الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ما زال عم عبد الغفار يعلمنا: (3-1)

ما زال عم عبد الغفار يعلمنا: (3-1)

“نشرة”: الإنسان والتطور

9-12-2008

السنة الثانية

العدد: 466

 

الحلقة الثالثة:

ما زال عم عبد الغفار يعلمنا: (3-1)

الذاكرة والسن، والعلاقة بالآخر، والإرهاق الجسدى

أولاً: وصلً بما نشر:

أشرنا فى الأسبوع قبل الماضى إلى أننا نتعلم من مرضانا ما ينبغى مجددا، وحاولنا تبيان ذلك من خلال عرض حالة كهل متقاعد، ثم قدمنا فى الأسبوع الماضى أغلب نص  الحوار الذى تم مع عم عبد الغفار بعد تقدمة تعرض  الرؤى والملاحظات  التى أدت إلى وضع فروض عاملة لقراءة الحالة، ومن بين ذلك تحديد ما نعنى بمصطلح “الموضوع”، وكيف أنه كل ما هو ” ليس أنا”، فمع بداية التمييز بين ما هو “أنا” Me ، وما هو “ليس أنا” Not me تبدأ العلاقة بالموضوع، وأنه  إذا وجد موضوع “حقيقى” فى مواجهة الوعى، فإنه يصبح هو المجال المناسب لاحتواء الطاقة الحيوية التى تنطلق منا لنشحن بها العالم الخارجى، فتربطنا به، “ذهاباً وإياباً”.

الفرض الذى اقترحناه لقراءة هذه الحالة، هو أن عم عبد الغفار نشأ منذ سن الخامسة فى الشارع فوق  عربة أبيه (العربجى، وكذلك إخوته العربجية أيضا)  ، فأصبح  الشارع بناسه وحركته و”كرّه وفره” وهو يتماهى متداخلا مع حصانه وبضاعته، أصبح الشارع بمحتواه كله هو الموضوع الأول، وربما الأخير، أما المواضيع البشرية الأساسية مثل أمه القوية المتحيزة التى دللته، وزوجتة الطيبة التى استعملها، ثم أولاده الذين استقلوا الواحد تلو الآخر، فقد كانت مواضيع تأتى فى المقام التالى، إنْ حضرت أصلاً فى وعيه بما هى، وحين غابت مواضيع الشارع، بما تحفزه من  الكر والفر، لم يجد حوله  موضوعات حقيقية بديلة  تملؤه، إذ يبدو أنها كانت موضوعات ذاتية:  “للاستعمال من جانبه”، فليس ثمة علاقة تكوّنت أصلا.

 حين حدث ذلك تحرك الداخل، فظهرت مواضيع الداخل بديلا مزعجا فى صورة الهلاوس والضلالات على مستويات مختلفة ، وانسحب وحيدا حزينا،

وبقدر ما حافظت موضوعات الشارع الحادة المزاحِمة المهددة المراوغة المتحدية على يقظة مشاعره، وحضور ذاكراته، حافظت الموضوعات المرضية التى قفزت من داخله على تماسكه، دون تدهور شديد فى قدراته المعرفية، لكنها لم تستطع أن تحول دون حزنه أو أن تخفف من وحدته .

ثم عرضنا أغلب  الحوار معه ووعدنا بالتعليق

من واقع النشر المسلسل، أتيحت لنا فرصة مراجعة وتعديل ما وعدنا به فى الحلقة الأولى، وسوف نعرض المسائل الثلاثة التى يمكن أن تتاح لنا إضافة بشأنها على حلقات متتالية كالتالى :

الحلقة الأولى (اليوم): الذاكرة والسن والعلاقة بالآخر، والإرهاق الجسدى

الحلقة الثانية: تثبيت العلاقة بالموضوع على الموقف البارنوى “الكر والفر”Paranoid Position (Fight-Flight)

الحلقة الثالثة: الحلم والجنون: موضوعات الداخل المتناوبة والبديلة

 الذاكرة والسن، والعلاقة بالآخر، والإرهاق الجسدى

سوف نعرض فى هذه الحلقة ثلاثة مقابلات تركز فيها الحوار على اختبار ظروف تذكر اسم المحاور (الطبيب) وعلاقة ذلك بالعلاقة التى تطورت بينه وبين عم عبد الغفار من ناحية، وأيضا تأثر ذلك بحالته الوجدانية من ناحية أخرى

المقابلة الأول: مقابلة التعرف الأولى بتاريخ 13 نوفمبر 2008

المقابلة الثانية: بعد أسبوعين من المقابلة الأولى بتاريخ: 27 نوفمبر 2008

المقابلة الثالثة: بعد مضى أسبوع من المقابلة الثانية بتاريخ: 4 ديسمبر 2008

ونرجو من خلال ذلك أن نتمكن من أن نلاحظ ما يلى :

  • إن تحفيظ عم عبد الغفار لاسم الطبيب دون علاقة كان صعبا فى البداية بشكل لو اكتفينا به لعللناه بالسن لا أكثر
  • إنه بمجرد أن تكونت علاقة بعد قليل من التعرف والاحترام والتنبيه ، اختلف الموقف واستطاع عم عبد الغفار أن يحفظ الاسم وقد أصبح يعنى عنده علاقة ما، مع شخص بذاته.
  • إنه بعد مرور أسبوعين كاملين، كان عم عبد الغفار ما زال متماسكا، وفى حالة مزاجية طيبة، فتذكر اسم الطبيب تلقائيا، بل وربطه بذكريات دالة من خمسين عاما، وذلك أثناء حوار متابعة قصيرة، تم تحت مظلة العلاقة التى أرسيت قبل ذلك بأسبوعين.
  • لكن بعد مرور أسبوع واحد من تلك المقابلة الثانية الدافئة، وكان المفروض – أو هذا ما توقعه الطبيب (شخصى)، أن تنمو العلاقة فتحتد الذاكرة أكثر، بعد أن أُثار الاسم ذكريات قديمة ارتبطت بالعلاقة الجديدة التى تتوثق، لكن الذى حدث هو أن عم عبد الغفار غلبه حزنه، وإنهاكه، وهلاوسه، فنسى اسم الطبيب بشكل لا يبرره السن وحده، ولا يتناسب مع ما سبق من إرساء علاقة وثيقة كان المتوقع أن تؤكد ما ظهر فى المقابلة الأولى.

.. من المقابلة الأولى: مقابلة التعرف بتاريخ 13 نوفمبر 2008

د.يحيى: أنا إسمى يحيي، وانا عرفت إسمك من الدكتورة ساندرا

عم عبد الغفار: أهلاً وسهلاً

د.يحيى: إسمى الدكتور يحيى

عم عبد الغفار: أهلاً وسهلاً

………….

التعقيب:

 أن تُقدم نفسك للمريض باسمك، خصوصا فى مثل هذه الظروف فى مستشفى بالمجان، حيث لم يحضر عم عبد الغفار بنفسه لطبيب بذاته، هو بداية نوصى بها لما فيها من محاولة تبادل الاحترام بإعلان معاملة الند إنسانيا، ليس معنى أن الأستاذ أستاذ أنه ليس شخصا عاديا  “له اسم”، تماما مثلما أن عم عبد الغفار له اسم، مثل هذا التعرف هو حق عم عبد الغفار ما دام الأستاذ قد عرف اسمه مسبقا.  ومع ذلك، يظل هذا التعريف والتعرف رسميا بشكل أو بآخر، ما لم يتقدم الحوار إلى ما يبشر بعلاقة أكثر حميمية وبساطة، علاقة تقول أن ثّمْ فرق بين يحيى ومحمود وعدلى حتى لو كانوا كلهم أطباء، وأساتذة! .

يحدث استطراد فى نفس الاتجاه، فثّمْ علاقة مفترضة قامت بين عم عبد الغفار والطبيبة التى فحصته عدة ساعات، وقامت برعايته عدة أيام، لكن يبدو أنها ظلت طبيبة أساسا، فلم يتقدم اسمها صفتها، نقرأ معا:

د.يحيى: شكراً جزيلاً، طيب عارف الدكتوره دى

عم عبد الغفار: أيوه

د.يحيى: إسمها إيه؟ أنا ما باسمعش  أوى،.. علِّى صوتك سنّه

عم عبد الغفار: (اسمها) سمر

د.يحيى: يا راجل تقعد معاك ساعات ماتعرفش اسمها صح…. طب ما تعرفش إسمى ماشى، إنما البنت الحلوه دى لأه، لكن قول لى هى حلوة صحيح

عم عبد الغفار: أميرة وبنت حلال

د.يحيى: هو أنا باسألك على أخلاقها، بقول لك حلوة؟

عم عبد الغفار: أميره وبنت حلال

د.يحيى: يا عم عبد الغفار يا متربى يا مؤدب، الدكتورة دى حلوة ولا مش حلوة 

عم عبد الغفار: حلوه وأميرة

د.يحيى: حلوه وأميرة احنا نأجل أميرة دلوقتى، هى حلوة ولا مش حلوة

عم عبد الغفار: حلوة

التعقيب:

 تحريك مشاعر عم عبد الغفار – حتى فى هذه السن- بالسماح له بالتعبير البسيط المباشر عن حضور المعالجة باعتبارها إنسانة لها حضورها الخاص، وشكل متميز والذى يمكن إدراكه قبل وبعد حضورها المهنى، بدا لى أنه قد يذيب رذاذ الثلج الرقيق المتمثل فى التأدب الزائد أو العادى الذى يمارسه هذا الكهل الطيب الذى لا تلزمه مهنته ولا طبقته الاجتماعية بالمغالاة فى مثل ذلك، طبعا فارق السن، ودرجة السماح، هما اللذان سمحا ببعض ذلك.

د.يحيى: يا رب يخليك يا عم عبد الغفار، أنا لسه كنت باقولهم إن أول لما حد يجى فى العيادة عندى ما أنا عندى عيادة بفلوس وبتاع

عم عبد الغفار: (مقاطعا) طبعاً

د.يحيى: ليه “طبعاً”؟ باين علىّ؟ المهم أنا أول لما حد ييجى لى من الجماعة الكبار اللى زى حضرتك يا عم عبد الغفار أبوس إيده، تحصلّى البركة، إذا كانت ست كبيرة أقولها إنت كنتى زمان قمر، واروح مكمّل: ودلوقتى أحلى، يروح وشها ينوّر مهما كان سنها،.. طيب قبل ما حضرتك تيجى هنا، ولا بلاش، أقولك حضرتك، مش لازم، ما احنا من دور بعض تقريباً

التعقيب:

تأكيد آخر يبين نموذجا للاستطراد فيما يميز الطبيب فى ممارسته، بما يشمل ضمنا تنبيها إلى “عادية المحادثة”، ما أمكن ذلك، هذا بالإضافة إلى ما يحمل هذا الاستطراد من احتمال تفسير السماح الذى لاح  فى الأفق ليذيب الثلج كما ذكرنا، وأيضا فيه تذكرة بأن تقريظ  الشكل بهذه البساطة هو أمر طبيعى لكل من عم عبد الغفار والطبيب على حد سواء.

د.يحيى: طيب بعد ما الدكتوره سمر، أقولك اسمها بحق وحقيقى على شرط ما تنساش زى ما نسيت اسمى دلوقتى يا عم عبد الغفار، بالذمة ده ينفع، طب اسمى إيه؟

عم عبد الغفار: أنا مش فاكر

التعقيب:

 فى هذه السن، وربما فى أى سن بدرجة أقل، ينشط نوع من “اقتصاديات الذاكرة”، بمعنى أن يخصص نشاط الذاكرة لما يهم صاحبها فى لحظة بذاتها، فطالما هى تتراجع حدتها مع تقدم السن، فإن الشخص يوفر طاقتها لما يقرر أن يتذكره، ليس قرارا إراديا طبعا، وإنما من واقع دلالة المثيرات، فاسم الطبيب تحديدا، مهما كان أستاذا أو أكثر أو أقل، لا يهم عم عبد الغفار فى البداية فى هذا السياق بالذات، المهم فى هذا المقام أنه طبيب كبير، وخلاص، لكن حين يتطور الحوار ليصبح بين شخص له اسم وسن وحضور، يمكن أن تقفز دلالة الاسم بغض النظر عن وظيفته أو صفته، يصبح شخصا يتميز باسمه بالإضافة إلى صفته (الطبيب الأستاذ)، وقد مضى الحوار فى اتجاه مزيد من تحديد العلاقة مع شخص بذاته يعمل طبيبا، وليس مع طبيب يمارس مهنته وهو  غير مُشَخْصَنَ بشرا بذاته.

عم عبد الغفار: أنا عندى 84 سنة مواليد 25

د.يحيى: وأنا من مواليد 33 يبقى عندى كام سنة إذا كنت ناصح، أنا من مواليد 1933 يبقى عندى كام سنة

عم عبد الغفار: يبقى 8 سنين

د.يحيى: 8 آه! طلعوا 8 سنين صحيح، 8 من 83 يبقى كام يا عم عبد الغفار؟

عم عبد الغفار: إحسب إنت بقى

د.يحيى: احسبها حاضر، أنا عندى 75 سنه، يعنى احنا من دور بعض، لكن بس أنت برضه الكبير

عم عبد الغفار: أيوه

د.يحيى: طيب بعد ما الدكتوره سمر، أقولك اسمها بحق وحقيقى على شرط ما تنساش زى ما نسيت اسمى دلوقتى يا عم عبد الغفار، بالذمة ده ينفع، طب اسمى إيه؟

عم عبد الغفار: أنا مش فاكر

د.يحيى: ماعلش، هوّا أنا ما استهلشى إنك تفتكرنى، ولا استاهل

عم عبد الغفار: تستاهل

د.يحيى: إمال نسيته ليه، حاقولك اسمى تانى، ولو نسيته يبقى أنا ما استهلش إنك تفتكرنى،  مش حاقدر أكمل معاك كده يا عم عبد الغفار بالود  اللى بدينا بيه ده، وانت ميت فُل كده، إنت عارف إنك زمان كنت حليوة ولحد دلوقتى، وكان الحريم مبسوطين منك، وكلام من ده، مش كده ولا إيه؟

التعقيب:

 التذكرة ، أو استجلاب ذكريات شبابية محتملة، فى شخص ما زال يحتفظ بوسامته فى هذه السن يمكن أن يساعد فى تبادل التبسط وتسليك أكثر لمسارات متعددة، تسهل تنمية العلاقة الهادفة

عم عبد الغفار: الله يكرمك

د.يحيى: هو أنا بامدحك!!؟ دا أنا باسألك يا عم عبد الغفار، مش فاكر ولا مكسوف؟

عم عبد الغفار: فاكر

د.يحيى: … كانت مشيتك فى الحارة اللى هىّ، وكانوا بيبصولك من ورا الشبابيك، أهو انت بتضحك اهه، يبقى حصل، طب وانا إيه اللى عرفنى إنهم كانوا ورا الشبابيك

عم عبد الغفار: كانوا بيبصوا لى صحيح، كانت عنيه دى خضرة، كانوا بيشاوروا علىّ، أى والله

د.يحيى: ما انا عارف، والدكتورة ساندرا عارفة

عم عبد الغفار: كانوا بيندهو لى علشان يبصولى

د.يحيى: اللى هما مين

عم عبد الغفار: الناس

د.يحيى: الناس ولا الحريم

عم عبد الغفار: الناس الحريم

د.يحيى: ما عَلِشِّ، ما عَلِشِّ، أهى جتلك ساندرا، مش سمر، عماله تحب فيك من غير أى حاجة

عم عبد الغفار: أميرة

د.يحيى: أميرة برضه يا أخى؟ إديها كلمة من اللى هى بتبشبش الستات دى، إيه رأيك؟ يموت الزمار وصباعة بيلعب، مش كده؟ وبعدين دى بنتك، أو بنت بنتك

عم عبد الغفار: طبعاً

د.يحيى: صح، طيب نتنقل لموضوع تانى، لكن قبل كده نعيد تانى: أنا اسمى أيه؟

عم عبد الغفار: نسيته برضه

د.يحيى: كده برضه؟ ده يصح؟

عم عبد الغفار: نسيته

د.يحيى: الدكتور إيه

عم عبد الغفار: نسيته علشان مخى “مش عليّه”

د.يحيى: يمكن مخضوض من اللمّة دى والتصوير، معلهش، عندك حق، حاقلهولك تالت مرة اشمعنى أنا ما نسيتش إسمك يا عم عبد الغفار هما الـ 8 سنين يعملوا كده برضك؟ إنت مخك زى الألماظ حسب الكلام اللى كتبته الدكتورة

عم عبد الغفار: الله يخليها

د.يحيى: عم عبد الغفار

عم عبد الغفار: أيوه

د.يحيى: حاقول لك إسمى على شرط ما تنساهوش المرة دى

عم عبد الغفار: طيب

د.يحيى: ولو نسيته؟!!! أنا اسمى يحيي، اشمعنى يا خويا فاكر إسم رئيس الوزراء قلت “أحمد بيه حاجة”، وتيجى لحد اسمى ومش عارف، أنا اسمى إيه بقى؟

عم عبد الغفار: يحيى

د.يحيى: قول تانى

عم عبد الغفار: يحيى

د.يحيى: أيوه كده وإذا نسيته بعد كده

عم عبد الغفار: لأ خلاص بقى

د.يحيى: مخك بقى “عليك” دلوقتى

عم عبد الغفار: أيوه، يحيي

د.يحيى: بعد شويه حاسألك تانى اسمى أيه

عم عبد الغفار: يحيي

ثم إنه لم ينس الاسم بعد ذلك طوال المقابلة التى استعرقت حوالى ساعة

التعقيب:

نكتشف حتى الآن ما يلى:

أولا: أن الطبيب المجهَّل الاسم هو مهنى أكثر منه بشر مُشَخْصَن (موضوع)

ثانيا: أن إذابة الثلج فى أول مقابلة، تحتاج نوعا من الحوار المتسم بدرجة ما من الجسارة الحذرة

ثالثا: أن الاستطرادات المتعلقة بالموقف، وليس بالضرورة بالفحص الآنى، حتى تلك الاستطرادات  الخاصة بالطبيب بعيدا عن موقف التقصى، قد تفيد أيضا فى إذابة الثلج

ثالثا: أن الذاكرة فى هذه السن، وربما فى أى سن، هى انتقائية اقتصادية

رابعا: أن استجلاب ذكريات طيبة، جنبا إلى جنب مع تنشيط عملية التذكر حاليا، يغذيان بعضهما بعضا

خامساً: خطر ببالى خاطر لست متحمسا له، وهو الموضوع الذى أثاره “جاك لا كان” بوجه خاص، حول دور “اسم الأب” فى النمو (وأضيف أنا هنا: وفى العلاقة) الخاطر يقول: إنه مع تطور تنمية العلاقة من دور مهنى جاف، إلى دور أبوى فيه هذه الدرجة من السماح، لبس الطبيب دور الأب، وأصبح تذكر اسمه أو نسيانه (انظر المقابلة الثالثة) له دلالة “لاكانية” بشكل أو بآخر، علما بأن ما كان يعنيه لاكان، كان يترجح بين دور “اسم الأب” ودور “نفى” الأب حيث تنطق لفظ الاسم بالفرنسية Nom كما ينطلق لفظ النفى “لا” Non .

المقابلة الثانية: بتاريخ: 27 نوفمبر 2008 بعد أسبوعين من المقابلة الأولى

أثناء لقاء إكلينيكى تال بعد أسبوعين من اللقاء الأول، لفحص حالة أخرى، شاهد الأستاذ عم عبد الغفار يسير فى الممر أمام حجرة اللقاء، فطلب مقابلته للتحية والتتبع، فجرى اللقاء على الوجه التالى:

عم عبد الغفار: ( يدخل نشطا فرحا): السلام عليكم، ازيك يا دكتور، صباح الخير

د.يحيى: صباح الفل عليك، ازيك يا عم  عبد  الغفار، تعالى ازيك

عم عبد الغفار: الله يخليك

د.يحيى: لو كنت نسيت اسمى بقى حايبقى حق عرب، حق عرب بصحيح

عم عبد الغفار: آه الرخاوى طبعا

د.يحيى: الله يفتح عليك، ايه ده!! دا انت جبتها من الآخر،  دا انا على ما حفّظتك اسمى المرة اللى فاتت دوختنى، دلوقتى فات أسبوعين وفاكر اسمى، وبتقول “طبعا”

عم عبد الغفار: لأنى سامع الرخاوى من 50 سنه فاتوا، كانت قامت معركه زمان مع الجزارين فى المدبح

د.يحيى: يخرب بيتك انا مش من الرخاوى بتاع المدبح

عم عبد الغفار: آه

د.يحيى: بس انت ربطها برخاوى المدبح، إمال المرة اللى فاتت كنت مزرجن ليه؟! أصل يا عم عبد الغفار فيه رخاوى فى السويس  ورخاوى فى مصر الجديدة، غير اللى فى المدبح، وانا  مش من الـتلاتة  دول،  شوف المرة اللى فاتت قعدت احفظك قد ايه فى الرخاوي، يحيى الرخاوي، المره دى رحت هوبْ ناطقة زى الصاروخ،  الله يفتح عليك، ازيك ؟

التعقيب: يلاحظ هنا كل مما يلى:

  • أن المقابلة تمت بعد أسبوعين دون أى تذكرة بالمقابلة الأولى
  • أن المبادأة كانت من المريض سواء بالسلامأم بالتحية
  • أنه تذكر الاسم تلقائيا بدءا باللقب “الرخاوى”
  • أنه ربط بين اللقب وبين ذكريات قديمة منذ خمسين سنة، لم تخطر على باله فى المقابلة الأولى

كل ذلك يشير إلى انتقائية الذاكرة، وأنه قد استطاع أن يحتفظ فى ذاكرته القريبة بالاسم، دون تدعيم، وأن قدراته المعرفية ما زالت قادرة على التربيط بكفاءة تكاد تكون أعلى من المتوسط، بما يشير إلى أن المقابلة الأولى قد نجحت فى أن ترسى علاقة ما، حافظت على الذاكرة ونشّطت التربيط.

(ثم تواصل الحوار هكذا 🙂

د.يحيى: …..، ….. رحت هوبْ ناطقة الصاروخ،  الله يفتح عليك، ازيك ؟

عم عبد الغفار: الله يخليك

د.يحيى: والله وحشتنى

عم عبد الغفار: الله يحفظك

د.يحيى: باكلمك جد

عم عبد الغفار: الله يخليك

د.يحيى: طب انا وحشتك؟

عم عبد الغفار: طبعا

د.يحيى: لأ مافيش طبعا،  يا وحشتك يا ما وحشتكش، من غير طبعا

عم عبد الغفار: وحشتنى صح

د.يحيى: طب سألت عنى

عم عبد الغفار: إنت سألت عني؟ 

د.يحيى: انا .. يعنى بصراحة افتكرتك، ما انا باجى من الأسبوع للأسبوع، والأسبوع اللى فات ما جيتشى، كان عندى ظروف واعتذرت.

عم عبد الغفار: انا كـِيعانى بتنشر عليا، مش قادر أمسك حاجه بيها

د.يحيى: يا جدع انت صلى على النبى مش وقته إحنا فى كيعانك ولا فى اللى كنا فيه 

عم عبد الغفار: ضهرى واجعنى رجليا واجعانى

د.يحيى: يا عم الغفار بلاش تبعد

عم عبد الغفار: ما عملتوليش حاجة، كتبتوا مرتين اجيب دواء، اجيب برشام مرة بـ35 جنيه واول امبارح بـ16 جنيه

د.يحيى: إنت جيبته من بره

عم عبد الغفار: آه والله

د.يحيى: يا حول الله يارب، طب وانا ذنبى ايه؟!

عم عبد الغفار: مره بـ35 جيبته من شبرا وامبارح جيبنا من شبرا برضه 16 جنيه

د.يحيى: وانا ذنبى ايه ؟

عم عبد الغفار: ما هو برضه البركة فيك انت

د.يحيي: هوا حد قال لى حاجة،  ما حدش جاب لى خبر،  دا انا اللى شوفتك النهاردة فى الطرقة ماشى ندهت لك 

عم عبد الغفار: الدكاتره بيكتبوا ورق ويروحوا مديينه للأستاذ بتاعهم

د.يحيى: يا عم عبد  الغفار انا شفتك فى الطرقه فقلت لهم اصبّح عليك،  واشوفك، وانا مش استاذ رسمى قوى دلوقتى يعنى

عم عبد الغفار: اهلا وسهلا

د.يحيى: لو قلت لهم،  والله اجيلك مخصوص،  والله باحلفلك

عم عبد الغفار: الله يكرمك ويسترها معاك

د.يحيى: ازيك

عم عبد الغفار: الله يكرمك

د.يحيى: ازاى  اخبارك

عم عبد الغفار: الحمد لله

د.يحيى: انا حبيت اطمن عليك

عم عبد الغفار: الله يكرمك ويسترها معاك

التعقيب: يلاحظ هنا أيضا:

  • أن المقابلة مضت كأنها معرفة قديمة بين طبيب ومريض بعشم، وصراحة، وعتاب وموضوعية معا
  • أن المحتوى لم يتطرق – تلقائيا- لأى من الشكاوى النفسية بأى درجة من الدرجات
  • أن الطبيب لم يتعمد أن يسأل عن الأعراض النفسية ، وهذا وارد حين يكون الهدف ألا تدعم من ناحية، وأن نختبر إن كانت العلاقة -حضور الموضوع هكذا – قد سمحت بإزاحة الأعراض عن الإلحاح على الوعى من ناحية أخرى.
  • أنه بالرغم من الآلام الروماتزمية التى يشكو منها، وهى واردة بتواتر فى هذه السن، إلا أنها لم تختلط بمبالغات نفسية، فى صورة جسدنة مفرطة مثلا
  • أنه بالرغم من تكلفة (وغرابة) أن يشترى المريض علاجه فى مستشفى حكومى من خارج المستشفى، إلا أن المريض تعاون وفعلها، وكل ما أبداه هو شكواه المشروعة من آلام حقيقية
  • أن المقابلة انتهت بسرعة وطيبة دون مطالب لحوح، بما ينفى أن العلاقة لا تصطبغ باعتمادية لزجة، كان يخشى منها عادة فى مثل هذه الظروف.

بعد أسبوع آخر، (لا أسبوعين) طلب الأستاذ مقابلة عم عبد الغفار للتتبع، وهو يتوقع أن يتذكره كما حدث فى المرة السابقة، وأكثر، حيث كانت المدة بين اللقاء الأول والثانى أسبوعين، فى حين لم تتجاوز أسبوعا واحدا هذه المرة، بالإضافة إلى أن التدعيم الذى حدث فى المقابلة الثانية بدا أنه لابد أن يؤكد متانة العلاقة “بالموضوع”، إذْ كان يعد بتقدم مضطرد فى كل من الذاكرة والعلاقة، لكن الذى حدث كان على الوجه التالى:

المقابلة الثالثة: بتاريخ: 4 ديسمبر 2008، بعد مضى أسبوع من المقابلة الثانية

عم عبد الغفار: السلام عليكم

د.يحيى: أزيك يا عم عبد الغفار

عم عبد الغفار: الله يكرمك

د.يحيى: أقول لك زى الجمعه اللى فاتت وحشتنى وحاجات كده؟

عم عبد الغفار: أهلاً وسهلاً

د.يحيى: أنت حاتعمل زى هانى (المريض الذى سبقه، 17 سنة، كان يعانى من تجنب النظر فى العينين، وهو الذى كُلِّف باستدعاء عم عبد الغفار بعد انتهاء المقابلة معه)،  بتبص فى الأرض ليه يا عم عبد الغفار،  ما تبصلى يا أخى وترفع راسك

عم عبد الغفار: مانا باصص لك أهه

د.يحيى:  لأ، مش باصصلى ولا حاجة، باصص ناحية! الدكتورة دينا، صاحبتك ساندرا  مش موجوده

عم عبد الغفار: آه عيانة

د.يحيى: عيانة ؟!  ألف لا بأس، هى قالت لك أنها عيانة

عم عبد الغفار: هى قالت لى أنها حتخرّجنى يوم الحدّ (الأحد)

د.يحيى: حاتُخرج تروح فين، لكن قول لى  الأول أنا اسمى أيه

عم عبد الغفار: شعراوى باين

د.يحيى: إيه

عم عبد الغفار: شعراوى

د.يحيي: تانى!!؟ إيه اللى جرى ؟!!؟

عم عبد الغفار: شعراوى

د.يحيى: تانى !! إنت مش افتكرت اسمى الأسبوع اللى فات ببتوع المدبح؟

عم عبد الغفار: مش فاكر

د.يحيي: لأ يا شيخ !!؟؟  إشمعنى  الجمعه اللى فاتت كنت فاكر

عم عبد الغفار: تعبان أوى

د.يحيى: باين عليك النهارده تعبان فعلا، ألف لا بأس، لكن يا عم عبد الغفار لما أنت تعبان كده، عاوز تخرج ليه؟ تعمل إيه؟

عم عبد الغفار: أهلى بره بقى وماحدش سأل فيه

د.يحيى: يا خبر أبيض أنت يئِست مننا ولا أيه

عم عبد الغفار: رجليه ودماغى وجسمى ودرعاتى وكل جسمى تعبان

د.يحيى: يا عم عبد الغفار إسمى إيه

عم عبد الغفار: بانسى الإسم

د.يحيى: لما تعبت نسيت إسمى أمال أفتكرته الجمعة اللى فاتت ازاى، وكان فايت جمعتين ماشفناش بعض، أنا إسمى يحيى الرخاوى

عم عبد الغفار: أيوه

د.يحيى: أيوه إيه

عم عبد الغفار: صحصحتنى

د.يحيى: صحصحتك؟ طب  اسمى إيه

عم عبد الغفار: يحيى الرخاوى

د.يحيى: هوّا الرخاوى بتاع المدبح  من كام سنة، قول خسمين، كنت بتنقل له إيه فى المدبح

عم عبد الغفار: كان ليّـا  ناس صحابى كنت بانقلهم…، أنا تعبان قوى

د.يحيى: إيه اللى تاعبك النهارده يا عم عبد الغفار؟ إنت كنت الجمعه اللى فاتت زى الفل، إيه اللى جرى؟

عم عبد الغفار: تعبان أوى

د.يحيى: إيه اللى تاعبك بس ؟ هى الأصوات رجعت  تانى؟

عم عبد الغفار: لأ ما رجعتش

د.يحيى: إمال أيه اللى موجود

عم عبد الغفار: ماحدش بيعالجنى

د.يحيى: إمال قاعد هنا بتعمل إيه كل الدكاتره دول بيحبوك وحواليك

عم عبد الغفار: ناس طيبين

د.يحيى: أنا خايف عليك والله تطلع تلاقى الدنيا فاضية،  والوليه عند بنتها العيانه وترجع الأصوات تانى وتتنيل بستين نيله (عم عبد الغفار يبعد عينيه ويطأطئ رأسه وكأنه يحوّل انتباهه)، غـِطست تانى ليه يا عم عبد الغفار،  غطست ليه؟

عم عبد الغفار: ما غطستش

د.يحيى: لأه..، دا أنت غطست ونص

عم عبد الغفار: تعبان

د.يحيى: ما أنا عارف

عم عبد الغفار: المسالك ثلاث أيام أروح ورا بعض، والدكتور يقول لى روّح،  وتيجى بكره، روح وتعالى بكره

د.يحيى: ما هو ماقلكشى تعالى السنة، الجاية، قال لك بكره

عم عبد الغفار: قالى بكره

د.يحيى: يمكن عنده ظروف

عم عبد الغفار: أنا تعبان مش قادر أمشى خطوه

د.يحيى: يا عم عبد الغفار إنت حالتك النهارده وحشة فعلاً،  مش عاوز تقول لى حاجة

عم عبد الغفار: أقول لك إيه

د.يحيى: يا راجل دا انت الأسبوع اللى فات كنت مية مية، وكنت بتبص لى، وتاخد وتدى معايا

عم عبد الغفار: تعبان،  تعبان خالص

د.يحيى: نمت كويس إمبارح

عم عبد الغفار: … إمبارح طول الليل مانمتش

د.يحيى: طب اتفضل يا عم عبد الغفار

عم عبد الغفار: خلاص مش عاوزنى خلاص

د.يحيى: إنت عاوزنى

عم عبد الغفار: إنت عاوزنى

د.يحيى: إنت عاوزنى

عم عبد الغفار: الله يكرمك (يضحك ضحكة تشبه ضحكته تقريبا فى اللقاء الثانى)

د.يحيى: أخيراً ضحكت الله يخيبك يا شيخ ، خضيتنى عليك

عم عبد الغفار: الله يسترها معاك

د.يحيى: إنت مش عايز منى حاجة قبل ما تمشى

عم عبد الغفار: تعبان أوى

د.يحيى: إنت عاوزنى

عم عبد الغفار: مانمتش طول الليل يا دكتور

د.يحيى: أنت عاوزنى

عم عبد الغفار: الله يكرمك، آه أنا عاوزك

د.يحيى: طيب ياله عوز

عم عبد الغفار: من أمبارح أنا مانمتش لغايه الصبح، بعت جبت البرشام ده من الأجزخانة، البرشام اللى كتبهولى الدكتور (يقدم ورقة مكتوب عليها اسم برشام بالحروف العربية)

د.يحيى: مين اللى كتبهولك البرشام ده، دا مش خط الدكتور، الدكاترة هنا ما بيكتبوش اسم البرشام بالعربى،

عم عبد الغفار: الدكتور اللى كان قاعد فى الغرفه اللى قبل منك دى

د.يحيى: لأ لأ لأ دى مكتوبه بالعربى وبين قوسين والدكتور عمره ما يكتب كده ، ثم إن البرشام ده للمعدة، صحيح فيه منوم بسيط، لكن لا يمكن دكتور نفسى زميلنا يكتبه كده ، مين اللى كتبهولك. 

عم عبد الغفار: أنا لقيت تلاتة قاعدين فى الأودة مع بعض دخلت عليهم قلتلهم تعبان من المسالك آجى أتصير الميه مقطوعه وحرقانى،  راحوا واحد منهم كتبلى ورقة، وقالولى هات البرشام ده، بعت جبته مع واحد من بره 

د.يحيى: طيب حاضر، إنت عاوز حاجة تانية ؟ 

عم عبد الغفار: الله يكرمك إنت عاوزنى

د.يحيى: آه، أنا اسمى أيه

عم عبد الغفار: يحيي

د.يحيى: يحيى إيه

عم عبد الغفار: بانسى

د.يحيى: ياللا  مع السلامه يا راجل يا طيب، سلامتك ألف سلامة، مع السلامه

عم عبد الغفار: السلامو عليكم

د.يحيى: وعليكم السلام ورحمة الله

 

التعقيب: يلاحظ هنا أيضا:

  • أن ما توقعناه من تدعيم للذاكرة التى تجلت بعد القاء الأول ثم تأكدت فى اللقاء الثانى، لم تتحقق، إذ تراجعت الذاكرة تماما خاصة فى أول المقابلة.
  • أن المقابلة أقل حرارة من المرة السابقة
  • أنه يبدو أن الآلام الجسدية قد غيرت المزاج فزادت المسافة بينه وبين الموضوع (الطبيب)وفترت العلاقة
  • الأرجح أنالأرق بالذات، لليلة السابقة مباشرة، قد أضاف عاملا معطلا للقدرة المعرفية، 
  • أنه حين ذُكّر عم عبد الغفار باسم الطبيب، تذكر الاسم الأول فى آخر المقابلة، وليس اللقب، وقد يكون لهذا دلالة غير مباشرة، على أن العلاقة التى تجددت، برغم الإرهاق هى مع الشخص الماثل، دون دعم الذكريات القديمة كما كان الحال فى المقابلة السابقة.
  • ثم أنه تذكر الاسم الأول فى نهاية المقابلة، دون استعادة، كما فى المقابلة الأولى

تعقيب ختامى لهذه الحلقة:

نلاحظ عموما كيف يتكون “الموضوع” تدريجيا بحضور “آخر” فى متناول المريض فى هذه السن، وكيف أن العلاقة تتماوج حسب الموقف وعوامل أخرى من أهمها الصحة الجسدية وكفاية النوم وكفاءته، وبالتالى فإن الحكم على القدرة المعرفية، المتمثلة هنا فى الذاكرة، بالسن، أو بشكل كمىّ منفصل، أو بالتعميم، هو حكم يتجاوز أن يضع فى الاعتبار “العلاقة بالموضوع”، والموقف الخاص.

وغداً نكمل مع التركيز على طبيعة علاقة عم عبد الغفار بالموضوع بالطول (عبر تاريخه الشخصى).

حلقة الغد:

تثبيت العلاقة بالموضوع على “الموقف البارانوى”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *