الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (مرورا بالعلاج الجمعى) (17 من ؟) الفصل السادس “الحزن الحيوى على مسار التعافى” (يحول دون التفسخ)

من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (مرورا بالعلاج الجمعى) (17 من ؟) الفصل السادس “الحزن الحيوى على مسار التعافى” (يحول دون التفسخ)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 6-11-2021

السنة الخامسة عشر

العدد: 5180

من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس”(1)

(مرورا بالعلاج الجمعى) (17 من ؟)

الفصل السادس

“الحزن الحيوى على مسار التعافى”

(يحول دون التفسخ)

المقابلة الأخيرة: بتاريخ 16/10/2008

د.يحيى: إزيك يا محمد

“محمد”: الحمد لله 

د.يحيى: انت النهارده خدت إجازة من الشغل من غير إذنى؟                       

“محمد”: آه، أنا إنهاردا خدت إجازة بعد إذنك عشان اكمل اللى قلته لك امبارح

د.يحيى: بس أنا ما أذنتش لك تسيب الشغل، ثم إيه اللى مقعدك هنا يابنى بدرى كده فى البرد ده من الساعة 7 الصبح.

“محمد”: لأ مش من الساعة 7 أنا هنا من الساعة 6

د.يحيى: هنا بتعمل إيه؟

“محمد”: باستناك

د. يحيى: كنت قاعد فى العنبر ولاّ فى البلكونة

“محمد”: قعدت فى العنبر شوية وبعد كده دخلت البلكونة

د.يحيى: تعرف أى حد هنا من العيانين اللى فى القسم؟

“محمد”: آه عارف شوية بس مش كلهم

د.يحيى: كنت قاعد لوحدك ولاّ مع حد

“محمد”: قعدت شوية مع واحد وبعد كده سابنى ومشى

د.يحيى: واحد عارفه يعنى ولا  بالصدفة

“محمد”: آه عارفه بس ماعرفش أسمه

د.يحيى: سابك ومشى راح فين

“محمد”: ماعرفش

د.يحيى: طيب احنا على ما يدوّروا على العيان بتاع الدرس، يا يلقوه يا ميلاقهوش، انت وبختك أنا تحت أمرك، أنا بصراحه يعنى عايز نتكلم بس فى حاجات ماتعطلناش، قلت لك الأول الشغل، وبعدين ننتقل للشكوى، وبعد الشكوى احنا ونصيبنا نشوف هانعمل إيه سوى بعد كده، أصلك لسّه لما بنبتدى فى الشكوى ما بِتْخلَّصْشى بتتقلب “محمد نفسية”، إنت من حقك تحكى بما فى ذلك الخبره بتاعة امبارح، لكن مش على حساب الشغل والعلاقة بتاعتنا.

 *  إن العلاقة مع الذهانيين عامة، وفى مثل حالة محمد التى بدأت منذ كان نزيلا فى القسم الداخلى، ثم عضًوا فى الجروب ثم بالمتابعة ينبغى ألا تتحدد بمواعيد ثابتة طول الوقت، وليس معنى ذلك أن تترك مفتوحة فى أى وقت، لكن ينبغى أن تكون مُـحـْكـَمـَة مع قدر مناسب من مساحة سماح مشروطة.

إن المريض، خاصة إذا كان قد مارس خبرة تنشيط الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى يعمل علاقة بالمكان كجزء من الوعى، حتى بغض النظر عن من يشغل المكان، يصبح عنده كل مَنْ فى المكان – تقريبا- جزءًا من الوعى الجمعى المتضمن وعيه الخاص، بغض النظر أيضا عن كون الموجودين قد شاركوا فى العلاج الجمعى أم لا.

إن التذكِرة برفض أن تكون اللقاءات مجرد شكوى وتطمين، أو “شوية صحوبية” مهمة، وقد عاد الطبيب فأكد حذره من العودة إلى المرحلة التى اقترح فيها محمد اسم “محمد نفسية” وقد سبق أن رفض الطبيب نـَفْـسَنـَه العلاقة بينهما، ثم بعد ذلك توثقت العلاقة وتحددت أولوياتها: استمرار العمل – الشكوى – المشاركة.

ومع ذلك يظل السماح بالحكى وارد كما بدا هنا حين كان الطبيب هو الذى طلب منه أن يكمل ما حكاه أمس.

“محمد”: ما أنا قلت لك

د.يحيى: لأ، إنت قلتها لى باختصار قوى وأنا قلت لك أنا مصدقك لحد ما يبقى فيه وقت، هوّا إيه اللى حصل امبارح؟ كنت فين؟

“محمد”: كنت نايم على السرير

د.يحيى: نايم… نايم؟ ولاّ نُصّ نصّ؟

“محمد”: بس مش نايم صاحى يعنى، لأه، عينى مفتحه كده

د.يحيى: كان الساعة كام ؟

“محمد”: كان بالليل يعنى حوالى الساعة 3

د.يحيى: كانت الدنيا ضالمة يعنى؟

“محمد”: آه

د.يحيى: طب وإش عرفك إنك كنت صاحى؟ مش يمكن نص نص بين النايم والصاحى.

“محمد”: لأ كنت صاحى

د.يحيى: حصل إيه؟              

“محمد”: أنا اتخيلت إن أنا مُتّ وباتغسّل

د.يحيى: إنك انت إيه؟!   

“محمد”: إن أنا مت وباتغسل وكده

د.يحيى: بتتـ … إيه؟

“محمد”: باتغسّل عشان اندفن

د.يحيى: لا يا شيخ، البقاء لله

“محمد” (يضحك): آه شوفت نفسى كده 

د.يحيى: شعور، ولاّ تخيـُّل

“محمد”: مش عارف، هو كان شعور آه: أنا حسيت بكده يعنى     

د.يحيى: طب عملوا إيه فى الغُسل يعنى، قلعوك مثلاً وجابوا ميه وكده، فيه كلام بيتقال ساعتها ودعوات مش فاكرها، إيه اللى حصل؟

“محمد”: آه، وأتخيلت برضه إن أنا هنا

د.يحيى: هنا فين بقى؟.؟! اتخيلت ولا شفت؟

“محمد”: إتخيلت إن معايا الست اللى باحبها، وكده وأنا مت وفرشوا عليا الملاية وكده      

د.يحيى: فرشوا الملاية قبل الكفن ولا بعد الكفن

“محمد”: ده غير الكفن

د.يحيى: غير الكفن؟ كل ده فين؟         

“محمد”: هنا وفى البيت

د.يحيى: هنا فين يا جدع انت؟

“محمد”: هنا وفى البيت

د.يحيى: هنا فين؟ فى المستشفى؟

“محمد”: فى المستشفى آه

د.يحيى: مش فاهم حاجة، يا جدع قول لنا الأحداث واحده واحده، إتخيلت إيه بالظبط أو يعنى عشت إيه؟ إنت عشت ولا اتخيلت؟ كنت نايم كده مفتح عنيك ولا مغمضها

“محمد”: كنت مفتح عينى

د.يحيى: مفتح عنيك يعنى اتخيلت، اتصورت يعنى، يعنى مش حقيقة  

“محمد”: آه مش حقيقة ياريت كان حقيقة

*   نلاحظ أيضا ما يلى:

إن اصرار “محمد” على أنه كان يقظا طول هذه الخبرة مهم وهو ينفى حتى أنه كان يحلم أو أنه كان بين النوم واليقظة، ويشير أيضا إلى تأكيد توجُّه النقلة العلاجية ذات الدلالة: من الهلوسة إلى تشكيل الخيالات هكذا، ولعل أدق ما يمكن أن يوصف به وعى محمد – في هذه الخبرة – هو ما أسميناه “وعى الحلم”، لا “وعى اليقظة”، ولا “وعى النوم” ولا “وعى أحلام اليقظة” الذى هو هو” (للتذكرة) وعى اليقظة”، كما أنه ليس هو أيضا “وعى الذهان”، وكل هذا يدعم المفاجأة التى عشناها وفسرناها بالذات فى لعبة العلاج الجمعى “أعمل حلم” (2)  بمعنى أنها وعى مختلف فعلاً لكنه حقيقة معيشة، وهى وعى آخر غير كل ذلك.

إنه محمد وقد أحلّ إرادة التخيل (الخاص: فى وعىٍ خاص) محل تصنيع الهلاوس فى الذهان من (واقع) حقائق داخلية موضوعية، ومع أن الخيالات التى يحكيها تتجسد حتى تصاحبها أحاسيس حسية: إلا أنها تظل خيالات.

اعتاد محمد فى الفترة الأخيرة أن يحكى عن الخيالات الجنسية، التى تأتيه ليس بموافقته تماما، وأيضا هو لا يرفضها بل ويستعيدها بنفس قوة تخليقها، لكنه فى هذه المرة تكلم عن خيالات الموت والكفن ربما بطريقة أعمق وأصدق.

فى مؤتمر الجمعية العالمية للعلاجات الجماعية (3)، سمعت مقتطفا من رئيسة الجمعية نقلا عن مورينو (رائد السيكودراما) (4) يقول: “نحن نعيش موتنا” وأعتقد أن هذه المقولة لها علاقة بما يحكيه محمد هنا.

نلاحظ أيضاً كيف أن قدرة محمد على تشكيل خيالاته تكاد تصل إلى نوع من التأليف الإبداعى.

ربط الموت بالحب وبدرجة أقل بالجنس وصلنى بشكل مميز لهذه الخبرة.

إن استقباله هذه الخبرة بقبول حسن، بل بالتمنى أن تتحقق “ياريت كان حقيقة” هو مكمل للخيالات الجنسية والغرامية وليس ضدها.

…….

د.يحيى: كنت لابس هدومك ولا لأه؟                            

“محمد”: كنت لابس الهدوم

د.يحيى: انت متأكد إن ده حصل هنا وفى البيت؟ يعنى أيه “هنا وفى البيت”؟، قصدك إيه

“محمد”: هنا، وفى البيت أيوه

د.يحيى: يعنى مرتين 

“محمد”: أيوه مرتين

د.يحيى: قول كده، وامبارح؟ اللى حصل امبارح كنت فين؟

“محمد”: امبارح كنت فى البيت

د.يحيى: والست اللى غسّلتك دى هى اللى كنت بتحبها ؟

“محمد”: محدش غسلنى أنا مُتّ كده وإيدى فى إيديها، وفـَرَشِتْ عليّا الملاية، يعنى عادى   

د.يحيى:  انت متأكد من الواحده دى؟

“محمد”: أيوه هى الست اللى أنا كنت باحبها دى اللى هى قريبتى

د.يحيى: اللى هى قريبتك اللى حكيت عنها فى الأول خالص

“محمد”: آه

د.يحيى: كنت بتحبها من إمتى؟ أنا نسيت

“محمد”: من فتره

د.يحيى: قد أيه           

“محمد”: من فتره كبيرة

د.يحيى: قد أيه                 

“محمد”: يعنى 3 سنين حاجة زى كده

د.يحيى: آه، هيا دى اللى مشيت وراها هى واختها اللى كانت مخطوبة، افتكرت

“محمد”: كتير كنت بافكر فيها وكده، برضه قبل ما أجى هنا كنت بحلم بيها وكده

د.يحيى: قبل ما تيجى هنا خالص؟

“محمد”: أيوه، قبل ما أجى هنا خالص

د.يحيى: يعنى قبل ما تتعالج خالص، وإمتى بطـَّلت تحلم بيها؟

“محمد”: لأ هو الحلم كان مره واحده قبل ما أجى هنا خالص لما الموقف ده حصل معايا وأنا تعبت وقعدت فى البيت لوحدى وكده

*   نلاحظ هنا أن استحضار الخيالات وحبيبته تمسك بيده فى البيت يمكن أن يكون له ما يفسره أو يبرره، أما استحضار نفس الخيالات فى المستشفى فهذا ما دهشت له ثم إنى رجحت أن المستشفى (وامتدادها فى خبرة الجروب) قد جعلها بمثابة يبته التانى (من حيث أنه الرحم أو القبر أو الأمان الآخر)

هذه النقلات التبادلية: الحلم والهلوسة والتخيل، لها دلالتها عن حركية إعادة التشكيل، من حيث أنه مع بداية الذهان يتراجع الحلم ثم يختفى ليحل محله الذهان، لأن الداخل أصبح منفتحا على الخارج، ثم مع العلاج يتراجع الذهان حين يصبح فى متناول الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى، ليحل محله التخيل، وهى تبادلات ذهابا وإيابا، لكن المحصلة فى حالة الصحة أو مع العلاج النمائى هى فى صالح: التخليق لا التفكيك.

إن طريقة حكى محمد لا تشبه الحكى عن ما يسمى “حلم يقظة”، كل ما نقدمه إنما يعرض حركية بعض مستويات الوعى بالتبادل وإعادة التشكيل مع الوعى البينشخصى على مسار العلاج من منطلق استعادة حركية إطلاق النمو. (5)

****

(ثم نكمل غدًا)

[1] – يحيى الرخاوى “من كتاب: من حركية الجنون إلى رحاب الناس .. (مرورا بالعلاج الجمعى)” منشورات جمعية الطبنفسى التطورى (2019)

[2] –  نشرة “نعمل حلم”: بتاريخ: 22-9-2010 ونشرة 28-7-2013 وغيرها  www.rakhawy.net

[3] – الذى عقد مؤخرا فى القاهرة فى الفترة من 14 – 17 يناير 2016.

– Jacob Levy Moreno M.D. (1889 – 1974) جاكوب مورينور: رائد العلاج بالسيكودراما

[5] –  أنظر نشرات: قارن وعى الحلم مع حلم اليقظة” بتاريخ: 16-8-2015،  4-10-2015)  وأيضا نشرات: “نعمل حلم” بتاريخ: 21-9-2015، 22-9-2015)  ومقال دورية نجيب محفوظ، بعنوان: “حركية الزمن، واحياء اللحظة فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ”، المجلس الأعلى للثقافة، العدد الثالث:  ديسمبر 2010 ثم تم صدور أطروحتى كاملة فى كتاب “عن طبيعة الحلم والابداع  أحلام فترة النقاهة” مكتبة الشروق 2011. فى موقعى   www.rakhawy.net

 

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

2 تعليقان

  1. تحية طيبة تليق بك مولانا الحكيم
    و أنا اقرأ كلمات حضرتك عن حركية إعادة التشكيل و هذه النقلات التبادلية ربطت هذا و مقولة شهيرة تعرف الحلم بأنه مرض عقلي قصير يستغرق الليل فى حين أن المرض العقلي هو حلم طويل يستغرق الليل و النهار
    و كأن لكل منا حظ و نصيب من الجنون و تذكرت ما علمتنا إياه بأن النوم إعادة ترتيب و تشكيل تتيح إعادة حركية إطلاق النمو كبعث جديد
    هذا الذي علمتنا إياه يا مولانا يجعلني اخلد إلى النوم متحصنة بهذه النية مطمئنة لدعاء اللهم كما خلقتني …….
    اسأل الله أن يزيدك من فيض نوره و يهب لك دوما من لدنه علما يليق برسالتك التى خصك بها و اداءها على ما يحب و يرضى

    • دعاؤك صادق، أشاركك الابتهال أن يتقبله الله، فقط: اسمحى لى أن أعدّل تلك الجملة التي أستشهد بها مرارا، وهو تعديل شكلى، لكن هكذا سمعتها من صديقى المتصوف الذى كان يرددها أساسا وهو يسبِّح:
      “ربّى كما خلقتنى – ربّى كما خلقتنى”
      الحمد لله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *