى “بوليو” دلانا على مخيم فى “بوليو” ولم يفهم أى منهما أننا نقصد أى مخيم، فى أى مكان فى المنطقة، و”نيس” ليست بعيدة، والمخيمات ممتدة على طول الشاطئ، لكن الحق حق، ولولا هذه الدقة وعدم التقريب الذى يتميز به الفرنجة لما أتيحت لنا هذه الفرصة للمشاهدة الجبلية من أعلى الكورنيش الأعظم، وجاء امتعاض المرأة البومة من فرحتنا باحتمال وجود مخيم على الشاطئ متناسبا مع خيبتنا المفيدة، وكأنها تقول: إذا كنتم تسألون عن مخيم على شاطئ نيس فمن جاء بكم إلى هنا؟ (كأن تذهب إلى ملوى تسأل عن شاليه فى الإسكندرية).
ونزلنا من هذه المغامرة الخاصة فى طريق شديد الإنحدار، ولكنه أكثر استقامة واتساعا لأنه متجه الى “نيس مباشرة” عبر مرصد نيس، وقلنا جميعا، يا سبحان الله، حقيقة، “ان من لا يعرفك يجهلك”، لو كنا نعرف، كنا ذهبنا الى نيس أولا ثم أخذنا هذا الطريق، لكن الشاب المنتعش أراد أن يوفر علينا، فدلنا على هذا الطريق المختصر !! لكن الله سلم.
اخترقنا نيس دون توقف، فاذا بها مدينة كبيرة، مزدحمة، قوية، نظيفة، لم أحبها كما باريس، لكنى لم أكرهها، فظللت طوال اقامتى بها أو حولها أكتفى بعبورها.
أخذنا نسير على الطريق الوطنى المحاذى للشاطئ، نعم هذا هو الكورنيش كما أعرفه فى بلدى، جموع الناس كثيرة جدا، ولكن ثمة مكان لكل واحد، بلا استثناء، والحر بدأ يهل، ولكن ثمة نسمات معتذرة تخترق عباءته فتهفهفها، وكنا قد قررنا – زوجتى وأنا – أن نستمر ليلة اخرى فى نفس الفندق بعد أن يقيم الأولاد فى المعسكر، كنوع من تثبيت الخبرة، وحتى “نبر” أنفسنا، فنحن من الشغالة ولسنا عالة على أحد، أما هؤلاء الأولاد .. فلابد أن تكون المسألة محسوبة قبل أن يتعودوا على الأخذ بلا مقابل، ثم أن فى ذلك ما يشير الى رغبتنا فى الاستقلال عن الأولاد تلك الرغبة التى ليس لها أدنى فرصة للنمو فى مجتمعنا، فعندنا نسمع عادة عن رغبة الأولاد فى الاستقلال عن ذويهم، ومقاومة الأهل لذلك، مع أن المفروض أن يترقب الأهل تلك الفرصة التى يستعيدون فيها استقلالهم عن عبوديتهم لهؤلاء الضيوف المستغلين من الأولاد العالة، ولا يعنى هذا تشجيعا لتفكك أسرى أو تشبها بغرب مفترق، وانما هو تنبيه الى أن قدرا هائلا من الضياع والجشع الذى يصيب الكبار ويستعبدهم عندنا، انما يتم تحت دعاوى تأمين الأولاد … وما شابه، مع أن الأمر غير ذلك، فلزم التنويه.
ووجدنا المخيم فى بلدة وسط بين نيس وكان، اسمها فيل نيف Ville neuve (أى : المدينة الجديدة)، وكان مخيما على مسافة خطوات من شارع الكورنيش، وهو دائرى منتظم، يتميز باشجارة التى تحدد مربعات محددة، لكل نزيل به مربع مستقل بأشجاره المحيطة، وانتقينا مربعا خاليا، ثم ذهبنا الى الادارة على الجانب الآخر من الشارع حيث بعض الحجرات أشبه بموتيلات اضافية، وأمام باب الادارة وجدنا رجلا فتيا احمر فى غاية الصحة والاحمرار، وبينهما أكلا متنوعا فى غاية الصحة والاحمرار (أيضا)، وهات يا عشق فيما يفعلون باستغراق رائع يحسدان عليه “بالهناء والشفاء” (والله العظيم !!) – وسألنا عن المدير ونحن نأسف لقطع هذا الاستغراق الفمى المنهمك، فتحقق ظننا وقال الرجل الفتى الصحيح الملتذ، وفمه ملئ بالهناء والشفاء “.. أنا هو …. بعدين بعدين” وعاد الى الاستغراق فى مهمته الرائعة، فجعلت أبتعد وأن أفكر، وأثناء انتظارى لهما الى أن ينتهيا من هذه المعركة منتصرين بالسلامة على هذه الأحياء المائية (على قدر ظنى) .. جعلت أتعجب من علاقة انسان هذا العصر بالأكل اصلا .. والمسألة تختلف عندنا عن عندهم، لكن ثمة وجه شبه، ذلك أنى أحسب أن أغلبنا لا يأكل، وانما ينقل الطعام من خارج الى داخل، حتى لو استطعمنا فهو لا يزال منفصلا عنا، فبعضنا يستطعم الطعام (اذا وجده) ولكن ليس بالمعنى الحسى الحمدى (حمد الله والنعمة) البسيط، وانما بمعنى الانتصار الافتراسى الغنائمى، واحيانا يخيل الى أن الأكل لا يستعمل للاستكفاء بالطاقة عن طريق التمثيل الغذائى، وانما هو يستعمل لاقناع من يمارسه “هكذا” بأنه مازال حبا بل انى اكتشفت ذات مرة، وفجأة، أن الخوف من الموت جوعا يمكن وراء كثير من نشاطاتنا عامة، ونشاطنا الغذائى بوجه خاص، ومهما كبرت أرقام البنوك، واحجام الثلاجات، وأكوام المخزون، يظل هذا الخوف من الموت جوعا كامنا وراء كل التصرفات، ويمكن أن يرجع الى تاريخ تطورنا أصلا، أو اخطاء ارضاعنا أحيانا – وكثيرا ما استاءل هل يملك هذا الرجل الغنى جدا “معدتين”، حتى يملأ احداهما، كما يملؤها الناس، ثم يتميز عنا بملء المعدة الأخرى بالأطعمة الخاصة السرية، وحتى هذه الأطعمة مهما ارتفعت أثمانها، فلن يستطيع أن يترجم تميزه النقدى الى تميز فمى / معدى معتبر، فاللأكل – كما للصبر – حدود، اذن ماذا؟ ولماذا؟، ويسرى هذا الخاطر قياسا على أغلب اللذات الحسية من جنس، وخدر الدفء والدعة … الخ فلكل هذا – وسبحان المانح المانع – حدود لا تتخطاها، فما معنى – اذن – التهام وامتلاك ما نطمع ان نتخطى به غير الممكن؟ وما معنى أن نظل نضيف كل ما عدا ذلك، الى ما لا يسع الا ذلك؟ اليس كذلك؟ ولكن لابد أن للمسألة بعد آخر .. ولا أحسب أن مشكلة “قيمة الأكل ومعناه” هى مشكلة خاصة بطبقة دون طبقة، فاحترام اللقمة كنعمة مقدسة توضع فى حنو بعيدا عن أجل النا له مغزاه عند والفقير على حد سواء، وطعم الأكل، سواء كان بصلة خضراء طازجة، أو عود سريس، أو كان كافيارا معتقا أو ضلع غزال، هو مسألة فيها نظر عند الجميع، وقد تصورت وأنا أتابع أحجام الأجساد المفرطحة (النسائية خاصة، فى امريكا، : لابسات الجينز والشورت بالذات) وكأنها تمثل أرضية تدهورية يجرى أمامها “نشاط العدو الانفرادى المغترب”، وهذا وذاك قد يشير الى دائرة ذاتوية لا تتعدى حدود الجسد الذى استغرق، فى عبادته غالبية انسانى الغرب (مما قد أعود اليه فيما بعد)، ولو رأيت انتشار الأيس كريم فى نيويورك وبوسطن (مثلا) لتوقفت تطالع قدر التلذذ بالحلوى الباردة، وكأنك أمام جمهور من الأطفال المخدرين بأبسط أنواع الضحك على البطون .. (فالعقول)
ونعزم الأولاد ليلا على محل للأيس كريم فى مقابل الفندق مباشرة، وحين تكون فى بوليو، فلتفعل مثل البوليويون، ويقوم بالخدمة فى هذا المحل شاب وفتاة فى منتهى النحافة الجميلة، والرقة، والمداعبة، والتقبيل المتكرر، آسف : دعنى استعمل تعبيرا أدق هو “اللثم على الماشى”، بل لعله “اللثم ماشيا”، نعم هذا هو، فالولد يميل على البنت وهو يعد الأشياء وكأنه “يوشوشها” لكنه يلثمها، ثم يأخذ الصينية وعليها الطلبات ويمر من أمامها فبدل أن توسع له، تحاوره فتلثمه، ثم تدعه يمضى، وهكذا طول الوقت، هات يا لثم، أى والله … ولا أستطيع ان اتقمص صبرهم على مجرد اللثم، ولكن يبدو أن الفرق بين “التقبيل الاعشى المغترب”، وبين هذا “اللثم ماشيا” هو مثل الفرق بين هذه الرشاقة والنحافة المتناسقة، وبين تنافر ردفين ضمهما جينز كالعباءة القديمة، يتأرجحان استهزاء بكل مقاييس التواجد البشرى المهذبن ويقدم لنا أحد العصفورين كتيب الطلبات المصور، وبه صور ملونة مبهرة، فنشير الى احداها فينبهنا “الكناريا” الى أنها لثلاثة، قلنا : أوفر، واذا به يأتى لنا “بطاجن” من البللور، وفيه كمية هائلة من هذا الذى كان ذا صورة جميلة، فنجد أنفسنا لا نستطيع جميعنا أن نأتى على ما فيه، تحدى هذا أم كرم أم خيبة بليغة؟ وأتذكر – وأنا أمد يدى الى داخل طاجن الأيس كريم، كيف كنت دائما أفضل أكل اللبن “الرائب” من الطاجن مباشرة، وكيف كنت أعب من حافته “الشرش” ما بين القشدة واللبن ليحمى عينى ويرحمنى من الششم الأسبوعى ليلة الجمعة، ولكن شتان ..، فهذا الشئ الماثل امامنا هنا لا يصلح الا فى مزرعة لتسمين البشر .. فى مشروع لاعاقة تفكيرهم بأثقال الدهن والجشع، ولكن كيف تتناسب هذه المؤامرة مع احتفاظ هذين العصفورين برشاقتهما الرائعة؟ وقلت أن الحرب خدعة، فقد يكون فى وجودهما فى هذا الموقع الحرج ما يطمئن الملتذين فميا الى عدم السمنة بدليل أنهما غارقان فى وسط معمعة “الايس كريم” شخصيا ومع ذلك فهما ما زالا عصفورين يتلاثمان..، ونكتشف على الجانب الآخر من المطعم مرآة، بحجم المطعم، فنتكشف بشاعة نهمنا بطريقة متحدية فنستعيذ بالله من ألم الرؤية، لا من جشع الالتهام، ونوصل الأولاد للمخيم بعد أن حجزنا فى موتيل قريب منهم بدءا من الليلة الثالثة، ونتركهم وهم يودعوننا ويرجون لنا أفطارا بعرفونه، طالبين منا أن نذكرهم بخير حينذاك، لأنهم راجعون الى “الحساء” العظيم بكل تباديله وتوافيقه.
الجمعة 31 أغسطس 1985
انتقلنا – برضاء متزن – من الفندق المحترم – بحق – الى الموتيل المتواضع، وهو عبارة عن حديقة رحبة، على طرفها بناية شديدة النظافة والنظام، والغرفة منسقة رحبة، بها مطبخ وحمام وملحق صغير لاستضافة صغيرين مع زيادة طفيفة، وقد جاءت صاحبة الموتيل، وهى صنف ثالث من النساء، لا هى المرأة المهرة فى مخيم الالبادورو، ولا هى المرأة البومة (الذكر) فى المخيم المنفى الاختيارى فى أعلى الجبل على الكورنيش الأعظم، بل هى امرأة أقرب الى العوانس، وزوجها رائح غاد طول الوقت، لا يكف عن الكلام واللف حولها، وكأنه يريد أن يتخلص منها باغراقها فى بحر من حديثه المتصل وخطواته القلقة، ولكنه فى النهاية لا يبدو الا مثل الفأر الواثق من نهايته بين أنياب هذه المرأة القط، جاءتنى هذه المرأة متلكئة لتعطينى مفتاحا آخر للحجرة، وجعلت تتلكأ وكأنها رجعت فى كلامها، وكنت قد سألتها عن مخيم أقرب قد ينتقل اليه أولادى السبعة، وسألتنى القطة العانس (رغم زوجها الرائح الغادى) هل هم بالفعل سبعة؟ فأكدت لها الرقم، فعادت تقول : وهل سيزورونك؟ فقلت هذا بديهى، فمن يحتاج منهم شيئا منى سوف يحضر كما يريد، وهنا ظهر ما وراء تلكئها فانطلقت تضع الشروط، وانه ممنوع استعمال السرير الاضافى، والحمام، وممنوع الصياح أو استعمال اراجيح الحديقة وممنوع، وممنوع، فأخذت جرعة الاحترام التى عشتها يوما وبعض يوم فى ذلك الفندق المتحضر (فريزيا) أخذت تتلاشى رويدا رويدا حتى ذابت عن آخرها، وبصعوبة شديدة لملمت نفسى، وأفهمتها بحسم صارم أن كل هذا مفروغ منه، وأنى لا أسمح لها بافتراض ما لم يحدث، وبين الساكن وصاحب الخان : يفتح الله، والحجز عندها مقدما، فاذا حدث ما يخالف العقد فسأترك لها المكان والنقود غير آسف دون تنبيه منها، ولم ينفعنى اعتذارها بعد ذلك مباشرة، ولا بعد يومين وقد جاءت تتعجب كيف يزورنى طفلاى الأصغران دون ضجة أو صوت أصلا، وأخذت تسألنى كيف ربيتهما هكذا، ولم أرد عليها أصلا، وبعد الحاح أفهمتها أنى حكيت لهما ببساطة قلة ذوقها معى، فأعطياها هذا الدرس فجعلت تصفنا بأننا أناس متحضرون، وأننا نمثل تربية “زمان” ولسنا مثل فرنسيى الجنوب الذين يأتون من مارسيليا، فيقلبون الدنيا بأطفالهم الذين لا يستجيبون لأى نصيحة أو توجيه، وقلت لنفسى .. ما هذا كله يا ولد .. لعله خير، ولكنى لا أخفى فرحتى بهذه الشهادة لحساسيتى الشديدة ضد ما يسمى بالتربية الحديثة المستوردة، التى جعلت الطفولة مرتعا لكل شئ، ولا شئ، وكنت دائما أشك فى فرص الطفل الغربى بلا حدود، ثم نهايته المختلة اخلاقيا وادمانيا وانعزاليا فى كثير من الأحيان، وسارت الأمور وكأننا تصالحنا، حتى أنها جاءت فى اليوم التالى تصطنع الرقة وتقول ان ثمة خطأ فى الحساب، فنظرت الى زوجتى وكأنى أقول لها : ألم أقل لك أن هذا الثمن غير معقول، ظنا منى أن الخطأ كان فى أننا ندفع أقل مما ينبغى، فأبديت استعدادى لدفع الفرق حتى لا أبعد عن الأولاد، لكنها اخبرتنى أنه ابتداء من الغد (أول سبتمبر) ستكون الغرفة أرخص (حوالى 20%) لأننا سنكون فى نهاية الموسم، ورغم بغضى لهذه المرأة القط، فقد احترمت أمانتها وكيف أنها تخفض الأجرة متطوعة لأن الأصول هى كذلك، وتمنيت الا ننسى هذه اللمسات الدالة فى معاملتنا لضيوفنا السواح ..، ورغم كل ذلك فقد ظلت هذه المرأة لا تنزل لى من زور طول الاقامة…، كله الا قلة الاحترام يا ناس، نعم كله الا قلة الاحترام، ويا حبذا لو سمعتنى حكومتنا السنية، فأنا اعتبر الاحترام والمسئولية هما أرقى ما توصل اليه الكائن البشرى من رقى العواطف، دعك من حكاية الحب، والحنان، والشفقة وما شابه، كل ذلك لا يقارن بروعة “الاحترام” … هذا شئ آخر .. يبنى الأمم والله العظيم يا حضرة الحكومة.
وقد كان لبعد الأولاد عنا فضل فى مزيد من الاستقلال بما يسمح بالحركة التلقائية، فما أن انتصف النهار حتى تسحبت الى الشاطئ المجاور استكشف وأرى، بضعة خطوات، وسور جميل من حتسب جميل، فترددت، وتصورت أنه شاطئ خاص، لكن، أبدا، فدخلت وأنا أتلفت، وفجأة وجدت نفسى فى وسطهم تماما كما كنت أسمع، وأكثرن وكدت اطأطئ رأسى فزعا وخجلا، ولكن كيف سأغفر لنفسى لو أنى نركت هذه الفرصة تتسرب من بين أصابع وعيى، ثم ألست أدعى أنى المغامر الدائم فى اتجاه “ما ليس كذلك” وهذا هو أمام عينى، وتقدمت، وأخذت أنظر فى الوجوه أولا، وجوه الرجال أولا يا سيدى، وعيون الرجال، فعجبت أشد العجب أنها ليست كعيونى وحاولت، من باب التيقن من فرض خطر ببالى، أن أوصل خطا مستقيما – أو منقطا – بين اتجاه عينى أى رجل مثلى، وبين الهدف الذى فى ذهنى، فلم أفلح، فكل الرجال تنظر الى حيث يقع نظرها، فلماذا أنا أنظر الى حيث لا ينظرون، اما أنهم ليسوا رجالا، واما أنى مثل الذى عمره لم يأكل لحما، فلما رأى ما رأى …، حدث لعيونه هذا الانحراف الخاص، قلت ما باليد حيلة، لابد أن أكمل لأعرف ماذا يجرى مما لا أعرف، وكيف تحول الرجال الى ما يجعل عيونهم عادية فى هذه الأحوال غير العادية، الى هنا .. والامر لم يتعد اتجاهات العيون، كما أنى، رغم المحاولات الصادقة، لم أستطع غض البصر، لأننى كلما غضضت بصرى الى أسفل وقع على “نفس الشئ” أسفل مستوى النظر وهو ملقى “هكذا” فى أشد حالات التمام، بل هذا الأسفل هو أصعب وأخطر، ولم يكن ثمة احتمال أن أغمض عينى بالكامل وقد أحاطنى هذا الــ “هكذا” من كل جانب، وهنا زاد تصميمى على عدم الانسحاب، وحتى لو أردت الانسحاب مغمضا فانى سوف أتعثر فى أجساد حية واعية ناطقة عارية حرة، بن و “محترمة” فى أغلب الأقوال، وساعتها، لا أحد يدرى ماذا يمكن أن بصيبنى من عواقب حضارية، أو ما أجره على أمتى من صفات ليس لهم ذنب فيها، علما بأنى لا أمثل أحدا فى هذا الموقف الاشخصى.
قلت : أسهل طرق الهرب هو الاقتحام السريع الى داخل البحر وبما أنى لا أعوم تقريبا، فثمة فرصة للنظر تجاه بلدنا العفيفة الشريفة، وثمة فرصة للغطس كلما زاغ البصر كذا أو كذا، وفعلا، فأسرعت حتى وصل الماء الى عنقى، فاستطعت أن أتوقف وأهدئ أفكارى لأستعيد ما جرى لى بالسرعة الأبطأ، ورويدا رويدا زالت حدة المفاجأة، وظل الشعور بأن هذا الذى رأيت هو أقل جمالا مما يحسبون، ويحسبن، فلماذا كل هذا العرى، حيث كان أكثر من نصف النساء على الشاطئ قد تخلصن من أى شئ، أى شئ، يستر نصفهم الأعلى، وجعلت أرى أما لأطفال ثلاثة، وهى تلاعبهم قرب الشاطئ، وهى “كذلك”، وزوجها بجوارها، وتذكرت جاموسة لطيفة فى حظيرتنا، تعمل نفس العمل بنفس الطبيعة مع ابنتها، دون أن تثير الفحل الا اذا “طلبت”، وكانت تلحس ابنها الرضيع فى حنو بالغ، الا أن هؤلاء الأطفال الثلاثة هنا كانوا قد تخطوا سن الرضاعة، ومع ذلك فثمة وجه شبه، أقول : رويدا رويد، رويدا (لاحظ : زدتها واحدة) كدت أنسى تماما كل هذا الجديد، لأنهن، على ما يبدو، قد نسينه أصلا، ولأن كل من حولى قد نسيه أيضا، وتعجبت – بصراحة – لسرعة تأقلمى هكذا فى أقل من نصف ساعة، حتى رحت أتصور أن هذا (الهم) هو هو أمر طبيعى، وأن مجرد ستر بعض الأجزاء لا تفرق معهم، بل لعل العكس هو الصحيح، لأن زيف “الروافع” يغطى آثار الزمن “وسوء الاستعمال” فيضاعف الخداع!!!، وما كدت أعتاد كل ذلك حتى وجدت مقلتى عينى قد استقرتا فى محجريهما مثل سائر الرجال، اللهم الا عن فتاة فى عز قد استقرتا فى محجريهما مثل سائر الرجال، اللهم الا عن فتاة فى عز الشباب، قد استلقت فى عز الشمس، على عز الزلط المتعدد أشكاله، فى جمال فائق (أعنى الزط، ومن عليه) وجعلت هذ الفتاة – دون مناسبة عامة – تعبث بحلمتى ثدييها الواحدة تلو الأخرى، وهنا قلت “لا”، فقد يكون عرى النصف الأعلى طبيعيا حسب عاداتهم، وحتى النصف الأسفل، خلها تكمل، وقد يكون هذا أقرب الى جاموستنا الجميلة وابنتها الحلوة، ولكنى لم أر جاموستنا تعبث هذا العبث المثير والخاص جدا بالجنس البشرى جدا، وقلت فى نفسى : الذى يتعرى، يتعرى، هو حر، أما هذا الاستمناء الثديى العلنى، فقد تعدى كل الحدود، لكن .. أنا مالى؟، واحدة مبسوطة من بعض جسدها الفائر لهذه الدرجة، تشبع به، واستدرت الى اتساع البحر الكبير وعاودت حوارى معه الذى يتواصل كل صيف، نفس بحر بلدنا، نفس الرائحة، ونفس الريح، ونفس الهمس، ونفس التحريك، ونسيت الأرضية البشرية خلفى، واتجهت الى التقاء الأفق بسطح الماء، فجعلت أكمل ما قد بدأته من سنين، وأنا أعتبر العجز عن العوم – جدا – مزية لمن ينزل مثلى ليتعرف على أصله، لا ليمرن عضلاته، فكلما نزلت الى البحر .. أخذت أنسحب انى لا نهائيته، على حد حدسى، لا على حد معلوماتى الجغرافية، فاتراجع فيه اليه، وأترجع معه به، وأستشعر الفرق الجوهرى بين حمام السباحة الغريب عن كيانى، وبين هذا الكيان الحى النابض، وأعتقد أن جماع حركة الموج من تحت السطح، مع رائحة الحياة الخاصة المنبعثة منه، هو ما يحرك فى ذلك البعث القديم لموج داخلى يمتد الى تاريخ لا أعلمه، وبصراحة، فأنا اذا سئلت من أنت، وأردت الصدق فى هذه اللحظة، لأجبت أنى “حركة، تأمل أن تنتظم فى موج الكون الزاخر” ومن لم يستطع أن يلتقطنى هكذا فليعلم، مجازا أنى “نغمة .. تبحث عن مكانها فى اللحن الأكبر” ، لا .. الحقيقة أبلغ من المجاز، ولابد لتوصيل هذه الرسالة من مغامرة إثارة أمواج الداخل، فى محاولة إتساق مع موج البحر ذى الرائحة الحية، وحركة موج البحر تحتاج إلى من لا يعوم مثلى، ليقفز معها كطفل يلهو، فإذا بها ترفعه وتهبط به، لتسحب حسه إلى سرة الكون بشكل أو بآخر، وطالما أنا أنزل البحر لأصافح الموج وأحاور الكون فإنه يناسبنى أن يكون الموج هادئا أو هائجا[6]، بل إنى أحسست يوما بأن الموجة العباءة هى أحنى على إذا ما كان البحر هائجا، كانت تلطمنى ثم تحتوينى، وكأنها تدربنى على حقيقة “ما ينبغى” إزاء طبيعة “ما يجرى”، ولكن يبدو إن ما يجرى – فى أغلب الأحوال، إنما يتوقف عند اللطمة دون الإحتواء الحانى، وإنسانى كل هذا تلك الأرضية العارية من العاريات اللافاتنات، وحين أنتهى هذا المقطع من حوارى الذى لا ينتهى مع موج البحر والحياة، خرجت منتعشا متجددا، وانتبهت إلى أن الحال كان لا يزال كما تركته، طبعا ..، وهل كنت أنتظر أن يتغير ما دمت قد أهملته وتجاوزته، نعم تجاوزته حتى أعتدته بسرعة ذكرتها، وجعلت أتعجب أن تختصر معركتنا مع الغرب إلى المعايرة بمثل هذا النكوص، الذى قد يكون له دلالة خائبة، أو قد لا يكون له معنى أصلا إلا أنه بدعة سرعان ما ستنسى أو تختفى، ولكن هذا ليس هو مربط الفرس عندى، ولا ينبغى أن يكون، إذ يجدر بنا أن ننتبه إلى أن معركتنا أعمق وأخطر من كل ذلك، لأنها تتعلق باختلاف جذرى فى موقف كل منا من الكون عامة، وفى هذه الحياة ضمنا، وهو اختلاف يغير طعم الحياة وطبيعة مسارها، من أقصاها إلى أقصاها.
….. ….. …….
….. ….. …….
رجعت إلى زوجتى وحكيت لها أغلب ما حدث لى، ومنى، فأقشعرت مقدما، أو إحتياطيا، فعرضت عليها أن تتفرج هى الأخرى، لترى، وأرى بدورى نفس الأمر من زاويتها، وأخذت أقنعها أنها فرصة لا ينبغى أن تفوتها، وما وراء كمن سمعا، وبعد لأى شديد، وافقت على مضض، ومرت، ورأت ورفضت، وتقيأت، أعنى كادت، وجعلت أحاول أن أنقل لها ما مر بى من أفكار وتحولات، وأفهمها أنها لم تسمح لأى احتمال آخر أن يهز موقفها المسبق، وأذكرها بجاموستنا الطيبة وابنتها الظريفة، ولا فائدة، أما أولادى وبناتى فقد رفضوا أصلا أن يذهبوا، وحين ألمحت أن هذا ربما يكون أمرا طبيعيا بالنسبة لهم، قالت ابنتى أبدا، فصديقتها الفرنسية التى تقيم فى إحدى ضواحى جنوب باريس وأقاربها المقيمون فى مقاطعة بريطانى شمال فرنسا، يرفضون كل هذا العرى ويعتبرونه مقززا مثلنا سواء بسواء، ومهما يكن، فقد استفدت شخصيا من الخبرة بكل ما فيها، على الأقل .. فإنى لم أسمح بموقف مسبق أن يحول دون أن أعيد النظر، وأن أعتاد النظر، ثم أن أغض النظر تلقائيا ..، وعموما فقد كنت وما زلت أعتبر أنه لا علاقة بين العرى والجنس، بل أحيانا أتصور أن ثمة علاقة عكسية، واستعراض التعرى (الاستربتيز) الوحيد الذى سمحت لنفسى أن أقبل الدعوة إليه فى باريس، لم أتحمله أكثر من بضع دقائق انصرفت بعدها لأنه “ليس بشئ”، لا حرية، ولا جمال، ولا طبيعة، هو مجرد إمتهان للجسد البشرى، لأنه “عرى للبيع”، أما هذا العرى النصفى هنا فهو أقرب إلى الطبيعة والاختيار، وأنا أرفض كل ضئ إنسانى للبيع، وأتحفظ ضد كل ما هو ليس اختيارا، ولو بدرجة ما، ونحن عندنا نثور ثورة مضرية ضد مظاهر احتمال عرض الجسد أو بيعه، ولا نتحرك – بدرجة كافية – إزاء بيع العقول والكرامة والرأى، وهذا البيع – بيع العقول – لا يتم فقط بمقابل دنيوىن بل قد يكون بمقابل أخرون كذلك، ولم أتصور أبدا أن الله سبحانه قد خلق لنا فكرا لنسلمه لغيرنا بأى مقابل أيا كان هذا المقابل، وما أخفى الشرك إلا على الوعى اليقظ بلا حدود، نعم كنت أرفض كل بيع، وكم كان نشازا تدهوريا أن أقرأ فى واجهة بعض محال سان فرانسيسكو لافتة تقول “تفرج على عذراء عارية بدولار واحد”، ما هذا؟ وبقدر ما حاولت أن أفهم معنى ذلك وفائدته، عجزت، وجزءت، الجسد البشرى، (والعقل البشرى بعض نتائجه) هو أكرم وجود حيوى معروف لنا، فلماذا كل هذه المهانة؟ للبيع؟ هذا هو الذى احتاج منى الرفض والغثيان، وليس ذاك العرى الاختيارى على الشاطئ من أم مع أطفالها، لكن ثمة بيع آخر لم أقف منه نفس موقف الغثيان، ربما لأنى عشت بجواره مدة أطول حت ألفته، أو لأنى لم أفهم تفاصيل اللعبة من بعيد، وذلك هو بيع الجنس، لا الجسد، وأحسب – من عمق ما – أن بيع الجنس أكرم عندى من بيع كرامة العقل وشرف التفكير، وأكرم طبعا من عرض الجسد عاريا للبيع، وأنا لا أدافع عن دعارة معلنة أو خفية، ولكنى أتذكر بعض تأملاتى فى هذه المسألة المغلقة على حتى تاريخه، وما زلت أذكر خبرتى فى باريس (1968 / 1969) حين سكنت لأكثر من شهر كامل فى لوكاندة بحى كليشى (التقاء قطاعى 17 ، 18) وهو أقل شهرة من “البيجال” فى “هذا المقام”، لكنه أخطر وأجمل، لمن يعرف ويبحث، أما سبب سكناى فى هذا سكناى فى هذا الفندق (المزعوم) فهو أنه كان أرخص الفنادق جميعا (الحجرة مثابل 12فرنكا فى اليوم) أما سبب الرخص – كما تبينته فيما بعد – فهو أن حجرات الدور الأول كانت تؤجر بالساعة، أو بالمرة لطلاب المتعة من كل نوع، لذلك، ولأسباب قانونية تمويهية كان لزاما على صاحبة الفندق أن تسكن أمثالى ممن هم على الحديدة، بعض حجراتها، سكنا دائما بهذه الفرنكات الزهيدة، وكثيرا ما كنت أشاهد الزائر تلو الآخر، والباب نصف مفتوح، وهو لم يحكم ضم أزرار سرواله بعد، وحين كان يطول إنتظارى لتليفون من القاهرة فى حجرة الاستقبال، كنت أتابع الداخلين والخارجين، هذا ربع ساعة، وذاك خمس دقائق، وهذا نصف ساعة، وتخرج “السيدة” دائما قبل الزبون وتترك الباب نصف مفتوح، وصاحبنا مرتبك فى سرواله، وأنا أتأمل وجهها، حيث كان هو الجزء الذى يعنينى من جسدها، وفى كل مرة أتساءل عن شعورها، ودورها، ومعنى كل هذا “الغلب” الأزلى ..، ولا أجد جوابا واحد، أو جوابا ناجعا، وذات مرة داهم البوليس هذا الفندق، وقد سمعت نقاشا بين هذه السيدة النشطة تماما، وبين ضابط البوليس وهى تحتج صارخة أن هذه المهنة اقدم مهنة فى الوجود، وأنها موجودة منذ وجد البشر، وأنها أقدم من الزواج وأبقى، وتعجبت من فصاحتها وصدق دفاعها المجيد عن “شرف المهنة”، وأشفقت عليها ما دامت مقتنعة كل هذا الاقتناع، وفى اليوم التالى سألت صاحبة الفندق بتردد شديد عنها، لأول مرة، وضحكت المرأة بصوت ممطوط (فقد كانت من الوسط Midi، هى مقاطعة يقولون عن أهلها إنهم يغنون لا يتكلمون، من كثرة ما يمطون) وقالت لى: “ما عليك، ستسوى أمورها حالا”، ثم أردفت، “ولكن لماذا تسأل؟” وقلت لها – وهى تعلم – لأطمئن، فضحكت من جديد لأنها على يقين أنه ليس لى فى “ذلك الأمر” شئ، ومع هذا فقد تعاطفت مع “السيدة” ولم أرتح إلا حين عادت لمزاولة نشاطها بيقين أوثق، ليعاودنى التساؤل والرفض والتعاطف وعدم الفهم، كالعادة، ويبدو أن هذه الفترة وهذه المهنة شغلتنى بعمق خاص فحين حضر زميل لى إلى فرنسا وكنت قد حجزت له حجرة فى نفس الفندق بعد أن غادرته، نبهته أن يحترس “لأن المرأة منهن قد تلتهمك”، كنت أمزح، ولكن يبدو أن يحترس “لأن المرأة منهن قد تلتهمك”، كنت أمزح، ولكن يبدو أن وعيه أخذها جدا ( جدا)، فحكى لى فى اليوم التالى حلما طريفا، وكأن المرأة – مديرة الفندق وليست إحداهن.. قد استحالت (أو بالذات ما ترتزق به من جسدها قد استحال) إلى فك مفترس، أخذ يقترب من صديقى ليلتهمه، وعجبت كيف ترجم حلمه تحذيرى إلى هذه الصورة العيانية بهذه السرعة.
نعود إلى عجزى عن الحكم الجاهز حتى على العرايا اختياريا، وهو أحد وجوه عجزى عن دمغ الناس أو السلوك أو العقائد لمجرد أنى لا أعرفهم، أو لا أعرفها، أليس الأولى أن أستوعب الاختلاف لمجرد إبتداء؟ وأن أتقمص المخالف ولو بعض الوقت؟ وحين أعجز عن هذا التقمص لصعوبة أعرف مصدرها أو أجهله، ألا ينبغى على أن أعلق الحكم نتيجة لعدم توافر المعلومات؟ وكم أدى بى هذا الموقف إلى الانتقال من رأى لرأى، – كما ذكرت – حتى لاحظت ذلك ابنتى فوصفتنى، عاتبه أو رافضة، بأنى “ليس عندى شخصية”، وألحقت ذلك باعتذار أنها لا تفهم كيف يجتمع ذلك مع متانة مبادئى، وتفسيرى لذلك أنى أعرف إتجاهى، وحركة الحياة فى، ولكنى لست وصيا على محتوى “طريقة” سيرى فى هذا الاتجاه، نعم ليس لى شخصية تسجننى، ولكنى واثق من إتجاهى نحو كل ما هو حياة، أو حركة، وأمام، ثم اكتشفت أن هذا هو بعض ما يجعلنى أتقلب على جمر الوحدة باختيار واع، فهذه زوجتى ما زال الغثيان يغمرها بمجرد السيرة – وهؤلاء أولادى يرفضون أصلا أن يتعرفوا على وجه آخر، وأحترم الجرعة بالنسبة لهم، ولكنى أتساءل هل ستزيدهم الأيام شجاعة وقدرة على الحوار، أم ستزيدهم تعصبا وتمسكا بالآمن والثبات؟ والأرجح عندى أن الاحتمال الأخير أقرب إلى ضيق الأفق الذى يحيط بالحياة العقلية فى مصر والعالم من كل جانب. وأتذكر “صفية” المومس الطيبة فى روايتى “المشى على الصراط”، وكيف أنها، وهى الشخصية الخلفية فى أرضية الرواية قد نجحت فى شد انتباه كل من قرأ الرواية أكثر من الشخصيات الأساسية، وجعلت أراجع نفسى بهدوء وأحاول أن أثيرها “ضد” أى شئ، فلا أستطيع، اللهم إلا ضد التعصب والاستغلال، وأعترف أنى مازلت لا أفهم أمورا كثيرة كثيرة حول هذه الأمور، ويزداد الأمر تعقيدا حين أحاول أن أغوص فى مسألة الشذوذ الجنسى (رغم كونه جزءا من تخصصى)، وذات مرة وأنا أقيم فى نفس الفندق مع زميل لى تراهنا على إحداهن (هكذا قلت) فى حين أن زميلى كان يؤكد لى أنه إحدهن، وليس إحداهن، فأصرخ فيه، وماذا عن الثديين، فيقول معاندا: صناعى” (عيرة)، ومرة أخذنا نلف حوله (حولها) من بعيد، لعل وعسى، نرى من يكسب الرهان بلا فائدة، وحين هممنا بسؤال السيدة صاحبة الفندق، تراجعنا فى آخر لحظة، خوفا على سوء الفهم، أيضا، ولم نتحقق من يكسب الرهان حتى الآن، وقد جعلت كل هذه الذكريات تلف فى عقلى وتزيدنى حيرة، وتستدعى خبرتى الأخرى فى سان فرانسيسكو بالذات، حيث هناك حى بأكمله (أشرت إليه فى بداية هذا الفصل) اسمه “حى الرجال” ومقام للرجال فقط، و “نواد” بل ونشاط سياسى واقتصادى أصبح يمثل قوة ضاغطة فى الانتخابات، ويقال أنهم أثرياء جدا لأنهم لا يضيعون ما يكسبون على تكوين الأسر وإنجاب الأطفال، وقد راجعت كل ما أعرف فى هذا الأمر من منطلق تخصصى الطبنفسى، فلم يقنعنى شئ يبرر هذا التمادى، وهذه العلانية، حتى خطر ببالى أنه نوع من التحدى الصارخ الذى يحاول أن يكشف كذب العلاقة النمطية بين الرجل والمرأة، وكأنهم يقولون إن علاقة الرجل بالرجل خالصة لوجه الود، والذة، بلا مقابل، فلا دعارة، ولا بنون…، أما علاقتكم أنتم: فالصفات فيها، المعلنة والخفية، تشوهه حتما، ربما، …
وأغلق هذا الموضوع دون حل، ويظل فى النفس شئ منه، وحوله، مهما طال الزمن.
* * *
بعد الظهر، نزلنا إلى نيس نتعرف عليها، كنا حول السادسة، وإتجهنا إلى ما قيل لنا أنه الميدان الرئيسى، ميدان “ماسينا” على ما أذكر، وبعد أن ركنا السيارة وجدنا سلالم رخامية، فصعدنا وإذا بنا فى ساحة جميلة، ولكن ليس بها كالعادة “صريخ” ابن يومين، لكن الدنيا تضرب تقلب فى الشوارع، ثم شدت إنتباهى مقاعد رخامية بينها مناضد من فسيفساء (فى الأغلب، وأنا لا أعرف معنى الكلمة تماما)، فناديت على الأولاد، وقلت لهم انظروا، لا يوجد غيرنا، وهاكم لوحة الشطرنج، بل لوحات الشطرنج لمن يلعب، بلد بهذه الضخامة، وهدوء بهذه الروعة، وفرص بهذه الوفرة، وقبل أن أواصل الخابة ينبهنى ابنى – من خلال لافتة قرأها لاحقا – أن هذا المكان ممنوع التواجد فيه بعد السابعة مسا، ونظرت إلى ساعتى فإذا بها السابعة والربع، فخجلت من نفسى، وأسر عنا بالنزول، وتعجبت أنه ليس مكانا مغلقا، وليس ثمة شرطى لتنفيذ التعلميات، ولكن مجرد لافتة، وينتهى التواجد، سبحان الله…!
ومع نزولى تاركا لوحات الشطرنج ورائى، وأنا أدارى خجلى، أتذكر لاعبى الشطرنج فى ميدان واشنطن بينويورك، وهو ميدان خاص قريب نسبيا من قريا جرينويتش (الحى اللاتينى النيويوركى) من جهة، وقريب من المدينة الصينية والحى الطليانى من جهة أخرى وحديقته المتميزة تتميز بالعروض المختلفة الجنسيات، والألعاب الراقصة والتلقائية، مما يذكرنا بحديقة المخبأ (هايدبارك) فى لندن، فيما عدا إدعاء الحرية للمجانين والأفاقين، وأنا أعجب بلاعبى الشطرنج، وأرفضهم، والذى يشاهد مجموعات الشطرنج من النحاس فى بيتى (من مختلف البلاد) يحسبنى من محترفيه، والواقع أنى أقتنيها تحت زعم أنها مصنوعة باليد، لأتأمل الفروق بين الجنود والملوك والحاشية فى سائر البلاد لكنى أرفض لعبة الشطرنج التى تمثل عندى إختزال العقل البشرى إلى ما يمثل جانبا حاسبا من نشاط العقل الدائرى المغلق، وأذكر أنى أحببته حتى كدت أتقنه فى فترة من فترات حياتى، ولكن ذلك كان تحديا لوالدى الذى حرم دخوله منزلنا، وكان يصفه بأنه “نجاسة خنازير”، لأنها تفوق “النجاسة الكلابى”، ومرة رأيته يطيح بقدمه بلوحة شطرنج ضبطها بمنزلنا، بكل ما عليها، ومن عليها، ولم أفهم سر ذلك أصلا، فرحت ألعب وأحاول أن أتقن، ولكنى حين كبرت وتأملت، وعلمت أن زوج عمتى يتقن هذه اللعبة ويمارسها ويكاد يحرز فيها بطولات، تصورت أنه قهر والدى بها ذات يوم، فكان ما كان، ذلك أن والدى كان من لاعبى الدومينو المميزين، فلماذا هذا التحيز؟ وحين كبرت أكثر سألته مباشرة عن سر كرهه للشطرنج، فأجاب بأنه طاقة عقلية مهدرة، قال يعنى!!، وكم من طاقات عقلية تهدر، وعندما كبرت أكثر فأكثر، بدأت أستوعب جوهر موقفه دون موافقة على ظاهر سلوكه، وجعلت أتصور أن كثيرا من البحث العلمى، بل والنشاط التعليمى، ليسا إلا نوعا من لعب الشطرنج الذى ينبغى أن يرفض أصلا باعتباره “طاقة عقلية مهدرة”.
……. …….
…… …….
ونعود من نيس وقد جعنا، وتهف رائحة الحساء على أنوفنا فتثير حساسية خاصة لدرجة أن يحك البعض جلده، ويمسح البعض أنفه، وتكاد تدمع عيون الباقين، ويذكر الأصغران أنهما لمحا مطعما صينيا بالقرب من المخيم، وأنا عندى نقطة ضعف تجاه أى شئ صينى، وتجاه مطاعمهم بالذات، فأعزمهم على العشاء احتفالا بالاستقرار، ولكن بشرط أن أدفع لكل منهم ثمن الطبق الرئيسى فقط، أما أى زيادة – بما فى ذلك السلاطة والحلو – فعلى حسابهم، وأنا أعلم مسبقا أن ثمن طبق السلاطة قد يفوق ثمن الطبق الأساسى، ويقبلون، ولكنهم يبرون أنفسهم بطلبات إضافية بدرجة جعلتنى أندم على العزومة ما داموا هكذا قادرين، ويقرؤون ذلك فى عينى، وعلى طبقى الرئيسى اليتيم حيث تصورت أنى حين ألتزم سيتلزمون، لكنهم أفهمونى أنهم سيضحون بوجبتين كاملتين مقابل التمتع باللحظة خارج نطاق الحسابات، ويداخلنى خوفى المتربص بى أن أكتشف، بما يؤولون إليه، زيف كل ما أدعى، وهذا هو التحدى الأعظم: أولادى: وكيف يكونون من قضايا العدل والناس، والعمل والإبداع.
وأنا لا أعتبر هذا التحدى مشكلة فردية، ولكنه اختبار حى لترجمة الكلمة إلى تجسيد واقعى فمن لا ينجح فى أقرب الأقربين لابد وأن يراجع نفسه، قد دأبت على دراسة ما أرسل لهم، من “رسائل أخرى” لا أدرى تفاصيلها، وإنما يلتقطها الأولاد، دأبت على دراسة نتاجئها فى سلوكهم، فإذا بهم أحيانا يكونون عكس كل ما أقول، ويخرجون لى – بذلك – ألسنتهم وأنا أواصل زعم إصلاح الناس، وأنا كثيرا ما أرى بعض أصحاب المبادئ من خلال ذويهم، أعذرهم تارة ( وعلى نوح السلام) وأتهمهم تارة (لماذ يا سيدنا غاندى؟)، ولا أبرئ نفسى، وربما كان هذا سبب تكرار كتابة وصيتى، أو تسجيلها صوتيا، وإعادة تعديلها بتغير الظروف، ولكن هذا حديث آخر، لعل هذه الانطلاقات والاستطرادات تسمح بالعودة إليه فى فصل تال.
* * *
[1] – بتسكين الواو وكسر الحاء : تورطت الماشية (!!) وقعت فى موحل أو مكان لا يخلص منه.
[2] – بكسر الميم (ما يعبر بنه من قنطرة أ سفينة) وفتحها (الشط المهيأ للعبور).
[3] – ياسف لهذا الخاطر، ولكنه ألح، فطردته الى الهامش فلا تقرأه يا من لا تريد، فالشفاء هنا يتعلق باتمام عملية بيولوجية حيوية، هى من نعم الله التى تساوى بين الناس، حيث يخرج من كل الناس، ما هو مثل كل الناس (زى الناس) بغض النظر عن نوع المأكولات، وثمنها، وطريقة طهيها، ومقدار “الدعم” فيها!!!
[4] – انظر الفصل الثالث، الانسان والتطور، العدد الثانى والعشرين، (ابريل 1985) ص 117.
[5] – انتحر جيم جونس مع مئات من أتباعه من رجال ونساء وأطفال احتجاجا على المجتمع، وصرخة فى وجهه، و…غير ذلك!!
[6] – فكتبت فى ذلك شعرا قد ألحقه بالملحق إذا تم هذا العمل، وكان عنوان “حوار مع موجة حانية فى بحر هائج”.