نشرت فى الدستور
10-12-2008
تعتعة
نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية
“أخلِق بذى الصبر أن يحظى بحاجته، ومدمن القرع للأبواب أن يلجا”.
أدمنتُ قرع كل باب منذ أرسلت الاقتراح بإصدار دورية فصلية متخصصة فى نقد أعمال نجيب محفوظ، أرسلتها للمرحوم أ.د. عز الدين إسماعيل بتاريخ أول نوفمبر سنة 1988، بعد تشريف جائزة نوبل بحصول شيخنا محفوظ عليها. أخيرا، وبفضل لجنة الحفاظ على تراثه وفضل الله، تقرر إصدارها حولية تمهيدا لأن تكون فصلية، على أن يتولى رئاسة تحريرها ذلك المثابر الشامخ المبدع الطيب القوى: جابر عصفور، كما يتولى سكرتارية تحريرها الإبن الناقد الملتزم د. حسين حمودة. يا خبر !!! الحمد لله! ها هى تظهر أخيرا بعد عشرين عاما بالتمام. طلب منى الإبن الصديق د. حسين حمودة أن أسهم فى العدد الأول بلمحة عما أعرفه عن أية بداية مارسها محفوظ وعايشتُها معه، فرأيت أن أقتطف مما كتبت لهذه الحولية بعض المقتطفات الدالة بمناسبة عيد ميلاده الموافق يوم باكر 11 ديسمبر 1911.
المقتطف الأول
… يراوغنا نجيب محفوظ عادة وهو يلوح لنا بأن ثمة نهاية، لكننا نكتشف دائما أنه لا ينتهى إلا ليبدأ.
المقتطف الثانى
….. المعروف عن نجيب محفوظ أنه شديد الانضباط فى حياته اليومية، وكأن اليوم يتكرر عنده بحذافيره، اكتشفت أنه ليس تكرارا وإنما هو محاولة إحاطة بقفز البدايات من محيط الإبداع,
نجيب محفوظ يبدأ جديدا فى كل ما يأتى ويبدع.
المقتطف الثالث
….. أتيح لى أن أرصد بداية من بداياته الجديدة القديمة، بداية معاودته الكتابة ضد كل التوقعات والحسابات العلمية والعملية، تعلمت ما لم أكن أتصوره، علما وواقعا. عايشته وهو يعيد تأهيل نفسه ليبدأ الكتابة من جديد حتى انتصر على الإعاقة بتدريب يومى طوال خمس سنوات، …..، فى السنة الأولى كنت أفرح فرحا لا يخفى حين أنجح أن أقرأ حرفا واحدا بين كل ما “شخبط”، بدأت الحروف تتميز فى شكل هلامى أسفل يسار كل صفحة. لم أسأله، تبينت بعد شهور طويلة أنه توقيعه، اسمه، لكن ماذا تحت ما يشبه التوقيع، أشكال أخرى ليست حروفا، وبعد شهور تبينت أنها أرقام. ثم بعد عام وبعض عام عرفت أنه تاريخ اليوم الذى كتب فيه “الواجب”. وكان يشاركنى فرحتى وأنا أبلغه بعض ما نجحتُ فى قراءته، أعنى كنت أشاركه فرحته، وحين استطاع بعد أكثر من عامين أن يكتب جملة على بعضها كان هذا هو عيدنا الكبير، ورحت أميز فى بعض الصفحات “رب اشرح لى صدرى”، “إن الله مع الصابرين”، “سبحان الملك الوهاب”، وكذلك: “سالمة يا سلامة”، “خفيف الروح بيتعاجب”، ثم لمحت اسمه أيضا ليس فى أسفل الصفحة، ما هذا؟ إنه يسبقه اسم آخر، آه!! هذا هو: إنها فاطمة نجيب محفوظ، أم كلثوم نجيب محفوظ، فأدعو لهما وله.
المقتطف الرابع
….. بعد مخاض طويل صعب، تمت ولادة الأولاد الحروف والبنات الكلمات، فبدت الأحوال جاهزة للتقارب معا لتصنع إبداعا جديدا، تيقنت أنه أصبح قادرا على أن يصوغ أفكاره هو، وليس فقط أن يخط اسمه أو اسم إحدى كريمتيه أو آية قرآنية كريمة، تأكدت أنه على وشك أن “يعملها”، تجرأت فسألته، هل ثم شئ فى الطريق؟ أجابنى مبتسما وهو يشير إلى دماغه أنه يشعر “بنغبشة” ربما يتمخص منها شئ ما، وقد كان، فكانت “أحلام فترة النقاهة”.
هذه الذرية الجميلة لم يكن يمكن حبسها فى حجرته أو أدراج مكتبه، فجاءت حفلة السبوع الجماعية صاخبة حين ظهرت أولى أحلام فترة النقاهة للناس فى مجلة أسبوعية (نصف الدنيا).
المقتطف الأخير
… حتى الموت لم يستطع أن يبلغنى منه أى معلم من معالم أية نهاية.
حين أشفق شيخنا علينا فلم يستأذننا وهو يختار أن يرجع إليه ليرضى “… وعجلت إليك ربى لترضى”، رضى الله عنه فرضىَ عنه، رحت أعيش جزع الفقد ولوعة الفراق، لكن لم يخطر ببالى أبدا أنها النهاية، أو أنه الموت أصلا، كان بداخلى يقين أنها ليست إلا بداية جديدة، فقط هى بداية معالمها ليست فى متناولنا “الآن”.
ينتقل الوعى الفردى إلى الوعى الكونى إلى وجهه الله تعالى، فأين النهاية؟!!
إلى هذه البداية كان شيخنا يسعى طول عمره حتى تحقق له ما أراد،
فإذا لم يكن فى مقدورنا أن نحيط بإبداعه الجديد هذا “الآن”، فلنشحذ أدوات كدحنا، ونحن نقتفى بداياته المتجددة أبدا، أعنى بداياتنا، ربما يصلنا بعض ما تيسر مما أراد توصيله بكل ما “كان” وما “فعل” و”يفعل” و”نفعل”..!!