الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى أحلام فترة النقاهة (الحلقة الثانية) (الحلم 1)

قراءة فى أحلام فترة النقاهة (الحلقة الثانية) (الحلم 1)

“يوميا” الإنسان والتطور

18-10-2007

نجيب محفوظ: قراءة فى أحلام فترة النقاهة (الحلقة الثانية)

(تذكرة بالحلقة الأولى) (الحلم 1)

نص الحلم (2) 

دخلنا الشقة .. الفتاة فى المقدمة وأنا فى أثرها والبواب يتبعنا حاملا الحقيبة، الفتاة على صلة بى مؤكدة وكأنها (ولكنها) (1)غير محددة. تركنا ترتيب الأشياء ودلفت الى الشرفة المطلة على البحر سابحا فى آفاقه غير المحدودة منتعشا بهوائه الرطيب منتشيا بهديره المتقطع، وإذا بصرخة تنطلق من الداخل فهرعت نحوها فرأيت الفتاة منكمشة مذعورة والنار تشتعل فى أعلى الباب وقبل أن أفيق من الصدمة دخل رجل صلب الملامح كأنما قدت من صخر وبإشارة من يده أنطفأت النار وتحول ذاهبا وهو يقول:

–   ربما انقطعت المياه بعض الوقت،

–   وغمرنى الارتياح فلم ابال بشئ.

غادرت الحجرة قاصدا السوبر ماركت لأبتاع بعض التموين المناسب.. ولما رجعت وجدت باب الشقة مفتوحا والبواب واقفا فدخلت إلى الحجرة قلقا فوجدتها عارية إلا من بقجة منتفخة بالملابس ملقاة على الارض وذراع بيجامتى يتدلى من فتحة فى رابطتها ولا أثر للفتاة فسألت:

ماذا جرى؟

فأجابنى البواب

– حضرتك أخطات الطريق وهذه ليست شقتك فأشرت إلى ذراع البيجاما وقلت:

– هذه بيجامتى

فقال الرجل بهدوء:

– يوجد من نوعها آلاف فى السوق

وملت إلى الاعتقاد بالخطأ متذكرا أنه توجد ثلاث عمارات متشابهة فى صف واحد وهبطت السلم بسرعة وفى الطريق رأيت الفتاة فى طرفه المفضى إلى ميدان مكتظ بالسيارات والبشر، فجريت نحوها حتى أدركها قبل أن تذوب فى الزحام.

***

القراءة

الفتاة فى المقدمة، وهو فى أثرها، والبواب يتبعهما حاملا الحقيبة،

 دخل الجميع الشقة بهذا الترتيب،

لا يبدو فى الأمر أى احتمال أن يكون ثَمَّ نداءُ من جانب الفتاة يجذبه إليها، كما كنا نسمع عن جذب النداهة للمارة على الترعة،

إلا أن: الصلة مؤكدة، لكنها (كما قرأتها) غير محددة،

 فضلت أن أتصور أنها “لم تتحدد بعد”.

حضرتنى هذه البداية بمثابة نفىٍ لأسطورة النداهة بعد أن  شوهتها العلاقات المعاصرة الفاترة الخالية من السحر والجذب الغامض، ذلك النداء السِّرى، المُغْرى، القوى، الواعد، برغم خطر المجهول، لابد وأن يختفى مع هذا التتابع المصفوف، برغم الفتاة فى المقدمة.

ومع ذلك فثم يقين بعلاقة ما ، برغم غموضها. يقينٌ دون جذب أو وعود.

الجذب كان للراوى دون الفتاة وإلى الطبيعة، مهملاً أو متجاوزاً فتور نداء الفتاة الذى لم يظهر حتى الآن، الجذب كان إلى المطلق، إلى البحر “سابحا فى آفاقه غير المحدودة”، منتعشا بهوائه الرطيب، سابحا فى آفاقه غير المحدودة“، هذا التجاوز إلى  المطلق كَشَفَ أكثر فأكثر فتور النداء الغائب إلى الأخرى (الآخر) تلك التى حلت محل النداهة، لتلغيها.

ظلت الفتاة فى الداخل بعيدا عن كلِّ من البحر وعنه، حتى أعلن الحريق انفصالها المذعور.

اجتمع الحريق فى معبر التواصل (أعلى الباب)، مع انطفائه بأمرٍ من ذلك التصلب الصخرى المتمثل فى الرجل صلب الملامح، والذى أطفأ الحريق بإشارة من يده، فاستغنى – ربما بتصلبه – عن ماء المحاياة الذى انقطع حتى قبل أن نحتاجه لإطفاء الحريق.

ينتهى الفصل الأول هذه النهاية التى سحبت صاحبنا من حواره مع المطلق، وفى نفس الوقت جمَّدت الحركة، ولوَّحت بزوال خطر التواصل مقابل انقطاع الماء والتصنيم، فهو الانشقاق النمطى الساكن الذى يتغذى باللا مبالاة كأنها الراحة (وغمرنى الارتياح، فلم أبال بشىء)،

فإلى السوبر ماركت،

 ليعود، فلا يجد من نفسه المتميزة، إلاَّ آثاره التى لم تعد متميزة،

 هذا البحث عن معالم الذات التى تصبح بلا معالم خاصة (يوجد من نوعها آلاف فى السوق) يرجع فى سعيه للآخر، إلى بحثه الأول عن ذاته، ليست تلك التى كادت تذوب  إيجابيا فى المطلق (البحر سابحا فى آفاقه) والتى أَجْهَضَتْ ذوبانها صرخةُ مسِخ النداهة العاجزة الفاترة الفاشلة، ولكن ذاته المغتربة اللامبالية، الرتيبة التى عادت تتسوق فى السوبر ماركت ، لتصبح مثلها مثل الآلاف التى فى السوق، بل ويصبح المحيط هو هو حيث العمارات متشابهة أيضا .

……..

لكنها ليست النهاية، فطالما أن ثمة حياة ، فثم نداء ونداء ونداهة، لكنها تبدو أكثر نشاطا، وأجمل وعداً وسط زحام الواقع بالبشر والسيارات، شوقا إلى آخرٍ حقيقى محاورٍ متوجه هذه المرة إلى شرفة أجمل، وبحر أكثر رحابة، وأوسع آفاقا.

 هذا الانجذاب إليه “معا، تتابعا أو سحراً، أو انتشاراً هو ما يميز سعى الإنسان المتصل إلى الاستجابة لندّاهة لا تفصله عن المطلق، ولا تختفى فتبهت ذاته فتصبح بلا معالم مثلها مثل أى ذات، ملقاة فى شقة فى عمارة مثل العمارات،

 لكنها نداهة أخرى تسرى بين الناس، وسط الزحام، تظل تعد جاذبة وهى تنادى، وهو يتبعها،

لينتهى الحلم: لا هو يلحق  بها

ولا هى تختفى

لا هو يهملها إلى الشرفة حين يجذبه المطلق

ولا هى تنكمش من حريق فاصل، ينطفئ بأمر متصلب، جنبا إلى جنب مع انقطاع المياه

……

إن ما يحافظ على العلاقات البشرية الحقيقية، ليس تحقيق التواصل بقدر ما هو استمرار السعى وسط الناس، مع الاحتفاظ بالمسافة تضيق لتتسع.

فإن كان ثَمَّ توجهٍ إلى المطلق، فليكن “معا إليه”.

وإلا

فالحريق، فالجمود، فاللاماء، فالضياغ، فالنمطية

ها هى الحياة تُواصِلُ حفز سعينا  إلى بعضنا البعض، وسط الزحام “إليه”.

***

ملحوظة: لم نعد بأن نواصل لا نقد “الأحلام”، ولا “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” بانتظام متلاحق، لكن شيخنا حاضر يوم الخميس دائما،

 أطال الله عمره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *