الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كراسات التدريب (1) صفحة 14 و صفحة 15

من كراسات التدريب (1) صفحة 14 و صفحة 15

نشرة “الإنسان والتطور”

18-2-2010

السنة الثالثة

العدد:  90218-2-11

الحلقة الحادية عشر

الاثنين‏ 9/1/1995‏

اتصلت‏ ‏بكل‏ ‏الناس‏ ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أوفّق‏ ‏فى دعوتهم للحضور‏ ‏معنا هذه الليلة‏، ‏ذهبت‏ ‏مترددا‏ ‏خجلا‏، ‏بل‏ ‏خائفا‏ ‏من‏ ‏عجزى ‏عن‏ ‏ملء‏ ‏الوقت‏ ‏بما‏ ‏يفيد‏ ‏ويهمه‏ ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏تعودت‏ ‏منه‏ ‏وفهمت‏ ‏عنه‏، ‏دخلت‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏السادسة‏ ‏ويدى ‏على ‏قلبي، ‏وجدته‏ ‏مرتديا‏ ‏جاهزا‏ ‏فى ‏الردهة‏ ‏كالعادة‏، ‏قال:‏ ‏معك‏ ‏أحد؟‏ ‏قلت‏: ‏لم‏ ‏أعثر‏ ‏على “‏زبائن”‏، ‏قال‏ ‏حتى ‏”محمد” (إبنى، كان قد اعتاد صحبته بديلا عنى، وأحيانا معى)، ‏ ‏قلت‏ له إنه يحضر‏ ‏مناقشة‏ ‏رسالة‏ دكتوراه لزميل له‏، ‏انتقل هو فجأة إلى موضوع آخر ليخبرنى أن‏ ‏زوجته‏ ‏الكريمة غير موجودة لأن ‏عندها‏ ‏واجب‏ ‏عزاء‏، ‏ابنة‏ ‏أخته‏ ‏ماتت‏ ‏اليوم‏، ‏وذكر‏ ‏لى ‏آسفا‏ ‏أن‏ ‏ثلاثة‏ ‏من‏ ‏أبناء‏ ‏إخوته‏ ‏قد‏ ‏انتقلوا إلى رحمة الله‏ ‏منذ‏ ‏أن‏ ‏دخل‏ ‏المستشفى بعد الحادث: ‏إبنة‏ ‏أخ، ‏وابنة‏ ‏أخت‏،  و‏هذه‏ ‏هى ‏الثالثة‏، ‏كان‏ ‏آسفا لا يُخفى حزن الفقد، ‏لكن‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يشغله‏ ‏عن‏ ‏الاندفاع‏ ‏نحو‏ ‏الباب‏ ‏للخروج‏، ‏لا‏ ‏أدرى ‏لماذا‏ ‏كنت‏ ‏أتصوره‏ ‏دائما‏ ‏بلا‏ ‏أخ‏ ‏ولا‏ ‏أخت‏، ‏لماذا‏ ‏دهشت‏ ‏أول‏ ‏مرة‏ ‏حين‏ ‏حدثنى ‏عن‏ ‏زوجة‏ ‏ابن‏ ‏أخيه‏ ‏الذى ‏لها‏ ‏قريب‏ ‏فى ‏المخابرات‏، ‏وهأنذا‏ ‏أكتشف‏ ‏أن له أخوات، مثل سائر البشر، وأن أخواته يلدن بنات، ‏ولابد‏ ‏أنهن‏ ‏يكبرن فى‏ ‏السن‏ ، ولهن أجل مسمى‏ فمن أين تأتى الدهشة، دهشتى؟ وجدت نفسى عاجزا عن العزاء العادى، حتى بكلمات مثل “‏البقية‏ ‏فى ‏حياتك‏” ‏لا‏ ‏أدرى ‏لماذا؟ لكننى شاركته صامتا،‏ ‏كان يحكى لى كل ذلك ‏ ‏وهو‏ ‏فى طريقه بخطى أسرع مما اعتدت نحو  الباب، ثم تأكد لى ذلك بعد أن استدار وأغلقه بإحكام بنفسه، كأنه كان‏ ‏يخشى ‏أن‏ ‏أرجع‏ ‏فى ‏كلامى ‏ونعدل عن الخروج تأثرا بهذه الأخبار المحزنة، خاصة وأنه لا يوجد معنا ثالث هذه الليلة، بدا لى أن اندفاعه خارجا بلهفة وطيبة يؤكد لى أنه ‏ ‏المشتاق‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏الهواء‏ ‏والناس، أصبحت أرى ذلك أمرا طبيعيا بعدما حفظته‏. قال‏ ‏ردا على عجزى عن العثور على “زبائن” لهذه الليلة، : ليكن‏، ‏فلنمض‏ ‏الليلة‏ ‏رأسا‏ ‏لرأس‏ (‏قالها‏ ‏بالفرنسية ‏Tete a tete ) ‏وفرحت،لكن خوفى من امتحان الانفراد به ليلة بأكملها ظل يلازمنى.

ركبنا‏ ‏العربة‏، ‏وقال:‏ “‏إلى ‏أين؟”‏ ‏قلت‏ ‏له‏ ‏”كما‏ ‏تشاء‏، ‏ما‏ ‏رأيك‏ ‏فى ‏المعادي؟”، ‏قال‏” ‏ليكن‏، ‏أنت‏ ‏نِـفسك‏ ‏فى ‏المعادى ‏من‏ ‏زمان!”‏، (‏لم‏ ‏ينس‏: ‏عرضا‏ ‏عرضته‏ ‏منذ‏ ‏عشرة‏ ‏أيام‏) ‏ذهبنا‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏إلى ‏مقهى (كافتريا) ‏ ‏أحد‏ ‏الفنادق‏ الفخمة ‏على ‏النيل‏ ‏فى ‏المعادى، ‏وجلسنا‏ ‏وسط‏ ‏أناس قلائل ‏ ‏فى ‏ركن‏ ‏قصى، أغلبهم من الشباب الغض، لم أكن بعد قد رتبت خروجا منتظما إلى هذا الفندق بالذات الذى أصبح بعد ذلك مكان لقاء الأربعاء باستمرار. عرفه النادل  ‏طبعا‏، ورحب بنا فرحا، ‏سألته‏ ‏عن‏ ‏الينسون‏ ‏والكراوية، ‏ ‏تردد ‏قليلا‏ ‏متعجبا دون اعتراض، فهذه الفنادق غالبا لا تقدم هذه المشاريب، لكن النادل أجاب بسرعة ‏أن‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏يمكن ترتيبه فورا، حتى لو لم يكن موجودا جاهزا، ‏اعتذرت‏ ‏له‏ ‏بصوت مرتفع نسبيا لعله يصل إلى الزبائن القلائل الموجودين، عن‏ ‏علو‏ ‏صوتى‏‏ نسبيا أثناء الحوار وأنا أخاطب الاستاذ،  ‏فرحبوا‏ ‏بطيبة‏ ‏المصريين‏ ‏المحبين‏ ‏له المرحبين به، فى ‏كل‏ ‏مكان.

كنت ما زلت مشغولا بحديث أمس عن رسالة الأستاذ لندوة الأهرام، وعن حديثنا عن ‏الإسلام‏ ‏والمستقبل، لكننا هنا فى مكان عام، وتصورت أن فتح هذا الموضوع الحساس ‏بهذا‏ ‏الصوت‏ ‏العالي، ‏صوتي، ليس مناسبا، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏أتردد‏ ‏فى ‏انتهاز‏ ‏الفرصة‏.‏

رجعت‏ ‏لاستفسارى ‏الملُح‏ ‏مستوضحا‏ ‏معنى ‏أن‏ ‏مستقبلنا‏ هو ‏”‏الاسلام‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏مع‏ ‏العلم”‏ ‏فراح‏  ‏يعيد‏ ‏شرح‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏ دون ملل قائلا: “‏لكى ‏تكلم‏ ‏الناس‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏ما‏ ‏يجعلهم‏ ‏يسمعونك‏، ‏والإسلام‏ ‏الآن‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يشغل‏ ‏الوعى ‏العام‏، ‏عندك‏ ‏خمسين‏ ‏مليون‏ ‏بنى ‏آدم‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تجعلهم‏ ‏يعملون‏، ‏وينتجون‏، ‏وقد‏ ر‏قدوا‏ ‏فى ‏الخط‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏يحركهم،‏ ‏وهم‏ ‏يرددون‏ ‏فرحتهم‏ بأنهم ‏مسلمون‏ ‏ويريدون‏ ‏أن‏ ‏يتمسكوا‏ ‏بدينهم‏، ‏إذن‏ ‏فلتكن‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏البداية‏، ‏ولتقل‏ ‏لهم‏ ‏إن‏ ‏المسلم‏ ‏يعمل‏ ‏ويتدرب‏ ‏ويتعلم‏ ‏ويعلـَم‏، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏نحافظ‏ ‏على ‏استمرار‏ ‏عطاء‏ ‏وحركة‏ ‏العلم،‏ ‏وليحكمنا‏ ‏من‏ ‏يقدر‏ ‏أن‏ ‏يسيـّرنا‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نخاطب‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يتمسكون‏ ‏به‏”.‏

قلت‏ ‏له‏ إن العلم الآن يقفز قفزات عملاقة، ويغير من مناهجه، وينقدها، ويضيف إليها فى حركة وثابة، لا يستطيع أن يلاحقها كثير من العلماء أنفسهم  عبر العالم، فما بالك  عندنا، حيث توقف أغلب من يتصور أنه يتعاطى العلم عند  علوم ومناهج الستينات حتى الثمانينات على الأكثر، ثم أضفت أن العالِم لا يكون‏ ‏عالما‏ ‏بحق‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏جو‏ ‏من‏ ‏الحرية‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تضع‏ ‏حدودا‏ ‏لحركية وعيه وتفكيره، وأن المسيرة العلمية الأصدق تتأبى عن أية وصاية من خارج حركية الإبداع العلمى المتجدد، وأن العلم الأحدث بمعنى الأحدث صار يعد، وينذر، ويوصى، ويشترط السماح بإعادة  ‏النظر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏المعطيات ‏دون استثناء، فكيف نطمئن إلى درجة السماح اللازمة لمثل هذه الحركية إذا كان ‏الحكام‏ ‏مسلمين، لهم مرجعية من خارج هذه الحركية الطليقة، هذا ما لا أستطيع تصور تحقيقه، ولا أتصور أن العالِم العالِم يحتمل أية وصاية على طلاقة سعيه إلى المعرفة المتغيرة أبدا، ولا أن ربنا يرضى له بذلك.

‏بصوت‏ ‏متواضع‏ ‏بعد‏ ‏تفكير‏ ‏صامت‏، أصر‏ ‏الاستاذ‏، ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يظن‏ ‏أن الأمر ‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏، ‏وحتى إن‏ ‏كان‏ ‏كذلك‏، ‏فلنأخذ‏ ‏من‏ ‏العلم‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏المناهج‏ ‏الجديدة‏، ‏ولنركن‏ ‏جانبا‏، ولو لبعض‏ ‏الوقت‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏المسائل‏ ‏الفلسفية‏ ‏ونوع‏ ‏التفكير‏ ‏الذى ‏يمزج‏ ‏العلم‏ ‏بالعالـِم‏ هكذا، ثم راح يؤكد أن الحل الحقيقى لأزمة الإنسان المعاصر، هو فى الإنجاز العلمى الحقيقى تحت كل الظروف.

قلت‏ ‏له‏ ‏أراك‏ ‏مثل‏ ‏كثير من ‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏يعملون‏ ‏بالعلم‏ ‏فعلا‏، فهم ينتظرون من العلم ما لا يقدر عليه فى واقع الحال، قلت له ‏أنت أديب مبدع رائع، تعطى ‏للعلم‏ حتى فى حدود ما شاع عنه من عقدين أو ثلاثة أكثر ‏مما‏ ‏يستحق‏، وتنتطر منه أكثر مما يَعِدْ، كما أبنتُ له ما يصلنى من أن العلماء الأقدر على الإضافة الآن، ‏ يأملون فى توسيع دائرة حركتهم المعرفية ‏ ‏بالنهل‏ ‏من‏ ‏مناهج وروافد‏ ‏الفن‏ ‏والأدب‏ ‏والإيمان، ثم إن المناهج العلمية الأحدث تتحدى الآن ما أصبح يسمى  الكنيسة العلمية، يتجلى ذلك خاصة بالنسبة  للعلوم الكموية الأحدث، والعلم المعرفى الأحدث أيضا، (لم أكن قد قرأت له بعد مقالى القصير “أينشتاين شاعرا” الذى نشرته فى الأهرام لاحقا وأعجب به وهو الذى عرّفت فيه الشعر بما هو تشكيل لغوى مقتحم فيه، ليس مجرد قرض الشعر فى قصيدة، وبالتالى فإن الشعر شعرٌ، حتى لو كانت أبجديته علمية بحته، أو رياضية صرف)، أطرق طويلا أكثر، وقال إنه لم يتابعنى بالتفصيل، ولكنه فى النهاية يوافقنى من حيث المبدأ، خيل لى أنها موافقة  مجاملة ولو جزئيا‏، ‏ثم‏ ‏عاد‏ ‏يصر‏ على ‏أن‏ ‏تضخم‏ ‏عطاء‏ ‏العلم‏، ‏حتى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏منهج‏ ‏محدود‏ ‏سوف‏ ‏يتيح‏ ‏لأى ‏حكم‏ ‏كائنا‏ ‏من‏ ‏كان‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عصريا‏، ‏وأن‏ ‏يتقدم‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏حتى ‏يصلح‏ ‏أخطاءه‏ لصالح ناسه.

أعلنت له شكوكى حول هذا الاحتمال،‏ ‏وجادلته كثيرا، ‏ ‏وضربت‏ ‏له‏ ‏مثلا‏ ‏من التسطيح‏ ‏الجارى ‏بسبب تلك ‏المحاولات‏ ‏التبريرية المتعسفة لتفسير ‏النص‏ ‏الدينى ‏بالعلم‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يتصورن‏ ‏أنه‏ ‏علم‏، وأن ما يصلنى من هذه المحاولات إنما يؤكد لى ‏أن‏ ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏حكم‏ ‏دينى ‏سيظل‏ ‏موصى عليه، أى محكوما‏ ‏بنصوص‏ ‏من‏ ‏خارجه‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏حرمان‏ ‏العالم‏ – ‏والمفكر‏- ‏من‏ ‏حريته‏ ‏الحقيقية‏ ‏لن‏ ‏يسمح‏ ‏بإضافة‏ ‏حقيقية، وقد ينتهى بنا الأمر أن نرضى بأن ‏ ‏نظل‏ ‏تابعين‏ ‏لغيرنا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏محدود‏ ‏نسميه‏ ‏العلم‏، فى حين أنه‏ ‏لا‏ ‏يعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ظاهر‏ مرحلة من مراحل تاريخ العلم ليس إلا، وأن الأرجح عندى أن الحاكم الخائف من التغيير الجذرى سوف يحتمى بتفسير النصوص دون إيحاءاتها، وأنه سوف ينتقى التفسير الذى  يدعم موقفه وموقعه اللاعلمى، ثم يفرضه على العلماء وغير العلماء ليضع لنفسه وكرسيه حدودا آمنة.

 لا حظ حماسى، وربما أشفق علىّ، فأطرق ‏ ‏صامتا‏ مدة أطول فأطول، ثم‏ ‏رفع‏ ‏رأسه‏ ‏وهو يقول‏ ‏”إن‏ ‏الحرية‏ ‏الحقيقية‏ ‏قد‏ ‏تـُظهر‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الاحتمالات‏ ‏أمام‏ ‏الناس‏، ‏وفى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏لن‏ ‏يختاروا‏ ‏من‏ ‏يحقق‏ ‏مخاوفك‏ ‏هذه‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏اختاروه‏ دون أن يعرفوا عنه ذلك، ثم تبين لهم أنه سجن فكرهم فلن يعيدوا اختياره ‏فعلينا‏ ‏أن‏ ‏نتحمل‏، ‏ولنضع‏ ‏جانبا‏ ‏المناطق‏ ‏الإشكالية والمختلف حولها  ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏حتى ‏نقف‏ ‏على ‏أقدامنا‏، ‏ما‏ ‏داموا‏ ‏سيتركون‏ ‏العلم‏ ‏يترعرع‏.‏

قلت‏: ‏كيف‏ ‏يترعرع‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏جو‏ ‏محكوم‏ ‏بحدود‏ٍٍ ‏من‏ ‏خارجه‏.‏

قال‏: ‏سيترعرع

أعجبت‏ ‏إعجابا‏ ‏لا‏ ‏مثيل‏ ‏له‏ ‏بصبره‏ ‏وعناده‏، ‏هذا‏ ‏المفكر‏ ‏المبدع‏ ‏الذى ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏ليضيف‏ ‏به‏ ‏ويتحرك‏ ‏معه‏، ‏يرضى ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏القيود‏ ‏احتراما‏ ‏للواقع‏، ‏وأملا‏ ‏فى ‏المستقبل‏.‏

‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏دار‏ ‏بصوت‏ ‏عال‏ ‏وبجوارنا‏ ‏شاب‏ ‏وفتاة‏ ‏يتناجيان‏، ‏نظرت إليهما فوجدتهما قد استقرقا فيما هم فيه فلا يكادان يشعرنا بوجودنا أصلا، قلت‏ ‏سليمة‏ ‏والحمد‏ ‏لله‏.‏

حولت‏ ‏الحديث‏ ‏سائلا‏ سؤالاً تكرر منى كتيرا (‏منتهزا‏ ‏فرصة‏ ‏استفرادى ‏به‏)‏: “أنا‏ ‏لم‏ ‏أحضر‏ ‏أيا ‏من‏ ‏جلساتك‏ ‏فى ‏أى ‏مقهى ‏كنت‏ ‏تجتمع‏ ‏فيه‏ مع أصدقائك والناس. … ‏فهل‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أسأل‏ ‏كيف‏ ‏ ‏تحتمل‏ ‏كل‏ ‏الأسئلة‏ ‏العشوائية‏ ‏والتلقائية‏ ‏والمناقشات‏ ‏السطحية التى أرجح أنها كانت تدور فى تلك الجلسات؟‏’.‏

قال‏ ‏إن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مسألة‏ ‏إحتمال‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نتعلم‏ ‏كيف‏ ‏نسمع‏ ‏ونرد‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏السائل‏ ‏والسؤال‏.‏

قلت‏: ‏أظن‏ ‏أنك‏ ‏كنت‏ ‏تتلقى ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏الأسئلة‏ ‏التافهة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏رد‏ ‏أصلا‏.‏

قال‏: ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏السؤال‏ ‏تافها‏ ‏لكن‏ ‏السائل‏ ‏ليس‏ ‏تافها‏، ‏إذن‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏ترد‏ ‏عليه‏ ‏وتحترم‏ ‏محاولته‏ ‏مهما‏ ‏كان‏.‏

يا‏ ‏خبر‏!!‏

أى ‏درس‏ ‏هذا‏! ‏وأى ‏تحمل!!‏، ‏أين‏ ‏أخفى صورتى شخصيا عن ‏مشاعرى ‏الساخرة‏ (‏الفوقية‏ غالبا) ‏التى ‏كانت‏ ‏تتلقى ‏مثل‏ ‏تلك‏ ‏التساؤلات‏ ‏السطحية‏ إذا ما عرضت علىّ، ‏فأرفض‏ ‏الرد‏ ‏أصلا‏ ‏وربما أدمغ‏ ‏قائلها‏ ‏قبل أن أمعن النظر فيما قال؟‏ ‏يا‏ ‏خبر‏!! ‏تعلمت‏، ‏ولم‏ ‏ألزم‏ ‏نفسى ‏بالوعد‏ ‏بالممارسة‏، خشيت أن أعجز تماما.‏

سرعان‏ ‏ما‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏الموضوع‏ ‏المتحدى ‏الأصلى ‏لأسأله‏ ‏عن‏ ‏الإبداع فى الفن والأدب ‏ ‏فى ‏ظل‏ ‏الحكم‏ ‏ ‏الذى ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يقنعنى‏ ‏أن‏ ‏أرضى ‏به‏.‏

أجابنى ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏قد‏ ‏يتوقف‏ ‏قليلا‏، ‏لكن‏ ‏الناس‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تعيش‏ ‏بدونه‏ ‏وسوف‏ ‏يجدون‏ ‏له‏ ‏مخرجا‏ ‏مثلما‏ ‏وجدوا‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏ألم‏ ‏يكن‏ ‏الطرب‏ ‏والفن‏ ‏والشعر‏ ‏بل‏ ‏والشرب‏ ‏والرقص‏ ‏موجودون كلهم ‏فى ‏العصر‏ ‏العباسى ‏وعبر‏ ‏العصور‏ ‏الإسلامية‏ ‏كلها؟‏ ‏وأضاف‏: ‏بعد‏ ‏فترة‏ ‏التشدد‏ ‏المبدئية‏ ‏سوف‏ ‏يرتخى ‏الحكام‏ ‏ويتصرف‏ ‏المحكومين‏، ‏الإنسان‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏لنفسه‏ ‏متنفسا‏ ‏تحت‏ ‏كل‏ ‏حكم‏ ‏مهما‏ ‏كان‏، ‏لأن‏ ‏طبيعته‏ ‏غالبة‏ ‏ووسائله‏ ‏لا‏ ‏تنتهي‏.‏

لم‏ ‏أجد‏ ‏ردا جاهزا‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏مازلت‏ ‏منبهرا‏ ‏بما يقول، برغم رفضى وتحفظى، مندهشا‏ ‏من مفاجأة هذا الحوار. إن‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏بالذات‏ ‏الذى ‏يقول‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏بالذات‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏خططوا‏ ‏لقتله‏ ‏بالذات‏، ‏باستعمال شاب ساذج أعمى ‏لا‏ ‏يعرفه‏ ‏ولن‏ ‏يعرفه أمثاله أبدا‏.  ‏أنا‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏أحسب‏ ‏أننى ‏أعرفه‏، ‏وأننى ‏درست كثيرا من أعماله ناقدا‏، ‏وأننى ‏قادر‏ ‏على ‏الإحاطة‏ ‏بما هو وما أنجز، ‏بدأت‏ ‏أكتشف أننى لا أعرفه فعلا، وخاصة بالنسبة لهذا العناد ‏الشديد‏ ‏التفاؤل بمسيرة البشر، ‏الشديد‏ ‏الصبر‏ ‏على الاختلاف، الشديد‏ ‏الثقة‏ ‏بمستقبل‏ ‏الانسان‏.‏

بدا‏ ‏وكأنى ‏مقتنع‏ ‏بما‏ ‏قال‏ ‏مع‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏ ‏جدا‏ ‏

سكت‏ ‏ودار‏ ‏الحديث‏ ‏بسيطا‏ ‏عن‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يشرب‏ ‏من‏ ‏القهوة‏ ‏إلا‏ ‏رشفتين‏، ‏ويترك‏ ‏بقية‏ ‏الفنجان‏ ‏هكذا‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يكفيه‏، ‏كذلك‏ عن ‏السيجارتين‏ بالعدد ‏كل‏ ‏خروجة‏ ‏لا‏ ‏تزيدان أبدا، وعن ‏نصف‏ ‏كوب‏ ‏الينسون‏، ‏ونصف‏ ‏الطعمياية‏، ‏ونصف‏ ‏قطعة‏ ‏الجبن‏، ‏ليس‏ ‏تقشفا‏ ‏ولكنه‏ ‏صورة‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏الرضا‏ ‏بعينات كافية ‏ ‏دالة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏نوع‏ ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏وعى ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏رأى‏.‏

بعد‏ ‏فترة‏ ‏صمت‏ طالت، ‏خشيت‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏دهشتى مسئولة عنها‏‏، ‏أو لعل مفاجأة استفرادى به قد انتهى عمرها الافتراضى، خطر لى ما قاله ونحن نخرج من باب منزله، وأننا سوف نكون معا ‘‏رأسا‏ ‏لرأس‏’، قلت لنفسى : حتى الآن يخيل إلى أننى نجحت ولو جزئيا. لكن  ماذا بعدُ وأنا لم يعد عندى ما أقوله بعد هذه الجرعة الدسمة. فاجأنى بأنه هو الذى قطع الصمت هذه المرة حين التفت ‏ ‏إلىّ ‏ فجأة سائلا‏ ‏‏:

‏- ‏ولكن‏ ‏ماذا‏ ‏ترى ‏أنت‏ ‏فى ‏مستقبلنا؟

دهشت‏ ‏للسؤال‏ ‏هكذا‏، أنا؟ ‏، ‏قلت‏ ‏لنفسى: ‏هل‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الوضوح‏ ‏والصبر‏ ‏والتخطيط‏ ‏والردود‏ ‏يسألنى أنا؟ نظرت إلى وجهه وقد أمال رأسه نحوى وشعرت  ‏أنه‏ ‏يريد ردا منى ‏فعلا،‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏رأيى ‏تحديدا‏، ‏وأن‏ ‏يستمع‏ ‏إليه‏ ‏ ‏، ‏فهو‏ ‏لايمتحننى ‏ولايتفرج‏ ‏علي‏.‏

قلت‏ ‏له‏: ‏مرعوب‏ ‏والله‏ ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏ ‏شيء‏ ‏كبير‏ ‏آخر

صمت‏ ‏وهز‏ ‏رأسه‏، ولم أعرف هل كانت علامة موافقة، أم تأمل، أم انتظار.

ومضينا‏ ‏إلى ‏السيارة

فى ‏السيارة‏ – ‏كان‏ ‏جالسا‏ ‏بجوارى ‏إلى ‏يمينى ‏فى ‏الكرسى ‏الأمامى ‏مال‏ ‏على ‏قليلا‏، ‏وسألنى ‏فجأة‏:

 ‏هل‏ ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏السياحة‏ ‏مضروبة؟

قلت‏: ‏نعم‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏.‏

الثلاثاء‏ 10/1/1995‏

مررت‏ ‏عليه‏ ‏ظهرا‏، ‏قال‏ ‏لى ‏بادئا‏: ‏إن‏ ‏الحكم‏ ‏سيصدر‏ ‏اليوم‏،

 ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏مستشفى ‏الشرطة‏ ‏على ‏الناصية‏ ‏المقابلة‏، ‏وقابلت‏ ‏المدير‏ ‏وأخبرنى ‏بتفاصيل‏ ‏الحكم‏ ‏وكأنه‏ ‏يهنئني، ‏اثنين‏ ‏إعدام‏ ‏واثنين‏ ‏مؤبد‏ ‏وتسعة‏ ‏سجن‏ ‏وثلاثة‏ ‏براءة‏، ‏رجعت‏ ‏لتوى ‏منقبضا‏، ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الحكم‏ ‏ضمن‏ ‏هذا‏ ‏المسلسل‏ ‏له‏ ‏أية ‏فائدة‏ ‏حقيقية‏ ‏منذ‏ ‏بدأ‏، ‏لا فائدة جزائية، ولا وقائية، ولا رادعة، وأظن‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ كان يشاركنى ‏الرأى، ‏رأيت‏ ‏تعبير‏ ‏وجهه‏ ‏متألما‏، وكأنه يشفق على المحكوم عليهم، وكان قد رفض من قبل أن يتدخل طالبا العفو عنهم كما اقترحتُ ذات مرة، مادام مشفقا عليهم هكذا، أبان لى بوضوح أن القضاء هو القضاء وأن العدل له مجراه لصالح الأفراد والمجتمع، وحين صدر الحكم وأخبرته به الآن، قال‏: ‏لا‏ ‏تعليق‏، ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يحق‏ ‏لأى ‏شخص‏ ‏أن‏ ‏يعلق‏ ‏على ‏حكم‏ ‏القضاء‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏بالمديح، ‏فهمت‏، ‏واحترمت‏، ‏وذكرته‏ ‏بعبد‏ ‏العزيز‏ باشا ‏فهمى ‏ورفضه‏ ‏لشكر‏ ‏أو‏ ‏مديح‏ ‏شخص مهم‏ ‏ ‏لحكم‏ ‏أصدره‏، ‏محتجا بأن ‏ ‏من‏ ‏يملك‏ ‏حق‏ ‏المديح‏ ‏اليوم‏ ‏يملك‏ ‏حق‏ ‏الذم‏ ‏غدا. ‏ ‏خيل‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏زوجته‏ ‏الفاضلة‏ ‏تعانى‏ ‏مثله‏ ‏من‏ ‏حكم‏ ‏الاعدام‏ ‏على ‏اثنين، انتبهت من حوار قصير معها أن ما ‏انتبهتْ إليه من الحكم أكثر ‏هو‏ ‏الحكم‏ ‏ببراءة‏ ‏ثلاثة‏، ‏و‏ ‏أنها‏ ‏تخشى ‏أن هؤلاء‏ ‏الثلاثة‏ ‏حين‏ ‏يطلق‏ ‏سراحهم‏ ‏سيكونون‏ ‏مصدرخطر‏ جديد، طمأنتها قائلا إنها غلطة لن تتكرر، لا من هؤلاء الثلاثة ولا من الثلاثمائة ألف أو مليون من زملائهم، وأن الله خير حافظا، وهو أرحم الراحمين، وأنهم لو علموا موقفه منهم لتمنوا على الله أن يكون شفيعهم فعلا، اطمأنّتْ، ودعتْ، وشكرتْ، وحمدتُ الله.

خرجت‏ ‏متألما

وتركته‏ ‏متألما‏ ‏أكثر‏.‏

والتفتُّ إلى الزوجة الفاضلة، واستأذنت واحترمت عودة مخاوفها

وانصرفت

 *****

الجزء الثانى

من كراسات التدريب (1)

      صفحة 14

‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏

نجيب‏ ‏محفوظ

 

الهدى من الله

قفا نبك من ذكرى حبيب

 

نجيب‏ ‏محفوظ‏

نجيب محفوظ

 8/2/1995

 

 القراءة

ليس فى كتابته اليوم جديد، فقد سبق أن ناقشنا بإفاضة متوسطة، ما ذا يمكن أن يعنى تكرار هذا المعنى “الهدى من الله ” (نشرة الحلقة الثامنة بتاريخ 28-1-2010).

الجديد هنا هو هذا الشطر الذى هو  بداية معلقة امرؤ القيس ” قفا نبك من ذكرى حبيب  ومنزل…”

لا أعلم مدى تعلق شيخى بالشعر الجاهلى بالذات، وإن كنت أذكر أننى سألته ذات مرة عن من يفضل من الشعراء، ولم يخب ظنى، برغم اختلافى معه، أن جاء المتنبى فى المقدمة، وأحمد شوقى طبعا، وأعتقد أننى تماديت فسألته عن إعجابه بالشعراء غير العرب، فأجابنى بما لا أذكر الآن  منهم إلا طاغور، وإن كان قد نبهنى إلى صعوبة ترجمة الشعر من حيث المبدأ، بحيث يمكن أن نظلم الشعر والشاعر لو قرأناه بغير لغته، ووافقته جدا على ذلك.

ذِكْر امرؤ القيس هنا هكذا فى كراسة التدريب، قد أعاد لى بعض الذكريات معه، التى لم أدونها فى حينها، ومن ذلك:

 ما يتعلق بأحد أصدقاء يوم الجمعة (ممن سيأتى ذكرهم بعد) وهو المرحوم الأستاذ الدكتور محمد راضى، أستاذ أمراض القلب، فى كلية الطب، جامعة الأزهر (وسوف أعود إليه غالبا برغم أنه التحق بنا مؤخرا، بعد أن كنت قد كففت تماما عن كتابة هذا التسجيلات) وكان هذا الأستاذ موسيقارا معتمدا كملحن من الإذاعة، وصديقا أو تلميذا لمحمد عبد الوهاب كما أبلغنا، وكان دارسا للموسيقى بشكل شبه أكاديمى، كما كان يعشق اللغة العربية عشقا لا مثيل له، كتب فيها كتابا لم ينشر إلا بعد وفاته المفاجئة المؤلمة لنا جميعا، هذا الأستاذ الدكتور رحمه الله كان يتقن أيضا اللغتين الفرنسية والإنجليزية كأهلهما، وهو قبل ذلك وبعد ذلك ، أستاذ كما ينبغى أن يكون الأستاذ فى كلية الطب، وهو يافع ناضج يفيض بالحيوية والحب، وقد أعود إلى ذكر بعض حضوره لاحقا إذا لزم الامر (غالبا من الذاكرة) . ما زلت لا أنساه وهو يردد على الأستاذ ما استنتجه من موسيقى ونبض فى معلقة امرؤ القيس هذه، وبالذات ، وهو يكرر شطر البيت ” فسُلّى ثيابك من ثيابىّ تَنْسُلِ”.

أغـرّك منى أن حبك قاِتلى

وأنك مهما تأمرى القلب يفعل

وإن تك قد ساءتك منى خليقة

 فسُلِّى ثيابى من ثيابِكِ تَنسْل

أذكر كيف كان المرحوم أ.د. راضى يمثل بيديه، وبصوته الجهورى، وهو يبين لنا ونحن حول الأستاذ: جمال هذه اللوحة التشكيلية، وكيف امتزج الثوبان ببعضهما البعض، بهذا التلاحم المتناغم الذى جعل من الشخصين جسدا وروحا لحنا واحدا، وكيف أن امرؤ القيس صوّر احتمال انفصالهما عن بعضهما البعض، كيف ينتزع كل منهما نفسه من الآخر بهذه الرقة الطروب، بكل ما يصحب ذلك من ألم وحب وتسليم وإباء، وكيف أن “تنسل” إنما تعبر عن تلقائية استجابة “الشىء” ليكمل إرادة البشر، وكأن الجماد تدب فيه الحياة فيكمل بإرادته إرادة من بدأ تحريكه، وأذكر أن ذلك أحضر لى بيتا الشعر الذى “تَضْرى” فيها النار وحدها “فتضرم”، بعد أن بُعثت  بفعل فاعل كما جاء فى معلقة زهير بن أبى سلمى.

وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً
وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ

وكما قلت، فإننى أكتب الآن من الذاكرة وليس مما دونت، وأعتقد أننى سأرجع إلى علاقة الاستاذ بالمرحوم الدكتور راضى، ومحاولات د. راضى الروائية فيما يشبه السيرة الذاتية أيام لقاءات الجمعة بوجه خاص.

وأيضا أعتقد أن لى عودة إلى معلقة امرؤ القيس إذا ما ورد ذكرها من جديد فى كراسات التدريب.

*****

من كراسات التدريب (1)

صفحة 15

………..

………..

‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏

إذا جاء نصر الله والفتح

الرحمن علم القرآن

فبأى آلاء ربكما تكذبان‏

نجيب محفوظ

9/2/1995

 

القراءة

جاء التدريب فى هذه الصفحة متواضعا جدا ، وقاصرا على آيات من كتاب الله عز وجل،

“إذا جاء نصر الله والفتح”

يا ترى أى نصر كان ينتظره شيخى هذه الأيام، بل وأى فتح أيضا؟ لا أتصور أن ما حضره من جبال الوعى التى حركها تدريب اليوم، هو قاصر على أسباب ومناسبة تنزيل هذه الآية تحديدا، هذا الرجل – كما وصلنى منه – ينتظر نصر الله لنا، ولكل الناس، فى كل مجال، وبكل وسيلة، أى والله، كما أنه ينتظر أن يفتح الله علينا فتحا حقيقيا نحطم به الأصنام، والأسوار فى وقت واحد، وباستمرار.

أن ينتظر نصر الله لنا (وللناس)، وفتح الله علينا (وعلى الناس)، أصبح هذا وذاك يمثلان لى حقيقة تفاؤله، وكم ناقشته فى مسئولية التفاؤل، وبالذات حين كنت أتألم من تفاؤلى شخصيا، وأنا أحكى له آمالى فى حركية الشباب بالذات، فى مواجهة كل الهجوم الذى ينالهم مما شاع فى الإعلام والفتاوى والبكاء على أطلال أخلاق الماضى مِمَّن يصفون شباب اليوم  بالتفاهة والضياع والسطحية، كل هذا كان مرفوضا منى أساسا، ومنه أحيانا كثيرة، كان يؤنسنى تفاؤله هذا بقدر ما تصورت أنه يحترم تفاؤلى، بل إنه أحيانا كان يفرح جدا حين أخبره برأيى أن الشباب عبر العالم أصبح يتواصل بينهم وبين بعضهم البعض بعيدا عن وصاية الإعلام المركزية، وأن هذه هى إشارة  لبدأ تكوين شبكية وعى إنسانى أشمل، يتكون بفضل التكنولوجيا الأحدث، والنشاط الشبابى الأكثر طزاجة، بحيث تفتح باب الأمل فى لرفض الوصاية العولمية المركزية وغسيل الأمخاخ البشرية لصالح قوى الغطرسة والاستغلال، كان يكاد لا يصدق، لكنه يفرح بشكل لا يخطئه أحد، وكأنه أحد هؤلاء الشباب الذى يقوم بتشكيل الوعى البشرى التكاملى الجديد.

الآية الكريمة الأخرى هى بداية سورة الرحمن، وقد أثبتَ منها فى التدريب أولها: الرحمن، علم القرآن، “ثم الآية المتكررة بشكل هندسى سيمفونى رائع طوال السورة “فبأى آلاء ربكما تكذبان”.

لم أناقشه فى هذه الآية الكريمة بوجه خاص، وإن كنت أذكر أن جاء ذكر سورة الرحمن كلها فى مقام آخر. أذكر أننا اتفقنا على إيحاءات جمالها، دون الغوص فى دلالة ألفاظها، لكننى أذكر أنه شاركنى الرأى فيما توحيه سورة “إقرأ” أول نزول القرآن الكريم، وما صاحبها من اعتذار أو إعلان عن عدم القدرة “ما أنا بقارىء”، وقد أبلغته كيف أن هذا أوحى لى أن الأمر بالقراءة هنا ليس له أية علاقة بأن الرسول أمى لا يعرف القراءة والكتابة (وإن اختلف معنى “أمى” عند الباحثين) ولا علاقة له أيضا بالقراءة التى نعرفها أصلا، وإنما وصلنى أنها إذن بالكشف للداخل والخارج على حد سواء بالطول والعرض مما لا مجال لتفصيله الآن هنا.

سورة الرحمن التى أسعدتنا أطفالا ثم كبارا دون أو بغير حاجة، إلى فهمها جيدا، تبدأ بأن الله سبحانه “علم القرآن” وليس –هنا- الذى أنزل القرآن، أظن أننى ربطت بين ذلك وبين أول آية نزلت “إقرأ”، ثم لعلى ألمحت إلى أهمية أن نلاحظ موقع “خلق الإنسان” واكتماله بالآية اللاحقة “علمه” البيان،

 أعتقد – بمنهجى هنا – أن هذه القضايا المكثفة والتى تحتاج لالتقاطها وعيا نشطا أكثر مما تحتاج تفسيرا معجميا أو خلافا فقهيا عن “خلق القرآن” مثلا، ربما هى التى تحركت فى هذا التدريب فجاءت هذه الإشارة هكذا.

وإلى حلقة آخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *