الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (مرورا بالعلاج الجمعى) الفصل الأول: “‏ملامح المنهج، والتعريف بالحالة” (2 من ؟)

من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (مرورا بالعلاج الجمعى) الفصل الأول: “‏ملامح المنهج، والتعريف بالحالة” (2 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 12-9-2021

السنة الخامسة عشر

العدد: 5125

من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (1)

(مرورا بالعلاج الجمعى)

الفصل الأول

‏ملامح المنهج، والتعريف بالحالة (2 من ؟)

 مقدمة:

نواصل اليوم (وكل سبت وأحد) تقديم هذه الحالة – ومثلها – لأننى أشعر أنه من واجبى أن يعرف الناس، وليس فقط طلبتى وزملائى جوهر ثقافتنا الخاصة في الصحة والمرض.

وسوف أحاول مضطرا تلخيص ما سبق حتى يمكن المتابعة وإن كنت أصر، وأكرر الدعوة للأصدقاء أن يعيدوا قراءة الحلقات السابقة باستمرار، فالحالة متصلة وتجزئتها لابد أن يخلخل التتابع.

موجز ما نشر أمس (الحلقة الأولى)

محمد شاب مصري، مكافح، فنان (صنايعى) مصري 28 سنة، ماهر، حاذق في حرفته (مبيض محارة) سماه زملاءه “محمد طربقها”11-9-2021-1 احتراما لمهارته وسرعة إنجازه لما يكلف به من أعمال، وقد انتهت حلقة أمس، وهو يطلب من المعالج أن كل أمله من العلاج هو أن “يرجع زى ما كان” (محمد طربقها، بمهارته وكفاءته) والمعالج يرفض هذا المطلب بالصورة التي يطلبها محمد ويحاول أن ينبهه أن ما كان (بما كان فيه من إرهاق وتطبيق الليل بالنهار ومهارة مميكنَة …الخ) هو الذى أدى إلى هذا الإنهاك الذى اضطر داخله أن يفرض عليه هذه “الأجازة” المرض فيتوقف عن العمل، فيفقد أهم معالج فخره ودافع استمراره.

ونكمل اليوم:

………….

  وانتقل هذا الخلاف والحوار من اللقاءات والحوارات الثنائية مع المعالج إلى المجموعة العلاجية، وتواصل تركيز المعالج على رفض التفكك والدفاعات المرضية المترتبة على الاغتراب فى العمل، أى رفض محمد طربقها الذى أدّى إلى المرض فكان تنبيه المعالج المستمر يشمل التأكيد على رفض العودة “كما كنت” مثلما يصر محمد، لأنه – كما يكرر المعالج– هو الذى أدى إلى اختياره “الفركشة”، وكأنها سوف تريحه: 

تكررت العودة إلى هذه المواجهة فى المجموعة العلاجية وشارك فيها معظم الأعضاء، وبدا أن التوجه العام كان لمحاولة الوصول إلى حل يحقق الاحتفاظ بميزات “محمد طربقها” فى الإنجاز والالتزام والكسب والمثابرة، وفى نفس الوقت يحقق له حقه فى الرؤية، والتقاط الأنفاس، والاحترام والحب بديلا عن التصفيق الذى يصاحبه تكليف أشق وأشق، ولم يبد فى الأفق حل سهل، فرُحنا نبحث عن احتمال وجود بديل بعيدا عن هذا وذاك، ولاح فى الأفق نوع من التوفيق على مسار النمو العلاجى، وبزغ بتردد “محمد الثالث”.

هكذا بدا أن الوعى الجمعى فى المجموعة، وليس المعالج فحسب، يحاول الإسهام فى تخليق “محمد الثالث” هذا، دون الاستسلام لما يبدو حلا وسطا بين محمد طربقها ومحمد فركشنى، إلا أن الممارسة كشفت ترددا فى قبول هذا الاسم حينما بدا اسماً فاترا بشكلٍ ما، وظهرت اقتراحات أخرى مثل: “محمد بس” (بدون طربقها ولا فركشنى ولا ثالث ولا رابع)، وخفنا أن يكون هذا حل سلبى أيضا، مع أنه كان أقرب إلى ما هو طبيعى، فمحمد هو محمد، دون أن يضطر إلى أن”يطربقها”، ودون أن يفشل حتى “يفركش” نفسه هكذا.

ظهر أيضا من بين الاقتراحات التى لاحت لنا بعد ألعاب درامية (مينى دراما مع محمد، وغيره)، وأتذكر أنه هو شخصيا كان صاحب هذا الاقتراح، وهو أن نسمى محمد الجديد الذى نسعى إلى تخليقه فى المجموعة “محمد طربقها  الجديد“، وكانت مبررات اختيار هذا الاسم هو أنه مع إصرار محمد على “أن يرجع زى ما كان”، فإنه يمكن أن يحقق ذلك إذْ يسمح لنفسه – من خلال نشاطنا وسماحنا –  أن يعود “يطربقها”، ولكن بطريقة جديدة، ومن ثَمَّ الاسم الذى يحبذ الرجوع إلى التمسك بكفاءته وإخلاصه فى العمل لكن دون إنهاك أو اغتراب حتى الكسر، فيكون هذا هو “الجديد”، إذ يكون قد تعلم من خبرة المرض ما يجعله فعلا: “محمد طربقها الجديد”، لكننا وجدنا الاسم طويل، ومركب وغير مألوف فى نفس الوقت، وبرغم المنطق السليم وراءه، إلا أنه بدا وصفا ساذجا حسن النية لا يتفق مع عمق التخليق الجارى في العلاج.

الإبداع فى المجموعة:

فجأة، ودون توقع، ونحن فى بؤرة الحيرة انطلق أصغر شاب فى المجموعة، متوسط التعليم والذكاء، انطلق دون استئذان وأعلن أنه يسميه “محمد دلوقتى“، وفرحت بشكل شخصى فرحا خاصا، إذْ لم أكن أتوقع من هذا الشاب بالذات أن يكون بهذا الوعى والإبداع، فهو قليل المشاركة، بل وكنت أحسبه باهت الانتباه متواضع الذكاء، فرِحت به وبالاسم ليس فقط لأنه حل لنا إشكال الحيرة، بل لاننى عرفت من خلال قيام هذا الشاب بصكّ هذا الاسم أن رسالة هذا العلاج تصل إلى الأبسط فالابسط من الناس بطريقة سَلسِلَة نكاد لا نتبينها، وعرفتُ، وتأكدت أن قيمة وفاعلية مبدأ “هنا والآن” الذى نلتزم به فى المجموعة العلاجية تصل إلى أفراد الجماعة رويدا رويدا حتى تصبح صالحة لأن تصف ما يتخلق منا كجماعة، ثم كل على حدة، وأنها أرضية شديدة الخصوبة لإثمار تميز إبداعىّ: أعنى إبداع الشخص العادى على مسار نموه وهو يؤلف بين مستويات وعيه دون قصد ظاهر.

وعلى الرغم من غرابة هذا الاسم “محمد دلوقتى” (أكثر من سابقيْه) فإن أحدا فى المجموعة لم يعترض عليه، ولم يسأل عن أسباب صكّه، ولا مبررات أو كيفية استعماله، ولم يحاول المعالج القائد – أنا – أن يطرح أى مناقشة حول ذلك برغم فرحته به، ثم إن مريضنا نفسه قد قـبـِل الاسم بقبول حسن، وفرحة بادية.

لكن ظلت معالم  “محمد دلوقتى” غير محددة لأى منّا، ويبدو أن الوعى الجمعى قد اعتبر أن ما يقوم به هو المشاركة فى عملية “التخليق الدائم”، وهو التعبير المفروض أن توصف به العملية المحورية فى كل إبداعات التطور والنمو وهو ما اسميته لاحقا الشخصية فى “اليـْـتـَـكـَـوّن (2).

ثم ظهر “محمد نفسية” وهو الاسم الذى أطلقه المريض على نفسه بعد خروجه وعودته إلى عمله بجهد أقل نسبيا مما اعتاد قبل المرض (“طربقها”) وذلك حين بدأ يشكو من خيالات مجسدة: تقع بين الصور الخيالية، والهلاوس الحسية البصرية، وتختلف درجة تجسيدها فى مواقف متنوعة، وقد عزى ذلك ببصيرة نسبية إلى حالته النفسية، ومن ثم ابتدع المريض لنفسه هذا الاسم “محمد نفسية” وربما كان يصف به “محمد” الذى أصبح “حالة نفسية” تحتاج اهتماما “نفسيا” وراح بناء على ذلك يناقش المعالج فى وصف حالته الجديدة بلغة نفسية شائعة ربما مثلما تصله من عامة الناس أو المسلسلات أو كثرة من الأطباء والنفسيين، وقد رفض المعالج أن يستجيب لاقتراحه أو أن يـُـستدرج إلى علاج الأعراض الجديدة بالتفسير والتهدئة (النفسية) على حساب مواصلة تخليق “محمد دلوقتى”.

ومع ذلك ظلت معالم “محمد دلوقتى” غامضة على الجميع بما فى ذلك  صاحب الاسم، حتى قائد المجموعة، لكننا عشنا معه فى جلسات المجموعة وهو يتكون بعد ذلك بنجاح، وينمو ببطء، ويتراجع ليعود، وقد اعتبرت أن هذا الغموض فى حد ذاته هو دليل على سلامة ما نحن فيه ونحاوله، وأننا لم نستسهل الوصول إلى حل تقليدى يحدد المعالم بالشرح والتأويل، وتواصلت التفاعلات تسمح بتنشيظ حركية الجدل بين المحمّدين “محمد طربقها” و”محمد فركشنى”، ورحنا نعايش”محمد دلوقتى” بالتعتعة والمشاركة والمعية وتنشيط الوعى البينشخصى وتخليق الوعى الجمعى وتحفيز جدل بيولوجى إبداعى مستمر: فى جو من السماح المتواصل الضابط المنضبط مع سائر دوائر الوعى الممتدة إلى المابعد. (دون هذه الألفاظ طبعا)

محمد طربقها: إذن هو المثل الواضح لمواصلة الكفاح اليومى المغترب (جزئيا على الأقل)، مع ضعف الاعتراف والرؤية والعلاقاتية والسماح، لكن يبدوا أنه إن آجلا أو عاجلا يمكن أن “يطربقها” (بالمعنى السلبى) على دماغ صاحبه إذا لم يضبط جرعة الانهاك والمبالغة والاغتراب.

أما محمد فركشنى: فكان يمثل فعلا الحل المرضى باختيار الكسر فى مواجهة القهر والنسيان والتهميش والتصفيق الاستغلالى، والاغتراب وهو ليس حلا إلا إذا كان العجز الناجح والتدهور يعتبر حلا، ويتقبل المريض هذا الاقتراح ولكن بتذبذب واضح لما فيه من اتهام خفى بالإشارة إلى دوره فى اختيار المرض.

 ويظل محمد دلوقتى: هو الكيان الذى يتخلق “هنا والآن” أثناء العلاج الجمعي (وطبعا أثناء رحلة النمو السليمة بأى وسيلة مناسبة، فى الحياة العادية الطيبة السوية – إن وجدت- وطول الوقت ما أمكن ذلك) وهو الكيان دائم النمو الذى يتخلق من الجدل بين النقيضين نتيجة لتنشيط الوعى البينشخصى، واحتواء الوعى الجمعى لوعى المشاركين فى مسيرة الكدح وحمل الأمانة.

على أن ثمة أسماء ظهرت واستـُـعـْـمـِـلت بشكل سريع عابر وذلك أثناء التفاعل والمسيرة، لكنها لم تلق قبولا رغم دلالتها، وبالتالى ظلت تمثل احتمالات هامشية لا أكثر، ومن ذلك:

 محمد الثالث، إشارة إلى أن “محمد طربقها” هو محمد الأول و”محمد فركشنى” هو محمد الثانى ليكون محمد الثالث هو التوليف الإيجابى بين هذا وذاك، وبرغم سلامة المبدأ، إلا أننا كما نعلم أن الجدل لا يوصف بالألفاظ هكذا وبالتالى يظل أسم “محمد الثالث” تنظيرا، وربما تشويها أكثر منه إشارة دالة إلى جدل قائم نابض مستمر، ومثله “محمد طربقها الجديد”.

أما غير ذلك من المحمدين، ولا بد أن بذكر لاستكمال القائمة فكان اسم المريض المثبت فى شهادة الميلاد وبطاقته الشحصية (3) “محمد عبد الله”.

(ثم نكمل الأسبوع القادم)

[1] – يحيى الرخاوى “من حركية الجنون إلى رحاب الناس .. (مرور بالعلاج الجمعى)” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)

 [2] – أول ما ما يقابل هذا التعبير كان ما عثرت عليه فى مرجع بالإنجليزية ينبه إلى رفض وصف الشخصية المتماسكة المحددة المعالم  بالشخصية القوية لصالح تدعيم الشخصية الطبيعية التى هى دائمة التشكل، على حد التعبير بالإنجليزية always in the making : وحين حاولت ترجمة هذا التعبير افتقدت الــ”ing” التى تتميز بها اللغة الإنجليزية، فنحتُّ كلمة من فعل معرَّف  بأداة التعريف التى لا تدخل على الأفعال، فتكون الترجمة هى:  “في الــْيَـتـَكوّن باستمرار“، وسخر منى الذين لم يألفوه، لكننى آمل أن يجد حظا أوفر مع استمرار استعماله.

[3] – “محمد عبد الله” وهو الاسم (الرسمى) الذى لم نتوقف عنده قليلا ولا كثيرا.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

3 تعليقات

  1. المقتطف :تكررت العودة إلى هذه المواجهة فى المجموعة العلاجية وشارك فيها معظم الأعضاء، وبدا أن التوجه العام كان لمحاولة الوصول إلى حل يحقق الاحتفاظ بميزات “محمد طربقها” فى الإنجاز والالتزام والكسب والمثابرة، وفى نفس الوقت يحقق له حقه فى الرؤية، والتقاط الأنفاس، والاحترام والحب بديلا عن التصفيق الذى يصاحبه تكليف أشق وأشق،
    تعليق عام : عرض شيق كالعاده .. شعرت انني وكانني كنت معكم ..
    تقمصت محمد اولا دون اي طربقه ،فشعرت بغلبه وطيبته .. ثم نظرت الي ” طربقها” فوجدت انه اختزل اختزال شديد وكأن وجوده هو طربقها فقط لصالح الاستغلال والاستعمال وليس محمد.. حتي انُهك

  2. العرض شيق كالعاده .. شعرت انني وكانني كنت معكم ..
    تقمصت محمد اولا دون اي طربقه ،فشعرت بغلبه وطيبته .. ثم نظرت الي ” طربقها” فوجدت انه اختزل اختزال شديد وكأن وجوده هو طربقها فقط لصالح الاستغلال والاستعمال وليس محمد حتي انُهك ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *