جريدة التحرير
22-10-2011
تعتعة التحرير
وصيـة!!
حضر إلىّ وهو فى كامل لياقته الجسدية،، وطلب منى شهادة أنه فى كامل قواه العقلية. قلت له إن طلبه غير مشروع، لأن الأصل أننا جميعا فى كامل قوانا العقلية، حتى يثبت العكس، وشرحت له أننى شخصيا لا أحمل مثل هذه الشهادة، بل إن رئيس الجامعة، ورئيس الوزراء، ورئيس المجلس العسكرى، وشيخ الجامع الأزهر، والبابا شنودة لا يحملون مثل هذه الشهادة”، لكنه اصر أنه كمواطن مصرى، وأننى كطبيب مصرى، من حقه علىّ ما دام قد دفع الكشف، أن أستجيب لطلبه ما دام سيدفع رسوم الشهادة ليحصل على تقرير بحالته الآن، بغض النظر عن موقفى الشخصى أو موقف رئيس الوزراء أو شيخ الأزهر، فاعتذرت له من جديد مع استعدادى لرد الكشف، لكنه أصر على أن الكشف من حقى ما دام قد أخذ منى هذا الوقت المخصص للكشف، ثم أكمل حديثه بتخييرى أنه علىّ : إما أن أكتب اسم المرض الذى يعانى منه الآن كما أرى من خلال علمى وخبرتى، أو أن أقر أننى لم أجد به أى مرض يحول دون ممارسته حقوقه المدنية والقانونية والإنسانية”. بصراحة، أحرجنى، فسألته بضعة أسئلة من التى نسألها للمرضى الذين يحضرون للاستشارة، عن انتظامه فى عمله، والنوم، والعلاقات، والأفكار، فأجابنى إجابات شديدة الدقة والحبكة والواقعية، أكاد أجزم أننى لا أستطيع شخصيا أن أجيب بمثلها، حتى كدت أحسده على تماسكه وحكمته ومعلوماته، وحين رأى الدهشة على وجهى، أشفق علىّ، وسألنى بدوره: هل وجدت أى شىء يدل على أن بى أى مرض نفسى أو عقلى؟ فنفيت بالطبع، وهممت أن أقول له أنه لا بد من بعض الاختبارات التى ربما تكشف ما تحت السطح، بل، ومادام مصرا، ربما احتاج الأمر أن يوضع تحت الملاحظة حتى أتأكد أن حالته السليمة جدا هذه ليست إفاقة عابرة من مرض متقطع، وهنا تغير وجهه، ثم تماسك يسألنى هل وضعونى شخصيا تحت الملاحظة قبل أن يسمحوا لى بممارستى مهنتى؟ فأحرجتُ، ولم أعرف كيف أرد بسرعة، لكننى وجدت مخرجا أحرجه من خلاله كما أحرجَنى، فاستحضرت عدوانيتى، وقلت له إننى مستعد أن أكتب له شهادة لن ترضيه، لأننى سوف أكتبها بما يخص وقت الفحص فقط، بمعنى: إن فلانا كان سليما وقت الكشف عليه إكلينيكيا يوم كذا، الساعة كيت، حتى الساعة كذا، وأن هذا لا يعنى أنه كان سليما طول عمره قبل هذا الوقت، ولا أنه سوف يحتفظ بقواه العقلية لأية فترة مضمونة بعد مغادرته عيادتى”، فوجئ الرجل، ونظر فى الأرض، ووصلتـْه عدوانيتى وأنا أدافع عن موقفى بما يشبه العلم، فأشفقت عليه، وسألته إذا ما كان هناك من أقام عليه دعوى تُشكك فى قدرته على ممارسته حقوقه المدنية والقانونية مثلا، وأكملت : مثل وجود ورثة يخشون على ميراثهم من كتابته وصية لمن لا تستحق مثل زوجة جديدة فاتنة صغيرة أو شيئا من هذا القبيل، ثم أضفت “أنه لو كان الأمر كذلك….”.، وقبل أن أكمل سألته عن عمره فقال لى : خمّن أنت، ألست طبيبا حاذقا ومشهورا، قلت له : لقد جاوزتَ الستين على الأقل، قال : نعم ؟ نعم!، كنت أحسبك أحذق من ذلك، نعم لقد تجاوزتُ الستين ولكن بأكثر من عشرين سنة”، ارتفعت حواجبى دهشة، وخجلت من ضعف مهارتى، ربما خدعنى الشعر الأسود، لكن المسألة ليست مسألة صبغة شعر، إنه يبدو – كما قلت – فى كامل لياقته الجسدية، وها هو يبدو فى كامل لياقته العقلية أيضا وهو يحكم على مهارتى المهنية وحذقى أفضل من حكمى على نفسيته وقدراته العقلية، وقد لمحت أنه لاحظ دهشتى، فمضى يحاول من جديد أن يقنعنى بطلبه، مضيفا أن أحدا لم يشكك فى قواه العقلية أو يحاول أن يحرمه من حقوقه، إلا هو نفسه، فقد شك –شخصيا- فى أنه لم يعد من حقه أن يتصرف فيما له وما عليه كالعقلاء، اندهشت، ومع ذلك صدّقته، وحين سألته عن السبب، قال إنه كتب وصية وهو فى محبسه، وحين قرأها شك فى قواه العقلية، فأخذ إذنا من المسئولين ليحضر إلىّ يستشيرنى، ثم أضاف أنه من عجب أنهم أذنوا له دون حراسة، ويبدو أنه لاحظ دهشتى، وقرأ الأسئلة فى داخل ذهنى : محبس ماذا؟ وإذن ماذ؟ وحراسة لماذا؟ لكننى لم أسأله أيا من هذه الأسئلة، لأن خاطرا آخر خطر لى يمكن أن يعيننى على حسم الموقف، وهو أن أطلب منه أن يطلعنى على وصيته إذا سمح بذلك، ربما ينجلى الموقف، ويبدوا أنه كان مستعدا لهذا الطلب، فبادر وأخرج ورقة مطوية فى جيبه، وناولها لى دون تردد، فقرأتها بهدوء وهو يلاحظ وجهى، وكان هذا نصها :
“أقر أنا فلان الفلانى، المولود فى تاريخ كذا شهر كيت سنة كذا، فى قرية مصرية جميلة، أقر وأنا فى كامل قواى العقلية، بعد أن انتبهت إلى أننى أحب هذا البلد أكثر من أى شىء آخر، حتى أكثر من أحفادى، أقر أننى أخطأت فى تسيير حياتى الخاصة والعامة أخطاء كثيرة وجسيمة ، لم تكن مقصودة أغلبها، لكنها فى حدود قدراتى، لكن يبدوا أن المسألة تسحبت منى ببطء وتسلسل وأنا لا أدرى، حتى حدث ظلم كبير، وقهر خبيث، لأغلب الناس الذين كنت مسئولا عنهم، ويبدو أننى كنت قد نسيتهم كما نسيت نفسى، خوفاً وخيبةً معا، إلى أن صُدمت بما لم أتوقع، فقررت أن أوصى بكل ما أملك، وتملك أسرتى،– وقد وكلونى بتوكيلات رسمية- فى الداخل والخارج أوصى به حالا وبعد موتى لأصحاب الاحتياجات الخاصة، على أن يقوم من آلت إليهم ثروتى وثروة أسرتى تحديدا بإدارة شؤون البلاد تصحيحا لما اقترفتُ وإحقاقا للحق، والله ولى التوفيق. هذا علما بأننى لا أطلب مقابل ذلك لى أو لأىٍّ من أفراد أسرتى إيقاف المحاكمات الجارية، لأننى واثق من عدل قضائنا العملاق، ورحمة ربنا” التوقيع (والرقم القومى).
طويتُ الورقة، وعدت أنظر ناحيته، فوجدت أنه اختفى من الحجرة تاركا الوصية بين يدى، فدققت الجرس وسألت الممرض أن يدخل من عليه الدور ما دام قد خرج من كان عندى دون استئذان، فأخبرنى أنه لم يدخل أحد بعد أن طلبت منه أن يتركنى لأغفو غفوتى القصيرة جدا التى تعيدنى إلى نشاطى عادة لأكمل العيادة
فحمدت الله وسألته الستر.