الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ما زال “عم عبد الغفار” يعلمنا: (3-2)

ما زال “عم عبد الغفار” يعلمنا: (3-2)

“نشرة” الإنسان والتطور

10-12-2008

العدد: 467

السنة الثانية

ما زال “عم عبد الغفار” يعلمنا: (3-2)

بين الشارع الغابة، والبيت الرحم !!

(تثبيت “العلاقة بالموضوع” على الموقف البارنوى:”الكر- الفر”)

أولاً: وصلً بما نشر:

أشرنا أمس إلى ارتباط الذاكرة والتذكر، كممثل للنشاط المعرفى، بالعلاقة بالموضوع،

 وفى هذه النشرة اليوم سوف ننتقل للتركيز على نوعية العلاقة بالموضوع عند عم عبد الغفار، وكيف أنها شُحنت بنوعية “الكر والفر” من واقع الاشتغال بمهنة استلزمت هذه العلاقة، على حساب نموه، إذ حالت أن يتخطاها  إلى ما يليها من علاقات أرقى ، تلك العلاقات التى تبدو  أكثر تمييزا للعلاقات الإنسانية الجدلية الأصعب.

لا مفر من مرور موجز – مرة أخرى –  على  نظرية العلاقة بالموضوع وربطها بالنظرية التطورية الإيقاعية ، حتى يمكن تحقيق هذا الفرض المقدم لقراءة هذه الحالة على خلفية نظرية مناسبة.

تتدرج العلاقة بالموضوع  منذ داخل الرحم حتى النضج التكاملى على الوجه التالى:

1- تبدأ الحياة وليس ثم موضوع أصلا ، فهى مرحلة أنه : “لا موضوع” (وذلك منذ تواجدنا داخل الرحم، حتى بعيد الولادة: بأيام إلى أسابيع- مختلف عليها) وهذا ما يسمى الموقف الشيزيدى schizoid position

وهو وجود منغلق على ذاته، تتحدد علاقة الفرد فيه بما حوله باحتياجاته البقائية كائنا حيا فقط،   بغض النظر عن أى موضوع وجد أم انعدم خارجه.

2- بمجرد تميز ما هو “أنا” عن ما هو “لا أنا”، meó not me يبدأ إدراك العالم الخارجى، بدءا بالأم، تظهر الأم كموضوع منفصل عن الذات:  فهى الدهشة (البهْر orientation) وهى مصدر الخطر، فالحذر والتوجس، فالكر والفر، وهذا ما يسمى “الموقف البارنوى” Paranoid Position

وهو وجود بقائى أيضا، لكن فيه “آخر”، إلا أن هذا الآخر يمثل أساسا، أو تماما، مصدرا  للخطر، فتتحدد العلاقة به بآلية الهجوم والدفاع، أى الكر والفر!

3- بعد عام من العمر، أوبعض عام (إلى خمسة) يتميز الموضوع الخارجى كمصدر للحب والرعاية فالحفاظ على الحياة، وفى نفس الوقت، كموضوع يمكن أن يَهجـُـر ويتخلى، فهو التهديد بالهلاك، ومن ثم ينشأ موقف متداخل من الحب وتلقى الحب وتوقع الهجر، بما يترتب عليه من الوعى بألم العلاقة ، مع روعة استمراراها، وهذا ما يسمى الموقف الاكتئابى Depressive Position  

وهو وجود يتميز به الإنسان أكثر حتى ليعد من البعض بأنه ما يميز الإنسان بشرا أساسا، وفيه لا يتحقق الوجود إلا من خلال هذه العلاقة الجدلية بمن هو “آخر” فى نفس الموقف الإشكالى هذا .

تؤكد مدرسة العلاقة بالموضوع على هذه المواقف أساسا، ثم تطور منظوراتها من خلال تطور العلاقة بالأم، وكأن هذه العلاقة هى المسؤولة أساسا عن نمو الكائن البشرى، سويا أو معاقا أو مشروع مرض نفسى. وهى تتحدث بلغة التحليل النفسى المتجاوز للتحليل النفسى الفرويدى، فتتكلم عن آليات  احتواء الموضوع اللبيدى ، والموضوع ضد اللبيدى ..إلخ

إضافات وفروض النظرية التطورية الإيقاعية Evolutionary Rythmic Theory

    انطلاقا من نظرية العلاقة بالموضوع هذه التى خرجت من عباءة سيجموند فرويد معترفة بفضله، لكن ناقدة إياه باعتباره بيولوجيا من حيث تركيزه على الغرائز أساسا (وخاصة الغريزة الجنسية) أقول انطلاقا من هذه المدرسة ضد البيولوجية، لاحت لى صدق فروضها، لكنها منغرسة فيما هو بيولوجى بالمعنى الأشمل، المعنى الذى يتجاوز بيولوجية فرويد، وفى نفس الوقت لا يتنازل عن أن البيولوجى (وليس الكيميائى) هو أصل العلاقات وتطورها من منطلق تطورى. من هذا المنطلق بدأ تنظيرى لما أسميته حتى الآن “النظرية التطورية الإيقاعية”.

التعديلات التى أدخلتها على نظرية العلاقة بالموضوع لم تخل بتطور المراحل السابق ذكرها، وإن كان قد أصبح لها تطبيقات علاجية وتنظيرية خاصة ومختلفة إلى أقصى مدى، ثم جاءت الإضافات الحركية الجدلية من واقع النظر إلى هذه المواقع ليس باعتبارها مراحل نمو تحدث ونتجاوزها من واحد إلى آخر، ولكن باعتبارها آليات حياة يمكن أن نلجأ إليها دائما ما ظهرت الحاجة إليها

وفيما يلى بعض ذلك:

  1. يوجد الإنسان منذ هو خلية واحدة ملقحة،  وبه هذه  البرامج جميعا، بنفس الترتيب، إلا أنه ترتيب مبرمج أساسا من واقع  تطورى هيراركى متصاعد ، ويمكن أن نرمز لهذا الترتيب بالحروفS-P-D (ش.ب.ك = شيزيدى، بارنوى، اكتئابى) ، بمعنى أن نوع العلاقة بالأم ليس هو الذى يحدد – أساسا –  هذه المواقف الواحد بعد الآخر.
  2. يرجع هذا الترتيب الهيراركى إلى تاريخ تطور الحياة، حيث يمثل الموقف البارنوى أنواع الأحياء المستقلة بذاتها لذاتها، مثل الأحياء أحادية الخلية أو حتى قبل ذلك (إلى الفيروس)

    iii.  هذا التلاحق فى الأطوار هو بقائىّ حياتىّ، وبالتالى لا يوجد موقف أفضل من موقف إلا بما يتعلق بمدى التناسب مع  المرحلة التى تنشط فيها آليات أحد هذه البرامج، لتلائم احتيجات  الموقف الخاص الذى أثارها، والذى طلب تنشيطها

  1. بناء على ذلك يظل الإنسان يترجح ذهابا وجيئة بين كل هذه المواقف طول حياته، دون إعادة حرفية، هذا  إذا ما استمرت مسيرة النمو فى التقدم
  2. معنى ذلك أنه باضطراد النمو، ترجح كفة برنامج عن الآخر، بمعنى أنه كلما ازداد الإنسان نضجا كان أقدر على التعامل بما أسميته “المخ الجدلى”، وهو حركية المخ التكاملى الأحدث، عن غلبة التعامل بالمخ “الكرى الفرى” (البارنوى)، أو المخ “المنفرد المستغنى” (الشيزيدى)
  3. نظرا للزوم كل أنواع العلاقات لممارسة الحياة الإنسانية باعتبارها تجميع تصعيدى نمائى لكل مراحل الحياة، فإن التكيف، والنمو أيضا، يتمان من خلال نشاط آخر يسمى “برنامج الذهاب والعودة” طول الوقت. In-and-our program  ،والمقصود بهذه التسمية لهذا البرنامج هو أن النمو لا يسير باضطراد خطى، وإنما بحركية لولبية إيقاعية، ذهابا وجيئة، شريطة أن تكون حصيلة الذهاب والعودة هى لصالح التقدم نحو تكامل النمو.

   vii.  تتم حركية الذهاب والعودة من خلال نبضات الإيقاع الحيوى، الذى تتمثل أهم تجلياته فى دورات النوم واليقظة، وأيضا فى التبادل الإيقاعى بين نوم حركة العين السريعة ، والنوم الخالى من   هذه الحركة (من الأحلام)

  viii.  لظروف تنشئة معينة، قد يتوقف النمو أو يبطء عند مرحلة معينة من هذه المراحل، أو قد ينسحب إلى إحدى هذه المراحل، فتنشط وتطغى آلياته على كل ما عداها، ولا تعطى فرصة للتناول الإيقاعى، ولا للجدل التكاملى،  ولا يعود الإيقاع الحيوى، ولا برنامج الدخول والخروج قادر على تحريك النمو بالدرجة الكافية إلى الاتجاه الصحيح، يتم ذلك على حساب المراحل البعدية أو حتى القبْلية، بشكل متزايد

………………….

أكتفى يهذا القدر من التنظير لننتقل إلى حالة عم عبد الغفار

التطبيق  فى حالة عم عبد الغفار

منذ سن الخامسة، أو قبلها،  نشأ عم عبد الغفار على عربة ابيه يجرها حصانه فى الشارع – كما بينا – من قبل : ” من البداية، كان الشارع بناسه وحركته وكرّه وفره وهو مع حصانه يحمل بضاعته، هو الموضوع الأول، وربما الأخير” نشرة(العربجى “النمر” والشارع: غابة الكر والفرّ)، لم يمثل البيت عنده إلا رحم أمه حيث أفرطت فى تدليله حتى كادت بذلك تسحبه إلى مرحلة سابقة، ولم يمثل أبوه آخر موضوعا آخر بالنسبة له، إذ لم يكن ثم خلاف أو اختلاف منذ البداية، بل لعل أبوه الطيب الرحيم كان يمثل له وهو بجواره على عربته الكارو نجاح أسلوب الكر والفر خارج البيت، وفى نفس الوقت كان يدعم بحنانه غير المشروط أن يصبح البيت بتدليل أمه هو الرحم الآمن ، لا أكثر، فأين الموضوع الحقيقى؟ كان الأب حنونا على صغيره المرافق له لا يرفض له  طلبا،  وهو نفسه الذى كانت حياته الحقيقية تجرى غالبا فى الشارع “كارا-  فارا” طول الوقت، ويبدو أن هذا لم يكن يشمله وحده، بل هى كانت ثقافة عربجية ناجحة ممتدة إلى إخوته الذين كانوا يمتهنون نفس المهنة ، عربجية،  وجاء موت الأب باكرا وعبد الغفار الطفل ما زال فى السابعة لينطبع (الأب) أكثر غورا فى كيان الطفل بما هو كما هو.

ظل عم عبد الغفار يكرس كل حياته ما بين الشارع الغابة، والمنزل الرحم، فلم تتح له فرصة تنمية علاقة جدلية مع آخر له بعض سمات ما أسميناه الموضوع البشرى  (كما بينا فى الحلقة السابقة فى الأسبوع الماضى (العربجى “النمر” والشارع: غابة الكر والفرّ).

زوجته تزوجها فى سن الثالثة عشر، ويبدو أنها حاولت أن تكون “مشروع موضوع” بحق، برغم صغر سنها، إلا أنها لم تكن بالنسبة له إلا أداة خدمة فى السرير والمطبخ، وبرغم أنها لم تشكو أو تقصر، إلا أنها لم تكن بالنسبة له  موضوعا أبدا، وحين انتهى عمرها الافتراضى-  من وجهة نظره، كما اسلفنا – وأصيبت بالسكر، لم تعد صالحة للاستعمال (ايضا من وجهة نظره) فلم يعد يطيقها، وهو لم يطقها أبدا من قبل إلا للذته، ثم  أكملت عليها أمه بالغيرة منها، فتحيز لأمه على طول الخط، جاءت الغيرة من الأم الرحم الممتكلة، وليس من الزوجة مشروع الموضوع المجهض.

الإخوة والأخوات لم يمثلوا أية موضوعات لعبد الغفار، وحين وصفته زوجته أنه

 “ما بيزعلشى أبدا على حاجة”،

 يبدو أن ذلك يمكن أن يفسر لنا عدم تأثره بفقد خمسة من إخوته الستة فى أعمار متفاوتة (24& 37& 20& 70& 60 ) وذلك بعد فقد أبيه وهو فى سن التاسعة.

ثم إنه كما ذكرت الزوجة لم يقابل تقرب إخوته له بمثله ، تقول الزوجة :

إخواته كانوا بييجوا يسألوا عليه، بس هو ما كانشى يسأل عليهم، ولا يزورهم”

عاش عم عبد الغفار هكذا:

الحياة معركة

والشارع غابة

والبيت هو الرحم (بيت أمه تحت مظلة أبيه الحانية حتى مات باكرا)

راح عم عبد الغفار ينتقل من الموقف البارنوى (الكر والفر) إلى الموقف الشيزيدى (اللاموضوع – فى ظل الهيدونيا اللاغية للموضوع: أمان الرحم)، وهو واقف فى مكانه !!

وكل ما عدا ذلك من بشر هم “للاستعمال الشخصى”،  يُستعملون من الظاهرن بدون عواطف، ولا علاقات ، فلا موضوع

ليس فى ذلك أى مرض، ولا أى عيب أخلاقى بالمعنى الشائع.

توقفه عند موقف الكر والفر جعل حياته كلها سلسلة من الهجوم والدفاع

الخسارة بمعنى توقف النمو واردة، لكنها ليست فريدة، ولا نادرة، بل يبدو أنها الغالبة

صبغت هذه الآلية الغالبة النابعة من الموقف البارنوى كل تصرفات عم عبد الغفار حتى بعيدا عن العربة والحصان والشارع :

تقول الزوجة:

“عبد الغفار طول عمره بيتخانق كتير فى الشارع ويضرب الناس بأزازة، بمطوة، أو بيسن الحدوة بتاعت الحصان ويحطها فى جيبه.

ولو حد حتى فى القسم قال له إوعى، يضربه على طول، على طول كان فى الأقسام وميهموش ومايندمش ابداً، وعمره ما يقول لحد معلهش.

– مرة دخل السجن خمستاشر يوم عشان عوّر واحد

– ومن أربعين سنة اتخانق مع واحد عشان حط عربيته فى الحتة بتاعته ، وراحوا المحكمة، وكانوا حايسجنوه.

ثم يبدو أن الزوجة قد فشلت فعلا – برغم جهودها حتى بعد دخوله الآن المستشفى- أن تثير فيه أى احتمال لعمل علاقة ما بغير الكر وافر

علاقة “الكر والفر” غير مرفوضة تاريخيا، بل يبدو  أنها العلاقة الأكثر تناسبا مع قوانين البقاء البدائية اساسا (مع أن هناك قوانين للبقاء يجرى اكتشافها مؤخرا تنفى أن تكون هذه العلاقة هى الوحيدة، أو هى الأرجح للبقاء)،

علاقة الكر والفر علاقة أيضا غالبة فى الحياة المعاصرة ، خاصة فى مجالات التنافس الاقتصادى، والإذلال السياسى، والاستغلال البشرى، وهى تظهر فى أبشع صورها أثناء الحروب الحديثة ، والمؤامرات الغالبة من الأقوى فالأقوى.

 فإذا كانت هذه العلاقة هى  التى حافظت على حياة عم عبد الغفار، فلا لوم عليه من حيث المبدأ، وعلى الآخرين، كما فعل أولاده غالبا باستقلالهم، وربما كما فعلت زوجته بالاستسلام المتألم ، أن يقرروا موقفهم من هذه العلاقة، ويدفعوا ثمن استمرارهم أو انسحابهم

نحن نعرض لهذه العلاقة الآن فى هذا المجال ليس لأنها دليل مرض فى ذاته، ولكن لنبين كيف أنها ليست مضمونة الاستمرار، ذلك أن توازن من اعتمد عليها وحدها (أو اضطر لذلك)  يختل بمجرد أن تختلف الظروف فلا تسمح باستمرارها (حدث ذلك فى هذه الحالة حين اضطر عم عبد الغفار للتقاعد) .

حين توقف عم عبد الغفار مرغما عن “عربجته” – بعد تكرار مصادرة عربته ، وتغريمه بما لم يعد يطيقه – ظل ثمان سنوات بلا أعراض مرضية صريحة، يبدو أن “موضوعات الداخل كانت من الحيوية بقدر ما كانت من التلاؤم مع شخصيته، بحيث لم تُضطر أن تقتحم وساد وعيه الظاهر طوال فترة الكمون هذه”

لكن حين زادت وحدته، وانصرفت عنه زوجته وقتا أطول فأطول بسبب مرض ابنته، وربما حالت أوجاعه الجسمية دون الحركة الطليقة إلى “الشارع الغابة ” – حتى بدون عربجته أو عربته – حين تجمع كل ذلك قفزت موضوعات الداخل لتغذى نفس الآلية: “الكر والفر”

قفزت اصوات “الرجالة والستات “

أنا بأسمع أصوات رجالة وستات” ،

والعفاريت

“… وباشوف عفاريت شكلهم زى البنى آدمين بالضبط، بييجوا فى أى وقت، ومرة واحد طلّع أيده من تحت السرير وقعد يمشى إيده على وشى وعلى دماغى،

وراجل دراعه طويلة

 وساعات باشوف راجل دراعه طويل حوالى مترين وبعد 10 دقايق يختفى.

ويبدو أن ذراع “الفر” فى مرضه كان هو الأكثر نشاطا من ذراع “الكر”، كما يظهر مما يلى:

الناس كلها بتتكلم عليّا، وبيضحكوا عليّا، وبيبصوا لى بصة غريبة”

وفى واحد فى الحارة عاوز يأذينى ودايما يشتمنى ورحت اشتكيت فى القسم، ولاَ سَأَلوا.

ذراع الكر كان يتمثل أساسا فى حالة الاستعداد الدائم “ستاند باى”،

كنت بأحط السكينة تحت دماغى وأنا نايم عشان أخوّف الشياطين

ومع ذلك ضحكوا عليه وسرقوا سلاحه ،

بس همّا سرقوا منى 3 سكاكين

أصبح منزوع السلاح فليس أمامه إلى “الفر..”

 (قارن حين كان يسن حدوة الحصان ويضعها فى جيبه استعدادا للنزال، حين كان يمارس العربجة، وربما البلطجة)

لكن زوجته تحكى عن هجوم مضاد لمقتحم غريب، لكن هذا المقتحم لم يكن صوتا، كان معزة جارهم بحق حقيقى ، تقول الزوجة:

واحد جارنا عنده معزة، دخلت الحوش عندنا، فهوه جرى وراها ومسكها وعض ودنها وقطع لها حته منها والمعزة قعدت تصرخ وطلعت جرى من عندنا

ظل الشارع يملؤه حتى وهو يؤدى العمرة، فحين كان فى الأتوبيس الذى ينقلهم أثناء العمرة، وبدلا من يعايش أن تظله الملائكة، أو يظله الرحمن بظله إذ لا ظلا إلا ظله، ظهرت له العفاريت بجوار الأتوبيس الذى ينقل المعتمرين، وكأن الأتوبيس – حتى فى العمرة- تحول إلى  عربته الكارو،

 وتقول زوجته:

ولما رحنا عمرة من سنتين كان بيقول إنه شايف العفاريت راكبة عجل، وماشية جنب الأتوبيس بتاعنا،

المعزة كانت حقيقية، لكن ثمة هلاوس حيوانية ليست مفترسة بالضرورة تقفز من داخله أيضا ، تقول زوجته:

من 5 أيام قالى إنه شايف ارانب كتير فى الأوضة مع إن ماكانش فيه حاجة.

كان بيحط سكينة تحت المخدة ويقوم بالليل يشوح بيها ويقول أنا عاوز أقتلهم، ولما يخرج يأخد السكينة فى جيبه علشان لما العفاريت تطلع له يموتهم.

وحين جرى إلى دكان ابنه بعد أن أشبعته العفاريت ضربا وهو وحيد فى حجرته، استغاث بابنه  الذى يعمل فى الدوكو، ويملك عربة أجرة يسيّرها لحسابه، لكنه يتنقل بموتوسيكل، جرى إليه يستغيثه، فأغاثه، وألحقه راكبا خلفه على  الموتسيكل واصطحبه إلى بيته فى ضواحى القاهرة.

يبدو أن ذلك أيقظ فيه المثيرات القديمة، فتراجعت الهلاوس، حتى إذا وصلوا المنزل لم تبق إلا الأوجاع البدنية من أثر الضرب،

 لكن لما وصلوا  إلى المنزل رفض أن ينام على السرير، مفضلا النوم على الأرض، وقرر ان ينام على الأرض الصلبة دون السرير الطرى، وقد أقر اثناء الحوار مع الطبيب كيف أن العفاريت تركبه – عادة أو غالبا – على السرير دون الأرض.

خطر لى أن من المحتمل أن تكون “الارض” سواء لفظا أو تجريدا،  هى أقرب إلى الشارع الملئ بالمثيرات المناسبة للموقف البارنوى ( الكر-الفر) ، فى حين أن السرير بمرتبته الطريه هو رحم زائف ، لم يعطه ما أعطاه رحم أمه المدلّع المحيط، وبالتالى فالأرض بعلاقتها بالشارع هى الأضمن لما تعد به من يقظة مناسبة ربما تحركت مع ركوبه خلف ابنه الموتوسيكل.

تعقيب ختامى

حين يكون الأمر كذلك، فما هو المفروض أن نقدمه لشخص فى هذه السن، بهذه التركيبة؟

بالنسبة لحالته شخصيا، فقد أظهرنا فى الحلقة الثانية (العربجى “النمر” والشارع: غابة الكر والفرّ) أن غاية ما يمكن هو تنظيم حياتى ملزم، يملأ ما تبقى من عمره بشكل آمن ولو قليلا، بالإضافة إلى محاولة تهدئة هذا الداخل الثائر بعد أن انقطعت مثيرات الخارج المحفزة .

هذا شخص قد عاش بآلية غالبة طوال  69 سنة (منذ بدأ  ركوب العربة مع أبيه سن خمس سنوات) إذ راح يتلقى العالم الخارجى فى شكل الشارع الغابة، يرتاح  منه بعض الوقت فى  الرحم البيت الأم

 ثم عاش ثمان سنوات مؤتنسا بالغابة داخله (الموضوعات المتربصة الكامنة )

وحين زادت الوحدة، وخفتت حدة مثيرات الخارج فى السنتين الاخيرتين قفزت موضوعات الداخل إلى وساد وعى اليقظة الظاهر (وأحيانا مستوى الوعى بين اليقظة والنوم)

 

لا يجوز أن نكتفى بأن ندمغه باعتباره أنانيا يدفع ثمن إلغاء كل من هو آخر يمكن أن يأخذ بيده ليتجاوز هذه المرحلة، لقد فات الآوان.

وأيضا يستحيل أن ندعه تحت رحمة هذا الداخل المنقض، حتى لو أدى إلى تماسكه بعض الوقت، وخاصة وأن صحته الجسدية أصبحت مهددة، وأيضا غلب عليه حزن حقيقى موضوعى لما آل إليه وهو فى هذه الحال.

لقد شرحنا ما يمكن ان نقدمه له عمليا فى الحلقة السابقة (الذاكرة والسن، والعلاقة بالآخر، والإرهاق الجسدى)، لكننا نعيد ذلك هنا الآن خشية أن يبدو فيما قدمنا نوعا من اللوم أو الرفض

إن ما يمكن أن نتعلمه هو أن ننتبه ، فى التربية والوقاية، إلى  أن نجاح آليات أقل نضجا فى الحفاظ على استمرار الحياة العادية ، ليس شهادة بأنها غاية المراد

ذلك لأنها متى انتهى عمرها الافتراضى، أو ظهرت ظروف جديدة لا تسمح لها بأن تمارس دورها بكفاءة كما كانت سابقا، اختل التوازن، وظهر المرض أو ما هو أسوأ.

 خاتمة

بقيت بعد ذلك مناقشة كيفية حضور هذا العالم الداخلى هكذا، تعويضا مرضيا، فى صورة الهلاوس والضلالت التى ظهرت،

 وبالذات فى أى مستوى من الوعى،

وما هى علاقة كل ذلك بما هو “حلم”، كما جاء تلميحا وتصريحا فى الحلقة الماضية.

وهذا ما سوف نتناوله فى الأسبوع القادم

ما أمكن ذلك

ربنا يسهل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *