الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / نجيب سرور (2) أصل القتل بالداخل: (غريزة الموت) (رباعيات ورباعيات)

نجيب سرور (2) أصل القتل بالداخل: (غريزة الموت) (رباعيات ورباعيات)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 15-12-2018

السنة الثانية عشرة

العدد: 4123

مقدمة:

امتدادا لما أشرنا إليه سابقا، وبإصرار العناد والأمل: تم تخصيص اليوم “السبت” لمقتطفات من كتاباتى السابقة التى لها علاقة دالة بالفروض التى تعتبر إرهاصات أو أساس هذا الفكر الدائم النمو والتطوير.

المقتطف اليوم هو استكمال لما بدأناه الأسبوع الماضى بتقديم رباعيات نجيب سرور.

*****

 (رباعيات ورباعيات) (1)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

نجيب سرور (2)

أصل القتل بالداخل: (غريزة الموت)

بعد عرض هذه الملاحقة بالقتل بكل أنواعه، وقبل عرض دعوة سرور إلى القتل بكل صوره، سوف نتتبع جذورَ المسألة: فسرور يرى، ربما دون قصد، بل لعله يرى برغم قصده كما خطر لى، أن أصْل كل هذه “المقتلة” (وليس المعركة) هو دمار داخلى، لعله هو هو غريزة الموت، وهذه الغريزة التى قال بها فرويد (ثم يقال إنه أنكرها فى آخر أيامه، ولكن المؤكد أن أغلب أتباعه أنكروها)، هى الوجه السلبى التحطيمى لغريزة العدوان وسرور لا يقول ولا يعلن موقفه من غريزة الموت هذه، إلا أنها تطل من بين ثناياه قوية واضحة ولكن سرعان ما تختفى وراء أكوام الأشلاء ودخان النتن المتصاعد من عفن الجثث. وقد ظهر سرور متلبسا بالإفصاح عنها مباشرة ذات مرة:

ها هى الرحلة مذ كان الزمان

لكأن الطيـر يهوى مصرعه

(3/6)

وهو يعطى للموت نفسه إرادة مستقلة تكاد تغلب أصل” إرادة الموت” لدى الإنسان، الموت قدرٌ حين يقررُ يقدرْ؛ أما إذا أراد أحدنا الموت، فالمسألة ليست جاهزة تحت الطلب!! الموت هنا عند سرور ليس مثل موت الخيام؛ بمعنى نهاية الحياة، إنه الموت الداخلى العنيد.

عندما أختار موتى لا أموت

لا يمـوت المرء إلا مـُقسرا

(8/8)

فالموت هنا كائن مجسد غريزى، وهو كائن قادر فاعل، وهو الذى له اليد العليا حتى يقهَرُ ويقسر:

عندما يختارنى موتى أموت

آه.. من يختار لى أن أجْبَرا

(8/8)

وتعبير.. “يختارنى موتى” له دلالة خاصة؛ ليفرق بين تعبير الخيام مثلا عن الموت، فموتى (بياء المتكلم)، غير ذلك الموت الذى هو على رقاب العباد، وروعة الشطر الثانى، تشير إلى الحتمية الغريزية لهذا الكيان (الموت) الذى تحرك فى الداخل؛ وتلك هى الحقيقة التى التقطها سرور بحدسه، فكأن غريزة الموت قد رجحت كفتها عنده نتيجة “للافتقار” إلى الأمن الأولى”وأيضاً نتيجة  لهياج” التوجس الأولى وحين حدث ذلك.. حين انفصلت غريزة الموت عن الكيان الكلى، ثم أُسقطت فى كل صور القتل، فى مواجهة العالم، أصبحت قدرا لا مفر منه، فإذا بها هى هو، فكأنه “أُجبر” على سلوك هذا السبيل التحطيمى نتيجة “لاختيار” أعمق وأخطر وأسبق.

وغريزة الموت هذه، تبدو نقيض غريزة العدوان بمعناه الاقتحامى والدفاعى، وقد ميزتُ فى بحثى السابق عن “العدوان والإبداع”، بين العدوانية التحطيمية Destructiveness، والعدوان Aggression  كخطوة جسورة للأمام، ميزت بينهما باعتبار أن الغريزة إذا انفصلت عن الكل، فإننا نلقاها وقد ارتدت للداخل، أو انطلقت منفصلة إلى الخارج، أو شوَّهت المسيرة وعوقت الخطى، أو حدث كل ذلك معا، وهذه هى العدوانية، أما إذا ظلّت غريزة العدوان ملتحمة  بالكل، فى جدل حى مقتربٍ مقتحمٍ مع الموضوع وهو يتضفّر فى كلية مسئولة، فهو الإقدام لا العدوانية، وهو الإسهام فى التفكيك تمهيدا لإعادة التشكيل = “الإبداع” .

والعدوان فى رباعيات سرور كما نرى قد انفصل فعلا، فأصبح قوة جامحة واضحة الهدف، أحادية النظر، أصبح جسما غريبا: نيزكا منفصلا خطيرا، لكنه لحقه بشعره وإبداعه كما نرى.

السر المستحيل، والسر البديل

ولو كان هذا الحل هو الحل فعلا: بمعنى أن الموت هو الأصل، أو  أنه لا خلاص من الاستسلام إلا بالقتل، لـَمـَا كان ثَمَّ سر يحتاج إلى التساؤل، ولا سعى يبرر كل هذه النقلات بعنفها المنذِر، وإلى درجةٍ ما نلاحظ أن سرورا لا يعلن حيرته أمام القدر أو الحظ مثل الخيام، ولا أمام الغموض الواقعى أو الذاتى مثل جاهين، فهو أبعد ما يكون عن حيرة جاهين أمام التناقضات المتواضعة المتداخلة، فالأمور عنده محلولةٌ حَسْماً كما أسلفنا، لكنه يُضبط متلبسا وهو عاجز أمام السر الأعظم، ثم، وهو لا يستطيع احتمال هذا العجز.

 ومع الاستسلام المطلق لاستحالة الكشف عن هذا السر الدفين، ينطلق إلى الناحية الأخرى تماما بكل “اليقين التعويضى”، أى أن سروراً لا يحتمل رحلة السعى المُعانى الذى يضع ذاته فى بؤرة المحاولة، بل هو يصفق أبواب الداخل (حاوى المستحيل) وراءه لينطلق إلى معركة الخارج دون تردد، حتى لو اكتشف أنه قد أغلق أبواب القبر نفسه، وأنه لم يعد إلا “قدرا” (قتيلا) يُشْهَرُ فى وجه القدر (موتا):

نحن أقدار تحدينا القدر

بقتيل قام فى إثر قتيل

(54/23)

ومع ذلك ـ أو قل لذلك ـ فقد ضبطناه متلبسا يقول:

يُدفن السر اقتسارا حين نُدفن

كان قبلا مستكنـًّا فى الصدور

آه مــن قبرين كيف السر يُعلن

إن يــكن يوءَد فى كل العصور

(5/7)

فلو أنه سرٌّ فى متناول السعى، ولو أن ذاته كانت قد “أمِـنت” يوما حتى أصبحت “رحلة الداخل والخارج” (2) ممكنة، لكان للأمر وجه آخر، فهل هذا السر هو هو الذى وراء القَـتْلة الشنعاء الدائرة على رقاب العباد؟. وكلنا سيصيبه الدور!!.

عندما يَقْتُلُ زيدٌ أىَّ عمرو

ونرى زيداً كما عمرو قتيلا

فوراءَ القتلة الشنعاء أمر

هـو سرٌ سيعنَّينا طويلا

(7/8)

ما هو سر سرور؟ أهو واحد أم أكثر ؟

لا أحسب أن سروراً استطاع أن يقف طويلا أمام أى سر، ومع ذلك ففى المرات النادرة التى تكلم فيها عن هذا السر أو ذاك، بدا حاسما يائسا من أية معرفة له، أو سعى تجاهه، وهو ليس سرا واحدا؛ فالسر الأعظم من وجهة نظره هو الذى انتقل من قبر إلى قبر (آه من قبرين كيف السرُّ يعلن)، وما يريده بالقبرين غير واضح، لكن الأرجح أنه يشير إلى الرحم من ناحية، والقبر من ناحية أخرى، أما السر الآخر الذى يحافظ على الاستمرار حسب قانون البقاء فأحسب أنه احتمال “تكامل الحياة المتناغم حتى أعلى مراتب الأكوان المفتوحة”، وهذا ما يئس منه سرور أصلا وأبدا، أو لعله لم يبدأه أصلا، أو ربما هو لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه، بل يصر على رفضه ابتداء؛ جزاء خيانة الآخرين له، وربما يكون سرور قد اندفع وهو يعلن وجود هذا السر بهذا الحسم، إلا أن مسيرة رباعياته لا تدل على أنه كانت له أية فاعلية حقيقية فى تهدئة المعركة أو فتح باب المراجعة؛ بل إنى تصورت أن هذا هو السر الذى يئس حتى من أمل أن يتحقق فى أجيال تالية، بعد أن عجزنا أمامه؛ فالسرقة ممتدة الأثر أبدا.

سرقوا حتى أغانىّ لطفلى

ربما أودعتها “السر” (3) المصون

(204/79)

ولكن ما شأن السر الآخر؟ لعله عكس هذا تماما، لعله نابع من العجز، ذلك السر الآخر الكامن وراء القتل المتلاحق من زيد إلى عَمْرٍو، إلى نجيب إلى غيره… !!. ذلك السر ” وراء القتلة الشنعاء”، هو الذى “سيعنـَّينا كثيرا”. أقول مرة أخرى فى ذلك: إنه وصلنى أن هذا السر هو “غريزة الموت” التى انطلقت لتعلن عجز الحياة، وانفصال العدوان عن الكل المتناغم ليصبح تحطيما متلاحِقا، لا يستطيع أحدنا أن يفر منه؛ فالكل منا سيصيبه الدور لا محالة، والمسألة مسألة وقت.

نجيب سرور إذن يرفض ابتداء محاولة كشف سرٍّ مستحيل التناول (السر الأول أمل تكامل الحياة). وهو يضعه بعيدا عن متناول البحث ابتداءً، وبالتالى فلا معنى للاقتراب منه أصلا، ولا جدوى من الدوران حوله؛ ثم هو يمارس نتائج السر الثانى (حتم الموت)، دون النظر فى طبيعته، أو علاقته بالأول.

وهكذا يختلف سرور عن الخيام وجاهين فى “ماهية السر” والموقف منه.

السر عند جاهين يدور حول بحثه الوجودى الحى؛ لتحديد معالم ذاته، وأبعادها ومراميها وعلاقاتها، فالسر عند الخيام يتعلق بتناقضات الاختيار، وخبايا القدر ومفاجآته، وإيقاع حركية الحياة داخله وخارجه، أما سرور فهو يعلن استحالة الرؤية، ولاجدوى السعى لكشف السر أو تحقيقه، فيمضى يحطم القِدْر بما حوى، جاهين يكاد يفرح بسره كأن هذا السر هو وجودٌ فى ذاته، أو هو من طبيعة الوجود، أو هو متمم للوجود، وهو يتجول فى سراديبه دون خوف معوِّق، وكلما اكتشف سردابا أناره بالقبول الواعى؛ ولكنه سرعان ما يكتشف أن النور كشف له عن سراديب جدد، وماذا يهم؟ بل لعل هذا من طبيعة مبررات دوام الحركة عند جاهين.

الخيام يقف حائرا أمام سره، يعلن عجزا نسبيا وضمنيا، ويمضى نحوه متواضعا، ثم يهرب منه فى وهم اللذة، ما أمكن ذلك، ويدعونا لمشاركته.

أما سرور فهو يعجّزنا ويعجّز نفسه من البداية، فيظل سرا مصونا عنه وهو يخفيه عنا، وما دام كَشْفُ السر مستحيل، فالتدمير مبَرَّرٌ، والهجوم متواصل.

وراء سر سرور القاتل: حفز التحطيم والتدمير.

ووراء سر الخيام الحائر: صرخة الألم والجوع للذة .

ووراء سر جاهين الدائر: دفع الحركة ودوامية النبض.

الشقاء .. والألم.. والغيظ

إذا كان الخيام قد أعلن الشقاء تجنبا للألم، وتبريرا لطلب اللذة، فإن سروراً لم يطق إعلان الشقاء أو الألم أصلا.. واستبدل بهما غيظا حانقا (من غيظ موتانا تُـقات)؛ فى حين أن جاهين واجه ألمه، الذى أفرز طيبته، وأورق زهوره.

وعلى الرغم من أن سروراً لا يعلن ألمه مباشرة، فإنه يستحيل على أى قارىء لرباعياته أن ينسى هذا الألم الذى يعانيه سرور، ولو للحظة واحدة؛ فالقارىء يرى هذا الألم فى إغارة سرور وانسحابه (كرّه وفرّه)، وفى صمته وكلامه، فى كمونه وانفجاره، هو ألم رفيع يأبى أن يعرض نفسه أصلا من فرط يأسه من أى مشاركة، وعجزه عن أى حل حقيقى، هل يمكن أن نخطىء ألمه وهو يقول:   

1- ـ قد ولدنا بين أظفار القوابر

ويوارينــا غـرابٌ بالأظافر !

(30/15)

أو  2-  صوَّبوا للظهر آلاف الخناجر

ثم ساقونا وقالوا: شهداء

(33/16)

أو 3-  كلنا فى مربط الخيل قنابل

(51/22)

أو 4- ها أنا كالطعم فى دار الجنون

فاخنقوا الأشواق.. كونوا كالحجارة

(219/84)

أو 5-  يا إمامى ليس للإنسان عورة

إنه الصيـد مباحا للنسور

(205/79)

أو 6- جرَّبوا الثكل فكم جاء عتيا

يعصر التحنان فى دمع الضروع

(167/68)

أحسب أنه يكفى هذا (أو بعض بعضه) لتبيان نوع الألم الدفين الذى لم يهدأ أبدا، والذى يكمن وراء هذه الإغارات القاتلة بكل أشكالها.

[1] – المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات” (من ص77 إلى ص83) (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط

[2]  –  رحلة الداخل والخارج ”   in and out programهى الرحلة التى أشار بها ” جانترب ” (مدرسة العلاقة بالموضوع) شرحا لحركة الإنسان نحو الموضوع فى الخارج، ثم انسحابه إلى الذات، وكذلك تعبيرا عن حركة النمو النبضية، التى تشمل نكوصا أقل، واندفاعة أكبر باستمرار، وهذه الحركة طبيعية وضرورية لتحقيق النمو المرن المستمر طالما أن ذراع التقدم أطول من ذراع التأخر (الانسحاب) مع كل نبضة نمو.

[3]  –  علامتا التنصيص فى الأصل الشعرى لسرور

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *