الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كراسات التدريب (1) صفحة 7

من كراسات التدريب (1) صفحة 7

نشرة “الإنسان والتطور”

 21-1-2010

السنة الثالثة

العدد:  874

 
21-1-2010

الحلقة السابعة

الأربعاء‏ 28/12/1994 ‏

كان‏ ‏الموعد‏ ‏محددا‏ ‏مع‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام، ‏ ‏ذلك‏ ‏المصري‏ ‏الرائع‏ ، الجراح التشكيلى الماهر،  ‏الذي‏ ‏أراد‏ ‏الله‏ ‏بشيخنا، ‏وبنا، ‏وبي، ‏خيرا: ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏في‏ ‏المتناول‏ ‏يوم‏ ‏الحادث، ‏والذي‏ ‏ورد‏ ‏ذكره‏ ‏احتراما‏ ‏وعرفانا‏ ‏في‏ ‏أول‏ ‏تعليق‏ ‏لي‏ ‏على‏ ‏الحادث‏، كنت قد رتبت موعدا معه بالاتفاق مع الأستاذ، لم يكن هناك داع جراحى أو طبى عام للمتابعة، لكن رغبتى وموافقة الأستاذ وترحيب أ.د. سامح التقت جميعها ليتم هذا اللقاء صباحا فى المنزل.

احتفاء‏ ‏بهذه‏ ‏المناسبة وترحيبا بقدوم‏ ‏هذا‏ ‏الجراح‏ ‏المصرى الفنان‏ ‏المتميز‏ ‏بحق، ‏ذهبت‏ ‏قبل‏ ‏الموعد‏ ‏بعشرين‏ ‏دقيقة، ‏وأنا‏ ‏متردد‏ ‏تماما‏ ‏في‏ أن‏ ‏أخبر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أني‏ ‏مسافر‏ ‏إلي‏ ‏سيناء‏ ‏لمدة‏ ‏أربعة‏ ‏أيام، ‏فمنذ‏ ‏عرفته‏ ‏في‏ ‏الآونة‏ ‏الأخيرة، ‏لم‏ ‏يمر‏ ‏يوم‏ ‏واحد‏ ‏إلا‏ ‏ورأيته‏ ‏فيه، ‏وقد‏ ‏علمت‏ ‏مدى‏ ‏تمسكه‏ ‏بما‏ ‏اعتاد‏ ‏عليه، ‏ومن‏ ‏اعتاد‏ ‏عليه، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏رتبت‏ ‏الأمور‏ ‏بحيث‏ ‏أطمئنه‏ ‏إلي‏ ‏الشخص الذى سوف أكلفه ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏عليه‏‏ بدلا منى، ‏لم يكن فى المسألة أى طب أو علاج، وبالذات طب نفسى، لكنه التعود.  إن ما صار بيننا دون ألفاظ، برغم ترتيبى لمن ينوب عنى، ونيتى فى طمأنته وإخباره قبل إخطاره بغيابى، هو السبب فى ترددى فى إخباره واستئذانه في‏ ‏الغياب‏ ‏لهذه‏ ‏الأيام‏.‏

قالوا‏ ‏لي‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أطرق‏ ‏الباب‏ ‏إن‏ ‏عنده‏ ‏ضيوف، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يعتد‏ ‏استقبال‏ ‏ضيوف‏ ‏هكذا‏ ‏في‏ ‏الصباح‏ ‏حتي‏ ‏الظهر، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏أخصائي‏ ‏العلاج‏ ‏الطبيعي‏ ‏وقاريء‏ ‏الصحف، ‏الحاج‏ ‏صبرى،‏ ‏وشخصى‏، ‏دخلت‏ ‏ووجدته‏ ‏في‏ ‏حجرة‏ ‏الاستقبال‏ ‏على‏ ‏غير‏ ‏العادة، ‏وكانت‏ ‏السيدة‏ ‏زوجته‏ ‏تجلس‏ ‏أيضا‏ ‏هناك‏ ‏ومعهما‏ ‏الضيفة‏ ‏الخاصة، الضيفة كانت‏ ‏السيدة‏ “جيهان السادات”، ‏وسار‏ ‏الحديث‏ ‏طيبا‏ ‏عاديا فرحت أننى التقيتها، وخاصة أننى سمعت عن حضورها الاجتماعى المتميز من كثيرين، بقدر ما سمعت من همس غير طيب عن تصرفاتها المالية التى ليس عندى دليل عليها (ولا على غيرها كما اعتدت)، كانت ‏ ‏تتساءل‏ بطيبة : ‏لم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏بالذات؟‏ ثم أضافت (ربما وهى تتذكر المرحوم زوجها) أنه ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مفهوما‏ ‏أن‏ ‏يحاوا اغتيال‏ ‏رئيس‏ ‏جمهورية‏ ‏أو‏ ‏زعيم‏ ‏سياسي‏ ‏له دور ملتبس، ‏أو‏ ‏رجل‏ ‏بوليس له أعداء من المجرمين أو الثوار، ‏‏أما‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏؟  ‏فلماذا؟‏ كانت تتساءل بدهشة حقيقية واستغراب رافض، ‏لم أتردد فى أن أذكر ‏للسيدة‏ ‏الزائرة‏ ‏تعقيب الأستاذ حين كنت أنقل له حب جماهير الناس له، ثم رحت أمازحه  فاقترحت عليه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية وأنى أضمن له النجاح، وأنه أجاب مازحا :  ‏”وهكذا، يكون‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يبرر‏ ‏القتل”.

 ‏وابتسم‏ ‏الأستاذ، ‏ ‏وانتهت‏ ‏المقابلة‏.‏

وما‏ ‏راءٍ ‏كمن‏ ‏سمعا، ‏حين‏ ‏رأيت‏ ‏هذه‏ ‏السيدة‏ ‏المهمة، ‏الجميلة، ‏الهادئه‏ ‏تساءلت‏ ‏هل‏ ‏هى‏ ‏هى، ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏

غيرها‏ ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏سمعت‏ ‏وما‏ ‏شاع‏ ‏عنها؟  ‏إن‏ ‏من‏ ‏رأيت‏ ‏لاتعدو‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏امرأة‏ ‏عادية، ‏جميلة، طيبة‏ ‏حنون‏ ‏مستمعة‏ ‏متواضعة‏ – ‏على‏ ‏حد‏ ‏استقبالي‏ – ‏ليكن، ‏ليس‏ ‏هذا‏ ‏موضوعنا، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏حقا‏:  ‘‏وما‏ ‏راءٍ‏ ‏كمن‏ ‏سمعا‏’ ‏، وهكذا تهيأت لى  هذه الفرصة بالصدفة البحتة، ‏أن‏ ‏أطلع‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏صحبتك يا شيخى الكريم ‏ ‏علي‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الشخوص‏ ‏والعقول‏ ‏والحضور، ‏كنت‏ ‏سأعيش‏ ‏وأموت‏ ‏وأنا‏ ‏أتصور‏ ‏لهم‏ ‏صورا‏ ‏مخالفة‏.‏

حضر‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام، ‏ومعه‏ ‏نائب‏ ‏مدير‏ ‏مستشفي‏ ‏الشرطة، ‏وهنأته‏ ‏بسلامة‏ ‏الوصول‏ ‏من‏ ‏النيجر‏ ‏حيث‏ ‏رفع‏ ‏رأس‏ ‏مصر‏ ‏عاليا ، ‏وقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏شارحا‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏وصلني‏ ‏من‏ ‏دور هذا الفنان الماهر فيما فعل برقبته وعروقه، ‏وأضفت رأيى للأستاذ كيف‏ ‏أن‏ ‏الجراحة‏ ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏هي‏ ‏الفن‏ ‏المتبقي‏ ‏في‏ ‏مهنة‏ ‏الطب‏ (‏بالإضافة‏ ‏إلي‏ ‏بعض‏ ‏الممارسات‏ ‏المتميزة‏ ‏في‏ ‏الطب‏ ‏النفسي‏) ‏أما‏ ‏ما‏ ‏عدا‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏أصبح‏ ‏آلات‏ ‏وأرقام، ‏وانتهزت‏ ‏الفرصة‏ ‏لأكرر‏ ‏على أ.د. سامح وطبيب مستشفى الشرطة ما‏ ‏سمعته‏ ‏أمس‏ فى لقاء الثلاثاء ‏من‏ ‏دفاع‏ ‏المتهمين‏ ‏بالاغتيال، ‏وأن‏ ‏بعض‏ ‏المحامين‏ ‏ذهب‏ ‏إلي‏ ‏حد‏ ‏إنكار‏ ‏الحادث‏ ‏أصلا، ‏وها‏ ‏هو‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام‏ ‏بلحمه‏ ‏ودمه، ‏الذي‏ ‏عمل‏ ‏العملية، ‏وأخذ‏ ‏القرار،‏ ‏وتدخل بمهارة وجسارة وإعجاز فحقق الله ‏علي‏ ‏يديه‏ ‏النجاة، ‏لابد‏ ‏أنه‏ هو أيضا ‏من‏ ‏صنع‏ ‏الخيال‏ ‏حسب‏ ‏كلام‏ ‏الدفاع‏ !!! ‏نظر‏ ‏إلي‏ ‏أ‏. ‏د‏. ‏سامح‏ ‏غير‏ ‏مصدق، ‏وكأنني‏ ‏أخرف، ‏وكان‏ ‏الدفاع‏ ‏يحتج‏ ‏بصور‏ ‏الاستاذ‏ ‏التي‏ ‏ظهرت‏ ‏في‏ ‏الصحف‏ ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏خرج‏ ‏يوم‏ ‏عيد‏ ‏ميلاده‏ ‏معنا، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏تدل‏ ‏علي‏ ‏سلامته، ‏وبالتالي‏ ‏فإن‏ ‏كل الجريمة، بما فيها ‏ ‏العملية‏ ‏التى أجراها أ.د.سامح، هى‏ ‏مسرحية‏ ‏ملفقة‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏الحكومة‏ ‏للحصول‏ ‏على‏ ‏أكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الكراهية‏ ‏ضد‏ ‏الجماعات، ‏ولتبرر‏ ‏القضاء‏ ‏على‏ ‏بعضهم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏محاكمة‏ ‏عاجلة‏ (‏مغرضة‏ ‏بالضرورة‏) ‏وحين‏ ‏سمع ‏ ‏الاستاذ‏ ‏هذا‏ ‏الدفع، ‏كرر  بعد خروج د. سامح إلى ‏ ‏أنه‏ ‏يمكن‏ ‏تأجيل‏ ‏الخروج‏ (‏يوم‏ ‏الخميس‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏مع‏ ‏من‏ ‏تبقي‏ ‏من‏ ‏الحرافيش‏) ‏حتى‏ ‏تنتهي‏ ‏المحاكمة، ‏ورفضت‏ ‏ذلك‏ ‏تماما.

كان‏ ‏من‏ ‏مداعابات‏ ‏الاستاذ‏ ‏أمس‏ (‏الثلاثاء‏) ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أكل‏ ‏”الطعمياية‏”، ‏وقطعة‏ ‏الجبن‏ ‏وحمد‏ ‏الله، ‏جاءت‏ ‏أطباق‏ ‏صغيرة‏ ‏من‏ ‏الممبار‏ ‏المحشي‏ ‏بالأرز، ‏فعزم‏ ‏عليه‏ ‏الغيطاني‏ ‏بواحدة‏ (‏مذكرا إيانا‏ ‏بعلاقة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‘‏ممبار‏’ ‏بالحسين)، ‏فشكره‏ ‏الأستاذ‏ ‏معتذرا‏ ‏قائلا‏: ‏لا‏ ‏يا‏ ‏عم‏ ‏أخشي‏ ‏أن‏ ‏يأخذها‏ ‏الدفاع‏ ‏ضمن‏ ‏أدلته‏ ‏لإنكار‏ ‏الحادث، ‏ألا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقولوا‏ ‏أنظروا‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏إنسانا‏ ‏مصابا‏ ‏هكذا‏ ‏كما‏ ‏تزعمون‏ ‏ثم‏ ‏يأكل‏ ‏ممبارا؟‏ ‏تكفي‏ ‏الطعمياية‏ ‏وقطعة‏ ‏الجبن، ‏إنهما‏ ‏أدل‏ ‏علي‏ ‏جدية‏ ‏الإصابة‏ !!

 ‏وعلي‏ ‏ذكر‏ ‏الحسين، ‏كان‏ ‏الغيطاني‏ (‏بحكم‏ ‏التاريخ‏ ‏والانتماء‏ ‏لنفس‏ ‏المنطقة‏ ‏هو‏ ‏وأستاذنا‏) ‏يقترح‏ ‏مكررا‏ ‏أن‏ ‏نذهب‏ ‏إلي‏ ‏الحسين‏ ‏في‏ ‏إحدى‏ ‏خروجاتنا، ‏وفشلنا‏ ‏أن‏ ‏نجد‏ ‏اليوم‏ ‏المناسب، ‏فعرضت‏ ‏علي‏ ‏الاستاذ‏ ‏مثل‏ ‏ذلك، ‏فحسبها‏ ‏وتحفظ، ‏وقال‏ ‘‏شا‏ ‏الله‏ ‏يا‏ ‏حسين‏’ ‏ولكن‏ ‏نأخذ‏ ‏بالأحوط، ‏إلا‏ ‏أنني‏ ‏لمحت‏ ‏داخله‏ ‏رغبة‏ ‏حقيقية‏ ‏في‏ ‏الزيارة، ‏فاستأذنت‏ ‏رجال‏ ‏الأمن‏ ‏أننا‏ ‏ونحن‏ ‏في‏ ‏طريقنا‏ ‏للهرم‏ ‏نمر‏ ‏علي‏ ‏الحسين‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏كوبري‏ ‏الأزهر، ‏ونـقرأ‏ ‏الفاتحة‏ ‏في‏ ‏السيارة‏ ‏لا‏ ‏أكثر، ‏وافق‏ ‏الاستاذ‏ ‏وفرح، ‏وحين‏ ‏مررنا‏ ‏مقابل‏ ‏الحسين‏ ‏نبهته،‏ ‏فدعا،‏ ‏وقرأ‏ ‏الفاتحة‏ ‏واتسعت‏ ‏أساريره، ‏ثم‏ ‏أشار‏ ‏إلى‏ ‏اليمين‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الأزهر‏ “‏العظيم”، ‏وأضاف:”هل‏ ‏ياتري‏ ‏قد‏ ‏رجع‏ ‏في‏ ‏كلامه‏ ‏بشأن‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا‏.‏

كنت بعد أن استأذن‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام، ‏قد استعنت‏ ‏بالله‏ ‏وقلت‏ ‏استأذن‏ ‏في‏ ‏السفر‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏الأربعة، ‏وأخطره‏ ‏بمن‏ ‏رتبت‏ ‏لينوب‏ ‏عني‏ ‏أثناءها، ‏وإذا‏ ‏بي‏ ‏أفاجأ‏ ‏بسماحه‏ ‏المطلق دون تردد،‏ ‏وأنه‏ ‏يتمني‏ ‏لي‏ ‏رحلة‏ ‏سعيدة، ‏تري‏ ‏هل‏ ‏أنا‏ ‏الذي‏ ‏انتهزت‏ ‏الفرصة‏ ‏فحضّرت‏ ‏نفسى بهذه الأهمية كل‏ ‏هذا‏ ‏الحضور، ‏وأثبت‏ ‏نفسي‏ ‏ضمن‏ ‏علاماته‏ ‏اليومية، ‏لأحظى‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الفضل، ‏وأعيش‏ ‏هذه‏ ‏الفرصة، ‏وتحصل‏ ‏هذه‏ ‏البركة؟‏ ‏وأنه‏ ‏لايحتاجني‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الانتظام ‏ ‏كما‏ ‏فرضته‏ ‏على‏ ‏نفسي‏ ‏ربما‏ ‏وعليه؟

لست متأكدا، لعل‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك

أنا‏ ‏فعلا في‏ ‏حاجة‏ ‏إلي‏ ‏صحبته‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حاجته‏ ‏إلي‏ ‏صحبتي.

‏ ‏ودّعته‏ ‏مؤقتا‏ ‏إلي‏ ‏لقاء، ‏وقبلته، ‏ودعا‏ ‏لي‏ ‏بالسلامة‏.‏

الحمد‏ ‏لله

الخميس‏ 29/12/1994‏

سافرت‏ ‏إلي‏ ‏سينا‏ء (‏دهب‏) حيث لى منزل صغير فى المساكن الشعبية المتوسطة بين البحر والجبل،  ‏فرحت‏ ‏بهذا‏ ‏الانفصال‏ ‏المؤقت‏ ‏عن‏ ‏الأستاذ لأول مرة منذ التقيته بعد الحادث، ‏لقب‏ ‏الأستاذ‏ ‏لا‏ ‏يعجبني، ‏قد‏ ‏يليق‏ ‏بعباس‏ ‏العقاد‏ ‏أو‏ ‏زكي‏ ‏نجيب‏ ‏محمود‏ ‏أو‏ ‏محمود‏ ‏شاكر، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يليق‏ ‏بنجيب‏ ‏محفوظ، ‏ثم‏ ‏إنني‏ ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏ألقبه‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏فقط‏ ‏كما‏ ‏كنت‏ ‏أفعل‏ ‏وأنا‏ ‏أقرأه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أعرفه،  ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏يقول‏ ‏له‏ ‏يا‏نجيب‏ ‏بك، ‏وأنا‏ ‏أستغرب‏ ‏ولا‏ ‏أستطيع، وهو ينادينى بيا “يحيى بيه”، حتى دون لقب دكتور الذى لا أرحب به أيضا، حاولت مرارا أن أفهمه تفضيلى لاسمى مجردا، ولم أنجح أن أقنعه،  ‏المهم‏ ‏سافرت‏ ‏بعيدا‏ ‏وقلت:‏ ‏فرصة، ‏نبدأ‏ ‏في‏ ‏الانفصال‏ ‏التدريجي، ‏قال ماذا؟ حتى‏ ‏يسترد‏ ‏تلقائيته‏ ‏وأسترد‏ ‏إيقاعي‏ ‏الخاص، ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏معي‏ ‏طول‏ ‏الوقت، ‏كلمته‏ ‏يوميا‏ ‏في‏ ‏البيت، ‏ولم‏ ‏أطلب‏ ‏محادثته‏ ‏شخصيا‏ ‏أبدا‏ ‏متعمدا لمعرفتى أن المحادثة معه تكون من جانبه دون أن يستمع إلى المتحدث أصلا، ‏قالت‏ ‏لى‏ ‏حرمه‏ ‏المصون‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يحلم‏ ‏بي‏ ‏طول‏ ‏الليل، ‏اعتبرتها‏ ‏مجاملة‏ ‏أو‏ ‏كلاما مجازيا بالتقريب، ‏فرغم‏ ‏العلاقة‏ ‏التي‏ ‏زادت‏ ‏من‏ ‏الجانبين بيننا ‏ ‏لا‏ ‏أتصور‏ ‏أنني‏ ‏احتللت‏ ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏من‏ ‏وعيه‏ ‏الذي‏ ‏يسمح‏ ‏بالحضور فى أحلامه، لكن من ‏ ‏أين‏ ‏لهذه السيدة الكريمة  ‏أن‏ ‏تعلم‏ أنه حلم بى، ومدى علمى برقة علاقتهما وطيبتهما، لم تسمح لى أن أتصور أنه يمكن أن يحكى لها أحلامه، لكن لا بد أننى كنت مخطئا، هذه السيدة ليست مضطرة أن تذكر لى ذلك، ولو مجاملة، إلا أن يكون قد حدث فعلا حتى حكى لها، فرحت بجد، وتذكرت كيف كانت فرحتى حين تخبرنى زوجته الفاضلة وأنا داخل إلى حجرته ‏ ‏أنني‏ ‏أوحشته‏،  ‏كنت‏ ‏أفرح‏ ‏فرحة‏ ‏طفل‏ ‏يهنأ‏ ‏برضا‏ ‏والده، وحضوره فى وعيه.‏

الجزء الثانى

من كراسات التدريب (1)

صفحة 7

page 7

نجيب محفوظ

أم كلثوم

فاطمة

إنما الأعمال بالنيات

وإنما لكل امرئ ما نوى

الحمد لله رب العالمين

نجيب محفوظ 

نجيب محفوظ

1/2/1995  

القراءة

 لم يكتب كثيرا هذا اليوم

يا ترى هو قد اطمأن إلى قدرته على الكتابة؟  أم أنها اصبحت أقل جذبا

وهل يا ترى استغنى عن بعض الكتابة بالرسوم أعلى الصفحة

اليوم كتب اسمى كريمتيه دون أن يلحق بأى منهما “نجيب محفوظ”، فتأكد لى خطئى السابق فى تفسير تواتر كتابة أسمائهما، هو يكتبهما لأنهما معه طول الوقت، إسماهما تماما هما اسمه، رقة ابوته بالغة، لم أفهم بعض تفاصيلها، ولم أناقشه فيها، حاولت أن أتعلم منها، لكن يبدو أن الآوان قد فات.

المحتوى هذا اليوم بسيط

إنما الأعمال بالنيات

وإنما لكل امرئ ما نوى

وهو واضح الدلالة بما لا يحتاج إلى تعقيب تقريبا

النص مختصر جدا وذائع ومتكرر، والشريف له دلالته العميقة التى لا ينتبه لها العامة بالقدر الكافى”..

أنا لم أطلع على هذه الكراريس أولا بأول لأرى ما كتبه فيها يوما بيوم، كنت أتصفحها مقارنا، لأميز التقدم فى شكل الكتابة ، دون النظر فى محتواها، لكننى الآن (اليوم الاثنين 17 /1/2010) أسمح لذكرياتى وتداعياتى  التى تحضرنى من صحبتى معه أن تنساب مستثارة بما كتب .

 ذات مرة سألته عن رأيه فى حكاية حسن النية، وموقفه منها، وقلت له إننى  عادة لا أقبل الاعتذار بحسن النية، حتى من مرضاى، فأنا أحترمهم لدرجة أننى أحملهم مسئولية ما لا يعرفونه عن أنفسهم، لنبدأ من جديد معا، وتماديت فقلت  إننى أفضل أن أتعامل مع سوء النية، حتى أواجه صاحبها بمسئوليته، كان الأستاذ  يرفض منى عادة مثل هذه المواقف، كنت أشعر أنها تتناقض مع سماحه الشديد، لم أفلح أبدا أن أوصل له مثل هذه الآراء التى تبدو قاسية لأول وهله، كان يحترم ما أقوله ثم يعترض، بطريقته، اعتراضا هادئا قويا كعادته، لا يوجد تعارض بين القوة والهدوء، وحين تماديت فى شرح وجهة نظرى، وأن موقفى ينطلق من احترامى الشديد للإرادة الداخلية لكل إنسان، وأن أى واحد  مسئول مسئول مسئول عن كل مستويات وعيه ونواياه،  حتى المجنون أنا أتعامل معه بمسئولية مشتركة احتراما وسماحا فى نفس الوقت. ، لم أفلح أن أوصل فكرتى بدرجة كافية. أذكر أن المناقشة انتقلت بنا إلى استشهادى بمقولة لا أذكر قائلها تفيد أن كثيرا من الكوارث الكبرى تحدث تحت مظلة حسن النية، واذكر أننى استشهدت بتصريحات  بعض المسئولين عن هزيمة 1967 بأنهم كانوا حسنى  النية إذ أغلقوا مضايق تيران بعد أن أخفوا علينا أنهم فتحوها طوال هذه السنين، وأنهم لم يتصوروا – بحسن نية- أن الحرب سوف تقوم بسبب ذلك، ناهيك عن الهزيمة، كانت هزة رأسه هذه المرة أقوى وأحنى وأرحب، وكنت قد اعتدت أن أعرف الموافقة من عدمها، من زاوية انحناءة رأسه بالإيماء نحو صدره.

مرة أخرى ، قلت له ما رأيك فيما وصلت إليه من أنه : “إنما النيات بالأعمال”، فصححنى من جديد، وقال : بل إنما الأعمال بالنيات ، مثلما كتب ذلك فى هذا التدريب المؤرخ أول فبراير 1995، لا أذكر طبعا إن كان هذا النقاش دار قبل ذلك أو بعد ذلك، أصررت أن أوصل له فكرتى وأننا نعيش الوعود المفرغة من ضمان تنفيذها، وحين نواجه قائلها لا ينكر أنه عجز عن الوفاء بها، بل يحتج بأنه حين وعد كان حسن النية، ويتكرر ذلك حتى صرت ألقى كل هذه النوايا جانبا إلى أن أرى فعلا ماثلا، ومن هنا لا ينبغى أن نطمئن لأية نية – مهما حسنت- ما لم تحمل بشائر ومقومات تنفيذها  اليوم، خريطة الطريق مثلا هى خريطة بلا طريق، هى مثابة حسننية ورقية عبى مكاتب المفاوضين، لا علاقة لها بالزمن ولا بأرض الواقع.  فلا قيمة لها إلا إذا ترجمت فعلا إلى خطوات تنفذ كأعمال نراها رأى العين،  وهكذا، كل مفاوضاتنا مع إسرائيل ووسطائها لم تنتقل من مرحلة النوايا، حتى أننى لم أعد أصفها بالنوايا الحسنة، لأنه لا يوجد ضمان أنها حسنة مهما ادعى صاحبها ذلك،  لعل الأستاذ وافقنى بصعوبة على ما أعتقد، إن كان قد وافقنى.

ثم تطرق الحوار إلى أصل الحديث الشريف، لست أذكر أهو الذى ذكرنى به أم أنا الذى أردت أن استوثق من وجهة نظرى بتفسيرى الخاص جدا، قلت له إننى أقرأ  “لكل امرئ ما نوى” أن ذلك بشرط أن يخرج ما نوى إلى عمل ملموس، وأن الله لا يجازى الفرد على مجرد النية،  فنبهنى من جديد إلى أن الله سبحانه يجزى من  همّ بحسنة ولم يفعلها جزاء حسنا، فاستعبطت، وقلت له بل إن من هم بسيئة ولم يفعلها فله حسنة، ولهذا فأنا أحترم سوء النية، وكله بثوابه، وضحكنا.

 وأنا أكتب الآن ما أكتب، قلت أرجع إلى منهجى فى قراءة ما خطّ شيخى  تدريبا. حضرنى حديث آخر أكثر تحديدا وتفصيلا، وتصورت أنه قد كان – أيضا – وراء تلك البضع كلمات التى خطها شيخى هذا اليوم، أذكر القارئ بالمنهج الذى أتبعه فى هذه القراءة : وهو أننى أعتبر ما خط شيخى من كلمات، هو مجرد قمة جبل الوعى المعرفى الذى حضره ولم يظهر منه إلا هذه الكلمات التى تركها لنا ُ على الورق دون قصد، ، فجاءنى حديث شريف آخر، اعتبرته مكملا، وهو  حديث شريف عن من “تسعر” بهم النار يوم القيامة (استعرت النار : توقـَدت) : “…من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم ومجاهد ومُنفق، اما العالم فيسأله اله الله يوم القيامة عن علمه فيقول، يارب تعلمت العلم وعلمته  للناس فى سبيلك، فيقول له الله عز وجل : كذبت تعلمت العلم ليقال إنك عالم وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ الى النار، اما المجاهد فيساله الله عن جهاده فيقول، يارب قاتلت فى سبيلك لتكون كلمتك هى العليا، فيقول له رب العزة :كذبت قاتلت من أجل  أن يقال إنك شجاع وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ الى النار، اما المٌنفق فيساله رب العزة عن ماله فيقول، يارب انفقته فى سبيلك ، فيقول له رب العزة : كذبتأانفقته ليقال إنك جواد كريم وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ إلى النار

قد يرجح أن المنهج الذى أتبعه الآن قد يكون مناسبا، وأن هذه الكلمات القليلة وراءها موقف عميق دال، ه ما أذكره حول نفس الموضوع حين كنا نتحاور حول  ما آل إليه حال البحث العلمى فى الجامعة وغير الجامعة، وأن قلة نادرة هى التى تتعامل مع البحث العلمى على أنه “بحث” و “علمى”، وأنه أصبح مجرد وسيلة لغير العلم، وغير المعرفة، وكنت استشهد بالحديث الذى أثبته الآن، قياسا، وأقول له: فمن كانت “دكتوراهُهُ” لدرجة ينالها، أو وظيفة يشغلها، “فدكتوراهُهُ” لما قصده بها، ومن كانت “دكتوراهُهُ” للبحث والعلم والكشف والنفع، فهى لوجه الله والناس والوطن،وكان يفرح بهذه القياسات، لكنه يشك فى مبالغتى حين أمد هذا القياس إلى الأساتذة، ولجان الترقى، وأحيانا ، إلى بعض الذين يكتبون أدبا (يسمونه إبداعا) يخاطبون به مسئولى الترجمة فى الخارج وهم يعرفون ماذا يجذبهم، وماذا لا يشغلهم.

كان شيخى إذا ما زوّدتها فى هذه التعرية، حتى دون تعميم، يلتفت إلىّ وكأنه ينهرنى أنه ليس إلى هذا الحد يا شيخ (مش قوى كده يا شيخ)، وكان زكى سالم، وأيامها كان يعد الدكتوراه فى ابن عربى، ، وقد نالها بتوفيق بعد ذلك بسنوات، (الآن د. زكى سالم،واشهد أن “دكتوراهُهُ” هى لابن عربى ومن يمثله) كان يؤيدنى بروايات من واقع اتصاله بالجامعة، وهو من خارجها، فيبدو على شيخنا التصديق، لكنه يدق وهو متألم  بحق وكأنه يود ألا يصدق، فعلاقته بالعلم والعلماء، هى علاقة خاصة جدا، ومبجَّلة جدا، وآملة جدا، ومُحبة جدا، وسوف يأتى ذكرها فى يومية قادمة  بالتفصيل غالبا .

وإلى الحلقة القادمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *