الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / لغة الطبقة “البيئة”، والقيم اللاأخلاقية فى الأمثال الشعبية

لغة الطبقة “البيئة”، والقيم اللاأخلاقية فى الأمثال الشعبية

“يوميا” الإنسان والتطور

الثلاثاء 17-10-2007

لغة الطبقة “البيئة”، والقيم اللاأخلاقية فى الأمثال الشعبية

مقدمة:

من بين المصادر التى يمكن أن تؤدى بنا إلى بعض ما نتصوره قد “حدث للمصريين” خلال لا أعرف كم سنة !!! وكلام من هذا، أن نقف وقفة موضوعية أمام مايسمى “اللغة الشبابية” السائدة حاليا (أو لغة الطبقة “البيئة” عموما) . إن الموقف الفوقى من هذه اللغة يعمينا عن دلالتها التى قد تشمل بعض الإيجابيات الخليقة بالنظر والمراجعة.

منذ حوالى عامين:  فى ندوة كنت مسئولا عنها (مع د. نبيل على) عن “اللغة والثقافة العلمية” فى المجلس الأعلى للثقافة قدمت ورقة عن “حركيه اللغة بين الشعر والشارع” عرضت فيها رأيى من أنه من المناسب أن نقارن دور الشعر بقدرته على شحن الألفاظ القديمة المعتادة من خلال تشكيلاته البديعة وموسيقاه وصوره، أن نقارن هذا الدور- من حيث المبدا– بما يقوم به الشارع المصرى عامة، والشباب خاصة، هذه الأيام  وهم يقتحمون أصنام الألفاظ ليخلـّقوا منها لغتهم السريعة الغريبة (علينا) يحركون بها جمود الألفاظ  الباهتة، ويرفضون تصنيمها أو خوائها.

العجيب فى أمر الرافضين لهذه اللغة الجديدة أنهم يضمون مختلف الفئات من الصفوة حتى المحافظين مرورا بأهل الفن (الراقى) والمثقفين المكتبيين والأكاديمين طبعا، وغيرهم. يحدث هذا واللغة الفصحى تتدهور تحت سمع وبصر كل هؤلاء، ولا يثير فيهم هذا التدهور رفضاً فموقفاً حاسما مثلما تثيره اللغة الشبابية/البيئة اياها.

ثم خذ عندك هذا الأسى الذى يصاحب هذا الرفض دون تحفظ لهذه اللغة الجديدة، حين يترحم الرافض أوالناقد على لغة زمان، وذوق زمان، ورقة زمان، وأدب زمان.

فى ملف الأخلاق الذى أشرت إليه أول أمس (الإنسان والتطور 2000- 2001)  قدمنا عددا من الأمثال الشعبية التى بها جرعة من الأخلاق السلبية التى لا نتوقف عندها عادة ونحن نضرب الأمثال أو نستشهد بها، وها نحن نقوم بإيجازها وتحديثها لنربط بينها وبين اللغة/البيئة/الشبابية.

 إن المثل الشعبى ليس له مؤلف كما نعلم، وإن كان يمثل جزءا من التراث الشعبى، فهو إفراز لمرحلة من الوعى الشعبى ليست قصيرة فى العادة، وفرق بين التراث الشعبى، والوعى الشعبى، وكلاهما من مصادر المعرفة المتعددة المناهل. ففى حين يرتبط التراث الشعبى بالأمثال العامية والملاحم المحكية، وبعض الأساطير، يمثل الوعى الشعبى حركية ثقافة العامة وهى تتحرك وتتخلق ويعاد تشكيلها باستمرار، نحن نتعلم من التراث الشعبى الذى ألفه الناس عبر التاريخ ماذا كان مما قد يكون ممتدا حتى الان، ونتعلم من النظر فى الوعى الشعبى هنا والان “ماذا يحدث”، والربط بين المصدرين قد يفيد فى الكشف عن بعض ما “حدث” و”ما يحدث” فى اٌن، فإذا كانت الأمثال الشعبية تعطينا مثلا لما كان سائدا من توجهات ومواقف وطباع وأخلاق لفترة ليست قصيرة حتى استقر المثل الشعبى واستمر وطال عمره إلى أن وصَلَنَـا، فإن اللغة الشبابية تعطينا حركية الشارع الآن  بين الشباب خاصة، ولا سيما من ينتمون إلى الثقافة التى أطلقوا أو أطلقنا عليها لفظ “البيئة“، بما فى ذلك ثقافة الإدمان.

قبل أن أنتقل لفحص بعض عينات اللغة الشبابية كعلامة على ما “يحدث للمصريين”، قلت أعرض بعض الأمثال الشعبية التى شاعت من قديم، والتى أفرزها الوعى الشعبى المصرى خلال حقبة من الزمن لا نستطيع أن نحددها لا توقيتا ولا مدة. أعرض هذه الأمثال التى بها دعوة لعدد من المواقف والتصرفات والأحكام اللاأخلاقية يتضاءل معه ما نتهم به اللغة الشبابية، أو لغة “البيئة”،  السائدة بيننا اليوم.

بديهى أننى لا أدافع عن هذه اللغة الجديدة على طول الخط، لكننى أحاول أن أتذكر، وأذكـِّر، أن هذا الموقف الفوقى لحركية وعى الشارع وهو يتحدى، ويخلق لغته، ويصنع ثقافته، لن يفيد لا فى فهم ما يجرى، ولا فى الإسهام فى الإحاطة به وتوجيهه إن لزم الأمر، أو استطعنا.

بعض الأمثال الشعبية اللاأخلاقية

الشائع عادة عن الامثال الشعبية أنها حكم رصينة، ونقد ذاتى وتهذيب وإصلاح، دون إغفال دورها فى تصوير سلبيات فترة معينة من الزمن، أو ترجيح قيم سادت فى مرحلة ما من مسيرة الواقع، ترجيحا لا يعنى بالضروره الموافقة، ولقد سبق أن  نبهنا مراراً فى باب “مثل وموال” الذى انتظم فتره طويلة فى مجلة الإنسان والتطور أن الاستشهاد‏ ‏بالأمثال‏ ‏ليس‏ ‏دعوة‏ ‏لتطبيقها بما هى كما هى‏. ‏بل قد يصل الأمر إلى أن‏ ‏يكون‏ الاستشهاد بالمثل هو ‏تنبيه ‏لتطبيق‏ ‏عكس‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ‏المثل‏، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏كشفا‏ ‏لأمر‏ ‏يجرى ‏بشكل‏ ‏ملتبس‏، ‏فيعريه‏ ‏المثل‏. ‏ومع‏ ‏ذلك‏، ‏فكثيرون‏ ‏منا‏ ‏يتصورون‏ ‏أن‏ ‏للأمثال‏ ‏قيمة‏ ‏أخلاقية‏ ‏إيجابية‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنها‏ ‏قد‏ ‏تفيد‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏معان‏ ‏سلبية‏، ‏بل‏ ‏وقد‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏الحفز‏ ‏إلى ‏ممارسة‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏السلبية‏، ‏مثل‏ ‏الدعوة‏ ‏إلى ‏قبول‏ ‏الذل‏، ‏أو‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏التمييز‏ ‏الطبقى ‏أو‏ ‏العنصرى، ‏أو‏ ‏تشويه‏ ‏صورة‏ ‏الذات‏ ‏الوطنية‏ ‏أو‏ ‏القومية، أو إهانة المرأة وتحقيرها.

إن‏ ‏الوعى ‏الجماعى ‏قد‏ ‏تبلغ‏ ‏به‏ ‏القسوة‏ ‏مبلغا‏ ‏لا‏‏أخلاقيا‏ مما ‏ينبه‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يجمع‏ ‏عليه‏ ‏الناس، أوأغلب الناس، ‏هو‏ ‏أفضل‏، ‏أو‏ ‏أصدق‏، ‏أو‏ ‏أرحم‏. ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏يكون‏ ‏أقرب‏ ‏للصواب‏ ‏أحيانا‏ ‏كثيرة‏.  ‏نتذكر‏ – ‏مثلا‏ – ‏محاكمة ‏الحلاج‏، ‏والقاضى ‏يتذرع‏ ‏بحكم‏ ‏العامة‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏استدرج‏ ‏الحلاج‏ ‏حتى “يبوح‏”، ‏لكى ‏يصدر‏ ‏فيه‏ ‏ما‏ ‏قرر‏ ‏ودبر‏ من حكم بالإعدام ‏متذرعا‏ ‏بحكم‏ ‏العامة‏، ‏نذكر‏ ‏كيف‏ ‏ينهى ‏عبد‏ ‏الصبور‏ ‏مسرحيته‏ ‏الرائعة‏ ” ‏مأساة‏ ‏الحلاج‏” ‏بتذكيرنا‏ ‏بقسوة‏ ‏المجموع‏. (‏أنتم‏ ‏حُكِّمْتُم فَحَكَمْتُم‏).  نتذكرالآن ونقارن كيف تطور تشويه الوعى العام بألعاب المال والدعاية لتشكيل وعى أغلب الناس لتخليق قيم استهلاكية، حتى يكاد يصل الأمر إلى تخليق غرائز استهلاكية جديدة تتناقلها الأجيال لترويج سلعة، أو تعميق أيديولوجية، لا تخدم إلا طبقة منفصلة عن كل ما هو أخلاق، بل عن كل ما هو فطرة ، أو قوانين بقاء (هذا، ناهيك عن تشكيل الوعى العام لتبرير الظلم والقتل وتمادى الإبادة).

سوف نقدم فيما يلى عددا من الأمثلة التى اعتبرناها تمثل “الجانب الآخر من الأمثال الشعبية، أعنى الجانب اللاأخلاقى بشكل أو بآخر، وذلك تمهيدا للنظر بعين موضوعية لما نسميه اللغة الشبابية/ البيئية، فيما بعد (فى هذه اليومية غالبا).

‏1-“أصل‏ ‏الشر‏ ‏فعل‏ ‏الخير‏”

هذا‏ ‏مثل‏ ‏يبدو‏ ‏شديد‏ ‏الغرابة‏، ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقول؟‏ ‏

هل‏ هو ‏يَنْهى ‏عن‏ ‏فعل‏ ‏الخير‏ ‏أم‏ ‏يشكك‏ ‏فى ‏جدواه؟‏ ‏هل‏ ‏يريد‏ منا ‏أن‏ ‏نقتل‏ ‏بعضنا‏ ‏بعضا‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏ينقلب‏ ‏الخير‏ ‏شرا‏؟

 ‏أين‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏‏من المثل الذى يمثل عكسه تماماً وهو الذى ينبهنا‏ ‏ألا‏ ‏ننتظر‏ ‏العائد‏ ‏السريع‏ ‏لفعل‏ ‏الطيب‏. ‏ذلك‏ ‏المثل‏ ‏الجميل‏ ‏الذى ‏يقول“إعمل‏ ‏الطيب‏ ‏وارميه‏ ‏فى ‏البحر‏”.‏

‏2-“إضرب‏ ‏البرئ‏ ‏لما‏ ‏يقر‏ ‏المتهوم‏”

‏المثل ينبهك ألا‏ ‏تتردد‏ ‏فى ‏ضرب البرئ، برغم أنك تعرف‏ ‏أنه‏ ‏برئ‏، وليس حتى متهما يمكن أن تثبت براءته، أو أنه يضرب حتى يقر بذنب لم يرتكبه، هذا المثل يوصى بضرب البرئ وهو يعترف أنه برئ منذ البداية، لماذا؟ حتى ‏يقر‏ ‏المتهوم‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يأتى ‏عليه‏ ‏الدور فيعذب كما رأى البرىء يعذب أمامه ؟ ياه !!‏ برغم أننا  ‏لا‏ ‏نعرف حجم ولا مدى‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏من تعذيب فى سجوننا وأقسامنا هذه الأيام، لكننى أتصور أن التعذيب قد يقتصر على المتهم، أو حتى يمتد إلى أهله لتعذيبه عن بعد، لكنه متهم على أية حال، ولكنه – التعذيب – ربما لا يركزَّ هكذا بوضوح على البرىء كما يقول المثل (لست متأكد).

‏3- “‏إطعم‏ ‏مطعوم‏ ‏ولا‏ ‏تطعم‏ ‏محروم”

سبق‏ ‏أن‏ ‏فسرنا‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏تفسيرا‏ ‏إيجابيا‏،(‏الإنسان‏ ‏والتطور‏: ‏العدد‏ ‏الثالث‏ ‏والعشرون‏ ‏لسنة‏ 1985). ‏وقد‏ ‏بدا‏ ‏ذلك‏ ‏التفسير‏ ‏للكثيرين‏ ‏تعسفا‏. ‏عرضنا‏ ‏آنذاك‏ ‏تبريرا‏ ‏أو‏ ‏تفسيرا‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المثل قد‏ ‏لا‏ ‏يوصى ‏بإطعام‏ ‏المطعوم‏ ‏دون‏ ‏المحروم‏، ‏ولكنه‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏الحرمان‏ ‏تجعل‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يُلقى ‏إلى ‏المحروم ‏ ‏يختفى ‏فى ‏دوامة‏ ‏طلب‏ ‏المزيد‏، ‏حيث أن‏ ‏المحروم‏ ‏لا‏ ‏يقدّر‏ ‏ما‏ ‏يُعْطَى، وهو لا يشبع مهما أعطى، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏تذوق‏ ‏طعم‏ ‏ما‏ ‏يعطى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقدره‏، ‏فيرتوى ‏به‏ ‏إذ‏ ‏يكتفى ‏بالقدر‏ ‏المناسب‏.

كثير من القراء والاصدقاء اعتبر هذا التفسير تعسفا وتبريرا لحرمان المحروم، وتدعيما للموقف الظالم ‏بأن‏ ‏من‏ ‏عنده‏ ‏يُعطى ‏ويُـزاد‏، ‏ومن‏ ‏ليس‏ ‏عنده‏ ‏يهمل‏، ‏ويُـنكر‏، ‏ولو‏ ‏حتى مات‏ ‏جوعا‏ ‏واحتياجا‏.، هذا التفسير الأخير، الذى هو  تصحيح للتبرير المتقدم، لوصح ، فإنه يكون مثلا سيئا قاسيا ظالما قبيحا لاأخلاقيا، بلا شك.

4- اللى ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏العين‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏القلب

‏إن‏ ‏العلاقات‏ ‏الحقيقية‏ بين البشر ‏لا‏ ‏تشترط بالضرورة حضوراً عيانياً ماثلاً‏ ‏ ‏للآخر‏ ‏أمام‏ ‏”حواسنا‏” طول الوقت، ‏لكن المثل هنا  يشير إلى اعتبار أن ‏ ‏عواطفنا عادة ما نحتفظ بها  لمن يَمْثُلُ أمام حواسنا، دون غيره، إن ‏العلاقة‏ ‏الحقيقية‏ ‏هى ‏رحلة‏ مستمرة ‏بين‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏، ‏بين‏ ‏الماثل‏ ‏فى ‏وعينا‏ ‏والمثير‏ ‏لأحاسيسنا‏ وبالعكس.

المثل‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏العلاقات‏ ‏مرتبط‏ ‏باللحظة‏ ‏الراهنة‏، ‏والصفقة‏ ‏الجاهزة‏، ‏مع‏ ‏إنكار‏ ‏أى ‏التزام‏ ‏ممتد‏ ‏أثناء‏ ‏الغياب عن الحضور الفعلى أمام الحواس “عينى عينك“، وأننا ننسى الغائب بما يؤكده مثل آخر يقول:“‏الغايب‏ ‏ما‏ ‏لوش‏ ‏نايب‏، ‏والنعسان‏ ‏غطوا‏ ‏وشه‏”، ‏ليستحوذ‏ “الحاضر‏” ‏على ‏المكاسب‏ ‏المادية‏، ‏والوجدانية‏ ‏معا‏ دون الغائب والنائم حتى لو كانوا أصحاب حق، أو أصحاب الحق!!!‏

5- اللى ‏يشبع‏ ‏بعد‏ ‏جُوعَهْ‏ ‏إدعو‏ ‏له‏ ‏بثبات‏ ‏العقل

يشير هذا المثل‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏شدة‏ ‏الحرمان‏ قد تكون من القسوة بحيث إذا زال هذا الحرمان بالإشباع، وهو لا يزول عادة، لا يحتمل المحروم أن يشبع، أو هو لا يكاد يصدق، حتى أنه يفقد‏ ‏توازنه‏ ‏خاصة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏لُوِّحَ‏ ‏له‏ ‏بارتواء‏ ‏ما، ارتواءٍ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ينتظره‏ ‏أى‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏حسبانه‏.

‏لا‏ ‏يخفى ‏من‏ ‏هذا المثل‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏إنكار‏ ‏حق‏ ‏الجائع‏ ‏أن‏ ‏يشبع‏، ‏إن‏ ‏المثل‏ ‏يستبعد‏ ‏أن‏ ‏يشبع‏ ‏مَنْ‏ ‏طال‏ ‏جوعه‏ ‏حتى يحمد ويتوازن، بل إنه يرجح ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏شبع ‏ ‏يُجَنّ‏: ‏إما‏ ‏لأنه‏ ‏لم‏ ‏يتوقع‏ ‏الشبع‏ ‏أصلا‏ ‏فهو‏ ‏لن‏ ‏يشبع‏ ‏مهما‏ ‏أكل‏، ‏وإما‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يشبع‏ ‏لأنه‏ ‏محروم‏. ‏وبالتالى ‏هو‏ ‏مثقوب‏ ‏لا‏ ‏يمتلئ‏، ‏‏(كما فى المثل قبل السابق) .

هناك‏ ‏مثل‏ ‏مواز‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يذكر‏ ‏بألفاظه‏ ‏الأصلية‏ ‏يقول‏ “زى ‏اللى ‏عمره‏ ‏ما‏ ‏شاف‏ ‏لحمة‏ ‏شاف‏ “لحم‏” ‏امه‏ ‏اتهبل‏”. ‏الهبل‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ‏المثل‏ ‏الحالى: إدعو له‏ ‏بثبات‏ ‏العقل‏”.‏

‏6- ‏إن‏ ‏جاك‏ ‏النيل‏ ‏طوفان‏ ‏حط‏ ‏إبنك‏ ‏تحت‏ ‏رجليك

هذه دعوة‏ صريحة ‏إلى ‏النجاة‏ ‏على ‏حساب‏ ‏أى ‏آخر‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ ‏هو‏ ‏ابنك‏ ‏شخصيا.

 لا‏ ‏يمكن‏ ‏التغاضى ‏عن‏ ‏ما‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏من‏ ‏واقعية‏ ‏مرة‏، ‏وهو‏ ‏يذكرنا‏ ‏بيوم‏ ‏القيامة‏، ‏يوم‏ ‏يفر‏ ‏المرء‏ ‏من‏ ‏أخيه‏، ‏وأمه‏ ‏وأبيه‏، ‏وصاحبته‏ ‏وبنيه‏، ‏لكن‏ ‏الفرار‏ ‏يوم‏ ‏القيامة‏ ‏شىء‏، ‏وأن‏ ‏يستعمل‏ ‏الواحد‏ ‏ابنه‏ ‏كأداة‏ ‏لنجاته‏، ‏إذ‏ ‏يضعه‏ ‏تحت‏ ‏قدميه‏ ‏ليطفو‏ ‏هو‏ ‏ولو‏ ‏قليلا‏، ‏ولو‏ ‏مؤقتا‏. ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏المعنى ‏السلبى ‏الذى ‏يشير‏ ‏إليه‏ هذا المثل.‏

 7- رب‏ ‏ابن‏ ‏ابنك‏، ‏وابن‏ ‏بنتك‏ ‏لأ

هذا‏ ‏المثل‏ ‏لا‏ ‏يشير‏ ‏فقط‏ ‏إلى ‏تفضيل‏ ‏الإبن‏ ‏على ‏البنت‏، ‏ولكنه‏ ‏أيضا‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏علاقة‏ ‏الملكية‏ ‏التى ‏تربط‏ ‏الإبن‏ ‏بأبيه‏، ‏وبعصبه‏، ‏دون‏ ‏البنت‏. ‏ويا‏ ‏ليت‏ ‏المسألة‏ ‏كانت‏ ‏قاصرة‏ ‏على ‏التمييز‏ ‏فى ‏العطاء‏، ‏أو‏ ‏الإرث‏، ‏أو‏ ‏الفرص‏، ‏لكنها‏ ‏تشير‏ ‏إلى “استخسار‏” ‏التربية‏. ‏والتربية‏ ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏الرعاية‏ ‏والإنفاق‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏القدوة‏ ‏والنصيحة‏، ‏والمثل‏ ‏ينهى ‏بشكل‏ ‏واضح‏ ‏عن‏ ‏الامتداد‏ ‏غير‏ ‏المشروط‏ ‏فى ‏جيل‏ ‏لاحق‏، ‏وأن‏ ‏شرط‏ ‏الرعاية‏ ‏التربية‏ ‏هو‏ ‏انتماء‏ ‏الذكور‏ ‏انتماء‏ ‏عصب‏ ‏مباشر‏، ‏هذا‏ ‏معنى ‏قديم‏ ‏يتردد‏ ‏بكل‏ ‏لغة‏ ‏يقوله‏ ‏شاعر‏ ‏الفصحي‏:

“بنونا‏ ‏بنو‏ ‏أبنائنا‏، ‏وبناتنا‏،              ‏بنوهُنَّ‏ ‏أبناء‏ ‏الرجال‏ ‏الأباعد‏”

‏ومع‏ ‏شدة‏ ‏قبح‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشعر‏ (‏والقبح‏ ‏بالقبح‏ ‏يذكر‏) ‏نلاحظ‏ ‏أن‏ ‏زوج‏ ‏البنت‏ ‏وأهله‏ هنا ‏أصبحوا‏ ‏يمثلون‏ “الرجال‏ ‏الأباعد‏”

8- على ‏ما‏ ‏تتكحل‏ ‏العمشة‏ ‏يكون‏ ‏السوق‏ ‏خرب

تتكرر‏ ‏الأمثال العامية‏ ‏التى ‏تهين‏ ‏القبح‏ ‏بقسوة‏ ‏أيضا‏، وهى تنكر أصلاً ذلك الجمال الكامن فيما يسمى قبحاً، ‏وكأن‏ ‏من‏ ‏حرم‏ ‏الجمال‏ ‏قد‏ ‏أذنب‏ ‏فى ‏حق‏ ‏قائل‏ ‏المثل‏. ‏ثمة‏ ‏أمثلة‏ ‏موازية‏ ‏تقول‏: إيش‏ ‏تعمل‏ ‏الماشطة‏ ‏فى ‏الوش‏ ‏العكر‏”، ‏وبدرجة‏ ‏أقل‏: “‏الحلو‏ ‏حلو‏ ‏ولو‏ ‏قام‏ ‏من‏ ‏النوم‏، ‏والوحش‏ ‏وحش‏ ‏ولو‏ ‏غسل‏ ‏وشه‏ ‏كل‏ ‏يوم‏”.‏…إلخ

9- لبـّس‏ ‏الاسمر‏ ‏احمر‏ ‏واضحك‏ ‏عليه

‏ ‏يقال‏ ‏إن‏ ‏الإنجليز‏ ‏وهم‏ ‏يحتلون‏ ‏السودان‏، كانوا ‏يـنعمون‏ ‏على ‏بعض‏ ‏الكبراء‏ ‏بحلة‏ ‏حمراء‏ ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏كذب‏ ‏عليهم‏ ‏حين‏ ‏يصورن‏ ‏لهم‏ ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏تغيير‏ ‏الملبس‏ ‏هو‏ ‏تكريم‏ ‏لهم‏ ‏وإيهام‏ ‏بمساواة‏ ‏ما‏. ‏وواضح ما فى هذا المثل من تمييز عنصرى، وامتهان، واستعلاء، واستهانة. على أن لهذا‏ ‏المثل‏ ‏تطبيق‏ ‏معاصر‏ ‏يجرى ‏حالا‏ ‏حين‏ ‏يلبس‏ ‏الناس‏ “اللى ‏فوق‏” ‏بعض‏ ‏الشعوب‏ ‏الإفريقية‏ ‏بعض‏ ‏مظاهر‏ ‏المدنية‏، ‏مثل‏ ‏فرض‏ ‏لغة‏ ‏فرنسية‏ ‏عليهم‏، ‏أو‏ ‏تصوير‏ ‏ما‏ ‏يمارسونه‏ ‏من‏ ‏قبلية‏ ‏مقاتلة‏ ‏على ‏أنها‏ ‏ديمقراطية‏ ‏حديثة‏، ‏أو‏ ‏تصدير‏ ‏بعض‏ ‏قشور‏ ‏الإنجازات‏ ‏التقنية‏ ‏للاستعمال‏ ‏الاستهلاكى ‏الضحل‏، ‏كأن‏ ‏الشكل‏ ‏الحضارى ‏يتحقق‏ ‏بمجرد‏ ‏استعمال‏ ‏أدوات‏ ‏تشبه‏ ‏ما‏ ‏يستعمله‏ ‏المتحضرون‏.‏

وهناك‏ ‏تطبيق‏ ‏أخفى ‏يتم‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏نشر‏ ‏الأبحاث‏ ‏العلمية‏، ‏حين‏ ‏يصورن لنا‏ ‏أن‏ ‏النشر‏ ‏فى ‏مجلات‏ ‏عالمية‏ ‏هو‏ ‏اعتراف‏ ‏بقيمة‏ ‏البحث‏ ‏العلمية‏، ‏ومن‏ ‏ثَمَّ‏ ‏فنحن‏ علماء ‏مثلهم، يا فرحتى!، والدليل هو أنهم سمحوا لنا أن‏ ‏ننشر‏ ‏عندهم‏!! ‏والأمر ليس‏ ‏كذلك‏ تماما ‏فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏.‏

أيضا‏، ‏يحدث‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏تولية‏ ‏بعض‏ ‏علماء‏ ‏العالم‏ ‏الثالث‏ ‏أو‏ ‏الرابع‏ ‏مناصب‏ ‏قيادية‏ ‏أو‏ ‏شبه‏ ‏قيادية‏ ‏فى ‏المؤسسات‏ ‏والجمعيات‏ ‏العالمية‏، ‏إما‏ ‏لأن‏ ‏الدور‏ ‏قد‏ ‏جاء‏ ‏على ‏قارة‏ ‏إفريقيا‏ ‏مثلا‏، ‏وإما‏ ‏لأن‏ ‏هناك‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏الظهور‏ ‏بمظهر‏ ‏المساواة‏، ‏وكلام‏ ‏من‏ ‏هذا‏.

‏وهنا‏ ‏تصبح‏ ‏الصورة‏ المكافئة ‏المعاصر‏ة ‏للمثل‏ ‏تقول:‏ “لبس‏ ‏الإفريقى ‏أو‏ ‏الأسيوى، ‏منصبا‏ ‏رئاسيا‏، ‏واضحك‏ ‏عليه‏”.‏

تقوم‏ ‏أيضا‏ ‏شركات‏ ‏الدواء‏ ‏بتزيين‏ ‏بعض‏ ‏الوجوه‏، وتقديمهم‏ ‏لأنفسهم‏ ‏وللمجتع‏ ‏العلمى ‏والمجتمع الطبى‏ ‏العالمى، ‏باعتبارهم‏ ‏روادا‏ ‏فى ‏مجالهم‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏يصدقوا‏ ‏أنفسهم‏، ‏هات‏ ‏يا‏ ‏ضحك عليهم، وعلينا‏، ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏نصب‏.‏

10- لولاك‏ ‏يا‏ ‏لسانى ‏ما‏ ‏انسكيت‏ ‏يا‏ ‏قفاى

يتضمن هذا المثل ‏ ‏دعوة‏ ‏صريحة‏ ‏للنفاق‏ والصمت الجبان، ‏وهى ‏ليست‏ ‏دعوة‏ ‏للتحلى بالصمت الحذر‏، ‏أو‏ ‏للتحفظ‏ ‏فى ‏الكلام‏، ‏فإن‏ ‏الذى ‏يـسك‏ ‏على ‏قفاه‏ ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏نطق‏ ‏برأى ‏أو‏ ‏إشار‏ ‏بمشورة‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏سكوته‏ ‏حكمة‏، ‏وحسابات‏. ‏

11- جور‏ ‏الغـز‏، ‏ولا‏ ‏عدل‏ ‏العرب

كلمة‏ ‏الغز‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏الأصل‏ ‏تطلق‏ ‏على ‏الأتراك‏، ‏ثم‏ ‏امتد‏ ‏معناها‏ ‏إلى ‏التمييز‏ ‏الطبقى ‏بصفة‏ ‏عامة‏.

‏ ‏لاأخلاقية‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏لا‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏التمييز‏ ‏الطبقى، ‏أو‏ ‏التفرقة‏ ‏الإثنية‏، ‏ولكنها‏ ‏أيضا‏ ‏تكمن‏ ‏فى ‏تفضيل‏ ‏الرضا‏ ‏بالذل‏ ‏من‏ ‏سيد‏ ‏لأنه‏ ‏سيد‏ ‏بأصله‏، ‏عن‏ ‏العدل‏ ‏من‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏. ‏إن‏ ‏شيوع‏ ‏ثقافة‏ ‏الذل‏ ‏والرضا‏ ‏بالظلم‏ ‏من‏ ‏أى سلطة سواء كانت سلطة‏ ‏السادة‏، ‏أو‏ ‏الطبقة‏ ‏الأعلى، أو المستعمر، أو أى شيخ أو كاهن. قبول الظلم ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏قبيح‏ ينبغى أن يرفض بغض النظر عن مَنْ هو الظالم.

12- إن‏ ‏قابلك‏ ‏الاعمى ‏خد‏ ‏عشاه‏، ‏مش‏ ‏حا‏ ‏تكون‏ ‏أرحم‏ ‏ماللى ‏عماه

هذا‏ ‏مثل‏ ‏يبدو‏ ‏لى فى ‏منتهى ‏القسوة‏، ‏وهو‏ ‏يبرر‏ ‏التمادى ‏فى ‏ظلم‏ ‏الأضعف‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏يتطاول‏ ‏حتى ‏على ‏رحمة‏ ‏ربنا‏، وقد أزعجنى حتى أننى رفضت أن أضيف مزيدا من الشرح يبين مدى قبحه.

الخلاصة‏:

لعلنا نلاحظ ونستنتج من خلال كل ما تقدم:

أولا‏: ‏إن‏ ‏الوعى ‏الشعبى ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏شديد‏ ‏القسوة، وعلينا ألا نستسلم بسهولة لما يخرج منه حتى لو تعمَّق وتأصَّل واستمر فى “مَثَلٍ” أو “لغة جديدة” أو أسطورة أو غير ذلك.

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏الزعم‏ ‏بأن‏ ‏أهل‏ ‏الزمن‏ ‏الفائت‏ ‏قد‏ ‏يكونون‏ ‏أقل‏ ‏قسوة‏، ‏وأكثر‏ ‏حكمة‏، هو زعم مشكوك فيه.

ثالثا‏: ‏إذن: إن‏ ‏أى لغة فيها وفيها، خصوصا اللغة التى يفرزها الوعى العام، فى فترة بذاتها

رابعا‏: ‏إن‏ ‏تسجيل‏ ‏معالم‏ ‏القيم‏ ‏السلبية‏ ‏فى ‏مثـل عامى متداول‏، ‏أو‏ ‏قول‏ ‏شائع‏، ‏فى ‏فترة‏ ‏بذاتها‏، ‏لا‏ ‏يعنى ‏الإقرار‏ ‏بالمحتوى،‏ إنه نوع من ‏إعلان واقعٍ ما، وبالتالى هو يتضمن بالضرورة دعوة‏ ‏ لدراسة دلالات الذى يجرى حولنا، أو الذى وصل إلينا سواء كان مثلا شعبيا أو لغة شبابية أو رطانا مستوردا.‏

خامسا‏: ‏ومع ذلك فإن‏ ‏قسوة‏ ‏الوعى ‏العام‏ ‏التى لا يمكن إغفالها، لا يمكن اتهامها فى ذاتها لأنها قد تكون رد فعل دفاعى فى فترة من الزمن.

سادسا: إن هذا المدخل يدعونا للنظر فى دلالات لغة الشارع الجديدة بشكل أخر غير الرفض والحكم الفوقى على طول الخط.

وهذا ما سنعود إليه لاحقاً إن شاء الله وامتد العمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *